الفصل 9: الرسالة إلى غلاطية في كنيسة إنطاكية

الرسالة إلى غلاطية في كنيسة إنطاكية

منذ بداية الكنيسة، أخذ الآباء يقرأون الكتب المقدّسة ويفسّرونها ويطبّقونها على حياة المؤمنين. فجاء تفسيرهم في تلميحات أو عظات، على مثال ما فعل يوحنّا الذهبيّ الفم. كما جاء في تفاسير متواصلة ترافق النصّ آية آية على ما في أوريجانس ابن الإسكندريّة (مصر) وقيصريّة (فلسطين) الذي مات في صور (لبنان) سنة 253. أمّا نحن فنتوقّف عند مدرسة أنطاكية التي كانت إحدى المدارس في الشرق مع الإسكندريّة في مصر والرها في بلاد الرافدين، أي في المنطقة القبطيّة والمنطقة السريانيّة، وإن لَم يصلنا من الأولى سوى آثار في اللغة اليونانيّة. ونتوقّف بشكل خاصّ عند الرسالة إلى غلاطية كما عرفتها تلك المدرسة، ولا سيّما في ما تركه له يوحنّا الذهبيّ الفم من آثار.

1- مدرسة أنطاكية

تأسّست مدرسة أنطاكية على يد لوقيانس الشميشاطيّ سنة 312، في سعي لمقاومة مباشرة للأسلوب الاستعاريّ الذي أطلقته مدرسة الإسكندريّة في ذروتها مع أوريجانس. أفرطت تلك المدرسة في تفسير الاستعارات، وتفلّتت من كلّ قيد، فسارت على هواها في نهج لَم يتورّع من اعتبار الخيط الاحمر الذي وضعته راحاب على بابها ليحميها من الموت، ساعة دخول العبرانيّين إلى أريحا، رمزًا إلى دم المسيح.

أمّا مدرسة أنطاكية فاهتمّت بالنصّ اهتمامًا خاصٌّا، ولَم تتركه لتقدّم شيئًا آخر. وقادت تلاميذها إلى التفسير الحرفيّ، وإلى الدراسة التاريخيّة، وإلى تحليل نصوص الكتاب على المستوى الغراماطيقيّ، مستوى الصرف والنحو. وهكذا تميّزت أنطاكية عن الإسكندريّة. بحثت عن المعنى المباشر. أمّا الاسكندريّة فأرادت أن تكتشف سمات وجه المسيح. اعتبرت أنطاكية أنّ الأسلوب الاستعاريّ (الأليغوريّ) يدمّر الكتاب المقدّس الذي لَم يعد خبرًا من الماضي، بل مجمل روايات ميتولوجيّة. فردّت الإسكندريّة بأنّ تفسير أنطاكية تفسير »لحميّ«، بشريّ محض، وهو يرتبط بالحرف ويتوقّف عنده. وجد أوريجانس أنماطًا، لا في أحداث من الكتاب فحسب، بل في كلّ تفصيل من تفاصيل الكلمة الملهمة. فكلّ سطر في الكتاب مليء بالأسرار بالنسبة إليه. أمّا أنطاكية فما أرادت أن تقرأ وجه المسيح إلاّ في بعض الأماكن، لا في العهد القديم كلّه. فحيث يكون الشبه ظاهرًا والقياس واضحًا، تقرأ أنطاكية صورة مسبقة عن المخلّص. فالأنماط، بالنسبة إليها، هي الشواذ، لا القاعدة العامّة. فإن تهيّأ التجسّد في كلّ موضع، إلاّ أنّه لَم يصوّر في كلّ موضع.

أسلوبان مختلفان متقابلان. إستلهمت الإسكندريّة فلسفة أفلاطون وعالَم المثُل والصور والخيال. واستلهمت أنطاكية الواقعيّة المبنيّة على الملاحظة والاختبار كما عند أرسطو.

بدأت مدرسة أنطاكية بداية متواضعة، فلم تعرف معلّمًا من قياس أوريجانس. غير أنّها كانت مهد تأويل كبير أدرك ذروته بقيادة ديودورس الطرسوسيّ، في نهاية القرن الرابع. اشتهر من تلاميذه يوحنّا الذهبيّ الفم، وغاص في أبعاد التأويل تيودورس المصيصيّ. ومن هذه المدرسة كان لنا بشكل خاصّ تيودوريتس القورشيّ الذي ترك لنا ما يقارب التفسير الكامل للأسفار المقدّسة.

2- رسالة غلاطية في أنطاكية

نحتاج إلى دراسة واسعة عن ديودورس، أسقف طرسوس (في تركيا)، الذي هو المعلّم بلا منازع في أنطاكية. فقد ترك لنا الآثار العديدة على المستوى التفسيريّ، بدءًا بسفر التكوين والخروج، وصولاً إلى المزامير والعهد الجديد. غير أنّ آثاره ضاعت، أو هي توزّعت في تضاعيف عظات الذهبيّ الفم لكي تُحفظ من التلف في خطّ هذه المدرسة. نذكر أوسابيوس الحمصيّ الذي كان تلميذ أوسابيوس القيصريّ (قيصريّة فلسطين). وُلد حوالي سنة 300، وانجذب باكرًا إلى الدراسات البيبليّة. ترك الكثير من الكتب ولكن لَم يبقَ منها سوى أجزاء، ولا سيّما من تفسير الرسالة إلى غلاطية. ما بقي من مؤلّفاته نجده في التراث الأرمنيّ وفي السلسلات التفسيريّة التي اعتادت أن تضمّ مقاطع من كتّاب عديدين في موضوع من المواضيع أو في شرح سفر من الأسفار. أمّا أسلوب أوسابيوس فأسلوب أنطاكية الذي يستعمل العقل ولا يترك المخيّلة تنقل النصّ الكتابي نحو الاستعارة والأّليغُورِيَّا.

أمّا أبوليناريوس اللاذقيّ (لاذقيّة سورية) فوُلد سنة 310. كان والده كاهنًا، وعالِمًا بالغرامطيق، فأخذ الكثير عنه لدراسة النصوص. كما كان صديق أثناسيوس أسقف الإسكندريّة، والذي لقي منه استقبالاً في عودته من المنفى سنة 346. يروي إيرونيمُس في كتابه »حول الرجال العظام« أنّ أبوليناريوس ألّف »كتباً عديدة في الأسفار المقدّسة«، فبقيت أجزاء موزّعة في السلسلات التفسيريّة.

ومـمّا وصل إلينا منه تفسير للرسالة إلى غلاطية مع مقدّمة، تشدّد على الأهميّة اللاهوتيّة ولا تتوقّف عند أسلوب أنطاكية مع دراسة النصوص وطريقة انتقالها، ولا عند الإسكندرانيّين والنهج الألِّيغُوري. يبدو أن تفاسيره جاءت موجزة، فبدت وكأنّها لائحة بأمور سيشرحها أبوليناريوس.

وبقي لنا من تيودورس، أسقف المصيصة († 428) الذي كان تلميذ ديودورس، تفسيرًا لعشر رسائل صغيرة للقدّيس بولس، وهي غل، أف، فل، كو، 1 و2 تس، 1 و2 تم، تي، فلم. ونحن نقرأها في ترجمة لاتينيّة (عن اليونانيّة) تعود إلى القرن الخامس، وجُعلت باسم أمبروسيوس (أسقف ميلانو، في ايطاليا) لتُحفظ من التلف.

قبل أن نتوقّف مطوّلاً عند يوحنّا الذهبيّ الفم، نذكر في هذه المدرسة الأنطاكيّة ما ترك لنا ساواريانس، أسقف جبلة، من آثار في الكتاب المقدّس. قال فيه جناديوس (»الرجال المشهورون«، 21): كان متبحّرًا في الكتب المقدّسة، وواعظًا مدهشًا بعظاته. لهذا دعاه مرارًا الأسقف يوحنّا والامبراطور أركاديوس، لكي يعظ في القسطنطينيّة. ويتابع جناديوس فيقول: »قرأت تفسير الرسالة إلى الغلاطيّين، مع مقال حول المعموديّة وعيد الدنح...«. مات ساواريانس في عهد تيودوسيوس، ابنه في العماد. لَم يسلم تفسير غل من الضياع. ولكن بقيت منه ثلاثون عظة نجدها في مؤلّفات يوحنّا الذهبيّ الفم.

وننهي هذه اللائحة الأنطاكيّة مع تيودوريتس القورشيّ، (393) الذي ارتبط بتيودورس، فقال في مقدّمة الرسائل: »أعلم كلّ العلم أنّني لن أفلت من الألسنة المسيئة، ساعة أبدأ في تفسير تعليم بولس الإلهيّ. وقد يتّهمني بعضهم بالاعتداد والوقاحة لأنّي أتجرّأ فأحاول تفسير الرسول، بعد هذا أو ذاك اللذين هما من أنوار هذا العالَم، ومع ذلك، فها أنا أباشر«. هذا وذاك يدلاّن على تيودورس والذهبي الفم، اللذين يبدو تيودوريتس مدينًا لهما بكلّ دين. فيقول: »من اللائق ان نكون نحن أيضًا كذباب في رفقة هاتين النحلتين، فنجعل المروج الرسوليّة تسمع طنينًا«.

وشرح تيودوريتس غل 1:19 (وَلَم أرَ غيره من الرسل سوى يعقوب أخي الربّ)، فقال: »دُعي »أخا الرب«، ولكنّه لَم يكن (أخاه) بالطبيعة. كما لَم يكن، كما يظنّ البعض ابنًا وُلد ليوسف في زواج أوّل، بل كان ابن كلاوبا، وابن عمّ الربّ. وكانت أمّه أخت أم الربّ«. فالرأي الذي قال إنّ يعقوب هو ابن يوسف، يعود إلى إكلمنضس وأوريجانس اللذين أخذاه من المنحولات (إنجيل بطرس، إنجيل يعقوب)، وورد عند أوسابيوس في التاريخ الكنسيّ. لا يقول تيودورس شيئاً في هذا المجال. أمّا الذهبي الفم، فيعلن أنّه كان ابن كلاوبا، وقد ظنّه الناس أخا ليسوع مع أنّه لَم يكن بالحقيقة أخاه.

نحن نقرأ في الفصل الأوّل من تفسير غل بيد الذهبيّ الفم: »حين قال (بولس): »قاومتُ بطرس« (آ 11)، لا يرى أحد في هذا الكلام تعبيرًا عن حقد أو تمرّد. فهو يحترم بطرس ويحبّه أكثر من الجميع. فما قام بهذه المسيرة الطويلة إلى أيّ من الرسل، بل إلى بطرس وحده: »لَم أرَ غيره من الرسل سوى يعقوب«. جاء لكي يرى، لا لكي يتعلَّم. لاحظوا أيضًا، بأيّ احترام يذكر هذا (=يعقوب)؛ فهو لا يكتفي بأن يلفظ اسمه بل يضمّ إلى هذا التلفّظ أجمل مديح، لأنّه بعيد كلّ البعد عن الحسد، حين دلّ على ذلك الذي تكلّم عنه، كان بإمكانه لو شاء، أن يقول بإشارة أخرى لا لبس فيها، كما قال الإنجيليّ: كان ابن كلاوبا. ولكنّه لَم يقل هذا، بل استملك نوعًا ما ألقابًا كريمة يمتلكها الرسل، فاعتبر أن التكريم الذي يؤدّيه له هو مجد. وبدلاً من أن يدلّ عليه، كما قلنا، ميّزه فأضاف إلى اسمه: »أخ الربّ«. هذا لا يعني في الواقع أنّه كان أخا ليسوع، بل حُسب كذلك. غير أنّ هذا لَم يمنع بولس من أن يعطيه هذا اللقب الذي يشرّفه«.

ويذكر تيودوريتس أيضًا تيودورس والذهبيّ الفم في تفسير غل 6:11 (»أنظروا ما أكبر الحروف التي أخطّها إليكم بيدي«)، فيقول: »يبدو أنّه دوّن هو نفسه كلَّ هذه الرسالة، لكي يعلّم أنّه لا يهتمّ بالحياء البشريّ حين تكون الحقيقة على المحكّ. بعضهم فسّر العبارة »ما أكبر الحروف« بلفظ »عظيمة«، والبعض الآخر بـ »نقص في المهارة«. ولكنّه قال: أنا دوّنتُ الرسالة مع أنّي لا أمتلك خطٌّا جميلاً«. دلّ بالبعض على تيودورس، وبالبعض الآخر على الذهبيّ الفم في شرحه غل 6:3.

هنا نعود إلى يوحنّا الذهبيّ الفم. »أنظروا ما أكبر الحروف التي أخطّها إليكم بيدي. إنّ جميع الذين يريدون أن يرضوا بالجسد يلزمونكم بأن تختتنوا« (6:11-12). وافهموا أيّ عذاب استولى على نفسه الطوباويّة. فكما يحسّ الانسان بحزن عظيم حين يفقد أحد أقاربه أو يمنى بفشل غير متوقّع، فلا يذوق راحة في الليل ولا في النهار، فتكون النفس دومًا عرضة لهجمات العذاب، كذلك بولس الطوباويّ: بعد أن قال بضع كلمات حول العادات، عاد إلى السؤال الأوّل الذي هو السبب الأوّل لاضطراب سيطر على نفسه فقال: »أنظروا ما أكبر الحروف التي أخطّها إليكم بيدي«. إذن، دوَّن هو نفسه الرسالة كلّها، وهذا ما يدلّ دلالة لا لبس فيها، على صدقه التامّ. وإليكم ما أعلن. هو أملى سائر الرسائل، وكتبها آخر، كما نرى في الرسالة إلى رومة، وقد قيل في نهايتها: »أنا ترتيوس، كاتب هذه الرسالة، أحيّيكم« (روم 11:22). أمّا الرسالة التي نتكلّم عنها، فهي كلّها من يده. ما فعل هذا فقط ليدلّ على محبّته، بل ليدمّر ظنونًا مكدّرة. اتّهموه بأنّه فعل أمورًا لَم يفعلها فأخطأ. قالوا عنه إنّه يكرز بالختان، ويتخفّى وراء حجاب. ولكن لَم يكن الأمر كذلك. فرأى نفسه مضطرٌّا لأن يوجّه إليهم كلمة بخطّ يده فيجعل في يدهم شهادة مكتوبة. فالدهشة التي نكتشفها في هذه الكلمات، تبدو آتية من نقص في رسالته، لا معبّرة عن عاطفة مخالفة. فكأنّه يقول: مع أنّي لا أجيد الكتابة (أو الخط)، ما ظننتُ أني أستطيع أن أتهرّب، بعد أن أجبرت على كَمِّ أفواه المفتَرين«.

3- يوحنّا الذهبيّ الفم

ألقى الذهبيّ الفم مواعظ في أسفار العهد الجديد كلّه، تقريبًا، ولا سيّما في رسائل القدّيس بولس. أمّا القمّة فنجدها في العظات الاثنتين والثلاثين حول الرسالة إلى رومة، التي اعتبرت أجمل ما بقي من خطيب أنطاكية والقسطنطينيّة. ولكنّنا لا نستطيع أن نتكلّم فقط عن عظات في ما يخصّ الرسالة إلى غلاطية، بل عن تفسير، حسب المفهوم الحديث للكلمة. فهنا، كما في تفسير سفر أشعيا، تمتزج العظة بالتفسير. تارة يتوجّه الواعظ إلى السامعين بشكل مباشر، وطورًا يتوقّف عند النصّ آية آية، فيشرحها ويستخلص منها التعليم لقرّائها. حين ألقى يوحنّا كلامًا عن هذه الرسالة، كان بعدُ في أنطاكية. فهو يعلن أنّ العظة حول تبدّل الأسماء، أُلقيت أمام السامعين أنفسهم: »ناقشتُ بعض المناقشة هذا الموضوع، حين خطبت أمامكم عن تبدّل اسم شاول إلى بولس، فيمكنكم العودة إلى هذا الكتاب، إذا نسيتم، وفيه تجدون ما عالجته معالجة تامّة«.

لماذا هذا المزج بين الوعظ والتفسير، وأيّهما سبق الآخر؟ في الأصل، يوحنّا هو واعظ. ولكن جاء من أقحمَ نصوصًا تفسيريّة في قلب عظته، لعدّة أسباب. فإن كانت من ديودورس أو تيودورس، تُحفظ من التلف بعد الحرم الذي حلّ بالرؤوس الثلاثة في مجمع القسطنطينيّة سنة 553. وإن كانت من كاتب مغمور، جُعلت في تضاعيف مؤلّفات الذهبيّ الفم لتحفظ من الضياع. ولكن سواء كانت هذه النصوص من يوحنّا أم من غيره، فهي تعبّر كلّها عن التراث الأنطاكيّ واهتمامه بالنصّ الكتابيّ دون »تحويله« برموز واستعارات على ما كانت تفعل مدرسة الإسكندريّة.

نقدّم هنا الفصل الثالث من تفسير الرسالة، فنكتشف الأسلوب التفسيريّ، كما في دراسة يقدّمها معلّم لتلاميذه: »والآن، بدّل بولس لهجته. بيّن، في ما سبق، أنّه لَم يكن رسولاً من عند البشر ولا بواسطة البشر. وأنّه ما احتاج أيضًا لأن يعلّمه الرسل. بل أعلن أنّه هو نفسه معلّم جدير بالتصديق كلّ الجدارة. وها هو الآن يتكلّم بسلطة أكبر، فيقيم التوازي بين الإيمان والشريعة. كان قد قال في بداية هذه الرسالة: »أتعجّب كيف تتحوّلون بمثل هذه السرعة إلى تعاليم أُخرى« (1:6). وهو يقول الآن: »أيُّها الغلاطيّون الأغبياء« (3:1). تفجّر سخطه أخيرًا. فبعد أن برّر نفسه، وبرهن عن كلّ شيء أحسن برهان، ترك سخطه يفيض كالسيل. إن هو سمّاهم جهلة، يجب أن لا تدهشكم هذه التسمية: الرسول ما تجاوز شريعة المسيح الذي يمنعنا من أن نسمّي أخانا »جاهلاً«، بل هو حافظ عليها حين فعل كما فعل. فالإنجيلُ لا يمنعنا من أن ندعو أخانا جاهلاً، بل أن ندعوه كذلك بدون سبب...

ويتابع يوحنّا في الفصل عينه متحدّثًا عن الشريعة وفائدتها. »أراد الرسول أن يزيل فائدة الشريعة، فتحدّث عن رجل تبرّر قبل الشريعة، فدمّر هكذا مسبقًا مثل هذا الاعتراض. في ذلك الوقت، لَم تكن الشريعة بعدُ أُعطيت. والآن، لَم يعد لها من وجود. إفتخر اليهودُ جدٌّا بأنّهم خرجوا من إبراهيم، وخافوا أن يُحرموا من هذا الشرف إن تركوا الشريعة. فحوّل بولس هذا الاهتمام لصالحه، وبدّد هذا الخوف، وبيّن لهم أن الإيمان هو بشكل خاصّ لقبهم العائليّ. وكان قد ثبّت ذلك بشكل أوسع في الرسالة إلى الرومانيّين. ومع ذلك، عاد إليه هنا أيضًا فأضاف: »فاعلموا أنّ أبناء الإيمان هم أبناء إبراهيم الحقيقيّين« (آ 7). ثمّ أسند كلامه بشهادة العهد القديم: »سبق الكتاب فرأى أنّ الله يبرّر الأمم بالإيمان، فأعلن أنّه قيل لإبراهيم: »بك تتبارك جميع أُمم الأرض« (آ 8؛ تك 12:3). فإذا كان أبناء إبراهيم هم الذين يسيرون في خطى إيمانه دون أن ينتموا إلى نسله، لا أولئك الذين يتحدّرون حقٌّا منه، يكون ذاك معنى هذه الكلمة: »فيك تتبارك جميع الأمم«. ومن الواضح أنّ المؤمنين طعّموا في هذا الجذع.

ويورد التفسير غل 3:12: »فالناموس إذن ليس من الإيمان. ولكن من يعمل بهذه الفرائض يحيا بها«، ثمّ يفسّرها. هذا يعني أنّ الشريعة تطلب الأعمال بمعزل عن الإيمان. أمّا الشريعة فتخلّص وتبرّر بالإيمان. أُنظروا كيف بيّن بولس أنّ الناس الذين تعلّقوا بالشريعة، مع أنّها لا تكون كاملة، نالوا اللعنة. ولكن كيف يقدر الإيمان أن يبرّر؟ هو أمر وُعدنا به سابقًا وقد ثبت (الآن) على أُسس لا تتزعزع. بما أنّه لَم يكن للشريعة القوّة الكافية لتقود الإنسان إلى التبرير، كشف الإيمان كدواء قويّ يستطيع أن يفعل ما لَم تقدر الشريعة أن تفعله. وإذ يعلن لنا الكتاب المقدّس أنّ »البارّ يحيا من الإيمان«، فيرفض هكذا أن يكون في مقدور الشريعة أن تخلّص. وإذ يعلن أنّ أبا الآباء تبرّر بالإيمان، تجلّت قوّة الإيمان تجلّيًا كاملاً. ويتّضح أيضًا أنّنا ننال اللعنة إن لَم نلبث في الشريعة حتّى النهاية، وأنّنا نحصل على البرّ حين نتعلّق بالإيمان.

ولكن قد يقال: كيف تبرهنون لنا أنّنا لا نتعرّض بعد للعنة حين نترك الشريعة؟ إنّ إبراهيم جاء قَبْلَها. أمّا نحن فحملنا نير العبوديّة، وبعد ذلك تقبّلنا هذا الحكم. من نجانا منه؟

أسرع بولس فواجه هذا الاعتراض مع أنّ حلّه موجود في الكلمات السابقة. كيف نكون بعدُ عرضة للعنة بعد أن تبرّرنا، بعد أن مُتنا عن الشريعة، بعد أن امتلكنا حياة جديدة؟

ومع ذلك، لا يكتفي الرسول بهذا، بل يجعل الحقيقة تنتصر في شكل آخر. »افتدانا المسيح من لعنة الشريعة فصار ملعونًا من أجلنا، لأنّه كُتب: ملعون من عُلّق على خشبة« (آ 13؛ تث 21:23). ولكن كان تعبير مماثل عن لعنة أُخرى: »ملعون كلّ من لا يكون أمينًا للفرائض المدوّنة في هذه الشريعة«. ولكن ما همّ؟ فالشعب نال اللعنة حقٌّا لأنّه لَم يكن أمينًا، بل إنّ واحدًا لَم يكن باستطاعته أن يُتمّ الشريعة كلّها. غير أنّ المسيح بدّل هذه اللعنة بلعنة أُخرى: »ملعون كلّ من عُلّق على خشبة. بما أنّ المعلَّق ملعون، شأنه شأن من يتجاوز الشريعة، لَم يكن من الضروريّ أن نخضع لهذه اللعنة الأخيرة لكي نمحوها، بل يكفي أن نقبل لعنة أُخرى مكانها. هذا ما فعله المسيح، فكان التكفيرُ نتيجة هذا التبادل. افترضوا إنسانًا بريئًا أخذ على عاتقه الحكم بالموت على مجرم، واحتمل الموت حقٌّا وأخذه على عاتقه بشكل رفيع: تلك هي صورة المسيح الحقّة: لَم يكن خاضعًا للعنة التي تضرب المتجاوزين (للشريعة). عندئذ توكّل بالأخرى فكفّر عن كلّ شيء، هو »الذي لَم يعرف الخطيئة ولا وُجد غشّ في فمه« (اش 53:9).

خاتمة

التراث الأنطاكيّ في تفسير الكتاب المقدّس، تراث واسع جدٌّا، سواء ذاك الذي نقرأه في تفسير كامل، أو ذاك الذي نجده في السلسلات التفسيريّة التي تضمّ نصوصًا من آباء عديدين. أمّا الأسلوب فهو هو: ينطلق المفسّر من الحرف يقرأه بطريقة عقلانيّة، فلا يبتعد عنه إلاّ إذا تأكّد أنّه يوصلُ إلى ذاك الذي هو في شخصه الوحي الكامل، أعني به يسوع المسيح. حاولنا هنا أن نذكر بعض الأسماء ونبرز بعض النصوص، خاصّةً رسالة بولس إلى غلاطية. وكم تتمنّى أن يُنقل هذا التراث إلى اللغة العربيّة فيكون محرّكًا لنا لكي نستخرج الجديد من القديم، ونبتكر تفسيرًا يرتبط بتقليدنا وفي الوقت عينه يغتني من تقاليد الكنائس في الشرق والغرب.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM