الفصل 16: عظات الذهبيّ الفم في الرسالة إلى أفسس

عظات الذهبيّ الفم في الرسالة إلى أفسس

نقرأ هنا أربعًا وعشرين عظة، قيلت في أنطاكية، ذكرت القدّيس بابيلاس في العظة التاسعة والقدّيس يوليانس في 21: 3، اللذين أحبّتهما أنطاكية. في العظتين السادسة والثالثة عشرة، ذكر الذهبيّ الفم الأديرة في الجبال القريبة. مثلُ هذه الأديرة لعبت دورًا كبيرًا في حياته النسكيّة. وتلمّح العظة الحادية عشرة إلى انشقاق ميليتيوس. ونحن نتوقّف عند العظة الثالثة.

أف 1: 15-20

لا شيء يقابل أحشاء الرسول. لا شيء يشبه حنان الطوباويّ بولس ومحبّته للبشر. فهو ما فتئ ينشر صلواته من أجل المدن والأُمم. فكتب من أجل الكون كلّه: »أشكر اللّه لأجلكم، وأذكركم في صلواتي«. نتخيّل عَدَدَ النفوس التي كانت حاضرة في فكره، وصعوبة التفكير فيهم. ومع ذلك، ذكرهم في صلواته وشكر اللّه لأجلهم جميعًا، كما لو أنّه هو الذي نال أعظم الحسنات.

قال: »لهذا«، أي بسبب الحياة الآتية والخيرات المحفوظة للذين لا يقلّ سلوكهم عن إيمانهم. إنّه لحقّ أن نشكر اللّه من أجل كلّ النعم التي منحها للطبيعة البشريّة، في الماضي وفي المستقبل. إنّه لحقّ أن نشكره على إيمان الذين يؤمنون. »سمعتُ بإيمانكم بالربّ يسوع، وبمحبّتكم لجميع القدّيسين«. هو يضمّ، في كلّ موضعٍ، الإيمانَ إلى المحبّة كفضيلتين عجيبتين وبهيّتين. لا يتكلّم عن سكّان أفسس وحدهم، بل يتكلّم عن جميع البشر بدون استثناء. »لا أزال أشكر اللّه لأجلكم، وأذكركم في صلواتي«. ماذا تطلبون، وماذا تتمنّون؟ »أن يؤتيكم إلهُ ربّنا يسوع المسيح، إله المجد، روح الحكمة ونور الوحي«. يريدهم أن  يتعلّموا أمرين، بطريقة لائقة: ما هو هدف دعوتهم، وكيف نجوا من المعوقات السابقة. بل هناك ثلاثة أُمور في نظره. ماذا نقول، ثلاثة؟ هذا يكون إن نحن عرفنا المستقبل. فبالخيرات التي وُعدنا، ننال معرفة الغنى الإلهيّ الذي لا يُوصَف: بفهم ما كنّا عليه مِن اعتناقنا الإيمان، نعرف قدرته وسلطانه، لأنّه أعاد إلى شريعته أولئك الذين ابتعدوا عنها منذ زمن طويل.

»إنّ ضعف اللّه يتغلّب على كلّ قوّة البشر« (1 كور 1: 25).

أعادنا إليه بفضل هذه القدرة التي بها أقام المسيح. وهي لا تنحصر في القيامة، بل تذهب إلى أبعد من ذلك. »أجلسه عن يمينه في السماوات...«.

1: 21-23

في الحقيقة، أشركَنا في أسرار عظيمة وعميقة. لا يحقّ لأحد أن يعرف أكثر إلاّ إذا نال الروح القدس وجميع مواهب النعمة. وهذه العبارة التي يستعملها بولس: »أبو المجد«، تُذكّرنا بالخيرات الثمينة التي أغدقها الآب علينا. ذاك هو موضوع فكره عن اسم اللّه، فيقول: »أبو المراحم وإله كلّ تعزية« (2 كور 1: 3). ونقرأ أيضًا في النبي: »الربّ قوّتي وعوني« (مز 18: 2-3). »أبو المجد«.

إذ لم يقدر أن يعبِّر عن مثل هذه الخيرات باسمها الخاصّ، ما زال يدلّ عليها بلفظ المجد. وهذا اللفظ يدلّ، بالنسبة إلينا، على كلّ ما هو عظيم وبهيّ. إذن، هذا هو أبو المجد، وإله المسيح. ولكن هل الابن أدنى منه في المجد؟ حتّى المجنون لا يتجرّأ أن يقول هذا. »لِيُعطِكم اللّه« أن تطبعوا في عقلكم أسخى اندفاع. لا نستطيع أن نعبّر عن هذا بطريقة أُخرى.

»فالإنسان الحيوانيّ لا يدرك الروحيّات، هي جهالة عنده« (1 كور  2: 14). فإذا أراد الإنسان أن يفهم نظام الروح، أن يلج أسرار اللّه، عليه أن يمتلك الحكمة الروحيّة. فالروح الذي يكشف لنا كلّ شيء، يعرض علينا أسرار اللّه، فهو وحده يعرفها ويلج أعماقها. فما من ملاك ولا رئيس ملائكة ولا قوّة أُخرى مخلوقة تستطيع أن تمنحنا مثلَ هذه العطايا.

إن كان هذا وحيًا ساميًا، فلا فائدة من استنباط القرابين. فمن تدرّج في علم اللّه، وعرف اللّه حقٌّا، لا يشعر بأيّ شكّ. هو لا يقول: هذا ليس بممكن. كيف يمكن أن يكون هذا؟ فإنّ سعينا للتعرّف إلى اللّه كما يجب أن يُعرَف، إن تعلّمنا من الذي يجب أن يعلّمنا، الروح القدس نفسه، لن تقف مثلُ هذه الشكوك أمامنا. لهذا تكلّم الرسول عن معرفة اللّه، هذه التي تنيرُ عيونَ قلبنا. حين نعرف مَن هو اللّه، لن نشكّ بمواعيده، ولا نرفض أن نؤمن بما قيل لنا عن الماضي. تاق بولس لكي يعطيهم روح الحكمة والوحي. فلجأ إلى كلّ البراهين التي في متناوله ليؤكّد أُمورًا سبقت وتمّت.

إذ أورد بعضًا من هذا الضعف، وأضاف أُخرى لم تتمّ، برهن على هذه بتلك. هكذا نفهم هذا القول: »لتعلموا ما رجاءُ دعوته«. هو ما زال خفيٌّا، ولكن لا للمؤمنين. »ما هو غنى ومجد الميراث الذي وعد به القدّيسين«؟ ما زال الأمر مخفيٌّا علينا. فما الذي أظهر لنا؟ بقدرته أقام المسيح. وإقناع النفوس، في العمق، أعجب من إقامة الموتى. كيف هذا؟ سأُحاول أن أفهمكم. إسمعوا. قال المسيح أمام جثة: »لعازر، تعالَ خارجًا« (يو 11: 43). فأطاع الميتُ حالاً. وقال بطرس لطابيتة: »قومي« (أع 19: 40). فما قاومت. وسيلفظ الربّ قولاً في اليوم الأخير، فيقوم جميعُ البشر بسرعة بحيث لا يسبق الأحياءُ الراقدين في القبور.

في الحقيقة، كلّ شيء يتمّ في لحظة، في طرفة عين. وإن أردنا أن نعود بنفسنا إلى الإيمان، لن يكون الأمرُ كذلك، فكيف إذن؟ هو نفسه سيقول لنا: »كم مرّة أرَدتُ أن أجمع بنيكِ، فما أردتِ« (لو 13: 34)! هذا أصعب كما ترون. لهذا انطلق الرسول من هنا لكي يبرهن عن الكلّ. لا شكّ في أنّه أصعب علينا أن نؤثّر على حرّية الخيار ببراهين بشريّة، من أن نؤثّر على الطبيعة البشريّة. والسبب هو أنّ اللّه نفسه يتركنا أحرارًا حين نكون أمام فعل الخير.

لهذا تحدّث بولس عن »عظمة قدرته بالنسبة إلينا نحن المؤمنين«. ما ربح الأنبياء شيئًا، ولا الملائكة ولا رؤساء الملائكة، ولا الخليقة كلّها، المنظورة واللامنظورة. وإذْ رأى أنّها تعجز على أن تقودنا، أتى الربّ نفسه بتجسّده، فأرانا الحاجة إلى القدرة الإلهيّة. »غنى المجد«. أي مجد يفوق كلّ إدراك. وأيّ لسان يستطيع أن يعبّر عن هذا المجد الذي سيمتلكه، يومًا، القدّيسون؟ ما من لسان. فالنعمة جدّ ضروريّة لكي يكون لنا مفهوم، أو لكي نتقبّل أقلّ شعاع.

هناك أشياء ما كنّا نجهلها من قبل. ولكنّ اللّه أراد الآن أن يُعطي البشرَ دروسًا واسعة وعلمًا مستنيرًا. أُنظروا كلَّ ما صنعه. أقام المسيح. هل هذا قليل؟ وأيضًا: أجلسه عن يمينه.

هل هناك بلاغة تقدر أن ترسم لنا من جديد مثل هذه الكرامة؟ كائن خرج من الأرض، صامتٌ مثل السمك، وأُلعوبة بين أيدي الشياطين، أصعده إلى أعلى السماوات. حقٌّا هي رفيعةٌ عظمةُ مجده! إتبعوا الإنسان بنظركم: جعله اللّه فوق كلّ طبيعة مخلوقة، فوق كلّ القوّات السماويّة، »فوق كلّ رئاسة«. في الحقيقة، المعنى الروحيّ ضروريّ، وكذلك حكمة الفهم لننال مثَل هذه المعرفة. ونور الوحي ليس أقلّ من ذلك. فكِّروا كم تختلف طبيعة الإنسان عن طبيعة اللّه. فمن هذا الدنوّ نفسه رفعه إلى هذا العلوّ. لسنا هنا أمام درجة أو درجتين أو ثلاث، في هذا الصعود الجليل. ما هو مجرّد ارتفاع، بل هو ارتفاع فوق كلّ خليقة. فالقوّات السماويّة أدنى من اللّه دنوٌّا. ومع ذلك، أُنظر إلى أين رفع الإنسانَ، رفع واحدًا منّا، جعله يعبر من العبوديّة القصوى إلى المُلْك السامي، الذي بَعدَه لا كرامة ممكنة.

قال الرسول: »كلّ رئاسة وقوّة وسلطان وكلّ اسم يستحقّ أن يسمّى صار بالإطلاق، أسمى من الكلّ«. فإن كان في الأعالي السماويّة، فهذا يدلّ على الذي قام من بين الأموات، لا كلمة اللّه. فيا للعجب! فالذبابة بالنسبة إلى الإنسان، تقابل كلّ الخليقة بالنسبة إلى اللّه. وماذا أقول، ذبابة؟ هو لا يتحدّث هكذا عن كلمة اللّه، بل عن الذي هو واحد منّا. هذا عظيم حقٌّا. هذا يملأنا دهشة. استخرجه من آخر أعماق الأرض. فإذا كانت كلّ الأُمم نقطة ماء، فأيّ جزء من هذه النقطة يمثّل الإنسان وحده؟ »جعله فوق الجميع، في هذا الدهر وفي الدهر الآتي«.

حسب هذا النصّ، هناك قوّة لم يُكشَف لنا اسمُها. فيظلّ مجهولاً... »جَعَلَ كلَّ شيء تحت قدميه«. ما جعله فقط أسمى، بحيث يكون مجدُه أعظم حين نقابله، أراد أن يخضع له الجميعُ مثل خدّام. يا لشيء عجيب رهيب! كلُّ قوّة مخلوقة صارت خادمة الإنسان، بسبب كلمة اللّه الذي هو فيه. قد يكون هناك شخص رفيع لا يمارس ملكًا، وليس له تقدّم في الكرامة. ولكنّ الأمر هنا ليس هكذا. فالربّ جعل كلَّ شيء تحت قدميه. أخضع له كلّ شيء.

وهذا الإخضاع كبير بحيث لا يوجد أعمق منه ولا أتمّ. ذاك هو معنى هذه العبارة: »تحت قدميه. وجعله رأس الكنيسة كلّها«. أيّ مصير رفيع وهب لكنيسته! رفعها برافعة قويّة، وجعلها في علوّ لا يقابله علوّ، وأجلسها على العرش نفسه. أين يكون الرأس، هناك يكون الجسد. فلا فصل ممكنا. فلو وُجد فصل، لم نعد أمام جسد ولا أمام رأس.

قال الرسول: »فوق الكلّ«. ما هو فكره هنا؟ إمّا أعلن ببساطة أنّ المسيح يسود جميع الكائنات المنظورة والعاقلة، وإمّا هو خير يتفوّق على كلّ خير، أن يكون المسيح هكذا رأسنا.

ما أعطانا اللّه ملاكًا ولا رئيس ملائكة، ولا روحًا آخر رفيعًا، رئيسًا. بل كائن له طبيعتنا. وأراد، ليكرّمه إكرامًا، أن يتّحد به نسلُه كلّه اتحادًا وثيقًا، ويتأثّر به تأثّرًا مباشرًا. »التي هي جسده«. لا تظنّوا أنّ الرأس وحده هو هنا، أن ما يجب أن يسود حاضر. فهناك ما يكوّن القوّة والثبات، الجسد مع الرأس. »ملء مَن يكتمل في كلّ شيء«. فكأنّ هذا لا يكفي للتعبير عمّا هو حميم في هذا الاتّحاد، أضاف أنّ الكنيسة هي كمال المسيح، ملء المسيح. فالجسد يكمّل الرأس، والرأس يكمّل الجسد. نلاحظ الطريق التي تبعها الرسول. ما أجملها عبارة تساعد على كشف مجد اللّه. وهذا الملء الذي يتكلّم عنه، هو ذاك الذي يضمّ الجسد إلى الرأس. يتكوّن الجسد من الأعضاء.

وهو بحاجة إليها كلِّها. هكذا يحتاج المسيح إلى جميع المؤمنين. إذا لم نكن عديدين بحيث يكون الواحد اليد، والآخر الرجل أو أيّ عضو، فلا وجود لجسدٍ كامل حقٌّا. كلّهم يشاركون في تكوين كامل الجسد السرّيّ. عندئذٍ يكتمل الرأس، ويصبح الجسدُ كاملاً، لأنّنا كلّنا متّحدون وقد امتزجنا في المجموعة. أُنظروا الآن إلى غنى الميراث ومجده. أنظروا إلى عظمة قدرة اللّه الرفيعة في الذين يؤمنون. أُنظروا الرجاء الذي تعطينا دعوتُنا. لنحترم رأسنا احترامًا ولنفهم أيّ رأس نحن جسده، وكيف يكون كلّ شيء في حالة خضوع. من هذا القبيل، يجب أن نكون أفضل من الملائكة، ومن رؤساء الملائكة أنفسهم. لأنّنا نمتلك كرامةً لا يقدرون أن يطمحوا إليها.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM