الفصل 5: بولس والمسيحيّون من أصل يهوديّ

بولس والمسيحيّون من أصل يهوديّ

كان العالم اليهوديّ ولا يزال متباعدًا عن بولس الرسول. واللائحة طويلة التي تحمل الاتّهامات، ولا سيّما في ما يتعلّق بالشريعة. هكذا حسبوه خائنًا لتقليد الآباء. أمّا يسوع، فقد يعتبرونه أحد حكماء إسرائيل، مثل رابّي، معلّم، قريب من التيّار الفرّيسيّ، وإن يكن تعليمه أصيلاً بحيث لا يتبع أقوال الفرّيسيّين. يقولون: إن بولس الذي لم يرافق "معلّم الجليل"، يسوع، مثل الرسل الاثني عشر، قدّم مسيحًا أحلّه محلّ الشريعة، فكان السبب في قطيعة  لا عودة عنها. كانت في أساس المسيحيّة. يقبل اليهود بيسوع، مع بعض الشروط. أمّا بولس فلا يستطيعون أن يقبلوا به.

مكانة بولس

كان الدور الذي لعبه بولس في الكرازة الأولى والانتشار الأوّل للإيمان بيسوع المسيح، حاسمًا، فاعلاً. غير أنّنا نطرح السؤال حول مكانة هذا الرسول بين سائر الرسل، وهو من تلقّى دعوته، لا من البشر، ولا من إنسان من الناس، بل من يسوع المسيح. وهو من دوّن العهد الجديد مع متّى وبطرس ويوحنّا ومرقس والآخرين. بل سبقهم في التدوين، ولا سيّما حين نعرف أنّ الأولى إلى تسالونيكيّ دوّنت سنة 51 فسبقت أوّل إنجيل، إنجيل مرقس، بعشرين سنة. وآخر إنجيل، إنجيل يوحنّا، بخمسين سنة تقريبًا. هي مكانة فريدة، ولا تتبع نمطًا سابقًا يفترض أن يكون الرسول ذاك الذي رافق الربّ منذ عماد يوحنّا حتّى صعود يسوع إلى السماء (أع 1: 22). مثل هذا الوضع أعاد ترتيب المجموعة الرسوليّة كلّها، فوجب تحديدها بعد كلام عن بولس "الرسول" مع برنابا (أع 14: 5).

ضُمَّ بولس بدون سابق إنذار إلى الاثني عشر، فصار الثالث عشر ومضطهد الكنيسة القديم صار رسول الأمم (الوثنيّة) الذين مدّ إليهم يده بطرس مبشّر المختونين (اليهود). هذا ما نقرأه في 2: 7-9. إعتبر نفسه الرسول. ورسالة بطرس الثانية تحدّثت عنه بهذه الصفة: "واحسبوا حبر ربّنا فرصة لخلاصكم، كما كتب إليكم بذلك أخونا الحبيب بولس" (2 بط 3: 15). من هذا الموقع تكلّم بولس فقال إنّه جُعل لإعلان إنجيل المسيح. "هو إنجيل ليس بحسب الإنسان، وما نقله إليه إنسان، بل وحيُ يسوع المسيح" إنجيل لا يستطيع أن يرتّبه كما يشاء، ولا أن ينظّره (كما فعل الفلاسفة) بحسب تصوّرات فكره الخاصّ (غل 1: 6-12).

وبمختصر الكلام، نحاول أن نبرز ما تقوله الرسائل البولسيّة حول كاتبها، وحول موقعه بالنسبة إلى الرسل، وهو موقع قاطع، نهائيّ، جعل كتابات هذا الرسول تنتقل في العهد الجديد: ما أسّس بولس ديانة، ولا اخترع تعليمًا، بل اكتفى بأن بشّر بإنجيل يسوع الذي مات وقام. وإذ فعل ما فعل، انطلق إلى مناطق جغرافيّة ونحو أوساط بشريّة حيث تقبّل الإنجيل اليهود والوثنيّون معًا. ومرارًا ما كان الوثنيّون أكثر اندفاعًا من بني إسرائيل الذين إليهم توجّه أوّلاً إنجيلُ المسيح. وإذ صار المسيحيّون واليهود في الوقت الواحد مؤمنين، في بدايات الكرازة، طُرح سؤال هامّ على الكنيسة الأولى القليلة العدد، سؤال جذريّ وُضع في قلب الإنجيل. وهي لا تستطيع أن تتهرّب منه لئلاّ تبدو أنّها تتهرّب من الإنجيل نفسه.

*  *  *

السؤال الجذريّ: هل الخلاص ممكن دون ممارسة شريعة موسى؟

إذا عدنا إلى شهادة أعمال الرسل. طُرح هذا السؤال في كلّ دقّته وفي كلّ حدّته لدى "أشخاص أتوا من اليهوديّة" إلى أنطاكية، فقال لوثنيّي هذه المدينة الذين آمنوا: "إذا كنتم لا تختنون بحسب شريعة موسى، لا يمكنكم أن تخلصوا" (أع 15: 1). ويتابع سفر الأعمال: "نتج عن ذلك نزاع، وكانت جدالات خطيرة بين هؤلاء الناس من جهة، وبولس وبرنابا من جهة ثانية". فاتُخذ القرار بأن تُرفع القضيّة إلى أورشليم، أمام الرسل والشيوخ.

أيكون هذا السؤال الجذريّ مسألة طقوس وعبادة؟ أن يُختن الإنسان أو لا يُختن؟ إن مكث هذا الكلام، كنّا بجانب السؤال؟ وخسرنا قوّة الإنجيل الذي هو سيف ذو حدّين. ونبدأ فنفهم إلحاح هؤلاء الآتين من اليهوديّة والمهتدين إلى الإيمان بيسوع المسيح: حين فرضوا الختان على الوثنيّين، ما حاولوا أن يفرضوا طقسًا اعتادت عليه مجموعة بحيث ينتمي الفردُ إليها. بل طرحوا ببساطة وصراحة، مسألة الخلاص: ما هو الشرط الذي به يستطيع البشر أن يخلصوا؟

إنّ إله يسوع المسيح نقل الشريعة إلى شعب إسرائيل بواسطة موسى. وكُتب في هذه الشريعة أنّ الختان أعطي لإبراهيم: "كلّ ذكر منكم ابنُ ثمانية أيّام، تختنونه مدى أجيالكم (تك 17: 12). هذا يكون "علامة عهد بيني وبينكم" (آ 11). "وأيّ ذكر لا يُختن يُقطَع من شعبه، لأنّه نقض عهدي" (آ14). إذًا، كيف يستطيع الوثنيّون البلوغ إلى الخلاص إن هم تجاوزوا عهد الله وما خُتنوا؟ عندئذٍ يخسرون إمكانيّة الدخول! طُرح السؤال، ولا بدّ من جواب. غير أنّ السؤال لم يكن في الواقع سؤالاً يفتح الحوار، بل موقف يفرض نفسه بعد أن اعتبر المختونون أنفسهم فوق اللامختونين. لهذا، واجه بولس هذا الموقف بشراسة. لا بدّ من الدفاع عن الوثنيّين الذين اعتبرهم اليهود خطأة. وخصوصًا، لا بدّ من إفهام الجميع، من يهود ووثنيّين، أنّ الخلاص يتمّ فقط بصليب المسيح، ولا يُضاف شيء بأخر. فتكون النتيجة: الختان وعدم الختان لا يؤثّران على الخلاص. إن خُتنتَ لا تزداد شيئًا، وإن لم تُختن لن ينقصك شيء.

*  *  *

المواجهة

هناك اليهومسيحيّون أو المسيحيّون من أصل يهوديّ، والمسيحيّون الأمميّون، أو الآتون من الأمم الوثنيّة. وهناك المتهوّدون (الذين يريدون أن يفرضوا الشرائع اليهوديّة) الآتون من العالم اليهوديّ، والمتهوّدون الآتون من العالم الوثنيّ. مثلاً بعض المؤمنين في كنيسة غلاطية، ومسيميّون عديدون في أيّامنا يريدون العودة إلى العهد القديم، وكأنّ المسيح لم يأت، وكأنّ العهد الجديد لم يُكتَب.

تسمية "يهومسيحيّين" تسمية ملتبسة. وهي تنطبق على ثلاث مجموعات من المؤمنين. بعد أن أعلن الإنجيل على جميع البشر، على إسرائيل وعلى الأمم، هذا ما يتوافق عليه بولس وخصومه، جمعت الكنيسة الفتيّة مؤمنين من أصل يهوديّ ومن أصل وثنيّ. فلا يمكن أن تكون الأمور إلاّ بهذا الشكل لأنّ كلّ إنسان دُعي إلى الإيمان، بفضل الاختيار، ينتمي بالضرورة إلى هذا الجزء أو ذاك، والجزءان يكوّنان البشريّة في مجملها.

إذًا، اليهومسيحيّون هم يهود اهتدوا إلى المسيح. والمسيحيّون الأمميّون هم وثنيّون تقبلّوا الإنجيل ونالوا العماد. في هذا المعنى، بولس هو "يهومسيحيّ": "ختن في اليوم الثامن. هو من نسل إسرائيل من قبيلة بنيامين. عبرانيّ ابن عبرانيّ"، أي عبرانيّ أصيل أبًّا عن جدّ (فل 3: 5). في يوم من الأيّام، تراءى له الربُّ على طريق دمشق.

نشير هنا إلى أنّ اليهومسيحيّين كانوا أيضًا فئتين في بداية الكنيسة، الآتون من فلسطين، والمتكلّمون العبريّة أو الآراميّة. شكّلوا الأكثريّة في جماعة أورشليم الأولى. ثمّ يهود الشتات الذين اهتدوا إلى المسيح. كانت لغتهم اليونانيّة، وأقاموا عادة خارج فلسطين. أقاموا في مدن الإمبراطوريّة وإن وُجد بعضٌ منهم في أورشليم (أع 6: 1).

فاليهومسيحيّون هم يهود آمنوا. ولكنّهم اعتقدوا أنّهم لا يستطيعون أن يخلصوا إن لم يواصلوا ممارسة شريعة موسى. فأرادوا أن يفرضوا هذه الشريعة على الوثنيّين المهتدين، كفريضة تسبق العماد. هؤلاء ليسوا جميع اليهومسيحيّين في أورشليم، بل تيّار أراد أن يختفي وراء شخصيّة يعقوب، أخي الربّ. هذا التيّار عارضه بولس. فوجب علينا أن نميّر بين فئتين: اليهومسيحيّون أو اليهود الذين من أصل مسيحيّ. ثمّ المسيحيّون المتهوّدون. هم متطرّفون يريدون أن يفرضوا نفوسهم على الوثنيّين من خلال فرض ممارسات الشريعة عليهم.

وهناك بعض الوثنيّين الذين اهتمّوا بما يطلبه هؤلاء المتهوّدون. فحين كتب بولس إلى الغلاطيّين الذين سبق له وبشّرهم، اقتنعوا بما قال خصوم بولس الذين جاؤوا بعده: الختان شرط الخلاص لهم: هؤلاء الوثنيّون المهتدون والمستعدّون للخضوع لمتطلّبات شريعة موسى، ليسوا يهومسيحيّين، لأنّهم لم يأتوا إلى الكنيسة من العالم اليهوديّ، هم في الحقيقة وثنيّون متهوّدون، وسيكونون أكثر حماسًا من اليهود المتهوّدين.

*  *  *

انفتاح وانغلاق

ماذا طلب هؤلاء المتهوّدون؟ الانفتاح على الوثنيّين، مع الأمانة على الاختيار، اختيار الله لشعب خاصّ، والأمانة على متطلّبات العهد، وأوّلها الختان.

ما استبعد المتهوّدون الوثنيّين، بل حاولوا الانفتاح عليهم. هم تجاوبوا مع الإيمان بإنجيل المسيح، وخطوا الخطوة الأولى التي تُعدّهم للدخول في عهد عقده الله مع شعبه. إذًا، لماذا لا يخطون الخطوة الأخيرة في مسيرتهم، فيدخلوا بشكل نهائيّ في العهد، ويقبلوا الختان الذي هو علامة العهد. وهكذا صار الختان شرطًا للدخول في العهد، وبالتالي البلوغ إلى الخلاص؟ أترى يقبل بولس بهذا المبدأ؟ مستحيل! ولماذا كلُّ هذا اللفّ والدوران؟ أقرب الطريق إلى الخلاص، هو الإيمان بالمسيح، ولا حاجة إلى وسيط مع هذا الوسيط.

حاول المتهوّدون أن يقدّموا طريقًا تراعي القديم والجديد. مراعاة القديم هي أمانة لاختيار شعب اختاره الله ليعقد، بهذا الاختيار، عهدًا مع البشر ومراعاة الجديد هي الإقرار بأنّ مجيء المسيح صار منذ الآن نداء ودعوة إلى جميع الأمم لكي تنضمّ بدورها إلى إسرائيل أوّل المدعوّين.  مراعاة القديم والجديد، يعني نمتنع عن خيانة الله بحيث لا نعيد النظر في العهد وعلامته (الختان). ونمتنع أيضًا أن نستبعد من الاختيار الوثنيّين الذين دخلوا في هذا الاختيار، بإيمانهم بالمسيح.

ما هذا القديم الذي يحافظ على مكانته في الجديد، وكأنّه الأوّل والجديد الثاني، يسوع نبيّ من الأنبياء. نبيّ بين الأنبياء. في خطّ موسى. إذًا، يمكن أن يكون أدنى من موسى، وهو من الإيمان ليس الدخول في العهد الجديد الأبديّ، بل العودة إلى القديم، فمن يضع الخمرة الجديدة في زقاق بالية "بل توضَع الخمرة الجديدة في أوعية جديدة" (مت 9: 17).

*  *  *

طريق بولس

وصل بولس إلى أورشليم، والمبدأ الذي عاشه حين عمّد الوثنيّين في المدن التي زارها بدءًا من أنطاكية، هو أنّ الوثنيّين يُعفَون من الختان. الإيمان بالمسيح يكفي. وهو يدعو كلّ واحد في المكان الذي يقف فيه. هو لا مختون، إذًا، لا يُختن. هو مختون. إذًا، لا يخفي ختانه.

بعد أن نشر الرسول الإنجيل في العالم الوثنيّ، صعد للمرّة الثانية إلى أورشليم. والتقى هناك بطرس ويوحنّا الرسولين، ويعقوب أخا الربّ، تحدّث سفر الأعمال عمّا دُعي "مجمع أورشليم". أمّا نحن فنسجّل هنا تسلسل الأحداث التي رواها بولس في الفصل الثاني من رسالة غلاطية، ونحاول أن نفهم المرمى الإنجيليّ الذي رمى إليه الرسول.

خلال هذا اللقاء طُرح موضوع الختان. في 2: 1-10، روى بولس أنّه رفض أن يتراجع، أن يتنازل أمام الذين حسبهم "جواسيس" و"إخوة كذبة". هم يراقبون إيماننا من أجل الانتقاد والاتّهام. ولكنّه ما توسّع في البراهين التي لجأ إليها: أقامنا المسيح في الحرّيّة، وجعلنا الختان في العبوديّة (2: 4). وحين نفرض الختان على الوثنيّين، نمنع حقيقة الإنجيل من أن تقيم عندهم" (2: 5).

نستطيع أن نفهم البرهان من الأوّل كما يلي: الختان وممارسة الشريعة التي يتضمّنها الختان، يستعبدان المؤمن، هكذا يفهم الوثنيّون أنّهم بلا شريعة! والبرهان الثاني، يُفهم موقف الوثنيّين المهتدين كشفًا لملء الحقيقة، التي لا يمكن أن تُرى من دونهم. في هذا المقطع الصغير (2: 1-10)، لا يشرح بولس موقفه، بل يذكر فقط القرارات التي اتّخذت في لقاء مع العمد بطرس ويعقوب ويوحنّا. وهؤلاء الثلاثة ما أضافوا شيئًا على إنجيله. ما فرضوا على تيطس، رفيق بولس، أن يُختن، وهو يونانيّ الأصل. وأخيرًا أقرّوا أنّ الإنجيل يتوجّه إلى المختونين وإليهم يمضي بطرس، وإلى الوثنيّين، وإليهم يمضي بولس.

هذا الخبر القصير في الرسالة إلى غلاطية يسمحُ لنا بأن نستنتج أنّ مجمع أورشليم لم يفرض الختان على المسيحيّين الآتين من العالم الوثنيّ. ومقابل هذا، قدّم بعض العناصر، ولكنّه لم يشرح حقًّا البراهين التي تتيح لبولس أن يردّ على اعتراف المتهوّدين: إن لم يكن الختانُ بعدُ شرطًا لخلاص الوثنيّين: فأين هو اختيار إسرائيل (الله اختاره) والعهد الذي يتضمّنه هذا الاختيار، وهو عهد علامته الختان.

*  *  *

لاعودة إلى الوراء

تابعت الرسالة إلى غلاطية مع حدث أنطاكية: صعد بولس إلى أورشليم، مدينة بطرس. ثمّ أتى بطرس إلى أنطاكية، مدينة بولس. تحرّكان. زمانان. ترتّبا لا حسب موضوعيّة التسلسل الأزمانيّ وحسب، بل أضاء الواحد على الآخر، بحيث يُبرز الثاني مرمى الحقيقة، الذي لبث خفيًّا في الأوّل.

بعد أن كان بطرس يشارك الوثنيّين في الطعام، ترك مائدتهم. يبدو هذا التصّرف وكأنّه لا يعارض قرارات أورشليم كما عبّر عنها الرسول في 2: 1-10: واحد يمضي إلى الختان. وآخر إلى الوثنيّين. ومع ذلك، بمناسبة هذا العمل، واجه بولس رأس الرسل. والاتّهام الذي وجّهه إليه يُدهشنا مرّة بل مرّتين: "إذا كنتَ، أنت اليهوديّ تعيش عيش الأمم، لا عيش اليهود، فكيف تجرّ الوثنيّين على عيش يهوديّ" (2: 14)؟ من جهة، إذا كان بطرس عاش مثل الوثنيّين فقاسمهم طعامهم، فهو الآن لا يعيش مثلهم لأنّه ابتعد عن مائدتهم. ومن جهة ثانية، عمل الإنسحاب وحده يبدو قاسيًا على اللامختونين، بقدر ما يقول بولس. فكيف نفهمه؟

حين يستعمل الرسول صيغة الحاضر ليبيّن لبطرس "أنّه يعيش (الآن) مثل الوثنيّين" فهو يعلن أنّ بطرس الذي قاسمهم طعامهم، قام بعمل لا عودة عنه، بعمل لا يقدر أحدٌ (أو شيء) أن يمحو: فعودته إلى مائدة محصورة باليهود هي قناع، وربّما رياء خلقيّ. هي عودة إلى الوراء تدلّ فيما بعد أنّ مثل هذه العودة صارت مستحيلة، عكس قرارات أورشليم.

ما يُبرز بولس هنا أوّلاً، هو تتابع زمانين: بطرس أكل. ثمّ انسحب. فالزمان الثاني يتمّ نتيجة الخوف، وساعة بيّن أهلُ يعقوب أنّ الانتماء إلى جماعة المختونين تمنع مقاسمة المائدة مع الآخرين. وإذ خضع بطرس لهذا الخوف، جعل المؤمنين يعتقدون أنّ الزمان الذي فيه شارك الوثنيّين طعامهم، لم يحصل. ونسي، أيضًا ما قيل في مجمع أورشليم وظهر في قرارات: هناك بطرس والمختونون، وهناك بولس والوثنيّون. بين هاتين المجموعتين، وهذين الرسولين، وُجد شخص ثالث: "الله لا يحابي الوجوه، لا يفضّل شخصًا على آخر لأسباب خارجيّة" (2: 6).

إذًا كان تهرّبُ بطرس عملاً ألغتْ نتيجتُه زمان الوثنيّين لمنفعة زمان اليهود وحده، وردّت الإنجيل إلى قطب الختانة وحده، ومجّدت موقف الله الذي لا يحابي الوجوه، بل يكفل حقيقة الإنجيل لإسرائيل وللأمم، لا لفئة دون أخرى. ولكن لا سلطان لبطرس على الله. ففي حدث أنطاكية، لا يهتمّ ضعفُ بطرس بقدر ما يتيح لنا أن نكتشف: توضح ما أقرّت أورشلم من قرارات ، لم يأخذوا بعين الجدّ اتّساعها. إذا كان لا بدّ من الاثنين، بطرس وبولس، اليهود والوثنيّين، لتُحفَط حقيقة الإنجيل، فالحلّ الذي قدّمه المتهوّدون فأجبر جميع المؤمنين على الدخول في العالم اليهوديّ، يختفي أمام الجديد الذي فجّره إنجيل يسوع. وبدأت تعرفه جماعةُ أورشليم.

*  *  *

إيمان الوثنيّين وإيمان اليهود

هو حدث جديد، كما يقول الإنجيل: الآخرون يصيرون أوّلين، وإيمان الوثنيّين يكشف إيمان اليهود.

إذا حُدّدت نهاية حدث أنطاكية في غل 2: 14، نستنتج ربّما أنّ بولس، في هذه المناسبة، لم يقدّم بعد الجواب المبرهَن على اعتراض المتهوّدين: ماذا نقول عن اختيار إسرائيل؟ ولكنّ البراهين سوف تأتي في ف 3-4. ولكن قبل كلّ شيء، يهمّنا أن نفهم أنّ نقطة الانطلاق عند بولس ليس بناء مبرهنًا، بل واقع. آمن الغلاطيّون بيسوع المسيح، وما اقتيدوا إليه عن طريق الشريعة. هذا الحدث يسبق كلّ صياغة لاهوتيّة، ويعطيه إنجيلُ المسيح الذي يعمل في المؤمنين. هي دهشة غير متوقّعة لا يستيطع أحدٌ (ولا شيء) أن يلغيها دون أن يرفض الله حين يرفض ما أتمّه من خلاص.

في هذا الموقع الحاسم الذي يقيم فيه بولس، هو لا يخترع عقيدة جديدة، بل يخضع للحدث (كما كان الأمر بالنسبة إلى بطرس حين كان في بيت كورنيليوس)، لهذا الجديد الذي فجَّرته قدرةُ الإنجيل لدى الوثنيّين. فمنذ الآن، نستبعد الأمانة للإنجيل الواحد أن نجعل قواعد القديم ترتّب الجديد، كما اعتقد المتهوّدون. لا بدّ من إعادة قراءة القديم، أي الاختيار والعهد مع إسرائيل. نسمع أيضًا هذا العتيق نفسّره على ضوء الجديد، وهذا أمر لم يكن باستطاعة أحد أن يتوقّعه (أو يقدّم فيه نظريّة) مسبقًا، ولو كان رسولاً.

لقد أشار 2: 15-21 بألفاظ موجزة جدًّا، وربّما غامضة إلى هذه الدهشة الجذريّة وهذا الانقلاب المفاجئ ، بسبب جديد الإنجيل العامل فينا. في هذه الآيات، بدأ بولس يأخذ براهين خصومه: "نحن يهود بالولادة، لا خطأة مثل الوثنيّين (هم خطأة بلا شكّ، لأنّهم بلا شريعة). وإذ نطلق البرهان على هذا الشكل، يصل بنا إلى أن اليهوديّ، بفضل الشريعة وممارستها، هو بارّ ويُخرَج من زمرة الخطأة. وتنقلب البراهين فجأة رأسًا على عقب. من صيغة المتكلّم الجمع (نحن) التي تدلّ على اليهود بالولادة، وتطلب منهم أن ينفصلوا عن الخطأة، يقال حالاً: "نحن آمنّا بالمسيح يسوع". "نحن أيضًا". فكان هذا "نحن" اليهود بالولادة، بلغنا إلى الإيمان بعد الوثنيّين، أو إضافة إلى الوثنيّين. أو بالأحرى لكي يفهمنا هذا "نحن أيضًا" بعد ذلك، وبعد تدوينه بالحبر على الورق، في الرسالة التي فيها عرض اليهود المؤمنون "أنّ الإنسان لا يتبرّر بالشريعة، بل فقط بممارسة الإيمان"، وذلك بعد أن يكون الوثنيّون آمنوا بالمسيح. فهذا الحدث هو الذي أوصل جزء إسرائيل الذي آمن، إلى ملء الإيمان. وإن كانت اهتداءات اليهوديّة هي الأولى، على مستوى الزمن، فتقبّل المسيح لدى الوثنيّين يمتلك قوّة الحدث الأوّل الذي يكشف بتفجّره اللامرتدّ ما هو أصيل في إنجيل يعمل وسط البشر. يكشف مبدأه بالذات.

فحين يعيد المؤمن طقوس الشريعة ويعتبرها ضروريّة للخلاص، ساعةَ الوثنيّيون يبلغوا إلى الإيمان، فهو ينكر أنّ المسيح يستطيع أن يبرّر، لأنّ المؤمنين الذين لا يعملون بحسب الشريعة ولا يمارسون الختان، يلبثون في الخطيئة، ولا يتبرّرون، وكما أنّ بطرس لا يمكنه بعد أن يفعل وكأنّه لم يأكل مع الوثنيّين، كذلك ما من يهوديّ يقدر أن يصدّق أنّ اللامختونين لم يؤمنوا يومًا بسبب لاختانهم. فمن حاول أن يلغي ما لا يمكن ألغاؤه، يتراجع، يعود إلى الوراء، إلى زمان لم يكن المسيح فيه قد مات، أو يكون مات عبثًا (2: 21). مثل هذا التراجع تجاوز للشريعة ومخالفة.

في أورشليم، كما في أنطاكية، ما تراخى بولس. بل حافظ على الحدث الذي لا يردّ، الذي به تجلّت قدرة الإنجيل وحقيقته لليهود وللوثنيّين: ولكن بما أنّ كلّ تراجع مستبعَد إلاّ إذا تجاوزتنا الشريعة واتّهمنا المسيح نفسه بأنّه يقودنا إلى الخطيئة، فكيف نفهم من جديد اختيار إسرائيل وتنظيم العهد والشريعة اللاحقة، دون إلغاء هذه الأحداث بكلّ بساطة، فنتصرّف وكأنّها ما حصلت.

*  *  *

عطيّة الأبناء

في قلب الاختيار، نفهم أنّنا ننال البنوّة التي وُعدنا بها، في اختيار إبراهيم. تطرّق ف 3-4 إلى هذا السؤال. مأعاد الرسول قراءة تاريخ إسرائيل انطلاقًا من حدث المسيح الذي يبيّن كماله ويكشف اتّجاهه الأخير. "وحين تمّ ملء الزمن، أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة، مولودًا تحت الناموس ليفتدي الذين هم في حكم الناموس فننال نعمة التبنّي" (4: 4-5). فولادة الابن الوحيد وعطيّة البنوّة للجميع، هما قلب الإنجيل الجديد الذي يهزّنا. وقد بحث بولس في تقليد إسرائيل عن آثار تعلن هذا الذي يحمله مولد الابن. لهذا يعود إلى الزمن المؤسّس الذي هو اختيار إبراهيم، حيث يُعلَن الوعد. ويُطلّ في الأفق منظارُ الميراث.

ويُطرَح سؤال الأبناء حول إبراهيم منذ اختاره الله. وعندئذٍ يكون خطر الوقوع في الخطأ. فما معنى أن يكون الواحد ابنًا؟ وما الذي يتيح لنا أن ننال ميراث الوعد؟ أزال بولس حالاً الإلتباس فرأى في إبراهيم الصورة الصحيحة للموقف البنويّ: "آمن إبراهيم بالله، فحسب له ذلك برًّا. فافهموا إذًا: فأهل الإيمان هم أبناء إبراهيم" (3: 6-7). تضمّن الجواب مفارقة قاسية يصطدم بها إسرائيل كلّه، وبالأحرى المتهوّدون. بما أنّ إبراهيم آمن فهو الابن الأوّل. وبالنظر إلى إيمانه، استقبل الوعد وأنجب بعده أبناء يُعطون الميراث الموعود، بالإيمان. فإن كان بداية سلالة بشريّة، لحميّة، يتّخذ فيها إسرائيل موقعه، فمع ذلك نال إبراهيم خصبه لأنّه آمن بالكلمة، بنداء جمعه 3: 8 في هذه البركة التي تحدّد موقع التبنّي، منذ البركة، في أفق غير أفق النسل والدم. في أفق جميع شعوب الأرض.

حين أوّل بولس هكذا صورة إبراهيم والوقت المؤسّس للاختيار، ما أراد أن يهمل تقليد إسرائيل، بل أن يعيد قراءته في أمانة لهذا التقليد. فالكتاب نفسه، بدوره الناظر إلى الأمام، تذكّر مكانة المؤمن الأوّل التي احتّلها إبراهيم، والتي أتاحت، مع البركة الآتية، أن نتعرّف إلى الساعة التي فيه أراد الله أن يتوجّه الوعد إلى الوثنيّين: "ورأى الكتاب بسابق علمه أنّ الله يبرّر الوثنيّين بالإيمان، أعلن مسبقًا لإبراهيم هذه البشرى" (3: 8). ولكن، لكي تتجلّى حقيقةُ العمل المؤسِّس للاختيار، وجب أن يحصل حدثان في تاريخ إسرائيل: أن تُعطى الشريعة للشعب، وأن يأتي النسل الذي من أجله أعدَّ الوعد. في هذا المجال، كان بولس واضحًا: نسل إبراهيم واحد. وحده يسوع المسيح يمتلك وضعَ الابن وبالتالي وارث الله (3: 16). ولكنّ وحدانيّة الابن هذا الذي وُلد في سلالة إبراهيم البشريّة (اللحميّة). لم تلغِ شموليّة البركة، بل كشفت اتّساعها وجعلت تتمّتها ممكنة. فالبشر لا يستطيعون أن يرثوا إلاّ في المسيح الذي هو وحده الابن، ووحده يحمل لقب الوارث الحقيقيّ. إذًا، بالإيمان بالابن، بإيمان الابن، ننال البنوّة ونشارك في حياة ذاك الذي أقامه الله لله الآب من بين الأموات (1: 1).

جاء الوعدُ الذي يؤسِّس الاختيار، فما كان لإبراهيم جواب ممكن سوى أن يؤمن أو لا يؤمن بكلمة من يعد. وإذ أجاب جواب الإيمان، أُطلق في مغامرة قاده الخصب البشريّ، اللحميّ، إلى ذلك الوقت الذي فيه أتمّ الابن عمق الاختيار في جذوره: فالإيمان بالوعد هو الإيمان بالابن نفسه الذي ترتبط حياته بكلمة الآب. آمن إبراهيم بالابن الآتي، والإنجيل يدعو إلى الابن الذي جاء الآن.

وهكذا، في نهاية التتمّة، وجد اليهود والوثنيّون أنفسهم مدعوين لتقبّل ميراث لأبناء بفعل يشبه ذاك الذي جعل إبراهيم ينال نعمة الوعد منذ البداية. والإيمان لا يقود إلى المعصية، بل هو لهم شرط أمانتهم لذلك الذي بدأ فدعاهم.

أصل الوعد، البنوّة، ديناميّة الوعد، الإيمان. لا يمكن أن نلغيهما أو نبطلهما أو نعيد النظر فيهما بما جاء بعدهم ولم يكن في الأصل. وهكذا لاحظ بولس بدقّة فكره أنّ الشريعة التي أتت بعد الوعد بأربع مئة سنة لا تستطيع أن تلغي الوعد.

*  *  *

قراءة جديدة للشريعة

يدعو التفسير البولسيّ للاختيار إلى إعادة قراءة الشريعة، ولا مهرب من ذلك. فما تكون الوظائف المعطاة للشريعة في الرسالة إلى غلاطية؟

أوّلاً: هي ثانية بالنسبة إلى الوعد. "تكون مربّية حتّى المسيح لننال تبريرنا بالإيمان. إذن، ليست الشريعة غاية في نفسها لنفسها. فشريعة الشريعة هي أن تقود إلى الإيمان.

ثانيًا: من أجل هذه الغاية، تعلن الشريعة فرائض نحافظ عليها دائمًا. غير أنّ المحافظة على جميع هذه الفرائض أمرٌ غير معقول. فسفر التثنية قال: سيكون إسرائيل خائنًا للشريعة (تث 31: 29). وذكر بولس نتيجة ذلك بحسب الكتاب المقدّس: "ملعون كلّ من لا يعمل بجميع الفرائض المكتوبة في كتاب الشريعة" (غل 3: 10).

ثالثًا: لهذا كان دور الشريعة أيضًا نزعَ القناع من الخطيئة:" أضيفت الشريعة من أجل المعاصي إلى أن يأتي النسل" (3: 19). لا تشكّك هذه الآية سوى الذين يرون فيها تحدّيًا فيمزجون الخطيئة والمعصية، لقد دلّت مسيرةُ الخروج أنّ إسرائيل كان خاطئًا قبل تسلّم الشريعة. إذًا، الشريعة لم تحرّك الخطيئة، بل افترضتها حاضرة. وإذ كشفت القناع عن الخطيئة جعلت منها معصية، لأنّ لا معصية ولا تجاوز إلاّ حيث تكون شريعة.

رابعًا: إنّ إمكانيّة الإشارة إلى الخطيئة، جعلت من الشريعة أداة اللعنة. فالشريعة تخالف البركة المرتبطة بالوعد: ليست ينبوعَ حياة. "فلو أعطي لنا شريعة قادرة أن تحيي، لكان التبرير حقًا يتمّ بالشريعة" (3: 21). أجل، الشريعة لا تحيي، وتلك هي حدودها. هي فرضت لنا ما لم تعطنا. أمّا النعمة فأعطتنا ما تفرضه علينا[*]".

 

 

 



[*]Francois Martin, Paul et le Judéo-Chrétien in Lumière et vie 242(avril –juin 1999), p. 37-49

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM