الفصل 4: ملحمة غلغامش والطوفان

ملحمة غلغامش والطوفان

يروي سفر التكوين خبر الطوفان، مذكّراً بشرور الناس، وما استحقّوه من عقاب بسبب خطيئتهم. قال الربّ: »أمحو الانسان الذي خلقتُ عن وجه الأرض« (تك 6:7). وكان تقليدان. واحد دُعيَ اليهوهي (الله هو يهوه) يتحدّث عن أربعين يوماً وأربعين ليلة مات فيها كلُّ حيّ على الأرض. وآخر كهنوتي (دوّنه الكهنة) يذكر سنة كاملة، بدأت بعدها الحياة من جديد: »في السنة الواحدة والست مئة من عمر نوح، في اليوم الأول من الشهر الأول، جفّت المياه عن الأرض« (تك 8:13).

هذا الخبر الذي يتوزّع على أربعة فصول في سفر التكوين (ف 6 - 8)، نقرأه في ملحمة غلغامش في اللوحة الحادية عشرة. أوتونفشتيم يروي لغلغامش ما حصل: »صمتُ هدد (الاله) المريع اجتاح السماوات. كل شعاع تحوّل فيها إلى ظلام. تحطّمت أسسُ الأرض مثل جرّة. النهارَ كلّه عصفت الريح سريعة، عصفت ففاض الفيضان. مثل كارثة الوغى انتقل إلى البشر الذين ما عاد الواحد يُبصر الآخر. ما عادت السماوات ترى البشر، وأخذ الآلهة يرتعدون من مثل هذا الطوفان. تراجعوا، صعدوا إلى سماء أنو... صمتُ الموت كان هناك«.

عرفت بلاد الرافدين الفيضانات العديدة، ولا سيّما عند نهر دجلة الذي دعاه اليونان »تيغريس« النمر، لأنه يثب ويقفز فيدلّ في جموحه على غضب الآلهة كما كانوا يقولون. ولكن هل تغلبُ المياهُ الانسان؟ وأين حكمته؟ في خبر غلغامش، الآلهة علّموا أوتونفستيم كيف يبني السفينة. وحدّد شمش (الاله الشمس) الزمن الذي يكون فيه الطوفان: »في الصباح أُمطر، وفي المساء تفيض المياه«.

أمّا في الكتاب المقدّس، حيث حكمة الانسان تنبع من حكمة الله، وحيث حكمة الله وخلاصه هما ثمرة الفضيلة، الله نفسُه علّم نوحاً (ذاك الذي أراح الله، أرضاه) ماذا يفعل. »إصنع لك سفينة من خشب السرو، واجعلها غرفاً. واطلها من داخل وخارج بالقار« (تك 6:14). ويتابع النصّ كلام الربّ إلى نوح الذي كان في زمانه رجلاً صالحاً (باراً) لا عيب فيه: »ها أنا آتٍ بطوفان مياه على الأرض لأزيل كلّ جسد فيه نسمة حياة تحت السماء: كلّ ما في الأرض يهلك« (آ 17).

نبدأ كلامنا عن غلغامش الذي يشكّل فيه الطوفان حدثاً واحداً من عدة أحداث. ثم نعود إلى الكتاب المقدّس فنكتشف الصور والتعابير، بل الفكرة، التي أخذها الكاتب الملهم حين قرأ غلغامش، وخصوصاً حين قرأ »اتراحاسيس« أي المتفوّق بحكمته.

1 - ملحمة غلغامش

أ - لحمة الخبر

في فجر التاريخ، في مدينة مشهورة من بلاد الرافدين، في أوروك، عاش ملك دُعيَ غلغامش. »شابه جمالُه جمال الشمس«. وكان جسدُه جسدَ الأبطال مع صدر واسع. كان فهيماً جداً وحكيماً جداً. ثلثاه إله والثلث الباقي انسان. ولكنه تصرّف كالحاكم المستبدّ تجاه عبيده: »ما ترك ابناً لأبيه، ولا فتاة لحبيبها، ولا امرأة لزوجها«. فأصعد سكّان أوروك تنهّداتهم إلى السماء. سمعهم الآلهة. وإذ أرادوا أن يؤمّنوا السلام للمدينة، خلقوا خصماً في وجه غلغامش (الذي يرتبط اسمه بالنار) اسمه انكي دو أي خليقة (الاله) إنكي. بطلٌ غريب. شكله شكل انسان، ولكنه كان مُشعراً كالحيوان ويعيش في البرية مع الحيوانات، ومثلها يقتات العشب كالغزال، ويربض ليشرب الماء كالحيوانات.

وكان اللقاء بين الاثنين، لقاء قتال، بيّن فيه كل من غلغامش وانكيدو قوّتهما. وفي النهاية ارتبطا بصداقة متينة. فعزما على القيام بمغامرة بطولة تليق بهما. ولكنها مغامرة تكتنفها الأخطار: الذهاب إلى هناك، إلى البعيد، في جهة الغرب إلى غابة الأرز، فيقتلا، هومبابا المريع، الوحش الذي يحمل الشرّ فترتجف منه البشريّة. وعرض غلغامش مشروعه على والدته:

أسير في طريق أجد في نهايته هومبابا،

وأصمد في قتال لا علمَ لي به إطلاقاً

صلّي لأجلي، إلى الاله شمش

لكي أبلغ إلى جبل الأرز

فأقتل الجبّار هومبابا

وأمحو من كل الأرض كل الشرّ الذي يبغضه الاله شمش

فيعود السلام إلى الأرض، من الشمال إلى الجنوب.

جبل الأرز هو جبل لبنان الشمالي. وقمّته أعلى قمّة في المنطقة. عليه ينزل الإله لكي يزور البشر. هو جبل الربّ. والأرز صار اسمه اليوم أرز (جبل) الربّ. وذلك منذ قديم الزمان. وإن وُجد غلغامش حقاً، فهو يعود إلى سنة 2800 ق م. نجحت المغامرة. وافتخر ملك أوروك بانتصاره، فرأته إلاهةُ الحبّ لابساً ثيابه الملوكيّة مع التاج على رأسه. اشتهته، قالت له: »تعال، يا غلغامش، كن حبيبي«. ما تبعها البطل، بل وبّخها على حبّها المتكرّر وأحبّائها. غضبت الالاهة فأرسلت له من السماء ثوراً جامحاً خلقته لهذه الغاية. إلاّ أن غلغامش وانكيدو قتلا ذاك الثور. أرادت الالاهة الانتقام فأرسلت مرضاً إلى إنكيدو فمات.

بكى غلغامش صديقه سبعة أيام، ولكن الدموع لم توقظه. بل أخذ الجسم يتفكّك. فارتاع غلغامش، وما أراد أن يكون له المصيرُ عينه. وتذكّر جدّه، بطل الطوفان الذي لبث وحده حياً بعد كارثة الطوفان. جعله الآلهة خالداً فأقام عند مصبّ النهرين. ومنذ ذلك الوقت، ما زاره أحد. فعزم ملك أوروك أن يمضي ويسأله عن سرّ الحياة. أرادت سيدوري صاحبة المقهى الالهي أن تجعله يصرف النظر عن مشروعه: إلى أين تركض، يا غلغامش؟

الحياة التي تبحث عنها لن تجدها

حين خلق الآلهةُ البشر،

جعلوا الموت للبشر

واحتفظوا بالحياة في أيديهم

وأنت، يا غلغامش، املأ بطنك!

رفّهْ عن نفسك ليلاً نهاراً

كلّ يوم احتفلْ بالعيد.

في النهار والليل إرقص والعب.

لتكن ملابسك نظيفة ورأسك مرفوعاً.

اغتسل بالماء،

تأمّل طفلك بين يديك

ولتفرح زوجتك على صدرك.

علّمته صاحبةُ المقهى أن يحيا حياته على الأرض، ولا يبحث عن حياة تدوم. كلامها قريب من كلام سفر الجامعة: افرح أيها الشاب. أسلك طريق ما يهواه قلبك، وما تراه وتشتهيه عينك. إنزع الغمّ عن قلبك، وردّ الشرّ عن جسدك (جا 11:9 - 10). وفي جا 9:7 - 10، نقرأ كلاماً مماثلاً لما في غلغامش: »فاذهب كل خبزك بفرح، واشرب خمرك بقلب مسرور... ولتكن ثيابك بيضاء كل حين، ولا يعوز رأسَك الطيب. تمتّع بالعيش مع المرأة التي تحبّها، كلّ أيام حياتك الباطلة... فهذا حظّك من الحياة ومن تعبك الذي تعانيه تحت الشمس... فلا عمل ولا تفكير ولا معرفة ولا حكمة في عالم الأموات الذي أنت صائر إليه«.

طرح سفر الجامعة المشكلة التي ربطتها الحكمة القديمة بحياة على الأرض تنتهي بالموت. وجاء الكلام متشائماً: كما يموت الانسان تموت البهيمة (جا 3:19). ولكنه استشفّ أن روح البشر تصعد إلى العلاء، وروح البهيمة تنزل إلى الأرض (آ 21). ولكن الشك لم يزُل تماماً. »من يعلم«؟

رفض غلغامش نصائح صاحبة المقهى ومضى في طريقه. تغلّب على الأخطار فوصل إلى مياه الموت. ساعده صاحب سفينة، فعبر ووصل إلى جدّه اوتانفشتيم. روى له الجدّ مأساة الطوفان الذي نجا منه بفعل حماية خاصّة من الآلهة. ثم أعطاه نبتة عجيبة ستؤمّن له الخلود. ولكن الحيّة سلبت منه هذا الكنز، فاقتنع بأن عليه أن يتقبّل المصير الذي اعتاد البشر أن يتقبّلوه.

هذه النبتة التي سمع عنها غلغامش من جده، صورة بعيدة عن شجرة الحياة التي جُعلت من أجل الانسان في الجنّة. ولكنه حُرم منها لأنه أكل من شجرة معرفة الخير والشرّ حين أراد أن يصير مثل الآلهة هو وامرأته. قال أوتانفشتيم:

يا غلغامش، أتيتَ إلى هنا وتحمّلت التعب والعناء،

ماذا أعطيك لكي تعود إلى أرضك؟

سأكشف لك سراً، يا غلغامش، وأقول لك:

هناك نبتة. جذورها مثل جذور »القرنفل«

شوكها مثل العلّيق، وهي تنخز يدك.

إن توصّلت فأمسكتها، تكون وجدتَ حياة الأبد...

نزل غلغامش إلى الأعماق، أمسك النبتة مع أنها غرزت في يده. وقال لصاحب السفينة: »هذه النبتة هي دواء للحالات اليائسة. بفضلها يصل الانسان إلى الشفاء. سآخذها إلى أوروك. اسمها: الشيخ يصير شاباً. فآكل منها وأستعيد الحسن والجمال كما في أيام شبابي.

ورأى غلغامش عين مياه باردة،

فنزل ليغتسل في مياهها.

شمّت الحيّة رائحة النبتة،

فخرجت في صمت (من الأرض) وأخذت النبتة.

وفي الحال تركت قشرتها.

فلبث غلغامش جامداً وبكى،

ونزلت دموعه على خدّيه.

خسر غلغامش نبتة الحياة، فعرف الموت بفعل الحيّة. هذه الحيّة هي التي أضلّت حواء وآدم. خرجت من تحت الأرض، ثم عادت فالتصقت بالأرض. ولكن الكتاب المقدّس سيقول فيما بعد إن الحيّة رمز إلى عالم الشرّ والخداع. اسمها: إبليس أو الشيطان (رؤ 12:9).

ب - نصوص غلغامش

إذا جعلنا الخير الملحميّ جانباً، نستطيع أن نتذكّر النصوص التي تعود إلى الألف الرابع ق م. سبق »غلغامش« الـ التعريف. هو إله. تحدّثت عنه لوائح الملوك في حقبة إيسي - لارسا، في الألف الثالث. ثم ألّه فصار موضوع عدد من الروايات: غلغامش وأرض الجبل الحيّ. غلغامش وثور السماء. موت غلغامش، غلغامش وأغاكيش. غلغاميش وانكيدو وعالم الأسافل. وفي النهاية، وُجِد خبرُ الطوفان الذي لم يكن مرتبطاً ببطل أوروك.

في بداية الألف الثاني، أخذت الملحمة شكلها في اللغة الأكاديّة: بُنيَتْ الأحداث والوقائع بناء أعطى المجموعة وحدتها. وإذا قابلنا الأجزاء العديدة التي نقرأها في اللغة البابليّة القديمة، مع النسخة النيو أشوريّة التي وُجدت في نينوى، نفهم أن هذه الأخيرة هي ثمرة صياغة جديدة للأسطورة. كان التقليد القديم أكثر عفويّة، أما النصّ الحديث فحاول ربط الأحداث بعضها ببعض من أجل ترجمة نوايا البطلين وعواطفهما. وهو ما نسيَ في الوقت عينه مسائل مطروحة: الحكم الاستبداديّ. الشرّ على الأرض. وضع الانسان مع نظرة خاصّة إلى الموت. يبدو أن هذه النسخة تعود إلى القرن الثاني عشر أو الثالث عشر، وهي حقبة عرفت نشاطاً أدبياً خلاّقاً.

من هذه الملحمة الأشهر في بلاد الرافدين، وُجدت النسخات العديدة في قلب بلاد الرافدين كما في أطرافها: في أوروك، سيفار، أشور، نينوى، سلطاتيبي، تل هرمال، بوغازكوي. كما وُجد في مجدو، في فلسطين، فدلّ على أن النصّ عرفته حضارة كنعان أقلّه منذ القرن الرابع عشر ق م. بل عُرف غلغامش في اللغة الحثية (تركيا) وفي اللغة الحوريّة (القريبة من الأرمنيّة). وهكذا انتشرت هذه الملحمة انتشاراً واسعاً في الشرق الأوسط من مصر إلى أرض عيلام.

أمّا النصّ شبه الكامل الذي وصل إلينا، فقد كُشف في نينوى، في مكتبة الملك أشور بانيبال (القرن 7  ق م). تألّف هذا الكتاب، في الأصل، من 3500 بيت من الشعر. ولكن حُفظ فقط النصف أو أكثر تقريباً. مؤلّف مركّب من عدة عناصر جاءت في حقبات متلاحقة ولدى شعوب مختلفة. والنصّ الذي بين أيدينا يتضمّن 12 لوحة، وفي كل لوحة عدد من العواميد.

اللوحة الأولى تقدّم لنا البطلين، غلغامش وانكيدو:

أريد أن أعرّفكم بذاك الذي رأى كلّ شيء على الأرض الفسيحة،

الذي عرف وفهمَ كلّ شيء،

الذي ولج مجمل الأسرار كلها،

غلغامش، سيّد كل حكمة وصاحب المعرفة الشاملة.

شاهدَ السريّ وكَشفَ الخفيّ

ونقل إلينا معارف سابقة للطوفان

عاد من طريق بعيد، منهكاً ولكن هادئاً،

فحفر على نُصُب كلّ متاعبه،

شيّد سور أوروك...

وبعد تقديم غلغامش، يصوِّر العمود الأول من اللوحة الأولى، شخص إنكيدو:

غسلت أرورو يديها، واقتطعت عجنة طين وبصقت فوقها،

في البريّة خلقت انكيدو، الشجاع،

خليقة الصمت وجزء من الاله نينورتا (إله الحرب. لهذا هو محارب).

ويلتقي البطلان في اللوحة الثانية.

هجم إنكيدو عليه (على غلغامش)

وتواجها في الساحة العامة، في البلاد.

سدَّ انكيدو الباب برجله

ليمنع غلغامش من الدخول

وتماسكا مثل ثورين، وثبّتا أقدامهما،

فهدما عتبة الباب، فسقط الجدار

ولكن كانت الصداقة بعد القتال، وامتلأت عيونهما دموعاً. وبدأا يخطّطان لإراحة الناس من هومبابا (أو: هوواوا، الشكل القديم للاسم)، وذلك للدفاع عن سلامة غابة الأرز.

في الواقع، أراد غلغامش (مع صاحبه) أن يأخذ فأساً (لهذا كان معنى اسمه أيضاً: بطل الفأس) ليقطع بعض الأرزات على جبل الآلهة. أراد أن يكون سيّد الغابة، فيفتخر بهذه السيادة حين يعود إلى عاصمة أوروك.

وسار الصديقان معاً (اللوحتان 3 - 4) لمحاربة هومبابا، حارس غابة الأرز (اللوحة 5).

جَمَدا عند حدود الغابة،

وتأمّلا علوّ الأرزات وأطالا

وأطالا (النظر) في مدخل الغابة

رُسِمتْ الطرقات مستقيمة، وتحسّن الطريق،

فشاهدا جبل الأرزات، موطن الآلهة، عرش إرنيني (عشتار)

أمام الجبل تنمو الأرزات وتزدهر

وظلّها امتلأ رائحة طيّبة

يتداخل الشوك، فتمدّ الغابةُ معطفها

وتمتدّ الغابة في دائرة واسعة

وفي النهاية، قتل إنكيدو حارس الغابة الذي يرتجف من صوته حرمون ولبنان، فناحت الغابات وناحت الأرزات. وقطع البطلان الأرز وحملاه على النهر باتجاه السهل. وانتهت الحرب ضدّ الثور السماويّ (اللوحة 6) بانتصار غلغامش ورفيقه. حينئذ تقرّر موت إنكيدو لأنه اقتلع الأرزات من الجبال (7 - 8). ومات إنكيدو، فمضى غلغامش يطلب الخلود، فالتقى جدّه الذي حدّثه عن الطوفان. وفي النهاية، يصوّر عالم الأسافل:

لا تلبس ثوباً نظيفاً،

فيعرفك الأموات أنك غريب

لا تدهن نفسك بأفضل زيت،

لئلا يجتمعوا حوله ويشمّوك

لا ترمِ رمحاً على الأرض،

فيحيط بك أولئك الذين ضرَبتْهم بالرمح

لا ترفع هراوة في يدك،

فترتعد ظلال الموتى ويهربون

لا تلبس حذاء في رجليك،

فتحدث ضجّة تصل إلى الأرض.

وتنتهي هذه الملحمة فجأة بذكر اللوحة 13 وعنوانها: »ذاك الذي رأى كلّ شيء«.

2 - بين الكتاب المقدّس وملحمة غلغامش

أشرنا بطريقة عابرة إلى شجرة الحياة وعمل الحيّة مع آدم وحواء، ومع غلغامش. ولكننا نودّ أن نتوقّف عند الطوفان. لن نحصر كلامنا في غلغامش، بل ننفتح على نصوص بابلونيّة أخرى.

أ - التشابهات

-     أوتونفشتيم (أو: أوم نفشتيم) وزيوسودو وسيسوتروس هم شخص واحد ويلتقون مع نوح. الأول هو ترجمة أوتونفشتيم في البابليّة، ويعني المديد الأيام (ن ف ش). واسم نوح في بعض معانيه (كما في الحبشيّة) من طالت أيامه.

-     في جميع النصوص، هو إله يعلن مجيء الكارثة القريب، في التقليد اليهوهي، يهوه، وفي الكهنوتي، إلوهيم (اللهم). في اللوحة 12 من غلغامش: إيا الذي يقابل إنكي في السومريّ. وفي جميع الحالات، هذا الإله يعطي لمختاره تعليمات فيخضع لها بشكل حرفيّ. »فاصنع لك سفينة« (تك 6:14). »وعمل نوح بكل ما أوصاه الله« (آ 22). ونقرأ في اللوحة 12 من غلغامش:

يا رجل شوروباك، يا ابن أوبارتوتو،

أهدم بيتك، إصنع سفينة

تخلَّ عن الغنى ولا تطلب سوى الحياة

احتقر الكنوز إن شئت النجاة بحياتك

إجعل في السفينة كلّ الأصناف الحيّة.

هذه السفينة التي عليك أن تبنيها،

تكون أبعادُها مُقاسَة

فيتقابل عرضُها وطولها

أجاب أوتونفشتيم بأنه يحترم الأمر الالهي ويستعدّ لتنفيذه. ولكن ماذا يجيب أهل المدينة وشيوخها؟ سيقول لهم: غضبَ عليّ إنليل وها أنا أنزل إلى العالم السفليّ.

-     وسيلة الخلاص هي السفينة، الفُلك، ويكون فيها كل الكائنات التي ستنجو من الكارثة، من بشر وحيوان. لا يذكر الخبر السومريّ الحيوانات، ولكن زيوسودو سوف يقدّم في النهاية بقرة وخروفاً كذبيحة، كما سيُرسل الحمامة والسنونو والغراب.

-     النتيجة هي هي: مات كلّ كائن حيّ ما عدا الذين لجأوا إلى السفينة. »ومحا الله كلّ حيّ كان على وجه الأرض من الناس والبهائم والدواب وطيور السماء. وبقيَ نوح والذين معه في السفينة وحدهم« (تك 7:23). وفي غلغامش:

نظرت إلى النهار، فإذا يسوده صمتُ الموت

فكل السكّان عادوا إلى الطين

وامتد المرجُ سوياً مثل سقف بيت

فلبثتُ راكعاً وبكيت.

ب - الاختلافات

أولاً: أهم خلاف بين غلغامش والكتاب المقدّس، يقف على مستوى المونوتاويّة، أو عبادة الله الواحد، والبوليتاويّة أو عبادة الآلهة المتعدّدة. تجاه عظمة الله وجلاله، تجاه قدرة الله سيّد العناصر كلها، تبدو الآلهة في صورة مزريّة. هم الذين نفّذوا الطوفان. ولكن حين حلّت الكارثة، حلّ بهم الذعر:

خاف الآلهة الطوفان.

هربوا. صعدوا إلى سماء أنو

قرفص الآلهة مثل الكلاب، واختبأوا وراء الأسوار

صرخت عشتار مثل امرأة في المخاض،

صاحت سيّدة الآلهة، هتفت تلك الجميلة:

»ليتحوّل هذا اليوم إلى طين،

هذا اليوم الذي فيه أمرتُ الشرّ في مجلس الآلهة

أمرتُ الحرب لأعيد عبيدي إلى العدم

فهل ولدتُ عبيدي ليملأوا البحر مثل السمك«؟

وبكى الآلهة معها

انهدّت قوى الآلهة فجلسوا يبكون معها.

وحين انتهت الكارثة، هجم الآلهة كالذباب، إذ شمّوا رائحة اللحم من ذبيحة قدّمها أوتونفشتيم.

ثانياً: ويختلف الكتاب المقدّس عن غلغامش، على المستوى الخلقيّ. ففي الكتاب، الطوفان هو عقاب عادل لخطايا البشر. »وفسُدت الأرض أمام الله، وامتلأت عنفاً. ونظر الله الأرض، فرآها فسدت، لأن كلّ بشر أفسد سلوكه فيها« (تك 6:11 - 12). أجل، بما أن البشر يتصوّرون الشرّ في قلوبهم، ويتهيّأون له نهاراً وليلاً (آ 5)، عزم الله أن يمحوهم. ولكن نوحاً الرجل البار، سينجو هو وأسرته.

لا نجد شيئاً مثل هذا في النصوص البابليّة. فقد بدا الطوفان عملاً أرعن لم يفكّر الآلهة بعواقبه حين أحدثوه. بل إن إنليل، المسؤول عن القرار الذي أُخذ في مجمع الآلهة، غضب حين رأى أن جميع البشر لم يهلكوا:

غضب جداً على الآلهة وهتف:

»هناك من نجا بحياته. ما كان يجب أن يُفلت واحدٌ من الكارثة«. من أخبر البشر بما سيحصل؟ الالاهة آيا التي تملك المعرفة والعمل. وبَّخها انليل فردّت عليه:

أنت يا أحكم البشر، أيها البطل،

كيف قرّرت الطوفان وما درست العواقب

إجعل ثقل الذنب على المذنب، ثقل الخطيئة على الخاطئ

ولكن حُنَّ عليه ولا تُعدمه الحياة.

وتبقى تفاصيل عديدة لا مجال لذكرها الآن، حول السفينة، وأسرة البطل، ومُدّة الكارثة، وفتح النافذة، والذبيحة وقوس قزح والعهد مع الله. كلها تنطبع بطابع العبادة لله الواحد. ففي الذبيحة تنسّم الله رائحة الرضى. والسفينة بدت مثل الهيكل بطوابقه الثلاثة. وقوس قزح دلّت على أن الله رمى سلاحه من أجل سلام مع الانسان، وعهد يدوم. فلا يبطل الزرع والحصاد، والبرد والحرّ، والصيف والشتاء، والليل والنهار (تك 8:22).

خاتمة

أطلنا الكلام عن غلغامش، البطل الأسطوري، ،وعن الملحمة التي ارتبطت باسمه، بعد مخاض طويل دام آلاف السنين. وذكرنا عدداً من الأشعار البابليّة التي تلتقي مع ما في الكتاب المقدّس. وكانت أكثر من مقابلة فيها الشبه وفيها الاختلاف. ولكن يبقى المبدأ الأساسيّ في كل مقابلة بين الكتاب المقدّس وسائر النصوص القديمة، هو أن الأساس ليس ما تركته بلادُ الرافدين أو مصر. الانطلاقة كانت مع الوحي. هي خبرة روحيّة للمؤمن مع الله. خبرة لا يدركها الانسان وحده، مهما لجأ إلى الأساطير وإلى الصُوَر. خبرة العلاقة بين الخليقة والخالق، بين من هو القدوس والانسان الخاطئ. وانطلاقاً من فكر دينيّ مؤسَّس على عبادة الله الواحد، يستطيع الكاتب الملهم أن يستعين بما وُجد قبله من فكر دينيّ، ينقّيه من كل شرك، ومن كل ما يُشتّم منه عبادة أصنام وآلهة متعدّدة. مثل هذه التنقية تقود المؤمن إلى الاله القريب من الانسان، الذي عواطفه عواطف انسان. ولكن تفهمه بشكل خاص أن الله هو المتسامي، هو المتعالي. هو الذي لا تسعه السماء وسماوات السماوات. لهذا يكون الموقفُ موقف سجود وخضوع. على مستوى الأصنام، يكون الاله خادماً لنا، فنفرض عليه أن يعمل مشيئتنا. أما على مستوى الاله الواحد، فهو الخالق وهو السيّد. له كل مبادرة في الخلق وفي الخلاص. وهو يختار من يختار من أجل مهمّة يقوم بها. فيبقى على الانسان أن يكتشف إرادة الله ويعمل بمشيئته. هو الخاطئ يحتاج إلى من يغفر له خطيئته. هو الضعيف يقدر أن ينعم بقوّة الله شرط أن يستسلم له في الإيمان. عندئذ يفهم أن قوى الطبيعة لا تتغلّب على الله. البحر والرياح تطيعه. وحوش البرّ تخضع له. والمياه الجامحة تأتمر بأمره. عندئذ تصبح الآلهة التي تتعبّد لها الشعوب »خشباً وحجراً«، لها أذن ولا تسمع، لها عين ولا ترى، لها يدٌ ولا تعمل. أما مع الإله الواحد، فما عادت المياه أقوى من الآلهة. بل هو يرسل روحه عليها فلا تعود موطن الموت، بل موطن الحياة. منذ البداية، رفّ روح الله على المياه (تك 1:2) فأخرج منها كل حياة. وفي النهاية، لن يعود أثرٌ للشرّ، فتعود شجرة الحياة التي خسرها الانسان (خسرها غلغامش) فتعطي الثمر اثنتي عشرة مرة في السنة، فتشفي جميع الأمراض. أجل، الشفاء الذي طلبه غلغامش، ناله أولئك الجالسون حول العرش والحمل. والباحثون عن شجرة الحياة، صار لهم سلطان عليها حين غسلوا حللهم بدم الحمل (رؤ 22:14).

المراجع:

بولس الفغالي، المحيط الجامع في الكتاب المقدّس والشرق القديم، المكتبة البولسيّة، 2003، ص 418 (غلغامش، أو جلجامش)؛ ص 226 - 235 (بابل والبابليون)؛ ص 792 - 794 (الطوفان).

- سفر التكوين، المكتبة البولسيّة، 1988، ص 123 - 140

- يوسف الحوراني، جماليات الحكمة في التراث الثقافي البابليّ، دار النهار، 1994، ص 59 - 120.

جان م. صدقه، موسوعة الميتولوجيا، شعوب، حضارات ومعتقدات، دار كنعان - 1998، ص 93 - 147.

ملحمة غلغامش (العربيّة والأكاديّة)، ترجمة وتعليق الدكتور سامي سعيد الأحمد، جامعة بغداد، نشر دار الجيل، بيروت، دار التربية، بغداد سنة 1984.

A. HEIDEL, The Gilgamesh Epic and Old Testament Parallels Chicago, 1946.
R.C. THOMPSON, The Epic of Gilgamesh. Text, Tranlitteration and Notes, Oxford, 1930.
J.H. TIGAY, The Evolution of Gilgamesh Epic, Philadelphia, 1982.
J. PLESSIS, Babylone et la Bible, DBS, t. I (1928), col 714 - 852 Spéc. col 754 - 764.
R. LABAT, "L’Epopée de Gilgamesh" in Les religions du Proche Orient asiatique, Paris, 1970, p. 145 - 226.
A. SCHAFEER, "Gilgamesh, the Cedar Forest and Meopolomian History", Journal of the American Oriental Society, 103 (1983), p. 307 - 313.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM