الفصل 24: يوحنّا فم الذهب والعظة الأولى في الرسالة إلى الكولوسيّين

يوحنّا فم الذهب والعظة الأولى في الرسالة إلى الكولوسيّين[*]

"من بولس رسول يسوع المسيح بمشيئة الله، ومن تيموتاوس أخيه، إلى القدّيسين والمؤمنين إخوتهم الذين في كولوسّي، في المسيح يسوع. النعمة والسلام معكم باسم الله أبينا والربّ يسوع المسيح" (1: 1-3)

كلّ رسائل بولس تتنشّق القداسة. غير أنّ تلك التي تعود إلى سجنه، تتنشّق العطور تنشّقًا أكمل: مثلاً، رسائله إلى فيلمون، إلى الأفسسيّين، إلى تيموثاوس، والتي نهتمّ بها الآن. فهي مثل سائر الرسائل قد دوِّنت وبدا بولس في القيود، بحسب كلامه: "فمن أجل سرّ المسيح أنا في القيود، لأعلنه كما يجب عليّ أن أعلنه" (4: 3-4).

تبدو هذه الرسالة لاحقة للرسالة إلى رومة. فهذه كتبها قبل أن يرى سكّان رومة، وكولوسّي كتبها بعد أن رآهم في نهاية خدمته الرسوليّة. وإليك البرهان الواضح: ففي الرسالة إلى فيلمون، تشفّع من أجل أونسيمُس هذا: "مع أونسيمس أخينا الأمين والحبيب". هكذا دعاه الأمين والأخ الحبيب معًا.

لهذا، منذ بداية هذه الرسالة، يتحدّث بملء الثقة عن "الرجاء الذي يعطينا هذا الإنجيل الذي سمعتم به، الذي حُمل إلى كلّ خليقة تحت السماء" (1: 23). إذن، كانوا قد كرزوا بالإيمان قبل ذلك الوقت بقليل. ومع ذلك، في رأيي، هذه الرسالة سبقت الرسالة إلى تيموتاوس، التي كتبها بولس قبل موته، فيها يقول: "أمّا أنا فتعبت" ودُوِّنت قبل الرسالة إلى فيلبّي، لأنّه يبدو في القيود التي حملها في رومة. إذًا، لماذا تجعل لهذه الرسائل طابع قداسة يتفوّق على سائر الرسائل؟ لأنّه كتبها من عمق سجنه وقيوده. هي تشبّه رسائل كتبها محارب شجاع بين قتالين وبين انتصارين. وما أخفى الرسول نفسه العظيمَ في كلّ هذا.

في الرسالة إلى فيلمون، تكلّم بولس إلى "الذي ولده في القيود" (فلم 10). هكذا يعلمنا أنّ لا نحزن كثيرًا في الشدّة، بل أن نفرح فيها. كان فيلمون، على ما يبدو، قرب بولس. فالرسول يتكلّم في الرسالة عينها عن "أرخبّس رفيقنا في السلاح" (فلم 2). وأضاف في كو 4: 17: "قولوا لأرخبّس" يمكن أن نظنّ، انطلاقًا من هنا، أنّ مهمّة سلّمت إلى هذا الأخير من كنيسة. إذًا، ما كان بولس رأى بعدُ الكولوسيّين ولا الرومان ولا العبرانيّين، حين كتب لهم. وقد دلّ على ذلك في أكثر من موضع، بينها كو 2: 1: "جميع الذين ما رأوا وجهي". "ومع أنّي غائبٌ عنكم بجسدي، فأنا معكم بالروح" (آ 25).

لم يكن يجهل أن لحضوره في موضع ما أهميّة كبيرة. لهذا، وإن يكن غائبًا، فهو يتصرّف وكأنّه حاضر وبالتالي يكلّمهم. وحين وجب عليه أن يحكم على الزاني، فقد حكم وأعلن الحكم: "فمع أنّي غائب بالجسد، فأنا حاضر بالروح، وقد حكمت على الخاطئ وكأنّي حاضر" (1كور 5: 3). وقال أيضًا: "سآتي إليكم وأعرف لا ما يقوله هؤلاء المتكبّرون، بل ما يفعلونه" (1 كور 4: 19). وكتب إلى الغلاطيّين: "ليس فقط حين أكون حاضرًا بينكم، بل أيضًا حين أكون بعيدًا" (غل 4: 18).

"بولس رسول يسوع المسيح بمشيئة الله". من المفيد أن نذكر موضوع هذه الرسالة وإلى من كتبها. بالنسبة إلى شعائر العبادة التي مارسها الكولوسيّون تجاه الملائكة ليصلوا إلى الله، بالنسبة إلى ممارسات خرافيّة أخذوها من اليهود ومن الأمم. عزم الرسول على اقتلاع هذه الانحرافات. من هنا هذه الكلمات: "بمشيئة الله". ثمّ استعمل حرب الجرّ "ب": وبتيموتاوس أخينا". إذن، هو رسول أيضًا. هذا ما وجب على الكولوسيّين أن يعرفوه "إلى القدّيسين الذين في كولوسّي". هي مدينة في فريجية (تركيا). إذن، هي قريبة من مدينة لاذكيّة (في تركيّا).

"وإلى المؤمنين إخوتنا في المسيح"، أسألكم: كيف بلغتم إلى القداسة؟ من أين جاء اسم "مؤمن" الذي أعطيَ لكم؟ أما تقدّستم بموت المسيح، وبالإيمان بالمسيح؟ كيف صرتم "إخوة"؟ لا أعمالكم ولا أقوالكم ولا فضائلكم جعلت لكم الحقّ باسم "مؤمن" ومن ابن أتت لك المشاركة في كلّ هذه الأسرار؟ من المسيح، لا من موضع آخر.

"النعمة والسلام معكم، من الله أبينا". من أين هذا السلام؟ من أين هذه النعمة؟ أجاب الرسول: من الله أبينا. هو لا يورد هنا اسم المسيح. "أقول للذين يجدّفون على روح الله: كيف يمكن أن يكون الله أبًا لليهود العبيد؟ من أين جاءتنا هذه الخيرات الكبيرة؟ من جعلكم قدّيسين، مؤمنين، أولاد الله؟ ذاك الذي منحكم موهبة الإيمان. إلى هذا أنتم مدينون لسائر الخيرات.

أعطي لنا اسمُ المؤمنين، لا لأنّنا نؤمن فحسب، بل أيضًا لأنّ أسرارًا سُلّمت إلينا وكشفت، بعد أن جهلها الملائكة جهلاً تامًّا. ما اهتمّ بولس بهذه الطريقة في الكلام أو تلك. "نشكر الله أبا ربّنا يسوع المسيح". أعاد كلّ شيء إلى الآب، لئلاّ يعرض أوّلاً للمؤمنين موضوع كلامه. "ونصلّي من أجلكم على الدوام". فبالشكر والصلوات المتواصلة، يدلّ على حبّه لهم، وهو يحمل في قلبه، على الدوام، أولئك البعيدين عنه. "سمعت بإيمانكم في المسيح يسوع" (1: 4). سبق فقال: "ربّنا". وهنا يتكلّم عن "المسيح يسوع". هو الربّ. لا يقول: الخادم يسوع المسيح. وهذا هو عربون مسرّته: "هو يخلّص شعبه من خطاياهم" (مت 1: 21).

"إذ سمعتُ عن إيمانكم في المسيح يسوع، ومحبّتكم لجميع القدّيسين". ها هو يربح ودَّهم. إن أبفروديتس هو الذي أعلمه بهذا. وإلى تيخيكس سلّم رسالته بعد أن نوى أن يحتفظ بأبفروديتس عنده. "ومحبّتكم لجميع القدّيسين". لا هذا أو ذاك، بل للجميع من دون استثناء. وبالتالي لنا نحن. "من أجل الرجاء الذي هُيِّئ لكم في السماوات". تحدّث عن الخيرات الآتية، بالنظر إلى محن الأرض، ليبعدهم عن الكسل والاستراحة. والذين تساءلوا: وأي خير ينالون من محبّة القدّيسين، وهم فريسة الألم والمضايقات؟ أجاب الرسول: "نفرح بأن نرى أن يهيأ لكم في السماوات، الأجر الثمين".

"من أجل الرجاء المحفوظ لنا". تستطيعون أن تستندوا إليه بكلّ ثقة، "سمعتم به في كلام الحقّ". هو توبيخ للمؤمنين الذين سمعوا به منذ زمان، ومع ذلك ابتعدوا عنه. "الذي سمعتم به في كلام الحقّ". أكّد كلمة الحقّ، التي هي بالحقيقة معصومة من الضلال. "الإنجيل". ما تكلّم عن الكرازة، بل عن الإنجيل، ليذكّرهم هكذا بخيرات الله، وذلك بعد أن امتدحهم. "التي وصلتْ إليكم، كما وصلت إلى العالم كلّه" (1: 6). كلّمهم بلطف. "التي وصلت" هي استعارة، هي لا تمشي إلى الوراء، ولا تمشي إلى الأمام. فالإنجيل هو هنا ويبقى هنا. وإلى الناس الذين يستقون في مكر عدد كبير من الذين من دينهم، زيادة في الثقة، يردّ الرسول على هذه العاطفة فيضيف: "كما في العالم كلّه". في كلّ مكان يسمعون الإنجيل. يُصغون إليه. في كلّ مكان يتثبّت، يحمل ثمرًا، وينمو كما ينمو فيكم. والثمار التي يحمل هي الأعمال. هو ينمو فيجنّد مؤمنين جددًا، بحيث يصعب اقتلاع جذوره. تتكاثر الأشجار بسهولة حين تغرس بعناية وصلابة.

"كما بنيكم". أمسك الرسول سامعيه بالمديح. "منذ سمعتم". هو عجب أن تكونوا آمنتم باكرًا، فحملتم منذ ذلك الوقت ثمار الفضيلة "منذ يوم سمعتم وعرفتم نعمة الله حقّ المعرفة". لا بواسطة الكلام ولا بالخداع، بل بالوقائع. ذاك هو معنى الفعل: "أثمر". فالعجائب والآيات لفتت معًا أنظاركم، فنلتم نعمة الله. وحين تراءى منذ البدء كيف تسطع فضيلتكم، فكيف ترفضون الآن أن تؤمنوا به؟ "كما تعلّمتم من أبفراس الحبيب والعامل معنا". قد يكون أبفراس هو من حمل الإنجيل إلى الكولوسّيّين، وإذ أراد أن يدلّ على ثقته به، دعاه: العامل الحبيب معنا "الذي هو خادم أمين للمسيح لخلاص نفوسكم. أو خبرنا أيضًا بما أنتم عليه من محبّة لنا في الروح" (1: 8).

لا تهتمّوا بالخيرات الآتية، فالكون كلّه انضمّ إلى الإيمان بالمسيح. ولكن أيّة فائدة من الكلام عمّا يحدث في الخارج؟ فالمعجزات التي رأيتم تستحقّ ثقتكم أيضًا. "عرفتم نعمة الله حقّ المعرفة". بالوقائع والحقائق. لهذا، هناك باعثان يحفظانكم في رجاء الخيرات الآتية: إيمان العالم، وإيمانكم. ما قال أبفراس إلاّ الحقيقة، هو "أمين"، صادق. وفي أيّ معنى هو "خادم المسيح من أجلكم"؟ فقد جاء إلينا وشهد على حبّكم الروحيّ تجاهنا. ولكن إذا كان خادم المسيح، فلماذا تقولون إنّنا نحتاج الملائكة لكي يقودونا إلى الله، ويصالحونا معه؟" عرّفنا بمحبّتكم الروحيّة تجاهنا". ذاك هو الحبّ الحقيقيّ والمتين. وأيّ حبّ آخر لا يحمل من الحبّ سوى الاسم. هناك عواطف لا تشبه هذا الحبّ، والصداقة مهما نفهمها ليست كذلك، لذلك تتحطّم الروابط بسهولة.

هناك أكثر من مناسبة لصداقة مع الآخرين. لن نتكلّم عن علاقات متينة، بعد أن يعرف الجميع ما فيها من شرّ. بل نتكلّم فقط عن الصداقات الطبيعيّة التي تقدّم لها ظرفًا الحياةُ العاديّة. وبين تلك التي تعود إلى الحياة الاجتماعيّة، نرى مثلاً صداقات تتبع خدمة مؤدّاة، صداقة تنتقل من الآباء إلى البنين. صداقات المائدة والسفر والجيرة. تلك هي صداقات حقيقيّة. وهناك صداقات أخرى ليست بصادقة. صداقة تلد في المهنة ذاتها. هي خميرة حسد ومزاحمة. العاطفة الطبيعيّة هي عاطفة الأب لابنه، والابن لأبيه، والأخ لأخيه، والجدّ لحفيده، والأم لأولادها. ثمّ صداقة المرأة لزوجها فكلّ العواطف التي ترتبط بالحياة الزوجيّة هي موقّتة، أرضيّة...

وفوق جميع العواطف، هناك العاطفة الروحيّة، التي هي الملكة الحقيقيّة لجميع العواطف التي ترى فيها رئيستهنّ. تفرض نفسها علينا، لأنّها ليست من الأرض. فلا العلاقات الطويلة، ولا الحسنات، ولا الزمن، ولا الطبيعة تستطيع أن تنتج هذه الصداقة. فهي تنزل في قلبنا من السماء. فلماذا تدهشون أن لا تحتاج إلى حسنات لكي تثبت، ساعة الشرّ الذي يُصنَع لها لا يدمّرها؟

إذ أردتم أن تحكموا على سموّها. فاسمعوا بولس يهتف: "أتمنّى أن أكون أنا نفسي محرومًا لإخوتي في نظر المسيح" (روم 9: 3). أيّ أب يتمنّى أن يتّخذ مكانة بين الأشرار؟ "أفضل أن أترك هذا العالم وأكون مع المسيح. ولكنّ البقاء معكم في هذه الحياة الزمنيّة أفضل لكم من أن أترك هذا العالم" (فل 1: 23-24). أيّ أمّ تفضّل منفعتها على منفعة أولادها، بمثل هذا القدر؟ واسمعوا الرسول أيضًا يضيف: "كنّا بعيدين عنكم لحظة، لا بالقلب، بل بالجسد فقط" (1 تس 2: 17). في العالم، لا يعود الأب يحبّ أولادًا أهانوه. أمّا بولس فمضى إلى وسط الذين رجموه، ومضى من أجل خيرهم. فأيّ رباط يكون متينًا مثل رباط الصداقات الروحيّة. فالصديق الذي ربحتموه بما أحسنتم إليه، تخسرونه ما إن تتوقّفوا عن الإحسان إليه.  والطريق الذي لكم بسبب رباطات يوميّة، تخسرونه ما إن تتوقّف هذه الرباطات. أن يكون خلاف، تترك المرأة زوجها وترفض له كلّ عاطفة. أن يرى الابن أباه يعمِّر طويلاً، أمرٌ لا يرضى عنه.

لا شيء من هذا في العاطفة المولودة من الروح. لا سبب من هذه الأسباب يحلّها، لأنّ واحدًا لا يفعل فيها: لا الزمان، ولا طول الحياة، ولا الشرّ الذي نسمع، ولا الشرّ الذي نقاسي، ولا الغضب ولا الشتائم. ولا شيء يقدر أن يلامس الصداقة أو يضعفها. أراد العبرانيّون أن يرجموا موسى، ساعة كان موسى يصلّي من أجله (خر 17: 4). أيّ أبٍ يفعل هكذا تجاه ابنه؟ أما يجيب على العنف بالعنف؟

تلك هي الصداقات التي يجب أن نطلبها. الصداقات الروحيّة، هي دائمة، وهي حقيقيّة.



[*]حين قدّم الذهبيُّ الفم عظات كولوسي، كان الأسقف في القسطنطينية. وبما أنه تحدث عن زلزال ضرب المدينة سنة 398، نفهم متى قيلت هذه العظات.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM