الخاتمة

الخاتمة

في هذه الرسائل الثلاث التي لامسناها في كتابنا: تركيا من الأناضول الحثية إلى آسية اليونانيّة والرومانيّة. في هذه الرسائل، لم نخرج من تركيا، كما نعرفها اليوم. المنطقة الجبلية حول العاصمة أنقرة. والمنطقة الساحلية التي تحضّرت باكراً بحضارة اليونان.

وتعرّفنا إلى حضارة قديمة لم تنحصر في تركيا، بل امتدّت فوصلت إلى حدود لبنان الشماليّة. حضارة الحثيّين الذين حاولوا أن يمتدوا إلى الجنوب لولا القوّة المصريّة التي أوقفتهم عند قادش على العاصي، بعد اتفاق يمنع أي فريق من تجاوز بنود المعاهدة.

والحثيون انفتحوا منذ القديم. على بلاد الرافدين أولاً، على مستوى الحرب وعلى مستوى السلم. وفي الحالتين كان اتصال وتفاعل وتبادل حضارة وعلم وشعائر دينية. وجاءت إليهم فينيقية فتركت بصماتها. ولولا نصّ فينيقي لما استطعنا أن نعرف شيئاً عن اللوفيين مثلاً. فالوثيقة جعلت اللغة الفينيقية تجاه اللغة اللوفيّة، وهكذا فُكّت الحروف وعُرف بعض الشيء عن شعوب طبعت بطابعها الارض التي أقامت فيها. تلك هي المنطقة الجبلية التي مرّ فيها بولس مروراً. فالطرق وعرة والحضارة الرومانيّة لم تصل إلى الكثير من هذه البلاد.

فالرسول شخص متحرك. لا وقت له يضيعه. لهذا مضى إلى المدن الكبرى ومنها كان الانجيل يشعّ. وقد أطال الإقامة في أفسس. إليها يصل براً في طريق وطريق. وإليها يصل بحراً بحيث إن الرسالة إلى أهل فيلبي، في القارة الاوروبية، وتحديداً في مكدونية، كانت نتيجة سفرات متواصلة بين الكنيسة وبين الرسول المسجون في أفسس، والمنتظِر أن يُلقى أمام الوحوش. تسلّم هناك مساعدة ماديّة، فشكر الذين أرسلوها. وزاره من فيلبي ابفروديتس، فاحتفظ به بعض الوقت، لاسيّما وأنه مرض.

بين الجبل والساحل، احتلّ الانجيل تركيا القديمة التي كانت مقسمة »دولاً« وشعوباً وقبائل. وتوسّعت المسيحيّة هناك، فصار الاساقفة فيها خمسمئة ونيّف. في تركيا، في الكبادوك مثلاً، كان باسيليوس الكبير وغريغوريوس النازينزي وغريغوريوس النيصي وعدد كبير غيرهم ممّن أغنوا الكنيسة بمواعظهم ومؤلّفاتهم، فتركوا لنا ثروة ما زلنا ننهل منها. في تركيا، كانت العاصمة الثانية للكنيسة: القسطنطينية، بيزنطية. ثم اسطنبول، الاستانة. هذه المدينة التي تجمع أوروبا إلى آسيا، تجمع عالمين مختلفين، فكان فيها غنى الشرق وغنى الغرب. ولبثت مزدهرة يوم أتى البرابرة، الآتون من حضارة أخرى غير حضارة أوروبا، فدمّروا الجزء الغربي من الامبراطورية الرومانية. سقطت بيزنطية حيث كان فيها أكثر من مجمع مسكوني، بل سقطت تركيا كلها. وأُفرغت من مسيحيّيها: إما قتلَتْهم ذبحاً كما فعلت مع الارمن والسريان. وإما هجرتهم بسلطتها التعسفية. وإمّا فرضت عليهم بكل وسيلة أن يتركوا إيمانهم ويأخذوا بإيمان المحتلّ.

في هذه البلاد الواسعة، مرّ بولس انطلاقاً من أنطاكية، وزار العديد من مدنها، كما يعرّفنا سفر الأعمال. وقرأنا ثلاث رسائل بولسيّة وصلت إلى غلاطية وأفسس وكولوسي. دُمّرت الأماكن التي مرّ فيها بولس. ولكن بقيت كتابابته. يموت المبشّر ولكن الكلمة لا تموت. يدمّر المكان، ولكن الرسالة لا تدمّر، وهي تنتظر ساعتها لكي يأتي وقت فيه يجثو لاسم يسوع كل ركبة في السماء والأرض وتحت الأرض، ويشهد كل لسان أن يسوع المسيح هو الرب، تمجيداً لله الآب.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM