الفصل 7: يبن بطرس وبولس في الرسالة إلى غلاطية

يبن بطرس وبولس في الرسالة إلى غلاطية

اعتاد التقليد المسيحيّ، ولا سيّما في الشرق، أن يجعل في صورة واحدة بطرس وبولس. كما يصوّرهما وهما يسندان الكنيسة من هذا الجانب وذاك. ونحن، حين نقرأ الرسالة إلى غلاطية، نحسّ أن هناك مسافة بين الرسولين، بعد أن انطلق واحد إلى أهل الختان، وآخر إلى الوثنيّين، ولا سيّما اليونانيّين، الذين لم يعرفوا الختان. ولما التقيَا في أنطاكية، لم يكن اللقاء من أجل السلام، بل من أجل »الخصام«، بعد أن اختلف موقف عن آخر. هذا ما نحاول دراسته في هذا المقال من خلال قراءتنا للفصلين الأوّلين في الرسالة إلى غلاطية، مُبرزين اهتمام بولس بأن يبقى قريبًا من كنيسة أورشليم التي هي الكنيسة الأم، ومن العمداء الذين هم يعقوب وبطرس ويوحنا، ومن بطرس بشكل خاصّ حين أراد أن ينطلق من أجل عمل الرسالة.

1- بعد ثلاث سنوات

تحمل بداية الرسالة إلى غلاطية مقاطع من سيرة بولس فيها يدافع عن نفسه تجاه إنجيل آخر يعارض إنجيله. مَرَّ بولس في هذا المناطق التي تحيط بما يُسمّى أنقره، عاصمة تركيّا الحاليّة، فبشّرهم بالمسيح. وبما أنّ المهتدين كانوا من الوثنيّين، لم يطلب منهم الرسول الختان، كما طلب من تيموتاوس (أع 16:3)، بل عاملهم كما عامل تيطس، وهذا ما ستَفهمه الكنيسةُ في أورشليم، فيقول بولس في ذلك: »ما أجبروا رفيقي تيطس، وهو يونانيّ، على الاختتان« (غل 2:3). كلّ هذا باسم الحرّية.

فرسالة غلاطية هي رسالة الحرّية، ولا سيّما بالنسبة إلى الشريعة اليهوديّة وفرائضها. هذا ما فهمه بولس منذ اهتدائه إلى الربّ الذي التقاه في طريق دمشق. كان هناك صراع في قلب بولس، يوم تعرّف إلى الإيمان المسيحي، الذي سمّاه »الطريق« (أع 9:2؛ 18:25)، بين الشريعة ويسوع. عرف، وهو اليهوديّ، أنّ المسيح صُلب باسم الشريعة. فقد قال لهم بيلاطس: »خذوه أنتم، وحاكموه حسب شريعتكم« (يو 18:31). وسيقولون هم أنفسهم: »لنا شريعة، وهذه الشريعة تقضي عليه بالموت، لأنّه زعم أنّه ابن الله« (يو 19:7). وبما أنّ المسيح مات، فهذا يعني أنّ الشريعة كانت على حقّ، وأنّ يسوع كان على خطأ. وهكذا طُويت قضيّة يسوعُ. ولكن لا، فالرسل أعادوا فتح الملفّ: يسوع الذي صلبتموه وقتلتموه بأيدي الكافرين »أقامه الله« (أع 2:23-24). هذا ما سيقال عن بولس خلال محاكمته بفم فيلكس: »كان بينهم (بين اليهود وبولس) جدال في مسائل تتعلّق بديانتهم، وبرجل مات اسمه يسوع، وبولس يزعم أنّه حيّ« (أع 25:19).

فهل يرضى شاول الفريسيّ أن يكون المسيح حيٌّا، بحيث تصبح الشريعة كاذبة؟ كلا. لهذا، أراد أن يُسكت كلّ من يقول إنّ يسوع حيّ. فاضطهد المؤمنين في أورشليم، ولاحقهم إلى دمشق... ولكنّ المسيح لاحقه وأدركه وأمسك به كما يمسك الصياد طريدة فلا تفلت منه (فل 3:12). وهكذا اكتشف بولس أنّ الشريعة كاذبة، ويجب أن تموت. كان يعتبر، يوم كان فريسيٌّا، أنّ حياته هي الشريعة. ولما اهتدى إلى الربّ، قال: »حياتي هي المسيح« (فل 1:21).

ومضى بولس إلى دمشق، واعتمد على يد حنانيا (أع 9:17). وبدأ يبشّر حالاً بأنّ »يسوع هو ابن الله« (آ 20). ولكنّ الرسالة إلى غلاطية تختلف هنا عمّا في سفر الأعمال الذي أراد أن يوجز، فجمع في عبارة واحدة فترة طويلة من الزمن.

في الواقع، بدأ بولس فذهب إلى بلاد العرب، وأقام هناك ثلاث سنوات يعيش مع الجماعات المسيحيّة الموزّعة في حوران وشرقيّ الأردن. هذا يعني أنّ المسيحيّة انتشرت سريعًا بعد موت الربّ وقيامته، بحيث كانت هناك أكثر من جماعة مسيحيّة في دمشق، ومنها جماعة حنانيا. وفي هذه الجماعات، تسلّم بولس طريقة ممارسة عشاء الربّ كما أورده في الرسالة الأولى إلى كورنتوس (11:23-25). كما تسلّم قانون الإيمان في الكنيسة الأولى: »المسيح مات من أجل خطايانا، دُفن وقام في اليوم الثالث، ظهر لبطرس... أكنتُ أنا أم كانوا هم (= الرسل، يعقوب)، هذا ما نبشّر به، وهذا ما به آمنتم« (1 كور 15:3-11).

سمع بولس أوّلاً ما كان اليهود يقولون عن يسوع، وسمع الرسل. وعاد إلى الكتاب المقدّس يقرأه على ضوء الحدث الجديد، حياة يسوع وموته وقيامته. وهكذا تكوّن إيمانه في خطّ هذه الجماعات التي عرفها هنا وهناك. ولكنّه لا يستطيع أن ينطلق إلى البشارة قبل أن يتّصل بكنيسة أورشليم (غل 1:18)، ولا يقدر أن يسافر إلى بلاد سورية وكيليكية (تركيّا الحاليّة) قبل أن يمرّ على بطرس. لهذا قال عن نفسه: »وبعد ثلاث سنوات، صعدت إلى أورشليم لأرى بطرس« (غل 1:18). أتُرى مضى إليه وهو الذي لعب الدور الكبير في بداية سفر الأعمال، على مستوى تبشير اليهود والسامريّين والوثنيّين؟ فيوم العنصرة، تكلّم بطرس باسم الرسل أمام اليهود المجتمعين في العيد. ومضى مع يوحنّا لحمل بركة أورشليم إلى ما فعله فيلبّس في السامرة (أع 8:4-25). وفي النهاية، دعا الروح بطرس، فبشّر كورنيليوس الوثنيّ وبيّن لكنيسة أورشليم التي احتجّت على ما فعل أوّل الرسل: »الله وهب هؤلاء ما وهبنا عندما آمنَّا بالربّ يسوع المسيح« (أع 11:17). وهكذا، حين ذهب بولس إلى أورشليم ليرى بطرس، دلّ على سلطة بطرس في الجماعة منذ اختيار متّيا ليخلف يهوذا ويكون شاهدًا مع الرسل »على قيامة يسوع« (أع 1:22). وكان لرسول الأمم أن يلتقي أيضًا يعقوب، أخا الربّ (غل 1:19).

2- بعد أربع عشرة سنة

وانطلق بولس في عمل الرسالة مع فريق تألّف من برنابا ومرقس وسلوانس وتيموتاوس وتيطس... بدأ في أنطاكية، ومن هذه المدينة راح إلى قبرص وتركيا، قبل أن يعبر البحر ويصل إلى أوروبّا (أع 6:16-10). أمّا الطريقة، فتبشير اليهود أوّلاً، ثمّ الوثنيّين. والمثال الواضح على ذلك ما حدث في أنطاكية بسيديّة (في تركيا الحاليّة). ...(دخلاَ = بولس وبرنابا) المجمع يوم السبت. وبعد تلاوة فصل من شريعة موسى... تكلّما... (أع 14:13-15). ولما عارض اليهود، قال بولس وبرنابا: »كان يجب أن نبشّركم أنتم أوّلاً بكلمة الله، ولكنّكم رفضتموها... ولذلك نتوجّه الآن إلى الوثنيّين (= اللايهود). فالربّ أوصانا، قال: »جعلتك نورًا للأمم« (آ 46-47). وفي النهاية، سيفهم بولس أنّه في الدرجة الأولى »رسول الأمم«. هذا ما يوضحه لوقا، في أعمال الرسل، أكثر من مرّة، حين يورد خبر اهتداء بولس. سمع حنانيا كلام الربّ عن هذا المهتدي الخطر: »اخترته رسولاً لي يحمل اسمي إلى الأمم«. وبعد ذلك: »الملوك وبني اسرائيل« (أع 15:9). وحين يدافع بولس عن نفسه في أورشليم، يفهم أنّهم لن يقبلوا شهادته في أورشليم (أع 18:22)، التي تمثّل العالم اليهوديّ. وقال له الربّ: »سأرسلك إلى البعيد، إلى الأمم الوثنيّة« (آ 21).

أَتُرَى أَخْطَأَ بولس والفريق الرسوليّ الذي معه حين وسّع الرسالة ووسّعها في العالم الوثنيّ؟ كلا. ولكنّ كنيسة أورشليم  بما فيها من امتداد في الجماعات اليهوديّة المنتشرة في حوض البحر المتوسط، أرادت أن تفرض الختان على الوثنيّين لكي تكون المشاركة تامّة بين اليهود والوثنيّين، فأرسلت من يتجسّس على حريّة الرسول وعلى حرّية المؤمنين الآتين من الأمم (غل 4:2). وحين فعلت كذلك، أرادت أن تستعبد المؤمنين الجدد. أترى بولس سيخضع؟ وهل هذه الحرّية هديّة من البشر نردّها لهم، أم عطيّة من »المسيح يسوع« (آ 4)؟ هنا نتذكّر كلام بولس في الرسالة الأولى إلى كورنتوس: »أما أنا حرّ؟ أما أنا رسول«؟ (9:1). وإن هو طلب من المؤمنين أن يقتدوا به، فهو يطلب منهم بشكل خاصّ هذا التحرّر من الشرائع اليهوديّة وفرائضها، والتعلّق بشريعة المسيح (غل 6:2).

في هذا المجال، نعود إلى ما سُمِّي »مجمع أورشليم« الذي عُقد سنة 49-50. توسّعت الرسالة بين الوثنيّين، فقالت لهم الجماعات اليهوديّة: »لا خلاص لكم إلاّ إذا اختُتنتم على شريعة موسى« (أع 15:1). نلاحظ هنا أنّنا لسنا فقط أمام مشاركة في الطعام الواحد، وكأنّ المعموديّة لم تلغِ الفوارق بين يهوديّ ووثنيّ، بين عبد وحرّ، بين رجل وامرأة، بل كانت قشرة خارجيّة وطقسًا من الطقوس ليس إلاّ. بل إنّ كنيسة أورشليم راحت أعمق من ذلك، فاعتبر بعضُ أفرادها أنّ الخلاص يحتاج إلى الختان لكي يكتمل. فهذا ما لا يقبل به بولس ومرافقوه في الرسالة. وكان هذا »المجمعُ« الذي سوف يقول في أحد شقّيه: »نحن (= اليهود) نؤمن أنّنا نخلص بنعمة  الربّ يسوع، كما هم (= الوثنيّون) يخلصون« (أع 15:1). ذاك كان كلام بطرس.

من يحكم في هذه القضيّة؟ الرسل والشيوخ، كما قال سفر الأعمال (15:2). أمّا الرسالة إلى غلاطية فتحدّثت عن الذين هم »بمكانه عمداء في الكنيسة«، أي »يعقوب وبطرس ويوحنّا« (غل 2:9). هذا يعني الاحترام العميق الذي يكنّه بولس للذي لعب دورًا هامٌّا في بداية أعمال الرسل، وللذي سيكون على رأس كنيسة أورشليم، فيُستشهد رجمًا سنة 62 أو 66. هنا لا يبرز دورُ بطرس وحده، بل يضيف الرسول إنّ الله لا يحابي أحدًا (غل 2:6)، فيختار من يشاء دون الأخذ بالمعايير البشريّة. وفي النهاية، يعلن بولس أنّ هؤلاء الثلاثة المسؤولين عن جماعة أورشليم، لم يفرضوا عليه أي تبديل في عرض إنجيله، ولا طلبوا حقٌّا على خدمته. فالحوار دار حول أمور تنظيميّة، وتنسيق عمليّ بين خطّين من خطوط الرسالة. فالرسل لم يعارضوا حقّ بولس في الرسالة، ولا مضمون كرازته، بل أقرّوا برسالته بين الأمم. وفي النهاية، ما يعلنه بولس هو ذاك الذي يعلنه بطرس. هو الإنجيل الواحد يتوجّه إلى العالم الوثنيّ، كما إلى العالم اليهوديّ.

الإنجيل واحد. والذي يرسل الرسل هو واحد. الله نفسه. يعمل في بطرس كما يعمل في بولس. وما يوحّد الرسالتين اعترافٌ متبادل في الشركة. هذا ما تعبِّر عنه عبارة »مدّ اليد« (آ 9). هي لا تعني أنّ الرسل أدخلوا بولس وبرنابا في شركة المسيح أو الروح، فهم منذ الآن فيها، ولا تعني اتحادًا على مستوى العماد والافخارستيّا، ولا تعني مصافحة كما بين رئيسَي دولة. فمثلُ هذه الفعلة التي جاءت بعد حوار حول حرّية الإنجيل كأساس لوحدة المهمّة الرسوليّة في الكنيسة (المرامي متعدّدة، والأصل واحد)، تدلّ على شركة في الخدمة بين بولس والآخرين، في خدمة الربّ الواحد، والإنجيل الواحد الذي يُكرز به لليهود وللوثنيّين. والوصيّة التي تسلّمها بولس وبرنابا في »تذكّر الفقراء« (آ 10) تسير في الخطّ عينه: ليست فقط حثًا على المحبّة الأخويّة بشكل عام، بل نتيجة تضامن بين الكنائس الآتية من العالم اليهوديّ، والمرتبطة برسالة بطرس، والآتية من العالم الوثنيّ والمرتبطة برسالة بولس. أجل، ما أراد بولس، في قراءته لمجمع أورشليم، أن يشدّد أوّلاً على حقّه في الرسالة، وعلى استقلاليّته عن سائر الرسل، بل أن يكشف محاولات الغلاطيّين المتهوّدين، الذين يريدون أن يفرضوا العادات اليهوديّة على المسيحيّين الآتين من العالم الوثنيّ، ويُبرز الاتّفاق الأساسيّ بينه وبين بطرس ورفاقه: لا فريضة باسم الشريعة على الوثنيّين، ولو كانت الختان. وذلك باسم الإنجيل الذي يحرّر البشريّة من كلّ نير ومن كلّ عبوديّة.

3- بطرس في أنطاكية

حين نقرأ الفصلين الأوّلين من الرسالة إلى غلاطية، نفهم أنّ طبيعة الرسالة وأصلها الرسوليّ يرتبطان ارتباطًا بالإنجيل وبقراءته كينبوع وحيد للجماعة المسيحيّة. هذا الإلحاح على فهم الإنجيل وطريقة العيش بموجبه، يُلقي ضوءًا على الكنيسة، وعلى الخدم التي ترتبط بالحدث الأساسيّ في تاريخ الخلاص: عملُ المسيح المحرّر الذي يمنح المؤمنين النعمة. وإذ عرض بولس تعليم الخلاص بواسطة النعمة التي تحرّر من الشريعة، حارب في الواقع من أجل وحدة الكنيسة ورسوليّتها. وأسند طرحه أوّلاً إلى دعوة خاصّة تلقّاها من الربّ يسوع، على طريق دمشق. كما أسندها إلى علاقته مع سائر الرسل، ولا سيّما بطرس ويوحنّا ويعقوب، حيث الحرّية التي يمنحها الإنجيل لا تهدّد وحدة الكنيسة، بل توطّد الشركة في اعتراف بالخدم متبادل. أمّا السند الثالث فهو حدث أنطاكية (في سورية) الذي يبيّن أنّ العودة إلى نظام الشريعة تشوّه الإنجيل. ومثلُ هذا التشويه يسيء إلى وحدة الجماعة المسيحيّة، فيقسمها فئات تسيء إلى وحدة الكنيسة كما إلى شموليّتها.

أمّا حادثة أنطاكية التي تُسند طرح بولس، فيجب أن لا نضخّمها ولا أن نقلّل من أهمّيتها: كان جميع المسيحيّين، الآتين من العالم اليهوديّ والعالم الوثنيّ، يشاركون في المائدة الواحدة. لما جاء قوم من عند يعقوب، خاف بطرس وبرنابا وغيرهما، فانفصلوا عن الآخرين. وهكذا لم يعد عشاء الربّ عشاء واحداً، بل عشاوات. وتقسّمت الافخارستيّا. نلاحظ هنا دور بطرس الأساسيّ، لأنّ بولس يتوجّه إليه، دون أن يقول شيئًا لبرنابا، رفيقه في الرسالة منذ أنطاكية بشكل خاصّ.

أجل، واجه بولسُ بطرسَ مواجهة علنيّة، لأنّ إعادة الممارسات اليهوديّة تهدّد وحدة الكنيسة والشركة في شعب الله. لم يكن الصراع صراعًا على السلطة بين شخصين، ولا أراد بولس أن يهاجم بشكل مباشر سلطة بطرس، الذي بدا ضعيفًا في هذه الحالة، ولكنّ بطرس يبقى بطرس بالنسبة إلى بولس أو إلى سائر الجماعات المسيحيّة. في الواقع، تجاوزت حادثة أنطاكية مسألة الأشخاص. فالموضوع الأساسيّ هو »حقيقة الإنجيل«، حقيقة البشارة. لا نتوقّف هنا عند كلام يريد أن يدافع عن بطرس حول امتياز نَالَه أو سلطة على الكنائس. فالتراتبيّة في الكنيسة فكرة غريبة عن بولس. والأمر الجوهريّ في نظره، في أنطاكية كما في أورشليم، هو أنّ السلطة البشريّة، أيٌّا كانت، لا يمكن أن تسود حقيقة الإنجيل الذي وحده يحافظ على الشركة بين اليهود والوثنيّين، ويكفل وحدة الكنيسة. إنّ الإنجيل يخلق الوحدة في الحرّية، والنظرة اليهوديّة تخلق الشقاق في العبوديّة.

كيف بدا موقفُ بطرس كما صوّره بولس؟ هو موقفان. أوّلاً، قبل مجيء أُناس من أورشليم، سار بطرس بحسب ما قيل في مجمع أورشليم، فما ميّز بين اليهود والوثنيّين، بل شارك الوثنيّين أيضًا في طعامهم. وإذ فعل ما فعل، شهد علنًا أن الشريعة اليهوديّة التي تمنع المسيحيّ اليهوديّ من أن يشارك المسيحيّ الوثنيّ في الطعام، عفاها الزمن. والموقف الثاني وقفه بطرس حين وصلت جماعة المتهوّدين: لم يعد حرّ التصرّف في ذلك الوقت، فاعتزل واعتزل معه اليهود، بل تبعه برنابا. وهكذا تقطّعت الشركة داخل الجماعة، وانقسمت الكنيسة قسمين بفعل بطرس وما له من تأثير كبير على المؤمنين في جماعة أنطاكية. نسيَ هذا الرسولُ الحرّية التي نالها بالمسيح، فتصرّف عن رياء وخوف ومواربة، وحطّم الوفاق الذي تمّ في أورشليم. ثمّ، أدخل بذار الشقاق الذي ألغاه المسيح. لهذا، قاوم بولس بطرس وجهًا لوجه، واعتبر أنّه يستحقّ اللوم (غل 2:11). هو ما أخذ بطريقة الإنجيل بمراحلها: بينك وبينه، ثمّ يأتي شاهدان، وفي النهاية تقول للكنيسة (مت 18:15-17)، بل واجهه أمام الجميع. قد نظنّ أن بطرس أراد أن يراعي اليهود الآتين من عند يعقوب، لئلاّ يشكّكهم (رج مت 17:27)، فتنحّى معتبرًا أنّ عمله بسيط ويمكن أن يعوَّض في ما بعد. ولكن بولس لم ينظر إلى هذا الأمر النظرة عينها. فما فعله بطرس ليس سلوكًا شخصيٌّا يقوم به مؤمن من المؤمنين. فبطرس هو أحد العمدُ. وما يفعله يكون أساسًا لسلوك المؤمنين. وهذا ما حدث في الواقع في اجتماع أنطاكية. سلوك بطرس يؤثّر على الجماعة كلّها، سواء جاءت من العالم اليهوديّ أو العالم الوثنيّ. فالنصّ يقول بوضوح إنّ بطرس عاش بعض الأحيان على الطريقة الوثنيّة فمارس الأخوّة مع غير اليهود، كما سبق له وعاش حسب الطريقة اليهوديّة.

ماذا كانت النتيجة في نظر بولس؟ إنّ موقف بطرس الجديد، يجعل أولئك الذين يقتدون به، يظنّون أنّ ممارسات الشريعة ما زالت ضروريّة، وأن الوثنيّين مجبَرون على أن يتهوّدوا، أن يمارسوا الشعائر اليهوديّة لكي يخلصوا. ضاع المنطق لدى ذاك الذي قال وهو في قفص الاتهام: »لا خلاص إلاّ بيسوع. فما من اسم آخر تحت السماء وهبه الله للناس نقدر به أن نخلص« (أع 4:12). واستعمل بولس عبارة لا يستعملها في موضع آخر. قال: »فلمّا رأيت أنّهم لا يسيرون سيرة مستقيمة مع حقيقة الإنجيل، قلتُ لبطرس« (2:14). لا نستطيع أن نفصل استقامة السلوك عن استقامة العقيدة. نحن نعمل كما نؤمن. وإيماننا يجد صحّته في سلوكنا. فمَن أعلن حقيقة الإنجيل وجب عليه أن يسير حسب هذه الحقيقة. والخطأ في تصرّف بطرس ورفاقه يكشف خطأ على مستوى الفكر، ظلّ ضمنيٌّا فلم يعبَّر عنه. دلّ بعمله، لا بقوله، أن الإنجيل الذي اعتبرناه محرّرنا من الشريعة، لم يحرّرنا في الواقع. فأين الطابع الفريد والحاسم والشامل لعمل المسيح الذي يبرّرنا ويحمل إلينا الخلاص، ويصالحنا مع الآب؟

خاتمة

قرأنا بداية الرسالة إلى غلاطية مع موضوع أساسيّ هو وحدة الكنيسة والشركة بين المؤمنين، سواء جاؤوا من العالم اليهوديّ أو العالم الوثني. وبرز وجهان: وجه بطرس الذي يقدّمه لنا سفر الأعمال، حاملاً الإنجيل في أورشليم قبل أن يصل إلى السامرة وإلى بيت كورنيليوس، في قيصريّة، ووجه بولس الذي ينطلق من أورشليم، بل من أنطاكية، ليصل إلى قلب عاصمة الامبراطوريّة. سلطة بطرس واضحة، وإليها عاد بولس مرّة أولى في بدء انطلاقته من أجل الرسالة، ومرّة ثانية بعد انتشار الرسالة وامتدادها في العالم الوثنيّ. ولكنّ همّ الرسالة إلى غلاطية ليس التشديد على سلطة بطرس أو سلطة بولس في الدرجة الأولى، بل على وحدة الكنيسة في تنوّعها. من أجل هذا كان تصرّف بولس الذي جاء قاسيًا. فالهدف الذي حرّكه، هو حقيقة الإنجيل، ومن أجل هذه الحقيقة، لم يعد من مكان لمحاباة الوجوه ومراكز الأشخاص وسلطتهم. هنا نعود إلى عمق الإنجيل حيث الخدمة بشكل عامّ، والخدمة بشكل خاصّ، تدلّ على المؤمنين، وحيث الأوّل يكون الآخر، والسيّد يغسل أقدام تلاميذه. وكلّ بحث عن سلطة بشريّة يذكّرنا بالكتبة والفريسيّين الذين كانوا يبحثون عن المقام الأوّل، عن مقاعد الشرف في الولائم، ومكان الصدارة في المجامع، فشجبهم يسوع.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM