الفصل 18: الرسالة إلى رومة كلمات تعريف

الرسالة إلى رومة كلمات تعريف

الرسالة إلى رومة رسالة واسعة في فصولها، منهجيّة في مضمونها. لهذا بدت كتابة لاهوتيّة تحتلّ المركز في العهد الجديد. ونكتشف من خلال البراهين مسيرة تاريخيّة ومبحثيّة، تتوسّع توسّعًا عضويًّا عبر الرسالة كلّها، فتعالج مجمل المسائل الجوهريّة في الإيمان المسيحيّ. وهكذا بدت مثالاً معروفًا لعرض الإيمان المسيحيّ: الشريعة، وحي الله في يسوع المسيح. الحياة المسيحيّة، العلاقة بين الإنجيل والوعد، الأسس الخلقيّة للحياة الجديدة.

والقوّة الروحيّة أو الفكريّة الكامنة في هذه الرسالة تفهمنا وجودَها على المفارق الكبرى في تاريخ اللاهوت المسيحيّ. منذ أوغسطينس ومسألة الحرّيّة البشريّة، إلى البروتستانتيّة ومسألة التبرير...

*  *  *

قدّم بولس في روم تفكيرًا لاهوتيًّا متماسكًا، متوازنًا في المسيحيّة الأولى والكلام عن موت المسيح وقيامته كحدث وحيٍ لبرّ الله، يكون نقطة الانطلاق والأساس المنطقيّ لمجمل فهمنا للمسيحيّة. انطلق الرسول من هنا ففكّر بعلاقة هذا الإيمان بالحضارة اليونانيّة، وأعاد قراءة تاريخ المواعيد، والكتب التوراتيّة، بحيث حدّد من جديد الهويّة اليهوديّة. كما انطلق من هنا ليعيد تفسير المدلولات اللاهوتيّة الكبرى: الاختيار، البرّ، الشريعة، الخطيئة... وبالتالي وضع أسس نمط جديد للجماعة، وأسس خلفيّة تختلف في كثير من تفاصيلها عمّا في العهد القديم. في هذا الإطار، اكتشف الرسول دعوته المسيحيّة، وتيقّن أنّ رسالته في وسط الأمم الوثنيّة.

*  *  *

بعد التحيّة الرسائليّة، التي تشبه ما في سائر الرسائل، بعد صلاة الشكر التي نجدها عادة في الرسائل البولسيّة، أعلن بولس بشكل مباشر موضوع رسالته: نوى أن يزور جماعة رومة. كما أعلن أيضًا موضوع كرازته التي تشكّل جسم الرسالة: إنجيل برّ الله.

"وأنا لا أستحي بإنجيل المسيح، فهو قدرة الله لخلاص كلِّ من آمن. لليهوديّ أوّلاً، ثمّ لليونانيّ، لأنّ فيها أعلن الله كيف يبرّر الإنسان بالإيمان للإيمان. كما كُتب: البار بالإيمان يحيا" (1: 16-17).

هذا الإنجيل هو الخبر الطيّب، البشرى. أعلنها الله للعالم حيث أرسل يسوع المسيح ليؤسّس الملكوت. إنجيل أنبأ به الأنبياء، تحدّثوا عنه. وتسلّمه بولس ليوصله إلى اليهود وإلى اليونانيّين. هو إنجيل يتوجّه إلى كلّ إنسان. فما حُصر في شعب من الشعوب، ولا في فئة من الفئات. يكفي الإنسان أن يؤمن لكي يتسلّم البشارة. ينطلق الرسول من أمانة الله لكي يصل إلى إيمان المؤمن الذي يجعل ثقته كاملة في الله. بمثل هذا الإيمان يحيا البار.

*  *  *

في البداية يُطرح الإنجيل، وموضوعه برّ الله. هذا البرّ هو في أصل مخطّط الله. ولكنّ الرسول تحدّث أوّلاً عن وضع الإنسان العائش في خضوع للشريعة. والطرح الذي يدافع عنه هو: ما من أحد بارّ أمام الله. لا اليهوديّ ولا اليونانيّ. كلّهم تحت الخطيئة. وكلّهم يحتاجون إلى الخلاص. فلا يستطيع اليهوديّ أن يعتبر نفسه بارًّا لأنّه نال الختان، فانتمى إلى الشعب الأوّل. لا شكّ في أنّه يمتلك الشريعة، ولكنّه لا يمارسها. واليونانيّ (أي: غير اليهوديّ، لأنّ الرسول ينطلق من العالم اليهوديّ ليصل إلى كلِّ إنسان لا يهوديّ) عرف الله حين نظر إلى الطبيعة، ولكنّه أساء استعمال هذه المعرفة. وهو لا يستطيع أن يقول: ما وصل إليّ وحيٌ. وبالتالي، لم أعرف الشريعة. وبالتالي لا أعرف الخطيئة، ولا أحتاج إلى خلاص. منذ الآن انطلق. فشريعة الله مسجّلة في ضميره ومعرفة الله مطبوعة في قلبه. ونتيجة ما قيل عن اليهوديّ والوثنيّ، هو أنّ ما من أحد يتبرّر بأعمال الشريعة. فالشريعة تكشف عبوديّة الإنسان العائش في نظام الخطيئة.

قال بولس: "هل نحن اليهود أفضل عند الله من اليونانيّين؟ كلاّ. لأنّ اليهود واليونانيّين، كما سبق القول، خاضعون جميعًا لسلطان الخطيئة. فالكتاب يقول: ما من بارّ، لا أحد" (3: 9). لا شكّ في أنّ اليهود سبقوا الوثنيّين، فدخلوا في مخطّط الخلاص ونالوا المواهب. ولكنّ خيانتهم للعهد جعلتهم على مستوى الوثنيّين. ما من إنسان إلاّ وهو في قبضة الخطيئة. والانتماء إلى شعب العهد لا يعطي فضلاً ولا أفضليّة لليهوديّ على الوثنيّ، في نظر الله الذي لا يحابي الوجوه.

بعد كلام عن الخطيئة، يعود الرسول إلى المبحث الخاصّ بالرسالة: برّ الله. يبدأ كلامه مع "الآن". إنّه يريد أن يؤوّن لمؤمني رومة ما بدا إجماليًّا وعامًّا. في يسوع المسيح، كشف الله برّه الذي يتلخّص في هذه العبارة: الله بارّ لأنّه يبرّر الخاطئ، ولا يضع شرطًا لذلك. كلّ هذا كشفه في موت يسوع وقيامته. أجل، الله يبرّر بالإيمان، أي بثقة تضعها في برّه. فلا نستند إلى أعمال الشريعة. وهذا ما يبيّنه العهد القديم في شخص إبراهيم الذي صار أبًا لكلّ مؤمن، والنموذج الأوّل.

"وماذا نقول في إبراهيم أبينا في الجسد، وما جرى له؟ فلو أنّ الله برّره لأعماله، لحقّ له أن يفتخر، ولكن لا عند الله. فالكتاب يقول: آمن إبراهيم بكلام الله، فبرّره لإيمانه" (4: 1-3). فالافتخار (أو بعض الكبرياء) هو مبحث محوريّ في فكر بولس. فالخطيئة هي، في جوهرها امتداد الإنسان وكبرياؤه، بأن يقف أمام الله مثل الفرّيسيّ الآتي إلى الهيكل ليصلّي. يُنشد أعماله ويعتبر نفسه بارًَّا. ذاك هو وضع اليهوديّ. أمّا اليونانيّ، فيعود إلى حكمته وهكذا ننسى أنّنا من الله. وما نملك هو من الله. كلّ ما فينا ولنا هو عطيّة من الله. والإيمان يكون بالاعتراف أنّنا نتسلّم كلَّ شيء من نعمة الله. فبماذا نستطيع أن نفتخر، أن يُفاخر اليهودُ على اليونانيّين. ما كان لنا دمّره يسوع السميح حين دمَّر عالم الخطيئة في آدم. وما هو لنا الآن هو عمل يسوع المسيح.

*  *  *

وهكذا ينتقل الرسول من مبحث إلى مبحث. من برّ الله إلى وجود المؤمن وحياته المبرّرة. ويبدأ: "فلمّا برّرنا الله بالإيمان، نعمنا بسلام معه بربّنا يسوع المسيح. وبه دخلنا، بالإيمان، إلى هذه النعمة التي نقيم فيها، ونفتخر على رجاء (المشاركة) في مجد الله" (5: 1-2). هذه النعمة هي الإطار الذي فيه يتبرّر المؤمن مجّانًا، في يسوع المسيح. صار خليقة جديدة. عندئذٍ لا يحقّ له أن يفتخر بأنّه استحقّ التبرير. بل هو يفتخر بالرجاء، الذي (شأنه شأن الإيمان) يستند إلى رحمة الله، وإلى أمانته لمواعيده.

أجل، تبرّر المؤمنون فعرفوا السلام مع الله، بعد أن كانوا أعداء له ومعادين. تصالحوا مع الله. "والفضل بذلك لربّنا يسوع المسيح" (آ 11). في آدم، كان البشر خاضعين للخطيئة. أجل، في الإنسان البشريّ الذي لا ينعم بحضور الله وقدرته. ولكنّهم الآن، يعيشون في المسيح خاضعين للبرّ.

"فكما أنّ خطيئة إنسان واحد قادت البشر جميعًا إلى الهلاك، فكذلك برُّ إنسان واحد يبرّر البشر جميعًا فينالون الحياة. وكما أنّه بمعصية إنسان واحد صار البشر خاطيئن، فكذلك بطاعة إنسان واحد يصير البشر أبرارًا" (آ 18-19).

بالأَولى، بالأَولى، بالأَولى. تجاه الخطيئة النعمة. وتجاه الموت الحياة. في آدم ثمّ الوضع الأوّل. وبالأَولى في يسوع المسيح. خطيئة إنسان واحد كانت لها مثلُ هذه النتيجة، فماذا تكون نتيجة هبة الله؟ "تقود البشر إلى البرّ" (آ16). وهكذا "تسود الحياة بواحد هو يسوع المسيح، أولئك الذين ينالون فيض نعمة وهبة البرّ" (آ 17).

*  *  *

استعاد هنا بولس فكرة معروفة في تفسير تك 1-2، حسب العالم اليهوديّ المتحدّث في اللغة اليونانيّة. مثلاً، فيلون الإسكندرانيّ: إنّ آدم، الذي يروي تك 2 أنّه جُبل ترابًا من الأرض، هو نسخة عن آدم أوّل، خُلق وبقي في حالة مثاليّة. أمّا في نظر بولس، فما بقي آدم في حالة نموذج مثاليّ. تماهى مع شخص المسيح، فصار آدم الثاني الذي فيه ينال الوجودُ المبرَّر، النعمة والحياة.

وتتواصل البراهين في توسّعين متوازيين: الوجود المبرَّر لم يعد خاضعًا للخطيئة، بل للبرّ. فبالعماد مُتنا مع يسوع المسيح لنحيا حياة جديدة.

"فإذا كنّا مُتنا مع المسيح، فنحن نؤمن بأنّنا نحيا معه. ونعلم أنّ المسيح، بعدما أقامه الله من بين الأموات، لن يموت ثانية، ولن يكون للموت سلطان عليه، لأنّه بموته، مات عن الخطيئة مرّة واحدة. وفي حياته يحيا لله. فاحسبوا أنتم أيضًا أنّكم أموات عن الخطيئة، وأحياء لله في المسيح يسوع ربّنا" (6: 8-11).

هذه الحياة الجديدة تدشّنت منذ الآن على الأرض، وتكتمل في قيامة الموتى. هي واقع وحقيقة. ونحن لا ندركها إلاّ في الإيمان. نلاحظ هنا تضامن المسيح معنا في الخطيئة، وإن لم يعرف الخطيئة. وإذ مات وقام، حرّر الذين اتّحدوا به، من سلطان الخطيئة.

*  *  *

في توسّع ثانٍ، نعرف أنّ الوجود المبرَّر لا يُعاش في خضوع للشريعة. فالخطيئة مالت بحياتنا عن وظيفتها منذ آدم، فصارت أداة موت. ولكنّ قدرة الروح هي هنا، وهي تعمل.

"فحين كنّا نحيا حياة الجسد، حياة الإنسان البشريّ، حياة اللحم والدم بما فينا من ضعف، كانت الأهواء الشرّيرة تعمل في أعضائنا لتُثمر للموت. ولكنّنا الآن تحرّرنا من الشريعة، لأنّنا مُتنا عمّا كان يقيّدنا، حتّى نعبد الله في نظام الروح الجديد، لا في نظام الحرف القديم" (7: 5-6).

الشريعة المذكورة هنا، هي شريعة موسى. وبالتالي كلّ شريعة نحاول أن نستند إليها لكي ننال الخلاص من دون المسيح، أو نجد فيها "مساعدًا" للمسيح، وكأنّنا لا نستطيع أن نضيف شيئًا على ما يحمله إلينا المسيح من خلاص. ونلاحظ هنا أنّ الرسول لا يحصر كلامه في وجهات عفّاها الزمن من هذه الشريعة، مثل الختان والفرائض الطعاميّة. بل هو يتطلّع إلى شريعة موسى على أنّها شريعة خلقيّة آتية من الله، وفارضة نفسها على الإنسان من الخارج. نجد أنّ ما يقوله الرسول عن شريعة موسى، ينطبق على كلّ خلقيّة تدلّ الإنسان على طريق يتبعه ولا تعطيه القدرة لكي يعمل. فالإنسان "مريض"، وهو بالتالي لا يقدر أن يحمل ثقلاً جديدًا. لا بدّ من خلقه ثانية، بقوّة آتية من الله، لكي يستطيع أن يمارس الشريعة، فلا بدّ من وضع حياة جديدة فيه. حينئذ يصبح العمل بالشريعة، ثمرًا يطلع بشكل طبيعيّ بعد أن تطعّمنا في المسيح.

*  *  *

كلّ هذا يتعلّق بالبشريّة كلّها، باليهوديّ كما باليونانيّ. غير أنّ أمام الرسول حالة خاصّة نغّصت حياته، فقال" "أتمنّى أن أكون محرومًا ومنفصلاً في سبيل إخوتي، بني قومي، الذين هم من لحمي ودمي" (9: 3). مثل هذا المنحنى وما فيه من إفراط، يدلّ على حبّ الرسول لشعبه. وعلى حزنه لأنّهم رفضوا أن يواصلوا المسيرة لكي يبلغوا إلى المسيح "لهم العهود والمجد والشريعة والعبادة..." (آ 4). ومع ذلك، زلّت قدمهم (11: 11) وصار الخلاص لغير اليهود.

هي مسألة لاهوتيّة أساسيّة يتطرّق إليها الرسول: إن كان الله يبرّر بالإيمان. لا بالشريعة الموسويّة (وغيرها). وإن كان شعب إسرائيل بأكثريّته لبث أمينًا للشريعة ورفض الإنجيل، فهل يعني هذا أنّ الله صار خائنًا، فتناسى الوعود التي أعطاها لشعبه؟

وقدّم بولس الجواب أكثر من مرّة، وفي النهاية قدّم حلاًّ يتماسك مع إنجيله، بحيث يُقنعنا. إستعاد الرسول إنجيله حول البرّ والدخول في مخطّط الله. فقال: سجن الله جميع البشر في العصيان، ليدلّ على رحمته الواسعة تجاه جميع البشر.

ما فهم الرسول. ولا استوعب هذا الوضع المؤلم. فدخل في سرّ الله، وغاص في بحره العميق. قال: "ما أعمق غنى الله وحكمته وعلمه! وما أحبّ إدراك أحكامه وفهم طرقه" (11: 33). عاد إلى نبوءة أشعيا: "كما علت السماوات عن الأرض علت عن طرقكم طرقي. وأفكاري علت عن أفكاركم" (أش 55: 9). وسبق النبيّ فقال: "لا أفكاري أفكاركم، يقول الربّ، ولا طرقي طرقكم". كما عاد إلى مز 139: "معرفتك هذه ما أعجبها! هي أسمى من إدراكي" (آ 6). ما أصعب أفكارك عندي يا الله، ما أثقل (ي ق ر) حملها، ما أكثر عديدها. أعدّها فتزيد على الرمال، وفي فهمها أقضي أيامي" (آ 17-18).

*  *  *

"فأناشدكم، أيّها الإخوة، برأفة الله، أن تجعلوا من أنفسكم ذبيحة حيّة، مقدّسة، مرضيّة عند الله. فهذه هي عبادتكم الروحيّة" (12: 1). إذا كانت رحمة الله هي أساس حاتنا، فالجواب يكون تقدمة نفوسنا في موقف ليتجلّى في حياة الجماعة المسيحيّة. سبق الرسول وقال: "كما جعلتم من أعضائكم عبيدًا للدنس والشرّ في خدمة الشرّ، فكذلك اجعلوا الآن من أعضائكم عبيدًا للبرّ في خدمة القداسة" (6: 19).

"الدنس" أي اللاطهارة. "الشرّ" أي اللاناموس، اللابرّ. هذه الأعضاء التي تركت الطهارة والنقاوة والناموس والبرّ، قادت الإنسان إلى الشرّ، إلى اللابرّ. أي إلى رفض العمل بمشيئة الله، لهذا قيل "العصيان" على الله.

هذا في الماضي. وماذا يكون اليوم؟ يكون الهدف البرّ والصدق في التعامل مع الله وطريق القداسة. فالمؤمن مقدَّس. لم يعد ملك نفسه. صار للمسيح. تكرّس لله، فما عاد يحقّ له أن يتصرّف كما في السابق، حين كان عبد أهوائه وشهواته. تجاه اللابرّ الذي يغرق فيه عبدُ الخطيئة، نجد البحث عن القداسة في حياة ترضي الله. بعد أن صار المؤمن عضوًا في جسد المسيح، عليه أن ينمو في هذه القداسة، ليكون متجانسًا مع المناخ الذي يقيم فيه.

*  *  *

عمليًّا، كيف يعيش المؤمن هذه القداسة؟ أوّلاً، داخل الجماعة المسيحيّة. ثانيًا، في مجتمع وثنيّ يحيط به. أمّا الطاعة المطلوبة في الوجود اليوميّ، فهي العبادة التي نؤدّيها لله. وصورة الجسد تفرض التضامن المسيحيّ وسط العالم. ويعود الرسول إلى عظة الجبل بما فيها من توصيات حول الردّ على الشرّ بالخير، حول تقبّل الاضطهاد بالبركة، حول البحث عن السلام والعمل من أجل السلام مع جميع الناس إن أمكن" (12: 18). وكلّ هذا يظهر في محبّة الله ومحبّة القريب.

"لا يكن عليكم لأحد دين إلاّ محبّة بعضكم لبعض. فمن أحبّ غيره، أتمّ العمل بالشريعة. فالوصيّة التي تقول: لا تزنِ، لا تقتل، لا تسرق، لا تشتهِ، وسواها من الخطايا، تتلخّص في هذه الوصيّة: أحبب قريبك مثلما تحبّ نفسك. فمن أحبّ قريبه لا يسيء إلى أحد. فالمحبّة تمامُ العمل بالشريعة" (13: 8-10).

إذا كانت محبّة القريب وحدها، هي تتمّة الشريعة في ملئها، فهذا يعني أنّ هدف الشريعة في النهاية أن تصبّ في المحبّة كما النهر في البحر. أجل، لا يكتفي المسيحيّ أن يكون مواطنًا مثل سائر المواطنين، فيقوم بواجباته تجاه الدولة والمسؤولين فيها. فعليه دين آخر، ويجب أن يدفعه: هو دين المحبّة. تنبع محبّتنا من قلب الله، من قلب الثالوث. فتصل إلى القريب، قبل أن تعود إلى الله.

*  *  *

وتنتهي الرسالة في مسألة خاصّة بجماعة رومة. هناك انشداد لاهوتيّ وعمليّ بين مسيحيّين جاؤوا من العالم اليهوديّ، فأرادوا أن يحافظوا على عاداتهم في ما يخصّ الطعام والشراب. وبين مسيحيّين جاؤوا من العالم الوثنيّ فكانوا أحرارًا بالنسبة إلى ما يقدّمه سفر اللاويّين من محرّمات. بدا الأوّلون ضعفاء عددًا وفكرًا، وهم لم يعيشوا بعد في ملء حرّيّة المسيح. فبعد أن طرد الإمبراطور كلوديوس اليهود من رومة، سنة 49، صار العنصر اليهوديّ في كنيسة رومة، أقليّة تجاه أكثريّة أتت من العالم الوثنيّ، وهي سوف تتكاثر، لا سيّما بعد أن أخذ اليهود يتحفّظون. بل يعادون المسيحيّة. يقسون على كلّ يهوديّ يؤمن بأنّ يسوع هو المسيح: يطردونه من المجمع (يو 9: 22).

والمسيحيّون الذين أتوا من الوثنيّة، أمسوا نفوسهم أقوياء. عددهم كبير جدًّا. وقد فهموا أنّ المسيحيّة حرّيّة قبل كلّ شيء. غير أنّ الرسول رفض لهم هذه الحرّيّة "الطلقة" التي لا تأخذ بعين الاعتبار "الأخ الذي مات المسيح من أجله" (14: 15). فالمسيحيّ الأمميّ (الآتي من الأمم الوثنيّة) يهتمّ بالمسيحيّ اليهوديّ، لا يحتقره. يراعي شعوره. لا يدينه إذ يحسبه متخلّفًا. والمسيحيّ اليهوديّ لا يحكم على الأمميّ، ويعتبره قليل الإيمان، لأنّه لا يمارس شريعة موسى. والمبدأ: حياتنا ملك الربّ، لا ملك إخوتنا. فلماذا نريد أن نوجّهها كما نشاء، بحسب عاداتنا وتقاليدنا؟ لا يحقّ لليهوديّ أن يدين الأمميّ، ولا الأمميّ أن يدين اليهوديّ. إن ثبت أخي فللربّ يثبت. وإن سقط فالربّ "قادر على أن يثبته" (14: 4). وفي النهاية، نطلب السلام وبنيان بعضنا بعضًا. هكذا نتمّ شريعة المسيح.

*  *  *

تلك كانت نظرة سريعة إلى رسالة القدّيس بولس إلى رومة. انتهت بسلسلة من الأسماء. بعضهم من أصل يهوديّ، وآخرون من أصل وثنيّ. كلّهم سلّم عليهم بولس وقد يكون عرفهم هنا أو هناك. فهو رسول الأمم الذي انطلق من محيط يهوديّ. لهذا أراد أن يضمّ إلى قلبه اليهود والأمم. والختام: "المجد لله القادر أن يثبّتكم في الإنجيل" (16: 25). "المجد لله الحكيم وحده بيسوع المسيح إلى الأبد" (آ 27).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM