الفصل 3: وظائف الشريعة في الرسالة إلى غلاطية

وظائف الشريعة في الرسالة إلى غلاطية

يبدو الفصلان الثالث والرابع من الرسالة إلى غلاطية، مجموعة متماسكة. يتكوّنان من 36 آية حيث يرد لفظ "شريعة" 17 مرّة. ويرى عديدون في هذا المتتالية الطويلة نصًا يعامل فيه بولس الشريعة باحتقار: هي عابرة، ثانويّة، عرضيّة تجاه الوعد. وهكذا تكون النظرة إلى الشريعة هنا مختلفة عمّا نقرأ في الرسالة إلى رومة. قالوا: أنضج فكرهُ بولس حول الشريعة، فكانت غل مرحلة في موقفه. ولكن جاء من يرفض تطوّرًا في لاهوت بولس، فقالوا: "إنّ فكر بولس حول الشريعة، قد امتلأ بالصعوبات وعدد من النظرات اللامتماسكة". بعد أن درسنا مديح بولس للشريعة، في فصل سابق، نحدّد فكره في 3: 1-4: 7. لو أنّ الغلاطيّين فهموه، لما مالوا عنه إلى وعّاظ أتوا في خطى بولس.

أعمال الشريعة

يبدو المقطعان 3: 1-6 و2: 15-21، مرتبطين بعض الشيء. ففي كلّ منهما يبرز خيار يتألّف أحد عناصره من عبارة "من أعمال الناموس". عبارة خاصّة بالرسالة إلى غلاطية (ستّ مرّات على سبع، في الرسائل البولسيّة). أعمال الشريعة عاجزة عن التبرير لأنّها خاصّة بفئة دون فئة، والله لا يحابي الأشخاص فيفضِّل فئة على أخرى، ولا شخصًا على آخر. في 2: 15-21، استند الرسول إلى معرفته ومعرفة المسيحيّين الآتين من العالم اليهوديّ، فالتعارض يتمّ بين "من أعمال الشريعة" وبين "من إيمان يسوع المسيح". وفي 3: 1-6، عد الرسول إلى خبرة الغلاطيّين وسألهم عن مصدر الروح (من أين نالوا الروح). فيكون التعارض حينئذٍ بين "من أعمال الشريعة" وبين "من سماع الآن". في هذين المقطعين الاثنين، خسرت أعمال الشريعة صفتها على حساب الإيمان بيسوع المسيح، وعلى حساب سماع الإيمان.

وفي 2: 21 (لو كان الإنسان يتبرّر بالشريعة، لكان موتُ المسيح عبثًا) يبدو التناقض جذريًّا بين أعمال الشريعة والإيمان بيسوع المسيح، كما تجلّى في موته، ينبوع تبرير، إن كانت أعمال الشريعة تتيح لنا البلوغ إلى التبرير، فهذا يعني أنّ موت المسيح لم تكن له فائدة. ولكنّ الوضع ليس كذلك. لأنّ مصدر التبرير نجده في موت المسيح وقيامته. أمّا 2: 19 فقدّمت عبارة معقّدة: "لأنّي بالشريعة متُّ عن الشريعة، لأحيا لله، مع المسيح صُلبتُ". في 2: 15-21، أعمال الشريعة (لا أعمال أيّة شريعة) تشجب حين تحسب نفسها طريقة تبرير. المختونون واللامختونون مشاركون في الكنيسة، لأنّ لم يُفرَض شيء على تيطس. ولكن في أنطاكية، استند تفسيرٌ خاصّ للشريعة فقاد بطرس وسائر اليهود وبرنابا، للعودة إلى الوراء. مقابل هذا، ما جعل بولس نفسه متجاوزًا للشريعة فأعاد بناء ما هدمه. قال في 2: 18: "ولكن إذا عدتُ إلى بناء ما هدمته، جعلتُ من نفسي مخالفًا للشريعة". وفي 4: 12: "أناشدكم أن تصيروا مثلي". فبالشريعة التي كُشف هدفُها في كلمة المحبّة وتحقّقت بالمسيح (5: 14)، مات الرسول عن أعمال الشريعة. والشريعة نفسها وهبته حججًا ليموت عن أعمالها. بولس هو مصلوب، لأنّه اختار صليب المسيح كموضوع فخر (6: 14).

في غل 3: 1-6، سأل الرسولُ الغلاطيّين عن الينبوع الذي منه تفجَّر الروحُ في جماعاتهم، لأنّ هذا الروح هو الخير الحقيقيّ الذي أعطي للجماعة المسيحيّة. "وهذا ما فعله المسيح لتصير فيه بركة إبراهيم إلى غير اليهود (الأمم)، فننال بالإيمان الروحَ الموعود به" (3:14). "حرّرنا من لعنة الشريعة، فصار لعنة من أجلنا" (آ 13). لا شكّ في نظر بولس، بوجود علاقة بين العلّة والنتيجة، بين عرض يسوع المسيح المصلوب وموقع الروح، ولكنّه يريد من الغلاطيّين أن يقتنعوا بما اقتنع هو. فبجانب التعارض بين أعمال الشريعة وسماع الإيمان، يظهر تعارض بين الروح والبشريّ بدأ الغلاطيّون مسيرتهم بالروح وجعلوا نصب عيونهم بأن يواصلوها بما هي بشريّ، باللحم والدم. فالصراع هو بين الروح والبشريّ (ساركس)، لا بين الشريعة والروح. ويشير بولس إلى جواب على الأسئلة المطروحة في إيراد تك 15: 16 فآمن إبراهيم بالربّ فحسبه له برًّا). هكذا اجتذب الانتباه إلى وجه إبراهيم. فحين تقبّل الغلاطيّون الختان وأتمّوا أعمال الشريعة، أرادوا أن يرتبطوا بتقليد إبراهيم الذي اعتُبر أنّه أتم أعمال الشريعة حسب سي 44: 20: "حفظ شريعة العليّ، فأقام معه عهدًا، وجعل الختان علامة العهد. وعن الامتحان وُجد أمينًا".

كان أبو الآباء، إبراهيم، في أصل عهد بين الله وشعبه. هو صورة البداية. نشأ وهو ينشئ أولاده، والارتباط بإبراهيم يدلّ على اليهوديّ. غير أنّ هناك نصوصًا كتابيّة تقدّم إبراهيم على أنّه تبرّر بالإيمان. إذن، هو في جانب الذين هم "من الإيمان". فإن كان الوثنيّون ما خُتنوا، إلاّ أنّ الوعد المعطى لإبراهيم يتحقّق في الجماعة المسيحيّة.

خالف الخصوم بولس فاتّكلوا على العمل بأحكام الشريعة، فصاروا ملعونين (3: 10). نسوا أنّ ما من أحد يتبرّر عند الله بالشريعة، لأنّ البار بالإيمان يحيا (3: 12). كما نسوا أيضًا أنّ من يختتن يلتزم بالعمل بأحكام الشريعة كلّها (5: 3)، وهي شريعة لا تكتمل إلاّ في وصيّة واحدة، محبّة القريب (5: 14). خالفهم الرسول لأنّه لم يتعلّقوا بالشريعة كلّها، بل بجزء منها. اختاروا شريعة تعمل أعمالاً، منها الختان ومراعاة كلندار (روزنامة تذكر الأعياد) خاصّ (4: 9-10). غير أنّ أعمال الشريعة تعرقل وحدة الجماعة، وهذا ما دلّ عليه تدخّل الإخوة الكذبة في جماعة أورشليم (2: 4: إخوة دخلاء كذبة. جاؤوا يتجسّسون) ووجود أناس قريبين من يعقوب (2: 12). جاؤوا إلى أنطاكية وزرعوا البلبلة.

لقد رأى خصوم بولس أنّ أعمال الشريعة أمر لا جدال فيه. لهذا، فهي تفرض نفسها. أمّا بولس فرأى كمال الشريعة في المحبّة، وفي الخضوع للروح: "أمّا ثمرة الروح فهي المحبّة" (5: 22). ومن المحبّة ينبع الفرح والسلام والصبر (آ 5). في هذين المقطعين اللذين درسنا (2: 15-21؛ 3: 1-6) لم يتوجّه انتقاد إلى الشريعة كشريعة، بل إنّ الشريعة تُثبت نظرة بولس وأهميّة الإيمان: "بالشريعة متُّ عن الشريعة لأحيا لله" (2: 19). أعلن الرسول أنّ موت المسيح وقيامته تحقّقا فيه. ولكنّ سبب موت المسيح كان الشريعة التي حكم باسمها عليه. فكانت النتيجة تحرير البشر من نظام الشريعة واللعنة الآتية عليهم. لهذا، حين اتّحد بولس بالمسيح المصلوب، أمات للشريعة وعن الشريعة. وبفضل هذا الاتّحاد، عاش من أجل الله وخدمته.

*  *  *

إيمان الوثنيّين وبلوغهم إلى الوعد

إنّ 3: 7-14 شرحت المقطع السابق (3: 1-6). والتعارض حول مصدر الروح يتواصل، لأنّ العاملين في 3: 7-14 يُوصَفون بعبارات قرأناها في 3: 1-6: الذين من الإيمان، من سماع الإيمان (آ 7، 9) الذين من أعمال الشريعة (آ 10) العبارة في آ 7-9، توضح آ 6 وتُبرز، بالإيمان، الطابع الشامل للبنوّة الآتية من إبراهيم. والعبارة (آ 10-14) التي تورد تث 27: 26 (ملعون من علّق على خشبة)، تشدّد على اللعنة التي تصل إلى ممارسي الشريعة، وعلى الدور الذي يلعبه المسيح في تحريرنا من اللعنة. فإنّ آ 13-14 تصوّران العمل الذي أنجزه المسيح من أجل المسيحيّين، من أجلنا نحن (آ 13: حرّرنا نحن. آ 14ب: ننال نحن الإيمان)، لأنّه ينجّينا من لعنات الشريعة الموسويّة: منذ الآن، لم يعُد من الضروريّ القيام بكلّ فرائضها.

حسب آ 14، مجموعتان مختلفتان بعض الشيء ينعمان بهذه الخيرات. الوثنيّون تقبّلوا البركة، ما لهم أن ينتظروا شيئًا من الشريعة كفريضة: هي ليست ينبوع حياة (آ 8، 14). أمّا صيغة المتكلّم الجمع (نحن) فتعود إلى مجمل المؤمنين الذين ينالون الروح منذ الآن. فالبركة هي إلى جهة الإيمان والأمم. واللعنة كخطر، هي إلى جهة الذين يمارسون الشريعة على أنّها وصيّة. فالاستعدادات الجديدة التي تظهر في المسيح، تتوخّى بأن تجمع في شركة واحدة (نحن) الوثنيّين واليهود: الفئتان تتقبّلان، بالإيمان، الروح الموعود به (آ 14). فكلّ شيء يأتي إلى أبناء إبراهيم الحقيقيّين بسماع الإيمان. فانتقلت البركة إلى الوثنيّين في يسوع المسيح. وبها الوعدُ المعطى لإبراهيم. إتّخذ الرسول موقفًا ضدّ تمثّل عرفه القرن الأوّل مرارًا، يقوم بربط إبراهيم بالشريعة، بشكل عاديّ. فوضعُ التبرير خارج الإيمان بالمسيح، يقود إلى قطيعة معه (5: 4: يقطعون كلّ صلة لهم بالمسيح). فالوعدُ الذي مُنح لأبي الآباء تضمّن أمرين اثنين، الوعدُ بأمّة كبيرة (تك 22: 1-3)، ثمّ عطيّة الأرض (تك 12: 1، 7؛ 13: 15). هذان الوعدان المعطيان لإبراهيم اللذان ترافقا، يزولان على حساب مواعيد الروح عند الأنبياء. نقرأ في مز 11: 19: "أعطيهم قلبًا جديدًا وروحًا جديدًا في أحشائهم، وأنزع منهم قلب الحجر وأعطيهم قلبًا من لحم" (رج حز 36: 26-27؛ 37: 1-4) كلّ هذا يتمّ في الجماعة المسيحيّة (آ 14: ننال بالإيمان الروح).

يتجذّر في الكتاب المقدّس تبريرُ كلّ إنسان بسماع الإيمان (2: 16)، ووصول الوثنيّين إلى بركة إبراهيم. فالشريعة (أو التوراة) ككتاب مقدّس جعلت بولس على حقّ: رأت مسبقًا أنّ "الله يبرّر الوثنيّين بالإيمان". ودلّت على اللعنة المرتبطة بالذين لا يثبتون "في كلّ ما كُتب في شريعة موسى". هي تعرف الإيمان كينبوع حياة لأنّ البارّ يحيا بالإيمان. أمّا الذي يختار طريق الشريعة فيحيا منها إن أتمّ الوصايا والأعمال التي تتبعها: الأعمال (إرغا، آ 2) وكلّ المكتوب في كتاب الناموس (آ 10ب) تعود بنا إلى الوصايا. والجزء الأوّل من آ 12، يستخلص النتائج من الإيراد الكتابيّ. أمّا الجزء الثاني (كلّ من عمل بهذه الوصايا) فيعود إلى ما قيل في آ 10ب (المثابرة على العمل). وفي النهاية، الكتاب المقدّس يقدّم المعنى لموت المسيح الذي هو ينبوع نجاة للذين يرتبطون بالإيمان.

إنّ التحرّر من لعنة الشريعة لا يصيب الشريعة كشريعة. طريقُ حياة واحدة فُتحت حتّى مجيء المسيح، وقد استندت إلى أعمال تفرضها الشريعة وتهديدٌ باللعنة كان ثقيلاً، مسخّرًا، على من يتمّ الأعمال، لأنّ الخطر هو هنا إن لم يُنفّذ كلّ الأعمال التي تفرضها الشريعة. فكتاب الشريعة (التوراة) يحتفظ بكلّ قيمته، لأنّنا نعود إليه ونستشهده. وردّ تث 27: 26 في غل 3: 10 (ملعون من لا يثابر). ثمّ كانت إيرادات كتابيّة عديدة في هذا المقطع. إذا كانت الشريعة كمجموعة أعمال مفروضة للبلوغ إلى الحياة، عفّاها الزمن، بل صارت خطرة. فالشريعة ككتاب مقدّس (3: 8، 10، 11، 12، 13) ونبوءة وقول مُسبَق (3: 8ب: بسابق علمه) باقية، وهي تؤسّس طريق الحياة تقدَّم اليوم. في 4: 21، انطلق الرسول من نصوص سفر التكوين (16: 15؛ 21: 2؛ 27: 16؛ 21: 9-10) فتحدّث عن "شريعة" جعلها صراحة توازي الكتاب المقدّس في 4: 30. في 3: 8، العودة إلى الكتاب، لا إلى "نوموس" (واستعمال غرافاين، كتب، في ما تبقّى من المقطع) تدهشنا، لأنّ بولس يشجب في هذا المقطع الشريعة التي تفرض، والتي عليها يرتكز بعض أعضاء الجماعة. بهذه الطريقة تجنّب لفظًا ملتبسًا.

*  *  *

من نسل إبراهيم إلى بنوّة التبنّي

دلّ 3: 15- 4: 7 على الموقع المركزيّ ليسوع وللإيمان في تحقيق الوعد. ولكنّ الرسول لم ينسَ التبرير (3: 2، 24). تألّفت هذه المجموعة من مقطعين (3: 15-22. ثمّ 3: 23-4: 7) بُنيا بحسب نموذج متماثل: قول (آ 15، 16؛ آ 23-29) يتبعه شرحٌ يبدأ مع فعل "فأقول" (لاغو) (3: 17؛ 4: 1) عاد بولس إلى الاستعمال العاديّ ليبيّن متانة العقيدة الإيمانيّة. في 3: 15-22، بعد مثل أُخِذ من الحياة اليوميّة، كان قولٌ إيمانيّ. في 3: 23-4: 7، كانت وظيفتان اثنتان للتعليم المأخوذ من الممارسات اليوميّة. وهكذا توضّح ما قيل في 3: 23-29، وهيّأ أيضًا الفريق للتأكيد الإيمانيّ في 4: 3-7.

ويأتي الكلام عن الوعد والشريعة.

جميع المؤمنين نالوا "بالإيمان، الروح موضوع الوعد" (3: 17). خلال المقطع (3: 15-22) استعمل الرسول لفظ "وعد" تارة في الجمع (حين يرتبط بإبراهيم الذي نعم بمواعيد نسل عديد وأرض، تك 12: 7؛ 13: 15؛ 17: 7) وطورًا في المفرد (آ 17، 18، مرّتين). إنّ تفسيره للعهد يتركّز على المسيح: هذا الوعد أعدَّ لنسل إبراهيم، للمسيح (آ 16ب) ويُعطى للمؤمنين انطلاقًا من الإيمان بيسوع المسيح (آ 22ب). وتقدّم آ 15-16 طرحًا يتوضّح في آ 17-22.

الطرح (آ 15-16)

كلّ شيء يرتكز على وعد، وكلّ وصيّة يوصّي بها الإنسان عند ساعة موته، لا يمكن العودة عنها. وبالأحرى الوصيّة التي حقّقها الله. قابل بولس بين عبارتين: وصية إنسان ثابتة (آ 15). ثمّ، وصيّة أثبتها الله (آ 17). "دياتيقي" هي الوصيّة (يتركها الموت) والعهد. هي تبيّن طابع العطاء الذي لا عودة عنه، ويُعلن الميراث (آ 18: 4: 1، 7). جاء لفظ "برو" (قبل) أمام الفعل "أثبت"، فمنع أيّ شخص من أن يمسّه. في إبراهيم ونسله، التقت الوصيّة والعهد بشكل وعد. والنسل الوحيد هو المسيح، وبه المسيحيّون الذين ينعمون بالوعد (3: 29). المسيح هو طريق العبور المفروضة لتحقيق الوعد الذي هو مضمون علاقة، وطريقة علاقة. إذن، لا طريق أخرى للتبرير، إلاّ تلك التي يحرّرها الإيمان بيسوع المسيح.

الشرح (آ 17-22).

يحدّد الشرحُ دور الشريعة في علاقتها بالوعد. فالوعد سابقٌ للشريعة الموسويّة. التي أتت بعد بأربعمئة وثلاثين سنة. والميراث يرتبط بالوعد، الذي لا عودة عنه، لأنّه وصيّة. وذكرت آ 17-18 الظروف التي فيها جُعل العهد لإبراهيم. الله أنعم (خاريزوماي): يضمّ الفعل التبرير والوعد (ذُكر البرّ في آ 21). الميراث هو من جهة الوعد، لأنّ الله انضمّ على إبراهيم بالوعد، لا بالشريعة. فبالنسبة إلى إبراهيم، سبق الوعدُ التبرير، ولكن تضمّن الوعدُ من قبل الله إرادة التبرير. وحدّدت آ 19-21 وضع الشريعة. أمّا آ 22 فختمت المقطع، وأوجزت دور الكتاب، وأكّدت من جديد موقع المسيح المركزيّ في تمام الوعد للمؤمنين.

في الظاهر، لا تلعب الشريعة دورًا بالنسبة إلى الميراث الذي جاء بالوعد. فالوصيّة التي تفتح الطريق للميراث (3: 18أ) هي بشكل وعد، فتسبق الشريعة التي هي خير يتمسّك به إسرائيل. فالوعد والوصيّة والميراث تقف في نظام الإيمان. وهي مفتوحة للجميع، وبالتالي للأمم. وهي تتمّ بالإيمان بيسوع المسيح.

أمّا الشريعة المعدَّة لإسرائيل، فتقف على مستوى الفصل والإكراه. غير أنّ الشريعة لا تعارض مواعيد الله لإبراهيم ولنسله (آ 21)، لأنّها لا تدخل في مزاحمة مع الوعد. فلو كان للشريعة من سلطان بأن تحيي. فالبرّ يأتي منها. حينئذٍ تظهر كأنّها مزاحمة للوعد، وهو أمر غير صحيح. هكذا قلّل بولس من قيمة الشريعة تجاه أناس يضخّمون قدرها. لا ينزع عنها صفتها في ذاتها، بل يشدّد بأنّ ليس لنا أن ننتظر منها الحياة، فالشريعة تعجز عن إعطاء البرّ. لا يقدّم بولس نظريّة حول الشريعة بل يتحدّث عنها منطلقًا من تمام الوعد بالإيمان بيسوع المسيح. أعطيت الشريعة في زمن انتظار، غير أنّ بولس لا يجعلنا نفترض أنّ وظيفتها تنتهي حين يتمّ الوعد.

حين يحدّد الرسول موقع الشريعة والكتاب بالنسبة إلى الوعد، فهو يمنح الشريعة دورين اثنين:

- فلماذا الشريعة إذًا؟ إنّها أضيفَتْ من أجل المعاصي، إلى أن يجيء النسل الذي جعل الله له الوعد. أعلنتْ على يد وسيط، والوسيط يفترض أكثر من واحد، والله واحد هو" (آ 19-22).

- ولكنّ الكتاب حبس كلّ شيء تحت سلطان الخطيئة، حتّى ينال المؤمنون الوعد، لإيمانهم بيسوع المسيح (آ 22).

ليست الشريعة في خطّ مباشر مع الخلاص، لأنّها ضمّت "بسبب المعاصي" في اليونانيّة "خارين" تدلّ على السبب كما على الهدف. بما أنّ المعاصي وُجدَت، أعطيَتْ الشريعة لتشكّل حاجزًا في وجه الخطيئة. الشريعة تفصل، تحمي، وأعطيت الشريعة "لتحبس الخطيئة حتّى زمن يسوع المسيح".

أعطيت الشريعة بانتظار النسل الذي أعِدَّ له الوعد. هي متأخّرة، ولا تشكّل الأساس. أضيفت لأنّ معاصيَ وُجدت في حياة إسرائيل الذي دُعيَ إلى الأمانة للعهد. وهكذا تجلّى الطابع الخاصّانيّ للشريعة: أعطيَت لإسرائيل الذي يتجاوز الشريعة. كان بالإمكان أن تصير حاجزًا، أن تحميه من الخطيئة، وتحفظه في الأمانة، ولكنّ النتيجة لم تكن على مستوى الانتظارات: عرضت شيئًا ولكنّها أنتجت شيئًا آخر. فبدلاً من أن تحمي إسرائيل من الخطيئة، فصلته عن الأمم. وتشدّد آ 22 على فشل هذه الموهبة: حبس الكتاب الكلَّ تحت الخطأ: (كما في سجن. كما في شبكة). وهكذا ينتقل النصّ من الشريعة التي تحدّد الحياة في إسرائيل إلى الشريعة ككتاب مقدّس. ما سمحت الشريعة لإسرائيل أن يهتمّ بعدُ بالعهد. غير أنّها حين سجنت الكلّ تحت الخطيئة بمن فيهم إسرائيل، جعلت الكلّ يعون ضرورة مخلّص. هذه الشريعة لم تُدعَ لكي تزول. هذا ما يُبعدنا عن أف 2: 15: "ألغى (يسوع) بجسده الشريعة بأحكامها ووصاياها، ليخلق في شخصه من هاتين الجماعتين... إنسانًا واحدًا جديدًا".

حين أعلنت الشريعة كان الملائكة وحدهم هناك مع موسى. ثلاث مرّات يبدو العهد الجديد صدى لموضوع معروض في التقليد اليهوديّ (3: 15؛ أع 7: 38، 53؛ عب 2: 2). وهذا التقليد قديم بحيث إنّ السبعينيّة اليونانيّة قرأت تث 33: 2 في نصّ مختلف عن العبريّ الماسوريّ: "من عن يمينه، ملائكة معه". أمّا في العبريّ فنقرأ "ومن عن يمينه نار (إش) شريعة (وت) لهم. نقرأ في الترجوم (تث 33: 2) أنّ الربّ قدّم وصاياه فقبل بها بنو إسرائل "فمدّ يمينه من وسط لهيب نار وأعطى الشريعة لشعبه". يبدو الترجوم هنا وكأنّه ترك موضوع الملائكة، أو بالأحرى لم يعرفه لأنّه التصق بالنصّ الماسوريّ. مثل هذه القراءة عن الملائكة ترتبط بما في مز 78: "مركبة الله، ربواته المشتعلة ربوتان".

لمّا سُلّمت الشريعة في سيناء، كان الملائكة حاضرون. وأعطى الفكر اليهوديّ أكثر من مدلول لحضور الكهنة وأعطاهم رسالة كبرت أهمّيتها أو صغرت. مثلاً، تساءل كتاب اليوبيلات (1: 27؛ 2: 1) عن الأهداف التي حرّكت الملائكة الحاضرن في سيناء. أمّا المؤرّخ اليهوديّ، فلافيوس يوسيفس (العاديّات اليهوديّة 15: 136) فيبدو أنّه رأى في الملائكة مرسلين. وهؤلاء المرسلون هم الأنبياء: وفسّر بعضهم هذا الأمر فقالوا: "قد يكون الدورُ المباشر للملائكة نظرةً آتية من العالم اليهوديّ الإسكندرانيّ. والمراجع الفلسطينيّة أكّدت أنّ الله أعطى شريعته بشكل مباشر (إلى موسى، يدًا بيد) في حضور الملائكة.

ما أنكرت نصوص العهد الجديد (3: 15؛ أع 7: 38، 53؛ عب 2: 2) الثلاثة الطابع الإلهيّ للشريعة، فجعلت الملائكة هم الذين يعلنون الشريعة، في خطّ الذين يبرزون الملائكة لئلاّ يكون الإنسان في احتكاك مباشر مع الله. فهذا لا يعني نظرة سلبيّة إلى ذلك الوضع في أع 7: 38، 53 وعب 2: 2. أمّا غل 3: 20 فيبدو كأنّه لغز خاصّ. عادت آ 20ب إلى الاعتراف الإيمانيّ في إسرائيل (تث 4: 4: الله واحد) فأعلنت وحدانيّة الله مع أنّه يُعدّد في أكثر من مكان. ما سمّت آ 20أ موسى، فعادت إلى وضع محدَّد: في هذه الظروف يتحدّث الوسيط باسم الملائكة، فلا يقدر أن يعبّر عن نفسه باسم الله، لأنّ الله واحد. أمّا التعدّد فتميّز الذين أعطوا الشريعة: "الشريعة أعلنتها الملائكة بيد وسيط. وهذا الوسيط ليس من واحد، والله واحد".

إنّ عمل الملائكة يعطي قيمة نسبيّة لعطيّة الشريعة بالنسبة إلى الوعد الذي جاء من الله بشكل مباشر. وقصدُ الخلاص يرتبط بالوعد، ساعة يكون للشريعة طابع خاصّ. هي لا تُحتقَر، بل تصبح نسبيّة لا أمرًا مطلقًا. فهناك أمر خاصّ بالشريعة: هي تقسم. والله يجمع، يضمّ لأنّه واحد. والمختونون واللامختونون لا يشاركون في الشريعة، بل في الإيمان (آ 22). وتستعيد آ 27-29 موضوع الوحدة هذا وتتوسّع فيه. فالغلاطيّون، على تنوّعهم، واحد في يسوع المسيح، لأنّه يخصّونه. إذن، هم نسل إبراهيم.

*  *  *

للشريعة أكثر من وظيفة. هي عدد من الفرائض والأحكام. ما زالت حاضرة في بعض أقسامها، في العالم اليهوديّ، ولكنّها صارت نسبيّة، بعد أن جاء يسوع يكمّلها. قيل لكم في الشريعة. أمّا أنا فأقول لكم. والشريعة هي التوراة في المعنى الواسع أي الكتاب المقدّس كلّه. لهذا يستند إليها الرسول ليقدّم برهانه. فالكتاب المقدّس هو موضع الحوار بين بولس والذين يخاصمونه نظرته. كيف صارت هذه الشريعة نسبيّة؟ كيف نزلت من مقامها؟ حين قبل بأنّ الملائكة أعطوها، لا الله. أمّا الوعد الذي سبق الشريعة بمئات السنين، فقد أعطاه الله نفسه. وهكذا ينطلق الغلاطيّون، لا من الشريعة التي تقسم الجماعة، وتفرّق اليهوديّ عن الوثنيّ، بل من الوعد الذي بدأ بإبراهيم وانتهى في المسيح. ففي المسيح الذي هو الوسيط الوحيد، يكون الغلاطيّون كلّهم، المختونون وغير المختونين، نسل إبراهيم. بعد ذلك، كيف يستطيع الحضور أن يجعلوا المؤمنين بالمسيح خارج الخلاص. بل هم جعلوا نفوسهم في الخارج، سقطوا من النعمة، وعثروا بحجر العثار.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM