الفصل 6: الرسالة إلى غلاطية رسالة بولسيّة بولسيّة

الرسالة إلى غلاطية رسالة بولسيّة بولسيّة

إعتبرت الرسالة إلى غلاطية، بولسيّة بشكل كبير، فتجاوز سائر الرسائل. ففيها دفعه "الغضب" لأن يقول ما يفكّر به في أعماق قلبه. ولا يقارب الاندفاع الذي فيها سوى أقسام نقرأ في كورنتوس الثانية. شابه بولس حماسة عاموس الجامحة، فعارض الغلاطيّين وترك كلّ دبلوماسيّة في كلام، بل نقول: ما ترك للصلح موضعًا. لهذا، لا ندهش إن عاد بعض المجدّدين والمعلّمين المسيحيّين إلى لغة غلاطية وصورها، ليجعلوا الكنيسة الكبرى تنعطف وتبدّل مسيرتها فتفصل مرقيون الغنوصيّ. في القرن الثاني المسيحيّ، نقيضة بولس بين الإيمان وأعمال الشريعة، إلى نقيضة بين الله الخالق والله الفادي. ودعا لوتر غلاطية رسالته المفضّلة، لأنّه وجد في رذل التبرير بأعمال الشريعة، سندًا له ليرذل خلاصًا يتمّ بالأعمال الصالحة (ولا سيّما تقدمة المساعدات المادّيّة لبناء كنيسة مار بطرس في رومة). والمواجهة بين لوتر وموفدي البابا، اعتُبرت عودة إلى حكم بولس العلنيّ على بطرس، (كيفا، الصفا) باسم حقيقة الإنجيل.

هذا سمع عظة عن غلاطية فعاد السلام إلى قلبه. وذاك وجد في التعارض بين بطرس وبولس عاملاً مفتاحًا لإعادة بناء المسيحيّة الأولى. وآخرون انزعجوا بسبب قساوة الهجوم وغياب دقائق الفكر تجاه الإرث اليهوديّ. في الزمن القديم، عملت هذه الرسالة في وضع جعل بطرس يقول في الرسالة الثانية: "كتب إليكم بذلك أخونا الحبيب بولس، على قدر ما منحه الله من الحكمة، كما هي الحال في جميع رسائله التي تكلّم فيها على هذه الوسائل. فوردت فيها أمورٌ غامضة يُحرّفها الجهّالُ وضعفاء النفوس... لهلاك نفوسهم" (2 بط 3: 15-16).

*  *  *

ماذا في خلفيّة هذه الرسالة؟

قبل سنة 55، يبدو أنّ بولس حمل الإنجيل مرّتين إلى "الأمم" التي شكّلت كنائس غلاطية. وفي 4: 13 قول بولس للغلاطيّين إنّه بشّرهم "مرّة أولى". أمّا سبب توقّفه وإقامته في هذه المناطق الجبليّة، فسببها مرضٌ في عينيه لهذا نراه يكتب "حروفًا كبيرة" (6: 11). ونسمع الغلاطيّين يقولون له بأنّهم مستعدّون لأن يقتلعوا عيونهم ليعطوه إيّاها (4: 15).

دلّ الغلاطيّون على حبّهم وحنانهم تجاهه. وعاملوه كأنّه ملاك الله. في الظاهر، أجرى عندهم معجزات كثيرة (3: 5). كلّ هذا التذكّر حرَّك امتعاضه لأنّه رأى الغلاطيّين يرون فيه عدّوًّا (4: 6) خدعهم حين بشّرهم بالمسيح. فكيف جعل كلُّ هذا؟

بعد أن ترك بولس منطقة غلاطية، جاء مسيحيّون من أصل يهوديّ (6: 13). جاؤوا بلا شكّ من أورشليم. عارضوا إنجيل بولس وشدّدوا على الختان، فكان كلامهم شبيهاً بكلام المجموعة التي عارضت إنجيله في أورشليم سنة 49. ففي 2: 1-5 كلام عن الاختتان "وإخوة دخلاء، كذّابين، دسّوا أنفسهم بيننا ليتجسّسوا الحرّيّة التي لنا في المسيح يسوع". في هذا الإطار نقرأ أع 15: 1: "ونزل جماعة من اليهوديّة، وأخذوا يعلّمون الإخوة ويقولون: "لا خلاص لكم إلاّ إذا اختتنتم على شريعة موسى". بعد ذلك نلاحظ أنّ "قومًا من عند يعقوب" (2: 2) يدعوهم بولس "المختونين"، هؤلاء لم تخمد همّتهم بعد نجاح بولس في "مجمع" أورشليم. بل تبعوه إلى أنطاكية حيث زرعوا البلبلة. كانوا كلّهم يأكلون معًا. فلمّا وصل دعاة الختان، خاف بطرس وتراجع ومثله فعل اليهود المشاركون في عشاء الربّ. بل برنابا نفسه (آ 13-14). إذا كان الوعّاظ الذين هاجمتهم غلاطية يرون أنّ بإمكانهم الاستناد إلى سلطات أورشليم (يعقوب. بطرس. الشرائع الطعاميّة لدى اليهود) (2: 11-14؛ أع 15: 20-21)، إلاّ أنّهم تجاوزوا الرسل بتصرّفاتهم. "هم ما أجبروا تيطس على الاختتان" (2: 3).

هؤلاء الآتون من أورشليم وعوا إنجيلاً آخر (1: 7). قدّموا نظرة تختلف عن نظرة بولس في كلامه عمّا فعله الله في المسيح. هل أتوا عمدًا إلى غلاطية لأنّ بولس مرّ من هناك؟ الأمر معقول جدًّا. وقد يكونون توقّفوا فترة قصيرة في طريقهم لحمل الإنجيل، فعرفوا عن طريق العرض ما به يعظ رسول الأمم. هل كانوا معادين له حقًّا فأجاب على معاداتهم؟ ما كان الإنجيل الذي بشّروا به؟ ننطلق من ردّ بولس وما فيه من عداء على كلام تعاطف معه الغلاطيّون واقتنعوا به كما لم يفعلوا مع بولس. لهذا لن يكون اليقينُ يقينًا.

في التاريخ المسيحيّ، قاد حسُّ الطابع المقدّس للعهد الجديد، والاحترام لبولس الرسول، قاد المسيحيّين إلى اليقين بأنّ إنجيله كان أمينًا للمسيح. وأنّ إنجيل خصومه لم يكن كذلك. ولكن لا سبب مقنعًا، يجعلنا نقول إنّ من يسمّيهم "الوعّاظ" كانوا بلداء أو لاصادقين. وسأحاول أن أبيّن أنّ إنجيلهم كان معقولاً، بقدر ما نستطيع أن نعيد تكوينه. فقد توافق بولس والوعّاظ للإعلان بأنّ ما أتمّه الله بيسوع المسيح على مستوى التبرير ومواهب الروح، له قيمته لليهود، وللأمم. ولكن كيف يستطيع "الأمم" أن يقتبلوا موهبة الله في يسوع؟ رأى بولس أنّ الله قدّم التبرير في الإيمان بيسوع، في إيمان يسوع. وقال الوعّاظ إنّ الإيمان بالمسيح لعب دورًا، وهذا ما لا شكّ فيه. ولكنّ التبرير لا يكون تامًّا بدون ممارسة أعمال الشريعة. مثل هذا الكرازة حفظت "للأمم" الميراث الكبير للعامل اليهوديّ مع بعده الخلقيّ كلّه. هنا نتذكّر أنّ في مت 5: 17-18 قال يسوع إنّه ما جاء ليلغي الشريعة بل ليكمّلها. وإنّ نقطة من الشريعة لا تزول. بعض تقليد يسوع المشابه لما نجد في متّى، غذّى النظرة الكرستولوجيّة عند هؤلاء الوعّاظ، كما قدّم لهم الألفاظ الملائمة. بل رأى بعضهم في مت 5: 19 (فمن خالف وصيّة من هذه الوصايا) حكمًا على بولس لأنّه علّم المؤمن أن يهمل الوصايا.

وهناك عامل مفتاح في الكرازة حول الأعمال: التشديد على الختان وعلى ممارسة أعياد الكلندار (4: 10: تراعون الأيّام والشهور والفصول والسنين) التي تتوزّع على مدار السنة الطقسيّة. ماذا قال "الوعّاظ"؟ إنّ الإله الواحد الحقيقيّ قد بارك جميع أمم الأرض في إبراهيم المؤمن (تك 15: 6). حينئذٍ أعطى الله لإبراهيم، كعنصر العهد، وصيّة الختان (تك 17: 10) والكلندار السماويّ. كان اليهود نسل إبراهيم عبر سارة (المرأة الحرّة) فراعوا عهد الختان (تك 17: 4) والشريعة التي أعطاها الملائكة لموسى (غل 3: 19). كان "الأمم" نسلَ إبراهيم عبر هاجر (الأمة، العبدة) بواسطة هؤلاء الوعّاظ امتدّ عمل يسوع المسيح منذ الآن إلى "الأمم". ولكن لا ينضمون للعهد انضمامًا تامًا إلاّ إذا خُتنوا على مثال إبراهيم، وأتمّوا أعمال الشريعة بل قال بعضهم: بدون الختان يكون "الأمم" المؤمنون بالمسيح مجرّد مهتدين جددًا. فلا بدّ من الختان لكي يكونوا في عهد شعب الله.

ولكن أما حمل بولس الإنجيل إلى "الأمم" في غلاطية؟ وكان جوابهم: كلاّ. أراد الرسول أن يربح بسرعة عددًا كبيرًا من المهتدين، فقدّم إنجيلاً مبتورًا. وما قال للناس إنّ المشاركة في عهد إبراهيم، تتضمّن الختان. تركهم بولس وما أعطاهم توجيه الشريعة. أسلمهم "للميل إلى الشرّ" وإلى رغبات اللحم. لهذا لبثت الخطيئة تعمل دومًا فيهم. كان ذلك بلاغًا مقنعًا، لا سيّما وأنّ الوعّاظ شدّدوا على أنّ بولس الذي أتى متأخّرًا إلى الإنجيل، فما عرف يسوع في حياته على الأرض، كما عرفه الرسل الاثنا عشر. ويسوع خُتن في اليوم الثامن، شأنه شأن كلّ يهوديّ. وما عفا أحدًا من الختان. ورسل أورشليم الحقيقيّين مارسوا الأعياد والشرائع الطعاميّة. فما يكون جواب بولس إلى الوعّاظ، وكيف يُقنع الغلاطيّين فيعرفوا بأنّه حمل إليهم الحقيقة؟ هذا الجدال مع الوعّاظ وجّه تعابير الرسول. واللاهوت البولسيّ حول التبرير والإيمان والحرّيّة جاء في بعد أبّولوجيّ، حيث المرافعة (أبّولوجيا) تتوزّع في دفاع وهجوم.

هنا نأخذ بعين الاعتبار التعابير البولسيّة في كلّ رسالة من رسائله دون أن نعمّم. فلكلّ رسالة خاصّيّتها. وكان جدال: بين قائل إنّ بولس لم يهاجم الشريعة كشريعة، بل في منظار خاصّ به. وقائل بقطيعة جذريّة بيّن بولس والعالم اليهوديّ. تجاه بولس والوعّاظ المسيحيّون والمتهوّدون فكّروا في الشريعة المسيحيّة، ماذا فكّر الغلاطيّيون الآتون من العالم الوثنيّ، وكيف فهموا الشريعة انطلاقًا من خبرتهم الخاصّة؟ هنا يبقى الجواب مفتوحًا.

*  *  *

ما كان بلاغ بولس في الرسالة إلى غلاطية؟

دعا بولس نفسه "رسولاً". هو وضع جاءه، لا من البشر، بل من يسوع المسيح (1: 1) ومن الله (آ 10). قد يكون هذا بعض الدفاع عن النفس بسبب الوعّاظ المعادين الذين تذكرهم الرسالة. ولكنّ الهدف الأوّل، ليس الدفاع عن وضعه كرسول، بل صحّة الإنجيل الذي أعلنه للغلاطيّين. و"العُمد" في أورشليم اعترفوا برسالته (2: 8). لهذا استفاد من هذا السلطة في ف 3-4 لتفسير الكتب من أجل الدفاع عن إنجيله.

اعتاد بولس أن يذكر أشخاصًا شاركوه في الرسالة التي يبعث بها إلى جماعة من الجماعات (1تس 1: 1: بولس، سلوانس، تيموتاوس). أمّا هنا، فلا يذكر اسمًا واحدًا. فالهجوم يقع عليه، لماذا يحمّل معاونيه ثقلاً؟ كلّ ما قاله: "جميع الإخوة الذين معي" (1: 2). إن كتب غلاطية من أفسس، فقد يكون تيموتاوس معه. ولكنّ بولس لا يذكر اسمه. وأرسل بولس رسالته إلى "كنائس غلاطية"، أي إلى عدد من الجماعات أقامت في مقاطعة غلاطية في المعنى الواسع. هوجِم بولس في تلك الجماعات، فقدّم جوابًا شخصيًّا انطبع بطابع الغضب، فغاب فعلُ الشكر.

يبدأ جسمُ الرسالة بتوطئة لاذعة ترافقها دهشة حزينة. هي تعرض المسألة بسرعة وتقدّم الخصوم والوضع الخطير: لا إنجيل سوى الذي يبشّر به بولس حين دعا الغلاطيّين إلى نعمة المسيح. لهذا يكون ملعونًا، مطرودًا من الجماعة من يكرز كرازة مختلفة. قال في 1: 8: "فلو بشّرناكم نحن، أو بشّركم ملاك من السماء ببشارة غير التي بشّرناكم بها، فليكن ملعونًا" أناتي. ليُقطع من شعب الله. مثل هذا الواعظ أفسد الإنجيل، فصار في عمله خارج النعمة. لم يعد له مكانة في جماعة المسيح والله. وفي 3: 10: "أمّا الذين يتّكلون على العمل بأحكام الشريعة، فهم ملعونون جميعًا. فالكتاب يقول: ملعون من لا يثابر على العمل بكلّ ما جاء في كتاب الشريعة" (تث 27: 26). وسبق هذه اللعنة البركة. "أهل الإيمان مباركون مع إبراهيم المؤمن" (آ 9).

وعاد بولس إلى الرسمة البلاغيّة التي نجد لدى محامي الدفاع. فكتب بشكل رسالة مرافعة (أبّولوجيا) في لهجة هجوميّة تستعمل عددًا من الوسائل البلاغيّة. ففي إطار محكمة من عالم المخيّلة، وصل الوعّاظ الآتون إلى الغلاطيّين فاتّهموا بولس. وكان بولس في قفص الاتّهام. والغلاطيّون القاضي والحكم. وإذا أردنا أن نقدّر أقوال بولس حقّ قدرها، يجب أن نتذكّر اعتدادات الوعّاظ التي سبق وذكرناها، الطرح الأساسيّ لدى بولس هو أنّ إنجيله يصدر عن وحي إلهيّ، لا عن علم بشريّ: "البشارة التي بشّرتكم بها غير صادرة عن البشر. فأنا ما تقبّلتها ولا أخذتها عن إنسان، بل عن وحي من يسوع المسيح" (1: 11-12).

حين قدّم بولس خبر اهتدائه، استلهم فيما استلهم، هجوم الوعّاظ على عدم التماسك في حياته: كان في الماضي مدافعًا شرسًا عن عالم فرّيسيّ دقيق، يتضمّن بشكل خاصّ الختان. واليوم، هو يتخلّىعن الختان. "لو كنتُ أدعو إلى الختان، لما كنتُ أُضطهد اليوم" (5: 11). وهكذا حين روى الرسول عودته إلى الكنيسة وكرازته. لامس نقاطًا هامّة مثل الوحي الإلهيّ في البداية، والإرسال لحمل الإنجيل، والاستقلاليّة بالنسبة إلى رسل أورشليم، ومعارضة الحزب الذي يطالب بالختان للأمم، والاعتراف بأنّه كلِّف بتبشير اللامختونين (1: 13-2: 10).

وإذ أشار بولس إلى أعضاء حزب الختان الذين جاؤوا فيما بعد من أورشليم إلى أنطاكية، واعتبروا أنّهم يمثّلون يعقوب، رأى فيهم أولئك الذين أتوا إلى غلاطية مباشرة من أورشليم. فمزج دفاعه عن الإنجيل ضدّ خصومه الأوائل في أنطاكية. (2: 11-14).

مع شبه حوار مع وعّاظ غلاطية المسيحيّين المتهوّدين (2: 15-21). قال: نحن كلّنا يهود في الولادة، حين طلبنا المسيح، نحن اليهود، وجدنا نفوسنا خطأة. وهكذا متُّ عن الشريعة وتبرّرت بالإيمان بالمسيح الذي أسلم نفسه لأجلي، والذي يعيش منذ الآن فيّ.

بعد ذلك، قدّم الرسول ستّة براهين مأخوذة من الخبرة ومن الكتاب المقدّس، لإقناع الغلاطيّين الأغبياء الذين سحرهم كلامٌ منمّق قدّمه لهم هؤلاء الوعّاظ.

حين أعلن بولس المسيح المصلوب، تقبّل الغلاطيّون الروح وما مارسوا أعمال الشريعة: فكيف صارت اليوم هذه الأعمال ضروريّة؟ (3: 1-5).

شدّد الوعّاظ على ختانة إبراهيم، فأورد وعد الله لإبراهيم بأنّ فيه تتبارك جميع الأمم. واستقلّ هذا الوعد عن الختان، وهكذا حين أعطى الله بالإيمان، "للأمم" اللامختونين، أتمّ وعده لإبراهيم ذاك الرجل الذي حُسب إيمانه برًّا (15: 6). رج غل 3: 6-14.

الوصيّة المصدَّق عليها لا تُلغى بإضافة لاحقة. فالشريعة أتت بعد الوعد لإبراهيم بـ430 سنة، فكيف يرتبط إرث هذا الوعد بحفظ الشريعة؟ لقد كانت الشريعة حارسًا موقّتًا إلى مجيء المسيح (3: 15-25).

كان الغلاطيّون عبيدًا لأرواح الكون. فاختبروا عبر الفداء بابن الله والتبنّي الإلهيّ، حرّيّة أبناء (وبنات) الله. فلماذا يريد الغلاطيّون أن يعودوا الآن إلى عبوديّة متطلّبات الشريعة ؟ (رج 3: 26-4: 11).

عاد الوعّاظ إلى إبراهيم هاجر وسارة، ولكن أخطأوا حين استخلصوا الدرس. فهاجر الأمة، لا تمثّل سلالة "الأمم"، بل أورشليم الحاضرة، الأرضيّة، والعهدَ الذي يستعبد لشريعة أعطيتْ في سيناء. وسارة، المرأة الحرّة، تمثّل أورشليم السماويّة والعهد الذي به وعد الله إبراهيم. إنّها أمّ جميع الذين تحرّروا في المسيح.

بعد أن قدّم بولس هذه البراهين، أنهى كلامه بإرشاد حماسيّ ضدّ الوعّاظ، ونبّه الغلاطيّين أنّ الشريعة لا تعينهم على أعمال اللحم (الأعمال البشريّة، تجاه أعمال الروح في 5: 19-26). وقدّم عبارة رائعة: "في المسيح يسوع لا الختان ولا عدم الختان ينفعان، بل الإيمان العامل بالمحبّة" (5: 6). كلّ هذا يفهمنا أنّ بولس لا يعتبر الختان شرًّا، بل عملاً يعجز عن تقديم التبرير "للأمم". ويفهمنا أيضًا أنّ بولس يرى في الإيمان الذي يقرّ بفاعليّة ما عمله المسيح، يعبِّر عنه حبٌّ يتجلّى في حياة المؤمن. هو يرى الله عاملاً في الإيمان والمحبّة معًا، عملاً لا يمكن أن يكون بشريًّا محضًا. قد يتكلّم الوعّاظ عن "شريعة المسيح" التي ليست شريعة سيناء، كما يظنّون، بل واجب حمل أثقالنا بعضنا لبعض (6: 2).

وأنهى بولس كلامه مهاجمًا الختان، لكي يفهم الغلاطيّون جوهر تعليمه. وإذ امتدح الوعّاظ تفوّق إسرائيل، أعلن بولس "إسرائيل الله"  وفيه لا فرق بين مختون ولا مختون. أمّا هجمات الوعّاظ فيقول فيها الرسول: "فلا يزعجني أحدٌ بعد الآن، لأنّي أحمل في جسدي سمات يسوع" (6: 17). فما أحتمله بولس من ألم، خلال رسالته، أهمّ من علامات الختان.

*  *  *

ما كان وضع الرسالة؟

نستطيع أن نفترض ما حصل حين قُرئت هذه الرسالة في كنائس غلاطية. بعضهم اغتاظ ولا شكّ بهذه اللغة القاسية التي نعتتهم بالغباوة (3: 1). هل يُعقل أن يستسلم الرسول المسيحيّ إلى لغة حارس خاصّ، فيتمنّى أن يزلق السكّين الذي يستعمله الوعّاظ في الختان، فيقطع العضو الذكر (5: 12)؟ وهل يحقّ لبولس أن يسمّى الاثني عشر الذين ساروا مع يسوع، ومعهم يعقوب أخو الربّ، هل يحقّ له أن يدعوهم "من كبار المؤمنين" (2: 6)؟ ويواصل: "لا فرق عندي ما كانت عليه مكانتهم، لأنّ الله لا يحابي حدًا".

وهناك آخرون مالوا عن بولس، فتذكّروا ذاك الذي حمل إليهم المسيح، واكتشفوا لديه اهتمامًا مليئًا بالحنان (4: 19: فيا أبنائي الذين أتوجّع بهم) في رسالة ذات طابع هجوميّ. فتساءلوا: هل أحسنوا حين استمعوا إلى هؤلاء الوعّاظ؟ وفي النهاية، هل اقنعت رسالة بولس الجماعة؟ بلى. والبرهان، هي أنّها حُفظت وما ضاعت ولا أتلفت. بل عاد الحوار بين الرسول وغلاطية، بدليل ما طلب من هؤلاء المؤمنين المشاركة في التبرّع لكنيسة أورشليم (1 كور 16: 1). هذا يعني أنّه أمل بنجاح المهمّة.

ومهما يكن من أمر، هناك عناصر في الرسالة، أساءت إلى الرسول بسبب العنف الذي فيها. أترى تجرّأ الكاتب أن يسأله إن كان حقًّا يريد 5: 12؟ والوعّاظ الذين اعتبروا نفوسهم يخدمون المسيح بصدق حين نبّهوا الغلاطيّين إلى ضرورة الختان، لن ينسوا أبدًا هجمات بولس الشخصّية ولا سيّما حول استقامتهم والباعث الذي يدفعهم إلى الكلام. إتّهمهم بولس بأنّهم يتكلّمون عن الختان ليتجنّبوا الاضطهاد: على يد يهود لا مسيحيّين اعتبروهم جاحدين. وخوفًا من السلطات الوثنيّة التي كانت تعتبر المهتدين المختونين يهودًا تحميهم سياسة الإمبراطور. أمّا المسيحيّون الذين لا يرتبطون باليهود، فيعتبرهم الحاكم أصحاب ضلالة غير مسموح بها.

"هؤلاء الذين يريدون التفاخر بظاهر البشريّ (اللحم) هم الذين يفرضون عليكم الختان، وما غايتهم إلاّ التهرّب من الاضطهاد في سبيل صليب المسيح. لأنّ الذين يمارسون الختان هم أنفسهم، لا يعملون بأحكام الشريعة، ولكنّهم يريدون أن تختتنوا ليفاخروا ببشركم. (بجسدكم، بالبشريّ عندكم) (6: 12-13). هم يفتخرون معتبرين أنفسهم أنّهم نجحوا حين استمالوا عددًا من المهتدين الجدد. إتّهمهم بولس. وسبق يسوع فاتّهم الفرّيسيّين الذين "يطوفون البحر والبرّ ليكسبوا دخيلاً واحدًا" (مت 23: 15). هم لا يجعلونه في سبيل الخلاص، بل "ابنًا لجهنّم".

إذا كانت فل 3: 2ي (احترسوا من الكلاب، دعاة الختان) دُوِّنت بعد غلاطية، نستطيع أن نرى فيها مواصلة عمل الواعظين لتصحيح إنجيل بولس وما فيه من نقص. وملاحظات الرسول حول عمد كنيسة أورشليم (بطرس ويوحنّا الرسولان، يعقوب أخو الربّ)، وهجومه على بطرس الذي لا يسلك باستقامة بحسب حقيقة الإنجيل (2: 14)، وقوله القاسي على عهد سيناء الذي "يلد للعبوديّة" (4: 24-25)، كلّ هذا وصل إلى مسامع السلطات المسيحيّة في أورشليم، المرتبطة بالإرث اليهوديّ. فلا ندهش أنّ الرسول خاف أن يعود إلى أورشليم مع المال الذي جمعه فيها من أجل الفقراء: كان يرجو أن تكون خدمته مقبولة عند القدّيسين (روم 15: 32). وأن ينجو ممّن هم غير مؤمنين في اليهوديّة. وفي الواقع، سيكون اليهود أعداءه كما كانوا أعداء معلّمهم. فيسلّمونه للسلطة الرومانيّة كما سلّموا معلّمه قبله.

*  *  *

تلك هي الرسالة إلى غلاطية. دعوناها الرسالة البولسيّة بامتياز. ذاك الذي كان في "مجمع أورشليم" سنة 49. دوّن رسالته في السنة التالية. كان يتمنّى أن يكون قرب الغلاطيّين (4: 20) ولكنّه ما استطاع. ألأنّه بعيد؟ ألأنّه في السجن؟ ألأنّه مهتمّ بمحادثات مع كنيسة كورنتوس؟ هو ما استطاع أن يجيء إلى كنائس أسّسها وأحبّها، وهي التي استقبلته أفضل استقبال. إعتبرته ملاكًا، رسولاً من السماء. كان قاسيًا على مرسلين جدد، وعلى أولئك المؤمنين الذين تبعوهم. مساكين! أغبياء! هؤلاء الوعّاظ يريدون أن يفتخروا "بعدد" المهتدين الجدد الذين ربحوهم! لا يقدّمون لهم إنجيل صليب المسيح دون شيء معه! ونريد بعد ذلك أن يكون هادئًا ذاك الذي انطبعت في جسمه سمات الصليب؟ هكذا نفهم الرسالة إلى غلاطية، ونتعلّم جذريّة الإنجيل حيث الرسول لا يحاول أن يرضي البشر. فلو طلب رضا الناس لما كان عبدًا للمسيح[*] (1: 10).

 



[*] R.E. BROWN, Que sait-on du Nouveau Testament, Paris, Bayard, 1997, p. 670-676

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM