الفصل 22: كو 15:1-20 مدراش مسيحي

كو 15:1-20 مدراش مسيحي

المدراش درس وشرح وتفحّص في الكتاب المقدّس. ينطلق الرابي، المعلّم، من نصّ من النصوص، ويفسّره آية آية لكي يصل إلى معنى جديد، ما كان ليجده القارئ العاديّ بإمكاناته العاديّة. وهو يحاول أن يقدّم عظة وتعليماً، بل يبحث عن سلوك عمليّ يبدّل حياة الانسان في يومه.

وقيل عن النشيد الذي أورده بولس الرسول في كو 1:15 - 20 أنّه مدراش. إنطلقت الكنيسة من خلق إلى خلق، من صورة إلى صورة. ولكن شتّان بين الخلق الأول والخلق والثاني، بين مَن هو الصورة الوحيدة الكاملة الله، ومَن هو الصورة التي تحاول أن تتشبّه بالله. وانطلقت الكنيسة من الانسان الخاطئ، آدم الأول، فوصلت إلى الانسان الفادي، آدم الثاني، يسوع المسيح الذي حمل المصالحة إلى السماوات والأرض، الذي حقّق السلام بدمه المراق على الصليب.

1- بكر الخلائق

في البدء خلق الله السماوات والأرض (تك 1:1). هي بداية على مستوى الزمان الذي قرّره الربّ حين شاء. ومنذ الآن نذكر بداية ثانية حين »تمّ الزمان وأرسل الله ابنه مولوداً من امرأة، مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين هم في حكم الناموس، فننال نعمة التبنّي« (غل 4:4 - 5).

ورأى الله جميع ما خلقه، فإذا هو حسن جداً. فهذه الخلائق وجدت ملء جمالها في »آدم«، في الانسان الذي هو قمّة خلق الله. غير أنّ خبر سفر التكوين في فصله الأول يجعل الانسان خاتمة الخلق، يجعل آدم في النهاية. قال الله: لنصنع الانسان، وذلك بعد أن صنع السماوات والأرض وما فيها. أما في كو، فالمسيح هو الأوّل، هو البكر. هو أول الخلائق. به بدأ كلّ شيء، ومنه انطلق كلّ شيء، وأوّل الخلق هو النور. قابله العهد القديم بالحكمة التي كانت لدى الله: »الرب خلقني أوّل ما خلق، من قديم أعماله في الزمان، من الأزل صنعني، من البدء، من قبل أن كانت الأرض« (أم 8:22 - 23).

هنا نقرأ ترجوم سفر التكوين، والترجوم ترجمة وتفسير جاء في اللغة الأراميّة بشكل قراءة كتابيّة في المجامع للذين ما عادوا يفهمون العبريّة.

»في القديم، بحكمة، خلق كلامُ (م م ر ا، لوغوس، الكلمة) الربّ، وكمَّل السماوات والأرض... وقال كلام الربّ: »ليكنْ نور؛ فكان نور حسب قرار كلامه. وتجلّى أمام الربّ أنّ النور حسن جدٌّا« (تر تك 1:1، 3).

ويطرح المدراش السؤال: »ما الذي خُلق في البدء؟ السماء أم الأرض؟ فيجيب: »في البدء خلق الله السماء والأرض. هناك اختلاف في الآراء، تجعل بيت شماي تجاه بيت هلال، في هذا الموضوع. أكّد بيت شماي: خُلقت السماء أوّلاً ثم الأرض. أمّا بيت هلال فأعلن: الأرض خُلقت أوّلاً ثمّ السماء. وكلّ واحد أعطى تبريراً لنظريّته. حسب رأي بيت شماي، خُلقت السماء أوّلاً والأرض في الدرجة الثانية، كملك يصنع أوّلاً لنفسه عرشاً؛ وحين يُنهي العمل يضيف موطئ قدم. وكذلك القدوس، تبارك (اسمه) قال في نفسه: »السماء عرشي والأرض موطئ قدمي« (اش 46:1).

»أمّا بحسب رأي بيت هلال، إن كانت الأرض خُلقت قبل السماء، فبما قبلة مع ملك بنى لنفسه قصراً: وحين انتهى من تشييد الأقسام السابقة، وصل إلى الأجزاء الرفيعة، لأنّه كُتب: »في اليوم الذي فيه خلق الله الأزليّ الأرض والسماء« (تك 2:4).

ولكنّ بولس الرسول، لا يرى السماء ولا يرى الأرض في البداية. فهذه البداية قبلها بداية. اسمه يسوع المسيح الذي هو رئيس الكون وبكر الخلائق. وسوف نرى أنّ هذا البكر سيضحّي بنفسه، كما الأبكار في العهد القديم، من أجل حياة الذين يأتون بعده.

غير أنّ هذه الخليقة الأولى، يسوع المسيح، لا تقف في صفّ سائر الخلائق، وكأنّها لا تفترق عنها بشيء. فهذا الذي تجسّد، وصار انساناً، لكي يفتدي الانسان، هو في الوقت عينه الاله الذي به خُلق كلّ شيء. قال يوحنّا عنه: صار بشراً، صار من لحم ودم. ولكن بدأ كلامه فقال: »في البدء كان الكلمة، والكلمة كان لدى الله، وكان الكلمة الله« (يو 1:1). في الترجوم، حاول »الواعظ« أن يُبعد الله عن الانسان، فجعل كلامه يفعل، وحصر ذاتيّة الله في السماء. أمّا في التجسّد، فالله صار قريباً جداً من الانسان، أخذ جسداً مثل جسده ولبس الضعف، ولكنّه لبث الإله، وهو الابن »الذي هو ضياء مجد الآب، وصورة جوهره، وضابط كلّ شيء بكلمة قدرته« (عب 1:3).

2- صورة الله

»وقال الله: لنصنع الانسان على صورتنا كمثالنا. وليتسلّط على سمك البحر وطير السماء والبهائم وجميع وحوش الأرض وكلّ ما يدبّ على الأرض. فخلق الله الانسان على صورته« (تك 1:26 - 27).

وقال الرسول عن يسوع المسيح: »هو صورة الله الذي لا يُرى«. فالله ما رآه أحدٌ قط. ومُنع العبرانيون من صنع تمثال منحوت أو صورة (خر 20:4)، لأنّ الله لا يقع تحت الحواس. ولكن مع يسوع المسيح، صار الانسان يستطيع أن يرى وجه الله دون أن يموت. قال: »من رآني رأى الآب« (يو 14:9). وقال يوحنّا أيضاً: »الله ما رآه أحد قط«، ولكن الابن الوحيد الذي في حضن الآب أخبر عنه (1:18). فرأيناه، ولمسناه وسمعناه (1 يو 1:1 - 3). فالاله الذي لا يُرى تجلّى في انسان يُرى، هو ابن الله الذي صار بشراً وسكن بيننا (يو 1:14).

كيف قرأ الترجوم الكلام عن خلق الانسان؟ قال ترجوم نيوفيتي الذي اكتُشف سنة 1956 في مكتبة معهد المعمّدين الجدد: »وقال الرب: لنخلق ابن الانسان على شبهنا، كشبيه بنا، وليتسلّط على سمك البحر وطير السماء... فخلق كلام الربّ ابن الانسان على شبهنا، كشبيه بنا، وليتسلّط على سمك البحر وطير السماء... فخلق كلام الربّ ابن الانسان على شبهه، على الشبه الذي أمام الرب خلقه، ذكراً وزوجته خلقهما«.

أوّل ما نلاحظ هو أن لفظ »ص ل م« (صورة) غاب من الترجوم، ولبث لفظ »د م و ت«، (الشبه). فالإنسان بعيد عن الله، فكيف يكون صورته، بل يقدر أن يكون شبهه. لهذا جُعلت أداة المقابلة: كشبيه بنا، مثل شبيه بنا. وما خلقه مباشرة، بل كلام الربّ هو الذي خلق. ما تحدّث هذا الترجوم عن »آدم« بل عن ابن الإنسان. من انسان من الناس. جعل الكلام عن خلق الانسان في الزمن الحاضر، الآن، بل تحاشى النصّ الكلام عن شبه الله، بل هو ما استطاع. فأضاف في المرّة الأولى: »كشبيه بنا«، وفي المرّة الثانية، »على الشبه الذي أمام الربّ«. أجل، لا يمكن الإنسان أن يكون على صورة الله، بل حتّى على شبهه، فمن هو الإنسان لكي يذكره الربّ.

وقال ترجوم نُسب إلى يوناتان: »وقال الله للملائكة الذين يخدمون في حضرته، الذين خُلقوا في اليوم الثاني من خلق العالم: لنصنع آدم على صورتنا، كمثالنا«. آدم هو شخص فرد، كما يدلّ على مجموعة البشر. لهذا جاء الفعل في صيغة المضارع. والملائكة حاضرون مع خلق الإنسان، وقد خُلقوا قبله. فحدّثهم الله: »لنصنع«. أترى الملائكة كانوا حاضرين مع بكر الخلائق؟ كلا. قال كتاب اليوبيلات (2:2) إنّهم خُلقوا في اليوم الأوّل، أمّا هذا الترجوم، فما أراد لهم أن يشاركوا في خلق اليوم الأوّل. بدأ الله فخلق السماوات والأرض. يعني خلق كلّ شيء. الله وحده يخلق. وإن كان من حضور للملائكة، فلكي يرافقوا فصل الكائنات بعضها عن بعض وترتيبها.

وفي أيّ حال، تكوّن آدم الثاني قبل بداية الخليقة، فكان النموذج الذي أخذ منه كلّ خلق. ولا تقبل الرسالة إلى العبرانيّين أن يُقابل يسوع مع الملائكة، فكيف أن يخضع لهم؟ »فلمن من الملائكة قال قط: أنت ابني وأنا اليوم ولدتك. وعندما يُدخل البكر، من جديد، إلى العالم، يقول: لتسجد له جميع الملائكة« (عب 1:5- 6). فالسجود لا يليق إلاّ بالله. ولن تقبل الرسالة إلى كولوسّي بأن يُفلت الملائكة من عمل الخلق ومن عمل الفداء: »به (بالمسيح) خُلق كلّ شيء في السماوات وفي الأرض، ما يرى (الانسان والطبيعة) وما لا يرى (الملائكة)، أأصحاب عرش كانوا أم سيادة أم رئاسة أم سلطان« (1:16). كلّهم به خُلقوا. كلّهم له خُلقوا. هو البداية وهو النهاية. هو المبدأ وهو الهدف. ولولاه لما تمّت المصالحة بين الله والخلائق.

وتحدّث المدراش عن الانسان الذي منحه الله عناصر سماويّة وعناصر أرضيّة. »قال رابّي تفداي باسم رابّي آحا: بما أنّ الكائنات السماويّة التي خلقت على الصورة والشبه (الإلهيّين) لا تلد، وبما أنّ الخلائق الأرضيّة تلد، ولكنّها لم تُصنع على هذه الصورة؛ وعلى هذا المثال قال القدوس، تبارك (اسمه)، في نفسه: إذن سأخلق الإنسان على صورتي وعلى مثالي وهكذا امنحه مزيّة الكائنات السماويّة. ومع ذلك يلد كما الكائنات الأرضيّة.

»وقال أيضاً رابّي تفداي باسم رابّي آحا: وفكر القدوس، تبارك (اسمه)، هكذا: إن خلقته فقط من عناصر سماويّة، يحيا إلى الأبد ولا يموت. وإن خلقته فقط من عناصر أرضيّة، يموت ولا يحيا من جديد في الحياة المقبلة. إذن سأخلقه فأجمع هذه العناصر إلى تلك: إن سقط في الخطيئة مات. وإلاّ فهو يحيا في الآخرة«.

عرف بولس هذه النصوص، وهو من »تأدّب بدقّة لدى قدمَي غملائيل« (أع 22:3). فيسوع المسيح هو من السماء وهو من الأرض. هو الاله وهو الانسان. ليس فيه فقط بعض عناصر من السماء وبعض عناصر من الأرض. السماء كلّها فيه، والأرض أيضاً. في شخصه يُجمل السماوات والأرض، هذا الذي »كان قبل كلّ شيء«، »فيه يتكوّن كلّ شيء« (1:17). إنّه السرّ الذي يحقّقه الآب عند تمام الأزمنة، أي أن يجمع تحت رأس واحد في المسيح، كلّ شيء، ما في السماوات وما على الأرض« (أف 1:10).

تحدّث الآباء اليونان عن الصورة التي يحاول الإنسان أن يتمثّل بها. فنحن لا نستطيع أبداً أن نكون صورةَ الله. وحده يسوع المسيح صورة الله الذي لا يُرى. غير أنّ بعض الكفرة الذين أعمى إله هذا الدهر بصائرهم، رفضوا نور إنجيل مجد المسيح الذي هو صورة الله (2 كور 4:4). ما قبلوا صورة العبد الذي أطاع حتّى الموت والموت على الصليب، فنسوا صورة الله (فل 2:6) التي يُقيم فيها الابن. توقّفوا عند الصليب، فما وصلوا إلى قيامة جعلت كلّ ركبة تجثو لاسم يسوع، ممّا في السماوات وعلى الأرض وتحت الأرض (آ 10).

هذه الصورة هي أمامنا كما قال الآباء السريان. هي صورة بشريّة للوهلة الأولى. وهي صورة إلهيّة. ونحن نحاول أن نقتدي بها، بحيث يتصوّر المسيح فينا (غل 4:19). لهذا يبقى للانسان أن يتمثّل بالله، على ما قال الرسول أيضاً: »كونوا مقتدين بالله كأولاد أحبّاء واسلكوا في المحبّة على مثال المسيح الذي أحبّنا وبذل نفسه لأجلنا مقدّماً نفسه للّه ذبيحة، رائحة طيّبة« (أف 5:1 - 2).

3 - الفداء الذي أرسله الله

إنطلقنا من مرحلة الخلق مع يسوع بكر الخلائق، ومن تكوين الانسان الذي يجد صورة الله في يسوع المسيح. وها نحن نصل إلى الفداء. ذاك الذي أخذ جسداً على شبهه خلق كلّ شيء، هو ذاك الذي يموت ويقوم ليجدّد هذه الخليقة بشكل لا يتصوّره عقل. ولكن لماذا هذا التجديد؟ بسبب الخطيئة التي ما استطاعت أن تلغي مشروع الله، بل أخّرته. أو بالأحرى جعلته يتّخذ منحى آخر. كان باستطاعة الإنسان أن يسير في خطّ المسيح ويرتفع ويرتفع، ولكنّ الخطيئة شوّهت الطبيعة البشريّة، فأعاد المسيح خلقها. وهكذا صار يسوع المتجسّد يسوع الفادي، الذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا نحن البشر، تألّم ومات وقبر وقام.

ما الذي حصل؟ عاد الرسول إلى التوراة يقرأها. بإنسان دخلت الخطيئة (روم 5:12). »وكانت الحيّة أحيل جميع حيوانات البريّة التي خلقها الربّ الاله« (تك 3:1). وسقط الإنسان في الخطيئة. فيوم يأكل من شجرة معرفة الخير والشرّ (يوم يخطأ) موتاً يموت (تك 2:17). ومع ذلك، ما مات الإنسان في الحال. بل عرف صعوبات الحياة وآلامها. المرأة من خلال الحبل. والرجل من خلال العمل في الأرض. وفي أيّ حال، بدأت »عداوة« (تك 3:15). فكان لا بدّ من المصالحة التي تتمّ بيسوع المسيح فتصل إلى الأرض كما إلى السماء (1:20). أجل، صالحنا الله بموت ابنه، كما قالت الرسالة إلى رومة (5:10). عرض علينا الصلح الذي تحدّث عنه الرسول فقال: »فنناشدكم باسم المسيح أن تتصالحوا مع الله« (2 كور 5:20).

ما توسّع الترجوم في الخطيئة، بل في ما بعد الخطيئة. »أجعل عداوة بينك (أيّتها الحيّة) وبين المرأة، وبين أبنائك وأبنائها. ويكون أنّه، حين يحفظ أبناؤه الشريعة ويُتموّن الوصايا، يصيبونك، ويحطّمون رأسك ويقتلونك، ولكن حين يتركون وصايا الشريعة تصيبينها (= حوّاء) وتعضّين عقبها وتجرحينها. وبالنسبة إلى أبنائها سيكون دواء. أمّا أنت، يا حيّة، فلا دواء لك. وهم مزمعون أن يصنعوا السلام في النهاية، في أيّام الملك المسيح«.

وتابع الترجوم: »وصنع الربّ الاله لآدم ولامرأته لباس مجد ليغطّي جلد جسديهما، وألبسهما. وقال الربّ الاله: ها هو الإنسان الأول الذي خلقته وحده في العالم، كما أنا وحدي في سماء العلى، وفيه يقوم شعوب عديدون، ومنه تقوم أمّة واحدة تعرف أن تميّز الخير والشرّ. لو حفظ الشريعة ومارس فرائضها، لكان عاش وثبت إلى الأبد مثل شجرة الحياة«.

قال النصّ العبريّ: صار آدم واحداً منا (تك 3:22). والترجوم: هو وحده في العالم، كما الله وحده في السماء. هذا ما يدلّ على كرامته الفريدة، مثل إبراهيم حسب الترجوم في تك 22:10.

وتحدّث المدراش عن الخطيئة التي أبعدت »شكينة«، أي الحضور الالهيّ، من وسط البشر، إبعاداً تدريجيّاً (3:8): »سمعا صوت الأزلي، الله، متمشّياً في الجنة من حيث يأتي النهار« (أو: تشرق الشمس). قال رابّي حلفون: نتعلّم من هنا أنّ الصوت يقدر أن ينتقل من موضع إلى آخر. فلا يليق بنا أن نطبّق على الله لفظة أنتروبومورفيّة (تشبّه الله بالإنسان) تدلّ على تحرّك »جسديّ« من موضع إلى آخر، ساعة الأزليّ يملأ اللامحدود. وينطبق التنقّل أيضاً على النار، كما قيل (خر 9:23): جرَتْ النيران على الأرض.

»وقال رابّي أبا بن كهانا: ما كُتب »م هـ ل ك« ليدل على سيرٍ عاديّ، بل »م ت هـ ل ك«، أي تنقّل على مراحل. هذا يعني أنّ الصوت الالهيّ الذي هو »شكينة« صعد في الدوائر السماويّة بقفزات متكرّرة. فإقامة »شكينة« الجوهريّة، كانت في الأصل، في الدوائر السفلى. وحين خطئ آدم، مضت إلى الرقيع الأوّل. وحين خطئ قايين، صعدت نحو الرقيع الثاني. ومع جيل أنوش، إلى الثالث. مع جيل الطوفان إلى الرابع. مع انفصال الشعوب إلى الخامس. مع السدوميّين إلى السادس. ومع المصريّين في زمن إبراهيم إلى السابع«.

كان الجلال الالهيّ يقيم في المناطق الأرضيّة. واقتراب شكينة من الإنسان يتناسق تناسقاً كاملاً مع امتياز محصور بالإنسان المخلوق على صورة الله. فكما أنّ ذنوبنا تجاه الاسم تُبعدنا عن الحضور الالهيّ، موقفُنا الورع التقيّ يعيدنا إليه حتماً ويحمل المناخ الروحيّ.

قال آدم: أكلتُ. هي ملاحظة حزينة. تراجع أمام تجربة الخطيئة وسحْرَها، فما عاد سيّد نفسه، وظنّ بذلك أنّه لن يستطيع بعد أن يهرب بسهولة من تجربة الشرّ.

حاول آدم أن ينال ظروفاً تخفيفيّة، فذكر التجربة التي لا تقاوَم والتي مارستها عليه امرأتُه، عطيّة الله. ثمّ اعتبر أنّ الانجذاب الأخّاذ إلى الثمرة المحرمّة التي سقط فيها، جعله في قبضة الخطيئة، وما زال يحاصره. كلّ هذا هو في حدّ ذاته، منذ الآن، عقاب كافٍ من أجل تخفيف عقوباته. قال: أكلتُ، ويا للأسف، سوف آكل... وحفنة التراب التي أخذت من الأرض، يجب أن تعود، فهي سرقة في يد آدم.

تلك هي الحالة التي وصل إليها آدم الأول. »يُدفَن بلا كرامة. يُدفَنُ بضعف. يُدفَن جسماً ترابيّاً. هو البشريّ. قال الرسول: »الإنسان الأوّل من التراب. فهو أرضيّ... فعلى مثال الأرضيّ يكون أهل الأرض« (1كور 15:43 - 48). هو لبس صورة الأرضيّ. لبس اللحم والدم بحيث لا يقدر أن يرث ملكوت الله (آ 49 - 50).

من هذه الحالة انطلق آدم الثاني، يسوع المسيح. فحوّل الهوان إلى مجد، والضعف إلى قوّة، والجسم البشريّ إلى جسم روحانيّ. تجاه الإنسان الأوّل، هو الإنسان الآخر وهو من السماء. تبعنا آدم الأوّل فكنا على مثال الأرضيّ. أمّا الآن فنحن على مثال السماويّ. فأهل السماء يلبسون صورة السماويّ، وهم يستعدّون لميراث الخلود.

كان آدم الأوّل رأس البشريّة الخاطئة، أمّا من هو صورة الله فهو رأس الجسد، رأس الكنيسة، شعب الله الجديد، وكما يكون للرأس كذلك يكون للأعضاء. هو أوّل من نهض من بين الأموات، والمؤمنون يتبعونه. هو الملء، ملء اللاهوت، هو كلّ ما يريد أن يهبه الله للبشريّة الباحثة عن »طريق الكمال«. ليست أعمال الإنسان هي التي تؤمّن له الفداء وغفران الخطايا، كما اعتبر الترجوم. بل في نعمة مجانيّة من لدنه تعالى. الله شاء. لا الإنسان الذي ما عليه سوى أن يتجاوب مع مشيئة الله.

خاتمـــــة

في خلفيّة الرسالة إلى كولوسّي نظرة يهوديّة تطعّمت بالفلسفة اليونانيّة كما بالتيّار الغنوصيّ. من أجل هذا، انطلق الرسول من التقاليد اليهوديّة، فقدّم للمؤمنين مدراشاً على مثال ما اعتادوا أن يسمعوا في المجامع يوم السبت. ولكنّه تعدّى ما يمكن أن يقوله الرابّي اليهوديّ. هذا يتوقّف على مستوى العهد القديم. أمّا بولس فأدخلنا في العهد الجديد. الرابّي يبقى على مستوى الأرض، فينقل تقاليد الذين سبقوه، أمّا الرسول فيقدّم الوحي الانجيليّ. لم نعد أمام صفة من صفات الله، ولو كانت الحكمة، بل نحن أمام شخص حيّ. حين تجسّد صار خليقة من الخلائق، ولكن بنوّته الالهيّة جعلته بكر الخلائق كلّها، بل جعلته يخلق مع الآب الخالق. هو الإنسان وهو الإله. هو وحده صورة الله الكاملة. والله حين أعطانا ابنه أعطانا به كلّ شيء بحيث لم يبقَ له شيء يعطيه. هذا الابن بذله الآب من أجل العالم. لكي لا يهلك كلّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة (يو 3:16).

المدراش اليهوديّ تبحّر في كلام الله. أمّا المدراش المسيحيّ فلا يتوقّف عند كلمات الكتاب، بل يصل إلى من هو الكلمة، يسوع المسيح. هو بكر الخلائق، وهو الذي به تكوّنت الخلائق. هو أوّل المائتين وهو أوّل من قام من بين الأموات فقتل الموت بموته وأعاد الحياة إلى البشريّة بعد أن صالحها مع الله. »فيا لعمق غنى الله وحكمته! كلّ شيء هو منه وبه وإليه، فله المجد إلى الدهور. آمين« (روم 11:33، 36)!

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM