الفصل 20: الفلسفة في كولوسّي، دفاع يهوديّ خفيّ

الفلسفة في كولوسّي، دفاع يهوديّ خفيّ

إنّ الجدال حول طابع الفلسفة الكولوسيّة ما زال يتحرّك. في الستّينات بدا وكأنّه ثبت في شكل من التلفيق اليهوديّ الغنوصيّ. في نهج يضمّ التعاليم المختلفة في إطار العنوصيّة التي تستند إلى معرفة باطنيّة (عرفة، غنوسيس) مطعّمة بالفكر اليهوديّ منذ أطلقه فيلون من قلب الكتاب المقدّس لكي يصل إلى الفلسفة اليونانيّة كما عرفتها مدارس الإسكندريّة.

لهذا، اعتبر الشرّاح في ذلك الوقت أنّ كولوسّي تحاول أن تواجه سوتيريولوجيّا (كلام عن المخلّص) وكرستولوجيّا (كلام عن المسيح) غنوصيّة، يحملها هراطقة يقدّمون تعليمًا جذريًّا على مستوى المخلّص والمسيح[1]. منذ ذلك الوقت، بدأ الميزان يميل إلى تعليم يهوديّ مميّز، خاصّ[2].

وما زالت الآراء متباينة. بل اعتبر بعضهم الفلسفة الكولوسيّة "فيتاغوريّة يهوديّة". فالفيتاغوريّة فلسفة خلاص أخرجت من تيّار صوفيّ على هامش العبادات الرسميّة: ما هو مصير الإنسان، وما علاقته بالإله؟ كلّ هذا في موازاة الكسائيّة (أسّسها الكساي حوالي سنة 100، فاعتبرت أنّها نالت وحيًا جديدًا بواسطة ملاك عظيم) التي هي تعليم يهوديّ يرفض الذبائح ويحلّ الماء محلّ النار كوسيلة خلاص[3]. كما اعتبر آخرون أنّنا أمام مزيج من الأفلاطونيّة الشعبيّة المتوسّطة مع عناصر مسيحيّة تتماسك مع طلب الحكمة[4].

* * *

يجب أن نتذكّر أوّلاً أنّ مدن وادي ليكوس امتلكت أقليّات يهوديّة عادت إلى يهود أسكنهم أنطيوخس (الثالث) الكبير في ليدية وفريجية، في نهاية القرن الثالث ق.م.، كما يقول يوسيفس في العاديّات اليهوديّة (12: 147-153). في سنة 62 ق.م.، تكلّم شيشرون، خطيب رومة، عن أكثر من ثلاثين باوند من الذهب، التي جُمعت لدى اليهود في إطار ضريبة الهيكل. هذا يعني عشر آلاف من اليهود البالغين المقيمين في هذه المنطقة[5].

هذا يعني أنّ 2000 أو 3000 نسمة من اليهود عاشوا في كولوسّي. وهي أقلّيّة إتنيّة لها وزنها. هذا يعني وجود أكثر من مجمع أو بيت صلاة[6] في كولوسّي ويطرح سؤالاً: كيف نظرت هذه المجامع إلى المعمّدين الجدد في جماعات كولوسّي؟ ولكن يبقى أنّ ممارسات هذه المجموعات المختلفة كانت معروفة، أقلّه جزئيًّا، في هذه الفئة أو تلك.

لا نعرف كيف تنوّعت هذه المجامع اليهوديّة، ولكنّها عكست، على ما يبدو، التنوّع العاديّ في اليهوديّة المتأخّرة، في زمن الهيكل الثاني. من جهة، مواصلة دفع جزية الهيكل، يدلّ على اهتمام الجماعات بالحفاظ على ارتباط وطنيّ بأرض الأجداد وبمركزهم الدينيّ (هيكل أورشلم). ويعلّمنا يوسيفُس ومدوّنات الجماعات اليهوديّة في آسية الصغري، اهتمام هؤلاء المؤمنين بالحياة حسب شرائعهم الخاصّة، ولا سيّما الختان والشرائع الطعاميّة. في لاودكيّة جارة كولوسّي، والقريبة من وادي ليكوس، نجد بعضًا من ذلك (العاديّات 14: 241-242). ووُجدت مدوَّنة يهوديّة في هيرابوليس القريبة (مجموعة المدوّنات اليهوديّة 777)، تحدّثت عن عيدَي الفصح والعنصرة[7].

ومن جهة ثانية، نعرف جماعة سامريّة أقامت في جزيرة ديلوس (في بحر إيجه). تسمّت باسم "إسرائيليّين دفعوا البكور للجبل المقدّس، جرزيم"[8]. وقد مارس بولس نفسه الصعود الصوفيّ (2 كور 12: 1-7) خلال مروره في كيليكيّة (غل 2: 21؛ أع 11: 26). ورائي سفر الرؤيا قيل عنه إنّه أقام في جزيرة باتمس (رؤ 1: 9).

"وإن كان لا بدّ من الافتخار، مع أنّه لا نفع منه، فأنتقل إلى الكلام على رؤى الربّ وما كشفه لي. أعرف رجلاً، مؤمنًا بالمسيح، خُطف قبل أربع عشرة سنة، إلى السماء الثالثة. أبجسده؟ لا أعلم. أم بغير جسده؟ لا أعلم. الله يعلم. وإنّما أعلم أنّ هذا الرجل خُطف إلى الفردوس" (2 كور 12: 1-3).

وفي ما يتعلّق بارتباط اليهود بجيرانهم، نتجنّب الكليشاهات التي لا تبرّرها الأمور التاريخيّة. لهذا، لا نتحدّث عن جماعات منغلقة على ذاتها. بل دخلت في الحياة الاجتماعيّة والتجاريّة التي أقامت فيها. مثلاً، كانت دراسات عن سارديس، أكوينا، أفاميا (في إطار 150 ميلاً بالنسبة إلى كولوسّي). وكانت أيضًا دراسة حول هيرابوليس (حاشية 8، ص 27-28). ولا نتحدّث أيضًا عن جماعات يهوديّة سقطت في تأثيرات تلفيقيّة، بل العكس هو الصحيح. ما هو متيقّن لدى الشرّاح هو اهتمام الشتات بالهويّة اليهوديّة. وهذا ما نجده في كولوسّي.

هذا من جهة. ومن جهة ثانية، لا نقول إنّ يهود كولوسّي ارتبطوا ارتباطًا قويًّا. فيهود الشتات اكتفوا بالتأكيد على حقوقهم الدينيّة والإتنيّة التقليديّة، وإن استقبلوا الوثنيّين الذين اجتذبتهم طريقةُ حياتهم وتصرّفاتهم. وفي الوقت عينه كان تقليد دفاعيّ (أبّولوجيا) يهوديّ داخل الشتات، مع فيلون الذي استعمل مقولات الفلسفة المعاصرة ولغتها، ليدلّ على قدرة العقل والدين في العالم اليهوديّ.

ماذا يحمل كلُّ هذا إلى طابع الفلسفة الكولوسّيّة؟ لا يحمل شيئًا مباشرًا. ولكنّه يدلّ على سياق معقول النظرة تلمّح إليها كو 2: 8، فتدلّ على العالم اليهوديّ: "وانتبهوا لئلاّ يسلب أحدٌ عقولكم بالكلام الفلسفيّ والغرور الباطل القائم على تقاليد البشر وقوى الكون الأوّليّة، لا على المسيح". الكلام الفلسفيّ هنا يدلّ على تنظير دينيّ، لا على نهج فلسفيّ كما لدى أفلاطون أو أفلوطين. أمّا الكلام عن "قوى الكون الأوّليّة"، عن "العناصر"، فهي قوى في العالم تسيطر على الإنسان وتسجنه، هي قوى الكون المؤلّهة.

قبل كلّ شيء نتذكّر أنّ الحضور المسيحيّ لم يكن كبيرًا، وقد تألّف من يهود ووثنيّين يؤمنون بيسوع المسيح تجاه ما تؤمن به الجماعة اليهوديّة، الكثيرة العدد. والتحذير من "بيتانولوغيا" (الكلام المعسول، الذي يحاول الإقناع) في 2: 4، هو ردّة فعل على خطر قرّاء الرسالة الذين قد يسقطون في براهين طنّانة، رنّانة، أو في دفاع ومرافعة. قد نتخيّل انتقادًا معاديًا لفيلون أو أرسطوبولس أو أرستياس أو سفر المكابيّين الرابع (سفر منحول يقدّم التعليم اليهوديّ في إطار الفلسفة الرواقيّة)، الذين استعملوا هذا الخطّ الهجوميّ. هذا ما نستخلصه أيضًا من 2: 8 مع تقديم اليهوديّة كنوع من "فلسفة". وما يبيّن ذلك ما قاله 4 مك 5: 22-24، ويوسيفس في العاديّات (18: 11-23). إنّ النداء إلى الأمم من أجل مخافة الله، قد يُفهَم في صورة معادية مع فعل "سيلاغوغاين" (سبى، خلب). رج مر 7: 8: "تركتم وصيّة الله، وتتمسّكون بتقليد البشر".

ويجب أيضًا أن نشدّد على أنّ شيئًا من ذلك لا يمثّل دليلاً بأنّ الفلسفة الكولوسّيّة كانت يهوديّة في جوهرها، أو تجذّرت في مجامع كولوسّي. ولكن حين نقرأ 2: 16، 18، على ضوء المعلومات الواردة أعلاه، وإشارة تقول إنّه وُجد في كولوسّي من انتقد شيعة يسوع المسيح وحكم عليها، واعتبرها بلا قيمة، لا يصعب علينا أنّ نتطلّع إلى جماعة يهوديّة تتحدّث عن شيعة يهوديّة (= المسيحيّة) قد وصلت على المسرح.

ماذا نقرأ في 2: 16، 18؟

"لا يحكم عليكم أحدٌ في المأكول والمشروب، أو في الأعياد والأهلّة والسبوت... ولا يسلبكم أحد جزاءكم بما يدعو إليه من التواضع وعبادة الملائكة وما يرى من رؤى، منتفخًا من الكبرياء بتفكيره البشريّ الباطل." نحن هنا أمام وجهة عمليّة، على المستوى النسكيّ والليتورجيّ أو طرق الاحتفالات والصلاة. "ولا يسلبكم". أنتم انتصرتم بقدرة المسيح، لا بواسطة أخرى. "والتواضع" يشير إلى عبادة نزلّ فيها نفوسنا من أجل عبادة الملائكة. لماذا نبحث عن وسيط مخلوق، عن كواكب نعتبرها مؤثّرة على حياة البشر وأعمالهم، وننسى المسيح؟ والرؤى التي يتحدّثون عنها، حيث الملائكة يلعبون دورًا كبيرًا، قد تعود إلى عالم التنشئة في الديانات السرّانيّة، في العالم الهلّنستيّ أو اليونانيّ. قرأنا في 2: 16: "لا يحكم عليكم" (كرينو). وفي 2: 18: "ولا يسلبكم أحد" (كاتابرابووو).

حين ننظر بتمعّن إلى محتوى الرسالة، يتّضح لنا أنّ ما يُقال فيها يدخل في السياق الذي رسمناه.

هنا تفهم الكنيسة الفتيّة في كولوسّي نفسها، وتعبّر عن ذلك في الرسالة. وهذا أمر مهمّ جدًّا. هناك آيتان لافتتان في هذا المجال. الأولى نقرأ في 1: 12: "شاكرين الآب لأنّه جعلكم أهلاً لأن تقاسموا القدّيسين ميراثهم". ما كان لهم الحقّ في هذه المشاركة. والآن حصلوا على هذا الحقّ. أمّا الكلام عن الميراث فنقرأ عنه في عدد من المقاطع الكتابيّة. مثلاً، عد 18: 20: "وقال الرب لهرون: في أرض بني إسرائيل لا ترث ولا يكون لك نصيبٌ فيما بينهم، فأنا نصيبك وميراثك". وفي تث 10: 9: "لذلك لم يكن للاويّين نصيب وميراث مع إخوتهم، الربّ هو ميراثهم". رج تث 12: 12؛ 18: 1؛ 32: 9؛ يش 14: 3-4... وعبارة "ميراث القدّيسين" ترتبط بالعالم اليهوديّ. القدّيسون هم المدعوّون لكي يتطلّعوا إلى الله القدّوس. ويعملوا بما يأمر به. والميراث هو أرض الموعد وميراث الله. وينتقل الكلام إلى الرجاء الإسكاتولوجيّ (نظرة إلى النهاية) للمشاركة في القيامة، أو الحياة بعد الموت في الحياة الأبديّة، في السماء: "يحين الوقت فتقوم (يا دانيال) لتنال نصيبك عند انقضاء الأيّام" (دا 12: 13). وفي حك 5: 5 نقرأ أنّ الأبرار: يعدَّون من أبناء الله، وحظّهم مع القدّيسين". ونقرأ في قمران، في نظام الجماعة (11: 7-8): "أعطى الله (الحكمة، المعرفة، البرّ، القوّة، المجد) لمختاريه كملك أبديّ، وأورثهم نصيب القدّيسين". وفي المدائح (11: 10-12): "من أجل مجدك طهّرتَ الإنسان من الخطيئة ليكون مقدّسًا لك." فيكون مع أبناء حقّك، ويقاسم قدّيسيك نصيبهم".

ونقرأ الآية التالية في 3: 12: "وأنتم الذين اختارهم الله فقدّسهم وأحبّهم، إلبسوا عواطف الحنان...". لقد شارك المسيحيّون الآتون من العالم الوثنيّ شعب إسرائيل: اختارهم الله. قدّسهم، أحبّهم: ذاك هو أسلوب العالم اليهوديّ، وبشكل خاصّ في كولوسّي حيثُ وُلدت جماعة مسيحيّة جديدة. لا شكّ في أنّ لفظ "مختار" مصطفى (إكلاكتس) معروف في العالم اليهوديّ. ولكن عبارة "مختار الله" تنحصر في العالم اليهوديّ الذي يُدرك نفسه في هذه السمة الأساسيّة إنّ شعب إسرائيل يُدعى الشعب المقدّس: "ما أعظم القدّيسين في الأرض، وكلُّ سروري أن أكون معهم" (مز 16: 3). "خافوا الربّ، يا قدّيسيه، فخائفوه لا يعوزهم شيء" (مز 34: 10). رج دا 7: 18؛ 8: 24؛ طو 8: 15؛ حك 18: 9.

وفكرة "محبوب الآلهة" وإن برزت مرارًا خارج التقليد اليهوديّ المسيحيّ (ديون الذهبيّ الفم، القرن الأوّل المسيحيّ، 3: 60). ولكن نجدها خاصّة في الكتاب المقدّس (تث 32: 15؛ أش 5: 1، 7؛ 44: 2؛ إر 12: 7؛ 31: 3؛ با 3: 37). ويلفت النظر تث 7: 6-8 الذي هو صدى لنصّ معروف حول العهد: "فأنتم شعب مقدّس للربّ إلهكم، الذي اختاركم له من بين جميع الشعوب التي على الأرض، لا لأنّكم أكثر من جميع الشعوب. فأنتم أقلّها، بل لمحبّته". وهكذا دُعيَ الكولوسّيّون ليعتبروا نفوسهم مشاركين الشعب في ميراث الله، في الشعب الأوّل.

ماذا فعل أعضاء المجامع الكولوسّيّة بمثل هذه اللغة التي أخذت بها الشيعة الجديدة، شيعة المسيحيّين؟ ورد الردّ في 2: 16، 18، على أنّ هذا الكلام لا قيمة له. نلاحظ هنا أنّ جواب اليهود في كولوسّي، اختلف عن جواب "المتهوّدين" في غلاطية. في غلاطية، كان الهدف هدية المؤمنين الوثنيّين لكي يكونوا مهتدين جددًا من اليهود (غل 5: 1-12). في كو 2: 16، 18، كانت ردّة فعل ضدّ الأمم الذين يشاركون بني إسرائيل في الميراث. مثل هذا الاعتبار لا أساس له، بل هو من عالم الخيال. والمرافعة اليهوديّة المستندة إلى امتياز إسرائيل أمام الإله الواحد، بحيث يُبعَد كلُّ من يريد أن يشارك في هذا الوضع، قد تجتذبنا لنقدّم شرحًا تاريخيًّا معقولاً للفكر الفلسفيّ في كولوسّي.

* * *

وهناك دليل آخر للطابع اليهوديّ في الفلسفة الكولوسّيّة. نجده في موضوع الختان. لا نستطيع أن نكتشف منذ الوهلة الأولى مدلول هذه السمة، لأنّها وُضعت في قاطعة يبدو مدلولها غامضًا بعض الشيء.

نقرأ في 2: 11: "وفي المسيح، كان ختانكم ختانًا، لا بالأيدي، بل بنزع جسم الخطايا البشريّ. من الجسد البشريّ، بما فيه من ضعف، لأنّه لحم ودم. عُرف الختان على أنّه طقس يميّز العالم اليهوديّ ويطبعه بطابعه (العاديّات، 1: 192: تاقيتس 5/5: 2). في هذه الظروف، يرتبط الختان بالوضع اليهوديّ. أمّا الكلام عن ختان روحيّ، بدون فعل الأيدي (أ- خايرو – بوئيتوس)، فيبقينا في قلب العالم اليهوديّ. فالختان في اللحم، لا يكفي في ذاته، بل يحتاج ليكون ختان القلب (تث 10: 16؛ إر 4: 4؛ تفسير حبقوق في قمران 11: 13، نظام الجماعة 5: 5؛ اليوبيلات 1: 23: فيلون، الشرائع الخاصّة 1: 305). مثل هذا الختان الروحيّ يتمّ وضع المؤمن الذي قبل الختان في الجسد، في اللحم.

ونقرأ في كولوسّي، إشارة أخرى إلى الختان. في 2: 13: "كنتم أمواتًا بخطاياكم وبكونكم غير مختونين في (الجسد) البشريّ (في اللحم، ساركس)، فأحياكم الله مع المسيح". "لا ختانة لحمكم" هي غير "اللاختان الذي هو لحمكم". أمّا "ساركس" (لحم، بشر) فهي مقدّمة خلقيّة. لا ختان خلقيّ. أو "لا ختان طبيعتكم الضعيفة". كلّ هذا صدى لوصف معروف للختان الذي يختم عهد الله مع شعبه (تك 17: 11-14): "هكذا يكون عهدي في لحمكم عهدًا أبديًّا".

عن هذا الختان تحدّث بولس في روم 2: 28: "فما اليهوديّ هو يهوديّ في الظاهر، ولا الختان هو ما ظهر في اللحم، في البشريّ". رج غل 6: 12-13؛ فل 3: 3-5. "فلا ختان لحمكم" يعني: وضعكم كأمم. ما زلتم مثل الأمم الوثنيّة مثل هذا التمييز إتنيّ هو. ويجعلنا في نظرة اليهوديّ حيث الختان يدلّ على الهويّة، واللاختان على عدم الهويّة. هذا ما يجعلنا قريبين من أف 2: 11: "اليهود يعتبرون أنفسهم أهل الختان لفعل الأيدي في البدن، لا يعتبرونكم من أهل الختان". والنتيجة: نجى المؤمنون في كولوسّي بشكل نهائيّ من وضعهم كأمم.

تُسند هذه النقطة "عودة" إلى الختان في كو 3: 11 الذي يبرّر التمييز البولسيّ: لا مختون وغير مختون. الملفت هو أنّ طريقة الاعتراف قد تكيّفت (1كور 12: 13؛ غل 3: 28). هكذا ألغيت القسمة بين اليهوديّ والأمميّ: لا يهوديّ ولا يونانيّ، لا ختان ولا غلف (لا ختان). إن تجاوز هذه القسمة كان عاملاً مهمًّا في كنيسة كولوسّي. هذا يعني في المقابل، أنّ مجمل المسألة التي واجهتها كنيسة كولوسّي، هو أنّ اليهوديّ رأى أنّه خسر صفته، لأنّه ما زال يعتبر الختان كعلامة مستمرّة لوضع يميّز اليهود على أنّهم مختارو الله.

قد يقول قائل إنّ مثل هذه العودة إلى الختان قد تكون صدى لبراهين قديمة، معروفة، دون أن يكون لها مدلول خاصّ من أجل فهمنا الفلسفة الكولوسيّة. هذا يُقنع لو أنّ التلميح كان واحدًا فقط إلى الختان، أو تلميحيّ. ربّما يكون هذا عرضًا. ولكنّ التكرار يفهمنا أنّ مسألة الختان كان عامل تحدٍّ يواجه كنيسة كولوسّي. هي مجموعة تلفيقيّة من الأمم، أخذت الختان كطقس ذات قيمة روحيّة. هذا ممكن، ولكنّ اليهوديّ يرى أنّ مثل هذه القسمة يسير في خطّ يعاكس البناء التاريخيّ وموضوع الختان واللاختان يطرحه اليهوديّ على مستوى الهويّة الإتنيّة قبل أن يُطرَح من وجهة فرديّة أو في مجال طقوس تلفيقيّة.

* * *

والإشارة التالية للطابع اليهوديّ في الفلسفة الكولوسّيّة، هو إشارة واضحة إلى تعليم فلسفيّ في 2: 16؛ 22: "لا يحكم عليكم أحد في المأكول والمشروب، أو في الأعياد والأهلّة والسبوت... لا تلحس، لا تذق، لا تمسك". يدلّ 2: 16 على قيمة رفيعة للمتطلّبات الطعاميّة التي هي أساسيّة لدى اليهوديّ (1 مك 1: 62-63؛ دا 1: 13-16؛ 10: 3؛ طو 1: 10-12؛ يه 12: 2، 19؛ أس 14: 17؛ يوسف وأسنات 7: 1؛ 8: 5).

مثل هذه الفرائض لعبت دورًا في الرسالة المسيحيّة: هل يمكن للأمم أن يشاركوا اليهود في المائدة الواحدة (أع 10: 14؛ 11: 13؛ غل 2: 11-14).

واللفظ "طاهر" و"نجس" (لا طاهر) في روم 14: 14، 20 يدلّ على إحساس عميق لدى اليهوديّ. تشديد على لحم سال دمه كما في لا 7: 26-27، تث 12: 16، 23-24. وحذّر من لحم قد يكون قُدِّم للأوثان[9]. وحذّر من خمر سُكب بعضها أمام الآلهة فتنجّست بالأوثان[10] (دا 1: 13-16).

وهناك أيضًا الأعياد، واحتفالات الهلال أو بداية القمر، والسبت العيد ليس خاصًّا بالشعب اليهوديّ. فلكلّ مجتمع أعياده. والمجتمعات القديمة اعتادت على الاحتفال بالهلال، بانتظار البدر في منتصف الشهر. ويبقى العنصر الثالث الذي هو السبت. إنّه يطبع بطابعه الهويّة اليهوديّة (خر 31: 16-17؛ تث 5: 15؛ أش 56: 6؛ يوبيلات 2: 17-33؛ نظام الجماعة 10: 14، 11-18). وهكذا أمام هذه المحطّات الثلاث، نكتشف طريقة كلام خاصّة بالديانة اليهوديّة (1 أخ 23: 31؛ 2 أخ 2: 3؛ 31: 3؛ نح 10: 33؛ أش 1: 13-14). والمهتمّون بهذه الاحتفالات هم اليهود المقيمون في كولوسّي. الذين يدافعون عن التمييز على مستوى الميراث.

ونستخلص النتيجة ذاتها من 2: 21: لا تلحس، لا تذق، لا تمسك (بيدك) هذا ما يرتبط بطهارة الطعام: من لمس النجس صار نجسًا. رج لا 5: 2-3؛ 7: 19-21؛ 11: 8؛ 24-28. تلمس طعامً نجسًا تتنجّس. وبالأحرى تذوق طعامًا نجسًا. وتمسك هذا الطعام بيديك، وتحمله إلى بيتك. مثل هذه الممارسات عرفتها عدد من الديانات القديمة والعبادات. ولكنّ كلام الرسول يدلّ بشكل خاصّ على موضوع الطهارة كما عرفها العالم اليهوديّ. والاهتمام بالطهارة كان قويًّا، لا في الأرض المقدّسة وحسب، بل في الشتات وبصورة أدقّ، لأنّ اليهود معرّضون هناك لأنواع من النجاسة، لا سيّما وأنّهم في أرض نجسة (الأرض الوثنيّة) وبعيدة عن الهيكل (فيلون، الشرائع الخاصّة، 3: 205-206؛ الأقوال السيبليّة 3: 592-593). ونقرأ في أرستيس (142) تفسيرًا لشريعة موسى: " نتنبّه من النجاسة بالاتّصال بالآخرين أو بالاختلاط بالرفقة السيّئة التي تؤثّر فينا. لا نتعرّض في أمور الطهارة لما له علاقة بالطعام والشراب واللمس، والسمع والنظر، في إطار الشريعة[11].

* * *

ويبقى مقطعان يدلاّن على التلفيق في الفلسفة الكولوسّيّة: عناصر الكون في 2: 8، 20. ثمّ: عبادة الملائكة في 2: 18.

عناصر الكون في العالم اليونانيّ، هي الأرض والماء والهواء والنار (حك 7: 17؛ 2 بط 3: 10، 12) هذا سابق لبولس. وقد فهمها فيلون "تأليهًا لهذه العناصر في العالم الروحيّ أو الميتولوجيّ (الدكالوغ 53). لا شكّ في أنّ الكلام عن هذه العناصر كأجسام سماويّة أو نجوم لها تأثيرها على مصير الإنسان. لا نعود نراه بعد الحقبة البولسيّة (وص سليمان 8: 2-4). ولكن نستطيع أن نقرأ حك 13: 2: "فظنّوا أنّ النار أو الهواء... آلهة تسيطر على العالم". وفيلون تحدّث عن هذه العناصر (ستويخايا) هي قوّات. والغلاطيّون اعتبروها كائنات سماويّة (غل 4: 8-9)، آلهة كما يفهمها الشعب. أو قوّات وسلاطين، كما نقرأ في كو 2: 10.

إعتبر العالم اليهوديّ أنّ الكواكب كائنات حيّة (قض 5: 20؛ أي 38: 7؛ دا 8: 10؛ 1 أخنوخ 86). ونلاحظ أنّ العبارة المستعملة هنا، بالشريعة اليهوديّة في غل 3: 23-25؛ 4: 1-3، 9-10. وهذا ما يلتقي مع عبادة الملائكة. نحن لا ننسى أنّ عالم الجليان اليهوديّ تحدّث عن أرواح تُشرف على العناصر. نقرأ في اليوبيلات (2: 2): "ملائكة روح النار، ملائكة روح الرياح". وفي 1 أخن 57: 5: "قوّاد رؤساء الألوف الذين يهتمّون بسائر الكواكب". وفي 2 أخن 4: 1: "قوّاد النظام الكواكبيّ" وفي وص إبراهيم (13: 10): فروئيل رئيس الملائكة المسلّط على النار. وتحدّث سفر أخنوخ الحبشيّ (18: 14-16) عن كواكب قيّدت، سُجنت بسبب عصيانها.

* * *

وفي النهاية ماذا نقول عن "الفلسفة" الكولوسّيّة؟ إرتبطت بمجامع كولوسّي. آمن اليهود هناك بديانتهم (2: 18) عبر ممارسات تقليديّة (2: 16، 21-23). ولهذا كان جدال بينهم وبين سائر الكولوسّيّين. ونما هذا الجدال مع تعليم جديد يتحدّث عن "مسيح" يهوديّ يتمّ انتظار العالم اليهوديّ القديم (1: 12؛ 3: 12). كما يتوجّه إلى غير مختونين في اللحم جاهلين شريعة اليهود وتقاليدهم. لهذا كانت مقابلة بين ما يؤمن به اليهود وما تقدّمه هذه الحركة الجديدة على مستوى العقيدة والعبادة والممارسة.

التحدّي اليهوديّ واضح في آسية الصغرى، ونجده بشكل خاصّ في غلاطية والتبشير بالختان قويّ بحيث يكون اليهود هم المعلّمين الكذبة. والهرطقة الكولوسّيّة هي في الواقع آتية من العالم اليهوديّ. وإذا كان الرسول اعتاد أن يبدأ رسالته في المجامع قبل أن يتوجّه إلى الوثنّين، فنحن لا نعجب لوجود عناصر يهوديّة حاول المجمع في كولوسّي أن يفرضها على المؤمنين. وهكذا تلتقي الرسالة إلى كولوسّي مع الرسالة إلى غلاطية، حيث نرى تزاحمًا بين مرسلين يهود ومرسلين مسيحييّن وسط العالم الوثنيّ. كان اليهود الأكثريّة في كولوسّي، ساعة كان المسيحيّون حفنة من المؤمنين الجدد. لهذا ما استطاعوا أن يقبلوا بأن يشارك اللامختونون في ميراث إسرائيل. وهذه "الفلسفة" هي نظرة يردّ عليها بولس رافضًا أن يكون الختان هو الذي يشرك المؤمنين في الميراث، بل الإيمان مثل إبراهيم. هذا ما سبق الرسول وقاله في الرسالتين إلى غلاطية ورومة. وجاء في كولوسّي يجعل المسيح فوق الخلائق الذين حملوا الشريعة خضعوا له واحتاجوا إلى خلاصه. هذا ما تتوسّع فيه الرسالة إلى العبرانيّين التي تحسب الملائكة خدّامًا تجاه الابن الذي لاسمه تجثو كلّ ركبة في السماء على الأرض وتحت الأرض، ويعترف كلّ لسان أنّ يسوع المسيح هو الربّ (غل 2: 10-11)[12].



[1] J. J. GUNTHER, St Paul’s Oppernents and the Background NTS 35, Leiden, 1973, p. 3-4.

يتحدّث عن تلفيق غنوصيّ أو مزيج

[2] O. FRANCIS, “Humility and Angels Worshipies of Colossae” in Conflict at Colossae, ed. F. O. FRANCIS – W. A. MEEKS, Missoula, 1973, p. 163-195

[3] A. J. M. WEDDERBURN, “The theology of Coloosians” in The Theology of the later Pauline Letters (ed, A. J. M. WEDDERBURN & A. T. LINCOLN), Cambridge, 1993, p. 4-7

[4] R. E. DEMARIS, The Colossian Controversy: Wisdomies Dispute at Colossaes (JSNTSS 96, Sheffield 1994), p. 17

[5] J. B. LIGHTFOOT, The Epistles of St Paul: Colossians and Philemon, London, 1875.

بعضهم قال: 7500 أو 11000.

[6] Sunagogh proseuch

[7] P. TREBILCO, Jewish communities in Asia Minor (JNTSMS 69; Cambridge, 1991), p. 12-19, 199 n 70; L. H. FELDMAN, Jew and Gentile int the Ancien World (Princeton, 1993), p. 70

[8] SHURER, The history of the Jewish People in the Age of Jesus Christ (rev. and ed. G. VERMES, F. MILLAR et alii) (4vol. Edimburgh 1973-1987), III, p.71

[9] M. GOODMAN, ''Jewish Proselytizing in the first Century" in The Jews Among Pagans and Christians in Roman Empire (ed. J. LIEU et alii, London, 1992, p 53-78)

[10] SCHURER, The History of the Jewish People, II, p. 81-83

نشير هنا الى أن الأسيانيين رأوا إمكانية التنجس من الخمر أقوى مما في الطعام

WINK, Naming the Powers, p. 80, n 9

[11] R. P. MARTIN, Colossians and Philemon (NCB, London, 1974) p. 10-14.

[12] J. D. G. DUNN, « The Colossian Philosophy : A confident Jewish Apologia » in Biblica, 76(1995), p. 153-181.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM