الفصل 11: مدينة أفسس عاصمة آسية الصغرى

مدينة أفسس عاصمة آسية الصغرى

قدّم لنا سفر الأعمال (ف 19) خبرًا مفصّلاً عن تبشير أفسس على يد بولس، سنة 53-56. سبق الرسول إلى هناك خطيب مميَّز اسمه مميّز. هذا نال فقط عماد يوحنّا (أع 18: 24-26). فأكمل تنشئته مسيحيّان وصلا حديثًا إلى المدينة: أكيلا وبرسكلّة. مرّ بولس في أفسس وهو في طريقه من كورنتوس إلى أورشليم. مرّ مرورًا عابرًا في المجمع. فاستحسن اليهود كلامه، وطلبوا منه أن يطيل الإقامة بينهم. ولكنّه مضى تاركًا برسكلّة وأكيلا. بعد حجّ إلى المدينة المقدّسة ودورة آسية الصغرى مرورًا بأنطاكية وغلاطية وفريجيّة، عاد إلى أفسس يرافقه تيطس (أع 19: 1).

وجد هناك مسيحيّين، كما وجد تلاميذ يوحنّا (كانوا اثني عشر) الذين ما نالوا الروح القدس. منح هؤلاء العماد ووضعَ اليد. ثمّ مضى بولس إلى اليهود وعلّم ثلاثة أشهر في المجمع. إهتدى الكثيرون، لا كلّهم. فانفصل عن الذين لم يؤمنوا وجمع تلاميذه في مدرسة تيرانوس وبشّر هناك سنتين. "فسمع اليهودُ والأممُ كلام الربّ". واستندت الكلمة إلى آيات ومعجزات. بعد حدث المقسِّمين اليهود والمعمدّين الجدد الذين يتعاطون السحر، أورد سفر الأعمال ثورة صيّاغ أفسس على الرسول، لأنّ الاهتداءات التي تمّت على يده جعلت تجارتهم تخفّ وأرباحهم تتدنّى. بما أنّ منفعة الصيّاغ ارتبطت بأمر عامّ. هو إزدهار معبد ديانا، انتفض هؤلاء وأرسلوا كلمة السرّ إلى سكّان المدينة: أرطاميس العظيمة. أرطاميس الأفسسيّين. ذُكر أهل آسية أصدقاء بولس وأستاذ البلاغة الذي هدّأ الجمع وأنهى الجدال بحكمته.

هي تفاصيل نقرأها في سفر الأعمال، وهي تتوافق بالنسبة إلى التاريخ مع الإبيغرافيا (علم النقوش): أرطاميس الإلاهة العظيمة. رج أع 19: 37. في المتحف البريطانيّ نقرأ اسم "تايا" (الإلاهة). والأسيويّ الذي عرفه التاريخ هو كاهن يختاره كلَّ سنة ممثّلو مدن المقاطعة الأسيويّة ليرأس عبادة الإمبراطور. هو "إسيارخيس" أو رئيس آسية. وهو لقب يحتفظ به حتّى بعد الخروج من وظيفته. وكان لكهنة العبادة عينها هذا اللقب الذي أعطيَ أيضًا لأعضاء في جمعيّة المقاطعة. وقد ذكرت مدوَّنة اسم مغني هيكل أرطاميس ودعته اسم "إسيارخيس". والبلاغيّ (غراماتايس) له سلطة كبيرة في الشعب، كان شخصًا هامًّا ويأتي حالاً بعد الحكّام والقضاة على مستوى الكرامة. هو رئيس المجلس الذي يرتّب الأمور الدينيّة في أرطاميسون أو معبد أرطاميس وامتداداته.

بعد تلك "الثورة"، مضى بولس إلى مكدونية، ثمّ أقام بضعة أشهر في كورنتوس، وكان في فيلبّي في الأشهر الأوّلى من سنة 57 ليعود إلى أورشليم فيصل إليها في عيد العنصرة. توقّف في ميليتس، وطلب شيوخ كنيسة أفسس. ذاك كان الاتّصال الأخير مع الجماعة التي أسّسها.

تاريخ مدينة أفسس، عاصمة آسية الصغرى

بعد قراءة سفر الأعمال، تعود إلى الوثائق القديمة. أوّل سكّان هذه المدينة هم الكاريّون (كما قال سترابون) أو الليديّون (كما قال باوسانياس). هنا لا نفصل أفسس عن مجمل الساحل الأسيويّ. فأفسس تبعد عن طروادة قرابة 240 كلم، حيث المدينة السادسة السفلى تعدّ، للأركيولوجيا نماذج عديدة من الفن المسّينيّ. وميليتس، الحاضرة المجاورة، قد أسّسها الكريتيّون. والنقاط الرئيسيّة على الشاطئ، صارت مأهولة وعرفت الحضارة عينها. في الواقع، فخّار سكجي تنزي، شرقيّ الأمانوس، يشبه ما وُجد في طروادة. ويدلّ على تأثير كريتيّ، وقبل ذلك الوقت، أمام سكّان ساحل بحر إيجه في البداية. وتنقيبات ميليتس دلّت على آثار إيجاريّة. ووُجد مثلها في ملعب المدينة القديمة في أفسس.

نشير إلى أنّ اللوديّين الذين ذكرهم سفر التكوين (10: 22) لعبوا دورًا هامًّا في حوض البحر المتوسّط. فنصوص الفرعون سيتي الأوّل تتحدّث عن أهل سرديس. ونصوص رعمسيس الثالث تذكر المعونيّين الذين حكموا هرموس المتوسّط، كما يقول هوميرس في الإلياذة (2: 864؛ 10: 431). هذه الشعوب كوّنت اللوديّين، وقد كتب عنهم سترابون في "الجغرافيا" (13/3: 2)، الذين كثر عددهم في القرن الحادي عشر، عند مصبّ كايستريس، كما قال باوسانياس.

يرى بعضهم أنّ سلطة ليدية البحريّة (تالاس) كان مركزها خليج كالستريس وعاصمتها الطبيعيّة أفسس. ولقد كان على ذاك الساحل الأسيويّ تجمّعات شعب وإتنيّات متقاربة جاء من الشرق، من إيجه أو ممنينوس. إرتبط الكاريّون بكريت. وقد أعجب هوميرس بنتاجهم الفنّي (إلياذة 5: 141، 145). ويعلّمنا توقيديوديس أنّهم حاولوا الوصول إلى جزر الأرخبيل (حرب البيلوبوني، 1: 4)، فامتدّوا إلى الشرق حاملين معهم الحضارة الكريتيّة. مثلاً، نجد في أفسس حلى صُنعت من كرستال الحجر الأبيض، الآتي من كريت. وتجاه الآتين من الغرباء، كان الآتون من الشرق على ما يبدو. هل وصل التأثير الحثّيّ إلى أفسس؟ لا يبدو الأمر أكيدًا وإن وُجدت مقاربات مثلاً، ولكن وصل التأثير الفينيقيّ. فقد أعطوا لجزيرة تقابل المدينة اسم سورين حيث كان لهم مركزٌ تجاريّ.

أمّا شعائر العبادة التي تمارَس في أفسس، فهي تعود إلى العالم الكلدانيّ والأشوريّ. مثلاً أوفيس أتت من الشرق، ومن أسرة عشتار. وكانت ثلاث مراحل في ديانة أفسس: عبادة الأرض الأمّ على شاطئ كايستريس، في زمن الأمازون (جماعة من النساء المحاربات). ثمّ عبادة أبلّون. وأخيرًا عبادة أوفيس التي تقودنا إلى أوّل هيكل لأرطاميس. نشير هنا إلى أنّ أوفيس هي الإلاهة الأمّ، رايا. هي أوّل إلاهة للأمازون. وُجد تمثالها في المستنقعات المقدّسة. وعُرفت هذه الآلهة أيضًا في ديلوس. ولكن حلّ محلّها في كلّ آسية الصغرى أرطاميس منذ نهاية القرن الخامس ق.م. حوّلت الأساطير شخصيّة الإلاهة القديمة وجعلت منها وضع ديانا. وفي النهاية صارت جنّيّة تستعذب الصيد البرّيّ.

في أيّ قترة بدأ الأيّونيّون (الآتون من اليونان) يستوطنون منطقة أفسس؟

مع أندروكلوس في القرن التاسع ق.م. وهناك ثلاث وثائق تروي مجيء الأيّونيّين. الأوّل من كريوفيليس في الحوليّات الأمنيّة التي حفظها أتيناوس (القرن 2-3 ب.م.) في كتابه "وليمة السفسطانيّين (نجد فيه 1500 إيراد من كتب ضاعت اليوم) (8: 62). الثاني، مقطع من إيفورس نقرأه في باوسانياس. الثالث، نصّ من سترابون.

قال كريوفيليس: "الذين أسّسوا أفسس وجدوا نفوسهم مزعوجين لأنّ المكان لم يكن مؤاتيًا. في النهاية، أرسلوا يسألون القول الإلهيّ: أين يشيّدون مدينتهم. فأجابهم الإله: تدلّكم شملة على الوضع، ويقودكم إليه خنزير برّيّ. حينئذٍ ترك الأفسسيّون الجزيرة حيث أقاموا عشرين سنة، وعبروا المضيق واحتلّوا تريخايوس وكورسوس".

بارسانياس: "كان سكّانُ الأرض الليليجيون الذين هم فرع من الكوريّين ومن أمّة الليوديّين. والليليجيّون واللوديّون الذين أقاموا في المدينة العليا، طُردوا من المنطقة بيد القائد كودروس، آخر ملكوك أثينة. أمّا السكّان القريبون من الهيكل فما أصابهم سوء" (لبثوا على الحياد). وحين مات أندروكلوس دُفن في أفسس، ويُرى حتّى الآن قبرُ البطل، بجانب الطرق التي تسير عبر أولبابون حتّى باب مغنيزية. على رأسه وجه رجل مسلّح" (8/2: 6-9).

جاء سترابون موجزًا. "كان السكّان الأوائل للمدينة الكاريّين والليليجيّين طرد أندروكلوس معظمهم، ثمّ عاونه مهاجرون أتوا معه فأسس حول أتينابون (معبد أثينة) وهيبلايوس موقعًا أضاف إليه الأراضي، على سفح كراسوس" (14/1: 21).

دلّت الأركيولوجيا على المواقع التي تذكرها النصوص. الجزيرة التي يتحدّث عنا كريوفيليس هي جزيرة سيرية التي ارتبطت بالشاطئ منذ عهد بلينوس. المرفأ المقدّس كان قريبًا من حوض أرطاميسيون (أو معبد أرطاميس). المردبّون (أو المدينة العليا) إرسانياس هو تلّة أياسولوك.

بدأ اليونان وكشفوا الأرض. أقاموا على جزيرة سيريا قبل أن يطردوا السكّان الأصليّن من المنطقة. طردوا الكاريّين واللوديّين والليليجيّين وأقاموا عبادتهم فأسّسوا أتينايون ثمّ هيكلا لأبلّون، الإله الذي سألوه قبل أن يبدأوا بالعمل (أتيناوس 8: 62). منذ ذلك الوقت، دخل التأثير اليونانيّ إلى أفسس، وحول شعائر عبادتها، من أوفيس إلى أرطاميس. وهكذا صارت المنطقة (بين 900 و700 ق.م.) في المسيرة السياسيّة للمستوطنات اليونانيّة التي توزّعت على الشاطئ. كما دخلت في مجموعة (كوينون) الأيّونيّين (يونون. رج اليونان) التي تكوّنت في تلك الحقبة بشكل فدراليّة سياسيّة ودينيّة تجاه الأيّوليّين (أقاموا في الشمال الغربيّ من آسية الصغرى). حلّ الفرس هذه الفدراليّة بعد ثورة سنة 499-493 فأعيد تكوينها، في القرن الرابع، بقيادة الإسكندر الكبير ولبثت حاضرة في شكل أو في آخر حتّى الإمبراطوريّة الرومانيّة. ظلّت السلالة الكودريّة سيّدة المدينة، وأعلن سترابون (14/1: 21) أنّ سلالة أندروكلوس امتازت حتّى في عصره (القرن الأوّل ب.م.) بأن تحمل وحدها اللقب الملكيّ والصفات الملوكيّة.

وضع كريسوس (561-546) يده على أفسس. حكم ابن أخيه المدينة بعض الوقت ثمّ تمرّد على عمّه فأرسل إلى المنفى إلى البيلوبونيز بعد أن حوصرت أفسس. حينئذٍ أخذ الأفسسيّون بالديموقراطيّة التي جاء بها من أثينة أريسترخس سنة 555. ولبث الوضع هكذا حتّى السيطرة الفارسيّة في آسية. نعمت أفسس برضى كريسوس فما أساء معاملتها المحلّتون الجدد. امتدّ الحكم الفارسيّ منذ سنة 546 واحتلال كورش لمدينة سارديس حتّى سنة 334 ووصول الإسكندر. حينئذٍ تحرّرت المدن الأيّونيّة وأعيدت الفدراليّة.

حقبة طويلة من القلاقل تبعت موت الإسكندر، فكانت أفسس في هذه الجهة أو تلك إلى أن جاء السلوقيّون. فاستعادت أفسس الاسم الذي خسرته ولكنّ اللاجيّين الآتين من مصر وصلوا إليها مع بطليمس الثالث أرجانيس وبطليمس الرابع فيلوباتور (القسم الثاني من القرن الثالث). إذا كان الفرس لم يتركوا وراءهم أثرًا من شعائر عبادتهم في أفسس، فالمصريّون تركوا أثرًا من عبادة إيزيس، كما قالت التنقيبات. سنة 197، استعاد أنطيوخس الثالث الكبير أفسس، بعد معركة مغنيزية، بانتظار أن تدخل المدينة في الإمبراطوريّة الجديدة.

سنة 133 ق.م.، جاءت فتوى من مجلس الشيوخ تحدّد نظام المدن اليونانيّة التي دخلت في "الدولة "الرومانيّة: استقلال، تنظيم بلديّ مع مجلس شيوخ، استقلاليّة ماليّة، ممارسة القضاء، إمكانيّة العودة إلى تحكيم رومة في الأزمة الخارجيّة أو الداخليّة. غير أنّ الضرائب كانت ثقيلة على المدينة ومعابدها. حاولت أفسس أن تثور بقيادة مستريداتيس، ملك البنطس. سنة 84، احتلّها سيلا "القنصل الرومانيّ" ودمّرها. سنة 49، زارها الخطيب الرومانيّ شيشرون وكانت عاصمة المقاطعة. كما أقامت فيها بعض الوقت كليوبترا وأنطونيوس.

ولمّا جاء أوكتافيوس الذي سُصبح أوغسطس، سمح ببناء هيكل لرومة وللإمبراطور فيها كان الحاكم والخدمات الإداريّة. كان زلزال دمّر العاصمة الأسيويّة، فأعاد بناءها طيباريوس وكلوديوس (41-54 ب.م.). تيطس رمّم معبد أرطاميس ووسباسيانس وضع المسرح. في نهاية القرن الأوّل المسيحيّ، أسِّست فيها مكتبة تعرّف إليها الفريق النمساويّ في تنقيبات سنة 1904. ولبثت أفسس مزدهرة، كمدينة دينيّة ومركز سجود. منحها كراكلاّ لقب المتروبول (أمّ المدن) الأولى رغم احتجاج سميرنة (إزمير اليوم) وبرغامس، سنة 263، اجتاحها القوط ودمّرها فما قامت من خرائبها. ومع اهتداء الإمبراطور قسطنطين، خسرت أفسس كلّ بريقها الوثنيّ. وتحوّلت إلى مدينة مسيحيّة. فيها عُقد المجمع الثالث (431) في كنيسة مزدوجة. ثمّ بنى يوستنيانس كنيسة القدّيس يوحنّا. ولمّا أتى الفتح العربيّ دمّر المدينة تدميرًا نهائيًّا. وساعد البحر برماله فحكم على المدينة بالزوال. ولولا مرور بولس فيها لما اهتمّ أحد بمدينة عرفت أوجّ مجدها يوم زارها بولس الرسول بانتظار أن تصل إليها رسالة من الرسول أو من أحد تلاميذه.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM