الفصل الرابع :القدّيس بولس في زمانه

الفصل الرابع
القدّيس بولس في زمانه
مقدّمة لرسائله

مقدّمة
بولس الرسول إنسان في مجموعة، شخصيّة متعدّدة الجوانب يسحرنا ويثير فينا الرفض. هو ابن مدنيّتين: مدنيّة يهوديّة، ومدنيّة يونانيّة. طبعه من صخر لا يلوي ولا يلين. والحياة معه صعبة حين تكون القضيّة متعلّقة بالرسالة. بطرس ومرقس وبرنابا والكورنثيّون اختبروا أطباعه. أتقن فنّ الشرح الكتابيّ لدى الرابّانيّين إلى درجة جعلتنا نسير وراءه في حججه ونضيع، ولكنّنا في الوقت ذاته نكتشف شخصًا يملأنا إعجابًا. كلّه عطف ومحبّة ويندفع كلّ الاندفاع حين يعبّر عن حبّه لربّه الذي أمسك به على طريق دمشق، ويشتعل غيرة من أجل الذين تمخّض بهم ووولَدهم للمسيح.
عن بولس هذا سنتحدّث فندخل في المحيط الذي عاش فيه ونطّلع على دعوته وأسفاره وما تركه لنا من رسائل.

أ- محيط القدّيس بولس
كم نوّد أن نكتب سيرة حياة ذلك الذي كان أعظم المرسلين، شاول الطرسوسيّ الذي اهتدى إلى الربّ على طريق دمشق. ولكنّ معلوماتنا ضئيلة.
وُلد بولس حوالي السنة الخامسة ب. م.، والكتاب يعتبره "فتى" (أع 58:7) يوم رجم إسطفانس. كم سنة قضاها في طرسوس موطنه؟ حتّى الدروس الجامعيّة! وسيتعلّق قلبه بهذه المدينة التي ولد وترعرع فيها وحمل إليها الرسالة قبل أن ينطلق إلى أقطار بعيدة (أع 9: 30؛ 25:11؛ رج غل 1: 21). وفي خطّ مقابل نعرف أنّه نشأ في أورشليم (أع 3:22) وكان له أخت نعرف في أورشليم أحد أبنائها (أع 16:23) الذي ينبّه قائد الألف إلى الخطر المحدق بخاله.

1- يهوديّ من طرسوس
ما هي هويّته؟ يقول هو عن نفسه: "أنا يهوديّ من أصل طرسوسيّ". وطرسوس مدينة من كليليكية غير مجهولة (أع 21: 39). "إنّي مختون في اليوم الثامن لمولدي وإنّي من بني إسرائيل من سبط نيامين، عبرانيّ من العبرانيّين. أمّا في الشريعة فأنا فرّيسيّ" (فل 5:3).
إذًا وُلد بولس في أسرة يهوديّة تُفاخر بأصلها وتتعلّق بإيمانها. كان والده حائكًا كما سيكون هو، ولكنّ حالته كانت ميسورة لأنّه حصل على امتياز حسده عليه الكثيرون هو المواطنيّة الرومانيّة (أع 25:22-28)، وسيستفيد مرارًا منه (أع 37:16؛ 22: 25-29؛ 27:23)، كما سيقدّر السلام الرومانيّ الذي نعم به فدعا المؤمنين في رومة إلى الولاء للسلطان: "ليخضع كلّ امرىء للسلطات، فلا سلطة إلاّ من عند الله..." (رج روم 13: 1-7). غير أنّ هذا لا يعني أنّه لم يكن قاسيًا تجاه المجتمع الرومانيّ المرفّه الذي يعرض شهواته بوقاحة (روم 1: 18-32).
ما هو اسمه؟ إذا رجعنا إلى الرسائل نجد دومًا اسم بولس الذي هو رسول المسيح (1 كور 1: 1؛ 2 كور 1: 1). ولكنّ لوقا احتفظ لنا في سفر الأعمال باسمه الساميّ شاول، ولن يبدأ بالتحدّث عن بولس إلاّ حين يلتقي الرسول بحاكم جزيرة قبرص سرجيوس بولس فيقول: "شاول، ويدعى أيضًا بولس" (أع 9:13). هل بدَّل بولس اسمه في ذلك الوقت؟ لا، ولكنّ استعمالَ اسمين كان أمرًا معروفًا في حوض البحر الأبيض المتوسّط. فيوحنّا الذي كتب الإنجيل الثاني يحمل أيضًا اسم مرقس (أع 12: 12)، وأحد أنبياء الكنيسة الأولى سيلا اتّخذ اسمًا رومانيًا سلوانس (أع 15: 27؛ 1 تس 1: 1). ثمّ إنّ كلمة "ساولوس" تدلّ في اليونانيّة على الرجل المخنّث، فكيف لا يبدّل رسولنا اسمه وهو المعروف برجولته وصلابته.
لن نتحدّث عن طرسوس موطن بولس إلاّ لنقول أنها كانت مدينة جامعيّة نشيطة ضمّت في جوانبها ما يقارب 300.000 نسمة وعرفت كما عرفت سائر المدن الرومانيّة العبادات الوثنيّة ولا سيّما عبادة رومة والإمبراطور. كلّ هذا جعل عائلة بولس تغذّي احتقارًا لمثل هذه الديانات، ولن نتصوّر يومًا أن يقابل بولس الإيمان بالمسيح المائت والمنبعث بشعائر العبادات السرّيّة التي عرفها العالم الوثنيّ.
أمّا بالنسبة إلى العالم اليهوديّ، فبولس هو من يهود الشتات أي الذين تشتّتوا خارج فلسطين قبل المسيح بمئات السنين وظلّوا متعلّقين بأورشليم (رج أع 9:2- 11). كان عددهم يقارب الثلاثة ملايين، وكانوا يعتبرون نفوسهم مسؤولين عن الشريعة لينقلوا إلى العالم أنوارها الخالدة (حك 18: 4). والتجّار خاصّة ربطوا فنّ التجارة بغيرة دينيّة فهدَوا الكثير من الوثنيّين إلى عبادة الإله الواحد. ولقد روى مثلاً فلافيوس يرسيفوس ارتداد العائلة الملكيّة في حدياب وهي منطقة تقع شرقيَّ الفرات.
هؤلاء اليهود في شتات البحر المتوّسط أخذوا باللغة اليونانيّة وردّدوا كلمات التوراة في هذه اللغة بعد أن ترجمت إليها السبعينيّة في القرن الثالث ق. م. في الإسكندريّة. واعتادوا أن يجتمعوا في المجامع كلّ سبت يستمعون إلى كلمة الله ويمارسون المشاركة في خيرات الأرض، وسيسمع بولس معهم هذا الاعتراف بالإله الواحد الذي يردّده المؤمنون: "إسمع يا إسرائيل، الربّ إلهنا ربّ واحد فأحبب الربّ إلهك بكلّ قلبك وكلّ نفسك وكلّ قدرتك" (تث 4:6- 5).

2- فرّيسيّ من أورشليم
ويحدّثنا بولس عن نفسه: "في الشريعة أنا فرّيسيّ، وفي الغيرة فأنا مضطِدُ الكنيسة وفي التقوى حسب الشريعة فأنا بلا لوم" (فل 3: 5-6). "نشأت هنا في هذه المدينة (أي في أورشليم) وتعلّمتُ عند قدمي جملائيل شريعة آبائنا تعليمًا صالحًا موافقًا لشريعة الآباء وكنت غيورًا على خدمة الله مثلكم أنتم جميعًا في أيّامنا هذه" (أع 3:22).
الفرّيسيّة حركة تهدف إلى تكوين جماعة من الأنقياء داخل شعب إسرائيل. الفرّيسيّ هو من انفصل عن الآخرين وعاش في عالم قدسيّ يميّزه عن سائر الناس. والفرّيسيّون يعتبرون الشعب كلّه مدعوا إلى القداسة فيفرضون على الجميع ممارسة شعائر الطهارة المطلوبة في البداية من الكهنة وحدهم، ويعطون الأهمّية الكبرى لتقاليد الآباء الموروثة من موسى كما يقولون.
أمّا مدارس الكتبة فكانت بأكثريّتها في يد الفرّيسيّين. كانت مدرسة أورشليم ومدرسة بابل التي جاء منها رابي هلاّل. وجاء بولس من طرسوس إلى أورشليم القدس ليتعمّق في علومه الدينيّة: قراءة التوراة كلّها، شرح النصّ شرحًا حرفيًّا ثمّ درسه وتفسيره واستخلاص العبرة الروحيّة منه. أمّا طريقة التعليم فتستند إلى الذاكرة والتكرار وكانوا يقولون: الطالب النجيب يشبه اسفنجة تتشرّب من تعليم المعلّم أو بئرًا جديدة لا تخسر نقطة ماء واحدة.
في هذا الإطار المدرسيّ تربّى بولس وبهذه الروح الفرّيسيّة الغيورة على ديانة الآباء سيتصرّف فيكون ذلك المضطهِدَ لكنيسة الربّ. حين كانوا يرجمون إسطفانسَ كان شاولُ هنا (أع 58:7)، بل بدأ يضطهد الكنيسة في أورشليم فيدخل البيوت "ويخرج الرجال والنساء ويلقيهم في السجن" (أع 3:8). ولن تكفيه أورشليم، بل طلب رسائل إلى مجامع دمشق حتّى إذا وجد أناسًا على هذه الطريقة المسيحيّة، ساقهم موثقين إلى أورشليم (أع 9: 2). ويقول عن نفسه في دفاعه أمام أغريبا: "أمّا أنا فكنت أعتقد أنّه يجب أن أقاوم اسم يسوع الناصريّ بكلّ جهدي، وهذا ما فعلت في أورشليم فسجنت بتفويض من رؤساء الكهنة عددًا كبيرًا من القدّيسين المؤمنين بيسوع، ولمّا كانوا يُقْتَلون كنت موافقًا على قتلهم. وكثيرًا ما عذّبتهم في كلّ مجمع لأجبرهم على الكفر بإيمانهم، واشتدّت نقمتي عليهم حتّى أخذت أطاردهم في المدن التي في خارج اليهوديّة" (أع 9:26- 11). وسيكتب في رسائله أنّه اضطهد كنيسة المسيح (1 كور 9:15؛ غل 1: 13، 23؛ فل 6:3) ومع ذلك قبل الربّ أن يجعل منه رسولاً.
نشير هنا إلى أنّ الاضطهاد هذا ضدّ الكنيسة بدأ ضدّ فئة الهلّينيّين لمواقفهم الجذريّة ضدّ شعائر العبادة في الهيكل (أع 6: 13 ي). ونوضح الأسباب التي حدت شاول على اضطهاد أتباع يسوع الناصريّ. فالمصلوب لا يمكن أن يكون المسيح، لأنّه بصلبه صار ملعونًا من قبل الله كما يقول الكتاب (تث 23:21؛ رج غل 13:3 وشرح بولس لهذه الآية).
ثمّ إنّ بولس يوم سمع إسطفانس أدرك نتائج تعليمه الذي يهدّد نظام الشريعة، وكافة حياة شعب الله في العالم. الإيمان المسيحيّ بدا لبولس نفيًا لمثال يدعو إلى ممارسة فرائض الشريعة ممارسة دقيقة. ولهذا تصرّف عن غيرة وحماس كما يقول عن نفسه، ولكن بعد اختياره على طريق دمشق تحوّل هذا الحماس من "ضدّ المسيح" إلى "مع المسيح".

ب- دعوة بولس ليكون رسول الأمم
يشكّل ارتداد شاول المضطهد محطّة هامّة في تاريخ الكنيسة في مهدها، لأنّه سيرمي شبكة الإنجيل إلى البعيد فيطوّر طرق التبشير التي أخذ بها الرسل الذين رافقوا يسوع منذ معموديّة يوحنّا إلى الصعود (أع 1: 21-22).
ربط لوقا في أعمال الرسل بين موت إسطفانس وارتداد بولس، فبيّن لنا أنّ صلاة إسطفانس لأجل جلاّديه قد استجيبت (أع 7: 6-8: 1). ولكنّ فترة من الزمن تفصل بين اضطهاد الهلّينيّين وإيفاد شاول إلى دمشق. ويقول لنا بولس في رسالته إلى أهل غلاطية (1: 18) إنّه بعد ثلاث سنوات من ارتداده في دمشق صعد إلى أورشليم؛ ويقول لنا أيضًا (غل 2: 1) إنّه صعد مرّة ثانية إلى أورشليم، بعد أربع عشرة سنة، لحضور مجمع الكنيسة الأوّل الذي عقد على ما يبدو سنة 48. أمّا ارتداد بولس فقد تمّ سنة 34 ب.م.

1- شهادة بولس
ما حاول بولس يومًا أن يكتب مذكّراته. فهو رسول، وهمّه الأوّل أن ينقل البشارة من مدينة إلى مدينة. وهو لا يعود إلى الماضي إلاّ بقدر ما تفرض عليه الظروف ذلك. كلّ مرّة يصل إلى مجمع أو ساحة عامّة فهو بحاجة إلى "رسالة توصية" لأنّ الخطباء الشعبيّين والواعظين بالديانات والعرّافين والسحرة كانوا كثرًا. ففي قبرص سيصطدم بولس بساحر من أصل يهوديّ اسمه بريشوع ويلقّب بعليم (أع 13: 6-8)؛ وفي أفسس سيزاحمه بعض اليهود المتجوّلين الذين يطردون الأرواح الشريرة (أع 19: 11-17)؛ وفي أثينة سيحسبه الناس مبشرًّا بآلهة غريبة (أع 17: 19). وسيشكوه أعداؤه أنّه أشعل نار الفتنة في المدينة (أع 17: 6-7).
دافع بولس عن نفسه في أوّل رسالة كتبها. تال: "فما كلّمناكم بكلام التمليق (على مثال المشعوذين) كما تعرفون، ولا أضمرنا مطمعًا (على مثال السفسطائيّين)، يشهد الله، ولا طلبنا المجد من الناس لا منكم ولا من غيركم، مع أنّه كان لنا حقّ عليكم لأنّنا رسل المسيح" (1 تس 2: 5-6). هذه هي أهميّة الرسول في العالم الفلسطينيّ: المرسل هو مثل من أرسله (مت 10: 40). أمّا بولس فأبرز خاصّيّة الوظيفة الرسوليّة، فقدّم نفسه على أنّه نبيّ المسيح وخادم العهد الجديد. ومقدّمة الرسالة إلى رومة تدلّ على معنى كلمة رسول بحسب نظرة القدّيس بولس: "بولس عبد يسوع المسيح الذي دعاه الله ليكون رسولاً واصطفاه ليعلن إنجيل الله... بالمسيح نلنا النعمة لنكون رسولاً فندعوَ جميع الشعوب الوثنيّة أن تخضع له بالإيمان لمجد اسمه" (روم 1: 1، 5). مدعوّ ورسول، كلمتان تعبّران عن الجوهر. فبولس كالأنبياء في الماضي وكالرسل في الجليل هو موضوع اختيار مجّانيّ من أجل رسالة ما زالت آفاقها تتّسع. وعندما يكتب بولس إلى الجماعات التي أسّسها، ما كان يحدّثهم عن ظروف دعوته فيبدو كتومًا في ما يخصّ النعم الروحيّة االتي أنعم الله بها عليه. ولكنّ هناك ظروفًا دفعته فيها حاجة الكرازة والدفاع لأن يبيّن أصالة رسالته. سنورد النصوص الأساسيّة قبل أن نستخلص أفكارها الرئيسة.
- بولس رسول لأنه رأى الربّ (1 كور 1:9).
- كان بولس المضطهِد القديم فصار أحد الشهود الرحميّين لقيامة المسيح وأعلن الإنجيل عينه الذي أعلنه كيفا (أي بطرس)، والاثنا عشر، يعقوب وسائر الرسل (1 كور 15: 1– 11).
- أدرك المسيح بولس على طريق دمشق فعلّمه أن يضحّيَ بالقيم القديمة ليجد خلاصه في الإيمان (فل 3: 4-16).
- دعاه الربّ هو المضطهد القديم فشهد على قدرة نعمته (1 تم 1: 12- 14).
ماذا نستخلص من هذه النصوص؟
- لا يصوّر بولس الرؤيا التي حصل عليها، ولكنّه متيقّن من أنه التقى الربّ. غير أن الكلماتِ أعجزُ من أن تعبّر عن هذا الوحي (غل 1: 12). المجد والنور هما الصورتان اللتان تساعداننا على تصوّر السرّ (رج 2 كور 4: 6).
- جاءت المبادرة من الآب (غل 1: 15)، فأحسّ بولس بنفسه أنّه في خطّ أنبياء العهد القديم. لهذا لجأ إلى عبارات مأخوذة من رسالة إرميا أو عبد الله المتألّم.
- تراءى له يسوع (2 كور 15: 5، 7، 8) وتدخّل في حياته بطريقة إيجابيّة فكان اللقاء. وسيكتب بولس إلى أهل فيلبيّ فيقول لهم إنّ المسيح يسوع أمسك به (فل 12:3) فكيف يستطيع أن يرفس المهماز (أع 14:26)؟
لم يتضمّن عمل المسيح فقط رؤية وتعليمًا بل تحويلاً حميمًا. جعل بولس رسولاً شأنه شأن الاثني عشر، ورسالته لا ترتبط إلاّ بالمسيح.
أُرسل بولس بطريقة خاصّة إلى الأم الوثنيّة، ولكنّه لم يعِ هذا الواقع إلاّ تدريجيًّا. بدأ يتلمّس طريقه منذ البداية، ولكن منذ البداية أخذ كلّ شيء في حياته يرتبط بهذا اللقاء الأوّل مع المسيح.
- ما استحى بولس يومًا من ماضيه كمضطهِد، ولكنّه شهد أنّه عمل ما عمله بنيّة حسنة. أمّا ارتداده فهو مثل واضح على قدرة نعمة الله. وهذا أمر لن ينساه بولس أبدًا في لاهوته.

2- شهادة لوقا
إحتفظ لنا القدّيس لوقا بثلاث روايات لارتداد بولس. رواية جعلها في مكانها الطبيعيّ (أع 9: 1-19) وروايتان برزتا بشكل دفاع لبولس أمام اليهود في أورشليم (أع 22: 4- 21) وأمام الحاكم فستس والملك أغريبا (أع 26: 9-18). هذا يدلّ على الأهمّيّة التي يعلّقها لوقا على الحدث. هناك اختلافات في عرض الأمور، وكلّ نصّ يهدف إلى إظهار وجهة من وجهات دعوة بولس. ففي ف 9 يبرز لوقا دور حنانيّا الموكل بإدخال الرسول في الجماعة المسيحيّة. وفي دفاعه أمام يهود أورشليم يشدّد بولس على ماضيه اليهوديّ وعلى غيرته كمضطهِد، فيميّز بين رؤية دمشق ورؤية تمّت له في الهيكل فتقبّل أمرًا بأن يبشّر الوثنيّين (أع 22: 21). أمّا أمام فستس وأغريبا، فبولس لا يتكلّم عن حنانيّا، بل يشدّد على التعليم الذي تقبّله في طريق دمشق (اع 26: 15-18). غير أنّ هذه الاختلافات في الروايات الثلاث تبرز تشديدًا على قلب الحدث: هذا الذي التقى به بولس في مجده هو يسوع الذي يضطهِدُه (أع 9: 4-5؛ 8:22؛ 26: 15).
وفي هذه العبارة نجد صدى للوحي الذي وصل إلى بولس: حضور الربّ في كنيسته.
ووصل بولس إلى دمشق... إنّ مضطهِد الأسى صار مبشِّراً عنيفًا. "كان شاول يفحم اليهود المقيمين في دمشق، مبيّنًا أنّ يسوع هو المسيح" (أع 9: 22)، ولسبب نجهله قرّر أن يذهب إلى ديار العرب (غل 1: 17) أي إلى المنطقة الواقعة شرقيَّ الأردنّ والخاضعة بعضها للرومان والبعض الآخر للحارث ملك الأنباط (8 ق. م.- 40 ب. م.). كانت الجماعات اليهوديّة عديدة في شرقيّ الأردنّ، فأمضى بولس معها سنتين محاولاً أن يجتذبها إلى الإيمان الجديد. هل نجح؟ هو لا يقول شيئًا، وما نعرفه هو أنّه صار شخصًا غير مرغوب فيه بسبب البلبلة التي أحدثتها كرازته. وحين رجع إلى دمشق أراد عامل الملك حارث أن يقبض عليه، فأفلت بولس من يديه: "دلّوه في زنبيل من كوّة في السور" (2 كور 11: 30-33). ولا تزال كنيسة صغيرة قرب الباب الشرقيّ تذكّرنا بمَا حدث هناك.
حينئذ عزم بولس على الذهاب إلى أورشليم (غل 1: 18) ليتعرّف إلى كيفا (بطرس) وهكذا كان. فقابل الواحد اختباره مع اختبار الآخر، وظهرت رغبة عند بولس في أن يتعرّف إلى كلمات يسوع الناصريّ.
غير أنّ جماعة أورشليم رفضت أن تستقبل مضطهِد الأمس، فحدّثها برنابا عن صحّة ارتداد بولس، وقدّمه إلى الإخوة (اع 9: 26- 30). ولكن رغم ذلك طلبت الجماعة من بولس أن يعود إلى موطنه ففعل. وسيذهب إليه برنابا في الوقت المناسب ويصطحبه في عمل الرسالة.

ج- رسول يلجأ إلى التعليم
أساس معلوماتنا عن بولس نجده في رسائله. ولكنّ الرسائل صعبة كما تقول الرسالة الثانية لبطرس (3: 15-16) بسبب كثافتها اللاهوتيّة وهي تُجمل في بضع كلمات تعليمًا نضج طويلاً في فكر هذا الرسول. ثمّ لا ننسَ الطابع الظرفيّ للمراسلة، لأنّ الرسالة امتداد لحديث بين اثنين. ولهذا فالتلميح يفهمه قارىء الرسالة الذي يعرف كاتبها أكثر منّا نحن الذين نبعد تسعة عشر قرنًا عن زمن كتابتها. فلا بدّ من التأويل وكثير من المخيّلة لنكتشف الأحداث التي دفعت بولس لينشد نشيد الفرح، أو لنطلعّ على الباع التي يتصدّى لها بولس وهو العارف بنتائجها.

1- بولس إنسان مغرم بالإنجيل
هو رسول قبل أن يكون كاتبًا. والصرخة التي خرجت من قلب إنسان أمسكه المسيح (فل 3: 12) هي: "الويل لي إن لم أبشّر" (1 كور 9: 16). هو لا يستطيع إلاّ أن يعلن في كلّ مكان وأمام كلّ إنسان إيمانه بالحبّ الفادي (2 كور 5: 14 ي).
دفع المسيح بولس فراح يبحث عمّن ينقل إليه كلمة الخلاص. راح إلى المجامع وأروقة المدن والساحات العامّة، توجّه تارة إلى أبناء جنسه وتارة إلى اليونانيين، حدَّث النساء والرجال، الأحرار والعبيد، وحاول أن يجد لكلّ واحد الكلمة المناسبة. ورسائله هي سلسلة من الأحاديث مع المؤمنين الذين كسبهم للمسيح، تجعلنا نشعر باهتمامه بكلّ الكنائس. "من يضعف ولا أكون ضعيفًا؟ من يسقط ولا أحترق" (2 كور 28:11 ي)؟
إهتدى بولس على طريق دمشق فأحسّ بتمزّق في حياته. تلاشت في لحظة واحدة قيم تعلّق بها، واستنارت قيم أخرى. (كلّ هذه الأشياء التي كانت لي ربحًا اعتبرتها من أجل المسيح خسرانًا، بل أَعُدّ كلّ شيء خسرانًا من أجل الربح الأعظم الذي هو معرفة ربّي يسوع المسيح" (فل 7:3-8).
إنطبع لاهوت بولس بهذا الاختبار الروحي فأخذ بالتناقضات التي يجب أن لا نفهمها على ظاهرها. قال: "أضيفت الشريعة من أجل المعاصي" (غل 3: 19). وقال: "لا أريد أن أعرف إلاّ يسوع المسيح وإيّاه مصلوبًا" (1 كور 2: 2). فهل تراه تناسى لاهوت القيامة؟ لا وألف لا. هنا لا بدّ من تكملة التعابير التناقضيّة بتعابير توازنها. مثلاً: "الشريعة مقدّسة" (روم 7: 12). وأيضًا: "لولا قيامة المسيح كان إيماننا باطلاً" (1 كور 15: 14). "كلّ شيء يحلّ لي" (1 كور 6: 12؛ 10: 23): هذا هو كلام بعض الناس في كورنتوس، ولكنّ بولس يبدي تحفّظاته على هذا القول: "يحسن بالرجل أن لا يمسّ امرأة" (1 كور 7: 1). ولكنّنا لسنا أمام مبدأ لا يُناقَش، وسنعرف في ما يلي أنّ بولس يعظّم البتوليّة ولا يحتقر الزواج.

2- وسائل الكتابة
كتب بولس رسائلَ، ولكنّ لصاحب الرسائل همومه. لا بدّ من إيجاد الرقّ أو ورق البرديّ؛ لا بدّ من إيجاد الكاتب نملي عليه أو نعطيه الفكرة ونتركه يتوسعّ فيها كما يشاء. أمّا القدّيس بولس فكان يملي رسائله، فتندفع الأفكار فلا يكمّل جملة بدأ بها (غل 2: 4؛ روم 5: 12). نحن نعرف اسم كاتب الرسالة إلى أهل رومة: ترتيوس (روم 16: 22) وقد أرسل سلامه إلى الإخوة. ومرّات يزيد بولس بخطّه الكبير الكلمات الأخيرة ليدلّ على صحّة الرسالة (غل 6: 11؛ فلم 19) لأنّ هناك مزوِّرين يستغلّون ثقة الجماعات (2 تس 2: 2؛ 3: 7).
حين تُكتَب الرسالة تُرسَل، ولكنّنا نحتاج إلى من يحملها ومن يشرح مضمونها. هكذا كانت تتمّ الأمور في العلاقات الدبلوماسيّة: ينقل الموفد مضمون الرسالة شفهيًّا، ثمّ يقدّم النصّ المكتوب والمختوم بالشمع. حين اتّخذت جماعة أورشليم قرارها أوفدت يهوذا وسيلا وطلبت منهما أن يشرحا مضمون الرسالة. وحين كتب بولس الأولى إلى أهل كورنتوس حملها إستفاناس وفورتوناتوس وأخائيقس (1 كور 17:16). وسيحمل تيخيكس الرسالة إلى أهل كولسيّ (كو 4: 7)، وإبفريديتس الرسالة إلى أهل فيلبيّ (فل 25:2).
يصل الموفد فتستقبله الجماعة كلّها (1 تس 5: 27) فيقرأ الرسالة باحتفال كما لو كانت مقطعًا من الكتب المقدّسة: "طوبى للذي يقرأ وللذين يسمعون هذه الأقوال" (رؤ 1: 3)، ولكنّ الويلَ لمن يزيد عليها شيئًا أو يسقط شيئًا (رؤ 22: 18-19). وتتبادل الجماعات الرسائل: "بعد أن تقرأوا رسالتي أوصلوها إلى كنيسة اللاذقيّة لتقرأها بدورها. وأنتم من جهتكم إقرأوا الرسالة التي تصلكم من اللاذقيّة" (كو 4: 16). وهكذا تكوّنت مجموعة رسائل القدّيس بولس، ولعبت جماعة أفسس الدور الأبرز في تكوين هذه المجموعة.

3- أسلوب الكتابة
ويأخذ بولس بالعبارات التقليديّة في الرسائل، ولكنّه يحوّرها ويعطيها وجهة مسيحية. رسالته إلى فيلمون تشبه الرسائل الشخصيّة، ولكنّ بولس يتكلّم كرسول وهو يحاول أن يقنع صاحبه ليعفوَ عن العبد الهارب. ورسالته إلى رومة تذكّرنا برسائل الأباطرة الطويلة، ولكنّ الفصول الأخيرة تعود بنا إلى السلام والكلام.
ماذا نجد في الرسالة؟ هناك العنوان: من فلان إلى فلان، سلام. ينطلق بولس من هذا المثال ولكنّه يعرض المواضيع التي سيتوسعّ فيها. وتعود عبارة "النعمة والسلام" لأنّ المصالحة تمّت لنا بيسوع الذي هو سلامنا (أف 2: 14). ومن المفيد أن نكتشف العباراتِ الأولى وما تحمله إلينا من معلومات عن بولس وعن الجماعة التي يكتب إليها.
نهاية الرسائل طويلة: فيها السلامات المتعدّدة التي تدلّ على الرباطات الوثيقة بين الجماعات المختلفة، وفيها الأمنيّة الليتورجيّة كما في 1 كور 16: 22-24: "إن كان أحد لا يحبّ الربّ فاللعنة عليه. ماران اتا (ربّنا اتى). نعمة الربّ يسوع عليكم أجمعين. محبّتي لكم جميعًا في المسيح يسوع". وفي 2 كور 13:13: "نعمة ربّنا يسوع المسيح ومحبّة الله وشركة الروح القدس لتكن معكم جميعًا".
وفي الرسالة موضع للشكر، وبولس يتوسّع فيه منطلقًا من الليتورجيّا اليهوديّة، فيجمع فعل الشكر إلى صلاة الطلب، أو يجعل فعل الشكر تمنيّا بالبركة. يقول لصديقه فيلمون (آ 4، 6): "أحمد إلهي كلَّما ذكرتك في صلواتي... وأسأله ليجعل مشاركتك في الإيمان فعّالة". هلاّ تدارسنا الأسباب التي تدفع بولس لأن يحمد الله في الأولى إلى تسالونيكي، في الرسائل إلى كولسيّ ورومة وكورنتوس، فتعلّمُنا الكثير عن هذه الكنائس. نجد مباركة على الطريقة اليهوديّة في بداية أفسس، ولكنّ العنصر الجديد هو أنّ المسيح محور نظرة بولس.

4- رسائل بولس
نستطيع أن نقسم رسائل بولس بحسب مضمونها وزمن كتابتها إلى ما يلي: رسائل ذات طابع نهيويّ: 1 تس، 2 تس، 1 كور 15؛ رسائل تشدّد على آنيّة الخلاص وعلى حياة الجماعة: 1 كور، 2 كور، غل، فل، روم؛ رسائل الأسر وهي تشدّد على دور المسيح في الكون: كو، أف، فلم؛ رسائل مركّزة على تنظيم الجماعات واسمها أيضًا الرسائل الرعاويّة: 1 تم، 2 تم، تي.
أمّا زمن كتابتها فإليك لائحة عنه:
أرسل بولس الأولى والثانية إلى تسالونيكي من كورنتوس حيث أقام من شتاء سنة 50 إلى صيف 52 فكانت أولى أسفار العهد الجديد.
وأقام بولس سنتين وثلاثة أشهر في أفسس سنة 54- 57 ومن هناك كتب الرسائل إلى أهل كورنتوس وغلاطية وفيلبّي.
وأقام في كورنتوس في شتاء سنة 57- 58، فكتب الرسالة إلى أهل رومة. وحين كان في الأس في رومة سنة 61- 63، كتب الرسائل إلى أهل كولسيّ وأفسس وإلى فيلمون، ثمّ الرسائل الرعاويّة أي الأولى والثانية إلى تيموتاوس والرسالة إلى تيطس.

5- بولس والكتاب المقدّس
بولس ابن العالم اليهوديّ وسيعود إلى التوراة ليقدّم براهينه إلى قرّائه. هو لا يكتفي بإعلان الإيمان، بل يهتمّ بأن يبيّن أنّ الإنجيل يتوافق والكتب المقدّسة (1 كور 15: 35، 5). نجد في مجمل رسائله 76 إيرادًا للكتاب المقدّس تسبقها عبارة مثل هذه: "لأنّه كتب"، "قال الكتاب"، "أشعيا كان قد أنبأ"... في 22 حالة لا نجد عبارة الإيراد، ولكنّنا لا نشكّ في نيّة بولس أن يستند إلى الكتاب المقدّس. مثلاً في روم 3: 20: لهذا لا يُبَّررُ بشر لديه (مز 143: 2) بأعمال الشريعة. أمّا التلميحات فأكثر من أن تحصى إذ يستعمل بولس كلماتٍ كتابيّةً تأتيه في عمليّة توارد الأفكار دون أن يستعيد النصّ الذي تأتي منه هذه الأفكار.
غير أنّ بولس يدهشنا في تفسيره لبعض الآيات، كمثل استعماله للشريعة عن الثور الذي يدوس الحنطة ليبرّر أنّ الواعظ يستحقّ أجرته (تث 25: 4؛ في 1 كور 9: 9)، أو تطبيقه على الرسل (روم 18:10) لآية مز 19: 5 في ما يتعلّق بلغة الكواكب: في كلّ الأرض ذهب صوتهم. أمّا في أف 4: 8 فبولس يحوّر النصّ الأساسيّ فيقول: أعطى عطايا للناس. أمّا مز 19:68 فيقول: قبلتَ الناس بشكل جزية.
ولكي نفهم طريقة بولس، لا بدّ من التذكّر أنّه في مدرسة جملائيل كان التلاميذ يتعلّمون قواعد التفسير السبع التي جمعها ونسقّها رابّي هلاّل وهي: الاستدلال الناتج، الاستدلال بالقياس، الاستقراء انطلاقًا من نصّ كتابيّ، الإستقراء انطلاقًا من نصّين كتابيّين، استنتاج من العامّ إلى الخاصّ ومن الخاصّ إلى العامّ، توضيح مقطع كتابيّ انطلاقًا من مقطع مشابه، استنتاج انطلاقًا من القرينة.
الاستدلالات الناتجة عديدة عند بولس. ففي روم 5: 9: "المسيح مات من أجلنا إذ كنّا خاطئين، فما أحرانا اليوم وقد نلنا البرّ بدمه" (رج أيضًا روم 5: 10، 17؛ 11: 12؛ 1 كور 9: 12؛ 2 كور 8:3، 11). وينطلق بولس بتمثّل قانونيّ من حالة إلى أخرى حين يستعمل النصّ عن المساواة بين العبرانيّين في جمع المنّ ويطبّقه على العلاقات الواجبة بين المسيحيّين (2 كور 8: 15 يورد خر 18:16). ومرّات يسند الرسول استدلاله انطلاقًا من إيرادين تجمع بينهما كلمة واحدة. مثلاً في روم 4 يضمّ تك 6:15 (حُسب له ذلك برًّا) الى مز 32: 1-2 (طوبى للرجل الذي لم تحسب له خطيئته) فيستنتج تعليمه عن التبرير بالإيمان (روم 4: 11 ي).
ويتّخذ القياس شكل الخطبة أي مقابلة أحداث العهد الأوّل مع أحداث العهد الجديد. وأفضل مثل نقرأه في 1 كور 10: 1- 11: "حدث ذلك كلّه ليكون لنا مثلاً (أو نمطًا) لئلاّ تنال منا الشهوات الخبيثة كما نالت منهم" (1 كور 10-6). وفي الخطّ ذاته نقرأ ما يقوله بولس عن سارة وهاجر (غل 4: 21- 31). لا يكتفي بولس باتّباع طريقة هلال، بل يتعدّاها ليطبّق النصّ على الجماعة المسيحيّة. هنا نتذكّر أنّ بولس لا ينطلق من التوراة ليصل إلى المسيح، بل يبحث في إيمانه بالمسيح المنبعث عن إعلانات مجيئه وعلامات حضوره في العهد القديم. تفسيره مبنيّ إذًا على المسيح: الإيمان بآدم الجديد يساعده ليفهم مأساة آدم الأوّل (روم 5: 12- 21)، وواقع المعموديّة في المسيح يسمح له بأن يرى في عبور البحر الأحمر معموديّة في موسى (1 كور 10: 2). والطابع المسيحيّ لهذا التأويل يقودنا الى أبعاده عن الكنيسة: سارة، المرأة الحرّة التي تلد ابن الموعد، الهيكل، أورشليم، كلّ هذا صورة للكنيسة عروس آدم الجديد (أف 5: 21-32).

د- على طرقات العالم المعروف
1- سفرات بولس
إختلف يسوع عن معلّمي الشريعة الذين يقيمون في مدرستهم بأورشليم، فكان يجوب مدن الجليل وقراه. وبعد العنصرة خصّص الرسل مجهودهم ليبشّروا أورشليم المدينة المقدّسة. ولمّا جاء استشهاد إسطفانس تفرق الهلّينيّون (أع 8: 4) ثمّ الاثنا عشر فلم يجد منهم بولس في مجيئه الأوّل إلى أورشليم إلا كيفا ويعقوب أخا الربّ (غل 1: 18)، وخلال "مجمع أورشليم" إلاّ يعقوب وكيفا ويوحنّا (غل 9:2). نحن لا نعرف الكثير عن أسفار الاثني عشر رسولاً، ولكنّ لوقا يقدّم لنا في أعمال الرسل "يوميّات" رسالة بولس وإن لم تكن مفصّلة.
هناك سفرات ثلاث انطلقت كلّها من أنطاكية مركز الرسالة الجديد بعد أورشليم: السفرة الأولى: قبرص، بمفيلية، ليكونية (أع 13-14). مشكلة ختان الوثنيّين المرتدّين إلى المسيحية: "مجمع" أورشليم (أع 15: 1-29؛ غل 2: 1- 10). السفرة الثانية: ليكونية، بلاد غلاطية، ترواس، مكدونية (فيلبيّ، تسالونيكي)، أثينة، كورنتوس، رجوع إلى أنطاكية عبر أفسس (أع 15: 41-18: 22). السفرة الثالثة: غلاطية، أفسس (قضى فيها ما يزيد على السنتين) مكدونية وكورنتوس (في الشتاء). وعاد إلى أورشليم عبر مكدونية وميليتس. الأسر في أورشليم (18: 1-23: 22).
أما زمن هذه السفرات فنحدّده انطلاقًا من مثول بولس أمام غاليون الذي كان حاكمًا في كورنتوس سنة 51، وهكذا تمتدّ السفرة الأولى في السنوات 46-48، والسفرة الثانية في السنوات 49-52، والأخيرة في السنوات 53-58.
لن نتحدّث عن طرقات البرّ الطويلة الوعرة المليئة بالأخطار والصعوبات، ولن نتوقّف على الحديث عن السفر في البحر في تلك الأيّام. كلّ ما نقوله هو أنّ بولس اجتاز في الرحلة الأولى ألف كيلومتر، وفي الرحلة الثانية ألفًا وأربعماية كيلومتر، وفي الثالثة ألفًا وسبعماية كيلومتر.

2- صحابة بولس
يوم أرسل يسوع تلاميذه للمرّة الأولى، أرسلهم اثنين اثنين (مر 6: 7). وبولس من جهته أحاط نفسه بفريق من المعاونين في جولاته الرسوليّة حتّى تكوّن فريق عمل سنذكر أهمّ أعضائه الذين نقرأ أسماءهم في أعمال الرسل ورسائل القدّيس بولس.
في بداية حياة بولس الرسوليّة لعب برنابا الدور الأوّل. كان حائزًا ثقة جماعة أورشليم متمتعًا بموهبة نبويّة، فقدّم بولس إلى الكنيسة الأمّ وذهب إليه في طرسوس يدعوه إلى حمل الإنجيل في أنطاكية. يوم الانطلاق في السفرة الأولى كان برنابا رئيس الفريق (أع 13: 4). ولكن ما عتّمت أن انقلبت الأدوار فحدّثنا القدّيس لوقا عن بولس ورفاقه (أع 13:13). وسيسند برنابا بولس في مجمع أورشليم (غل 2: 1). ولكنّه يتردّد في أنطاكية، فيتألم بولس لهذا التردّد (غل 13:2).
في السفرة الأولى اصطحب برنابا قريبه يوحنّا مرقس، ولكنّ مرقس تراجع أمام أخطار الطريق، فرفض بولس أن يأخذه معه في السفرة الثانية (أع 15: 39)، فعاد برنابا ومرقس إلى قبرص واصطحب بولس سيلا (أو سلوانس) ذاك النبيّ الآتي من أورشليم فقاما بتبشير تسالونيكي (راجع مقدّمة 1 تس، 2 تس).
في لسترة دعا بولس تيموتاوس وكانت أمّه لئيس وجدّته أونيكة قد ارتدّتا إلى الإيمان في الجولة الرسوليّة الأولى (2 تم 1: 5). كان تيموتاوس من أب وثنيّ وأمّ يهوديّة فلم يختن مع أنّ الشريعة تفرض ذلك. ولكي يتجنّب بولس الصعوبات مع يهود الجوار قبل أن يختن تلميذه (أع 3:16) مع أنه رفض بقوّة أن يختن تلميذه الآخر تيطس (غل 3:2). يبدو لنا تيموتاوس معاونًا أمينًا للرسول الذي أرسله في مهمّات دقيقة إلى تسالونيكي (1 تس 3: 2) وإلى كورنتوس (1 كور 4: 17؛ 16: 10). ولمّا غاب عنه ابنه (رج 1 تم 1: 18) كمّا يسمّيه بولس، قلق عليه (1 تس 6:3، 2 تم 1: 4). نقصته روح المبادرة فدعاه بولس ليكون أكثر جرأة (2 تم 1: 6 ي). كان رجلاً ليّنًا فعمل مع بولس وورد اسمه مع اسم بولس في مقدّمة 2 كور، فل، كو، 1 و 2 تم.
وكان بولس يتّكل أيضًا على تيطس أحد المرتدّين الذي يسمّيه "ابني الحقيقيّ في الإيمان" (تي 1: 4). كان من عائلة وثنيّة فلم يسمح له بولس أن يختن (غل 3:2). وحين انفجرت أزمة كورنتوس وفشل تيموتاوس في حلّها، أرسل بولس تيطس فنجح نجاحًا ما كان ينتظره أحد (2 كور 6:7 ي). حمل من مكدونية إلى بولس توبة الكورنثيّين ثمّ عاد إلى كورنتوس مع بولس لتنظيم جمع الحسنات لكنيسة أورشليم (2 كور 8: 6 ي). في نهاية حياته كلَّف تيطس أن ينظم الجماعات المسيحيّة في كريت وكان ذاك عملاً صعبًا إذا تذّكرنا ما يقوله بولس عن الكريتيّين (تي 1: 12)، غير أنّه نجح في ذلك.
ولوقا الطبيب الأمين (كو 4: 14؛ فلم 24؛ 2 تم 4: 11) رافق بولس في قسم من أسفاره، وهذا نستنتجه من المقاطع المكتوبة بصيغة المتكلّم الجمع في أعمال الرسل. ما رواه ثمين جدًّا لكي نحدّد إطار رسالة بولس. أمّا تعاليم بولس فلم تظهر كثيرًا في ما كتبه.
ويمكننا أن نذكر من رفاق بولس إبفريدتس من فيلبيّ (فل 2: 25) وأبفراس من كولسيّ (كو 1: 7؛ 4: 12) وتيخيكس معاونه الأمين وموفده إلى كنيسة أفسس (أف 21:6 ي؛2 تم 12:4) وغيرهم.
ولا ننسَ العنصر النسائيّ في رسالة بولس، وقد قال لوقا إنّ نساء شريفات كنَّ بين مرتديّ تسالونيكي (أع 17: 4) وبيرية (أع 17: 12). واحتفظ لنا باسم داماريس من أثينة (أع 17: 34)، وأبرز الدور الذي لعبته ليدية، تاجرة الأرجوان في فيلبيّ (أع 16: 14)، وبرسكلّه زوجة أكيلا حاثك الخيام (أع 18: 2 ي، رج 1 كور 16: 19؛ روم 16: 3-5؛ 2 تم 4: 19).
ولا يكتفي القدّيس بولس بإيراد أسماء نساء عديدات في رسائله، بل يصف العمل الرسوليّ الذي تقوم به كلّ منهنّ. فيبة هي شمّاسة في كنيسة كورنتوس (روم 16: 10) وهي المسؤولة عن حمل رسالة بولس إلى أهل رومة، ومريم جاهدت كثيرًا من أجلكم (روم 16: 6) والجهاد (1 كور 4: 12، جهاد اليدين) هو الجهاد الرسوليّ أيضاً (1 كور 10:15؛ 16:16؛ غل 4: 11؛ فل 16:2؛ 1 تس 5: 12). نِمفة تقيم في كولسيّ وتستقبل الكنيسة في بيتها (كو 15:4)، وأهودية وسنتيخة لعبتا دورًا هامًّا مع الجماعة رغم اختلافهما (فل 4: 2).
كلّ هؤلاء أشركهم بولس في عمله الرسوليّ رغم طبعه، وسمّاهم معاونيه (روم 3:16، 9،، 21؛ فل 25:2؛ 3:4؛ فلم 24)، وانتظر منهم روح الوحدة، وحارب روح التحزّب في كورنتوس (1 كور 1: 1 ي). فالمبدأ الأساسيّ رغم الاختلافات الثانويّة هو أن يعلن اسم المسيح (فل 1:18)، ولكن لا يكون الإعلان حقيقيًّا إلاّ إذا طابق كرازة الرسل الاثني عشر (1 كور 3: 10 ي).

3- السفرة الرسوليّة الأولى
تحتلّ مدينة أنطاكية في حياة مار بولس مركزًا هامًّا جدًّا. ففيها سيكتشف الرسول جماعةً تتكلّم لغتينِ ومؤلّفةً من يهود ومن وثنيّين مرتدّين، وفيها سيعي وعيًا تامًّا إلحاحيّة الرسالة في العالم اليونانيّ. وسيجعل بولس من أنطاكية نقطة انطلاق لجولاته الرسوليّة وإليها سيعود فيشرك إخوته في الشكر من أجل نموّ الإنجيل في العالم.

أوّلاً: أنطاكية حاضرة عظيمة على العاصي
تأسّست أنطاكية سنة 301 ق م على يد سلوقس فصارت ثالث مدينة في العالم بعد رومة والإسكندريّة وكان عدد سكّانها 500,000 نسمة. أمّا محيط أسوارها فكان 15 كلم. كانت مهمّة بسبب موقعها على ملتقى الطرق الآتية من البقاع اللبنانيّ أحد أهراء العالم القديم، ومن بلاد الرافدين، وبرّ الأناضول.
متّى تكوّنت جماعة مسيحيّة في أنطاكية؟ منذ مجيء الهلّينيّين الذين "بدأوا يخاطبون اليونانيّين أيضًا ويبشّرونهم بالربّ يسوع" (أع 11: 20). حينئذ أرسلت جماعة أورشليم برنابا إلى أنطاكية فرأى نعمة الربّ في ما يعمله هؤلاء المبشّرون. ثمّ ذهب إلى طرسوس يطلب شاول. فلمّا وجده جاء به إلى أنطاكية فأقاما سنة كاملة فعلّما خلقًا كثيرًا (أع 11: 26). وستظهر روح الاتّحاد عميقة بين أنطاكية وأورشليم فترسل أنطاكية معونة إلى الإخوة المقيمين في اليهوديّة (أع 29:11).

ثانيًا: الانطلاق في الرسالة
يورد لنا لوقا، وأصلُه من أنطاكية، لائحة بالمسؤولين عن الجماعة، ويقول لنا إنّه خلال سهرة الصلاة قام أحد الأنبياء وقال باسم الربّ: "أفردوا لي برنابا وشاول من أجل العمل الذي ندبتهما إليه" (أع 13: 2). وصامت الجماعة وصلّت بحرارة وانطبعت حفلة الانطلاق بوضع يد المسؤولين على المرسلين. كلّ واحد أحسّ نفسه متضامنًا معهما على المستوى الروحيّ والمستوى الماديّ: هما يحتاجان إلى زاد للطريق، وإلى مال ليدفعا أجرة السفر. وهكذا وصلا إلى قبرص.
أمّا جزيرة قبرص، موطن برنابا (أع 36:4)، فكانت تعدّ جماعة يهوديّة هامّة وكانت على علاقة بفلسطين. في قبرص اتّصل بولس بالحاكم الرومانيّ سرجيوس بولس لِما وجد عنده من الاستعدادات الطيّبة. غير أنه واجه ساحرًا من أصل يهوديّ اسمه عليم (أع 8:13) له مكانة في بلاط الحاكم. ولكنّ قوّة الروح أسكتت الساحر فآمن الحاكم.

ثالثًا: في بمفيلية وبسيدية
عُرفت مقاطعة بمفيلية بمدنها الهامّة ولاسيمّا برجة التي بلغها بولس ورفيقاه برنابا ويوحنّا مرقس. ولكن خاف مرقس من وعورة الطريق وأخطارها فرجع إلى أورشليم. وتقدّم بولس وبرنابا نحو بسيدية وليكونية. ولقد ترك لنا لوقا عظة نموذجيّة من عظات بولس قالها في أنطاكية بسيدية (أع 13: 16- 41). دخل المجمع وكان فيه اليهود والخائفو الله. قَبِل الوثنيّون كلام الله أمّا اليهود فأبدَوا معارضة عنيفة (أع 13: 45)، فرأى فيها بولس علامة من الله ليتوجّه إلى الوثنيّين (أع 13: 46): "جعلتك نورًا للأمم لتحمل الخلاص إلى أقصى الأرض".
وطُرد الرسولان من أنطاكية بسيدية فجاءا إلى ليكونية ووجدا هناك الصعوبات نفسها. وستحصل لهما مغامرة غريبة في لسترة. شفى بولس مقعدًا، فحسب الناس أنّ الآلهة تقمّصت البشر: حسبوا أنّ برنابا هو زَوْشٌ، رئيس الآلهة، وأنّ بولس هو هرمس إله الفصاحة وأرادوا أن يقدّموا ذبيحة إكرامًا لهما. فلمّا علم بولس وبرنابا بالأمر مزّقا ثيابهما وحاولا أن يقنعا السامعين بالاعتراف بالله الواحد الذي خلق الكون ونظّم الفصول... هكذا كان يتكلّم الفلاسفة الرواقيّون، وهكذا سيتكلّم بولس في أثينة. لم يقتنع أهل لسترة. ثمّ جاء اليهود وأثاروا الناس على بولس فرجموه وجرّوه إلى خارج المدينة بعد أن حسبوه قد مات (أع 19:14). وهذه الحادثة لن تكون الأخيرة في حياته (1 كور 11: 25).
وعاد بولس وبرنابا وكانا يمرّان على الجماعات التي أسّساها ويشجّعان المؤمنين ويقيمان كهنة لتنظيم أمورهم. أجل، لا يكتفي بولس بأن يزرع الكنيسة، بل يهتمّ بنموّها ويعيّن لها مسؤولين.

رابعًا: مجمع أورشليم
بعد هذه السفرة الأولى كان للإنجيل انطلاقته الرائعة. تجاوز حدود فلسطين فوصل إلى جزر البحر المتوسّط ودخل بلاد الأناضول. ولم تعد القضيّة قضيّة ارتدادات فرديّة كما حدث لوزير ملكة الحبشة (أع 8: 26- 20) أو لكورنيليوس الضابط الرومانيّ (أع 10: 1- 11: 18) بل قضيّة جماعات جديدة ستكون لها مكانتها في الكنيسة.
ولكن برزت الصعوبات وخاصّة بالنسبة الى شريعة الختان. يوم عقد الربّ عهده مع إبراهيم ونسله على الدوام جعل الختان علامة هذا العهد (تك 17: 11). والشريعة لا تطبّق فقط على اليهود بل على كلّ الذين يريدون أن يدخلوا في العهد، والختان علامة الدخول في شعب الوعد. ثمّ إنّ يسوع لم يقل شيئًا عن شريعة الختان.
وبرز الجدال في أنطاكية ثمّ في أورشليم (أع 15: 1-29؛ غل 2: 1- 10) فمناصرو الختان انقسموا قسمين، منهم من قال إنّ الختان ضروريّ ومنهم من اعتبره مكمّلاً للعماد. ويعطينا لوقا وجهة نظره في ف 15 من سفر الأعمال وبولس في غل 2: 1- 10. يقدّم لنا لوقا حلاًّ توافقيًّا نضج في الكنيسة، أمّا بولس فاحتفظ لنا بالجوّ العاصف الذي عرفته الجماعة لتأخذ قرارًا حاسمًا لمستقبل الكنيسة. أراد الغلاطيّون أن يرَوا في الديانة اليهوديّة درجة سامية من الحياة الروحيّة فذكّرهم بولس أنّ عُمُد الكنيسة (يعقوب وكيفا ويوحنّا) أقرّوا بحرّيّة الأمم تجاه الشريعة ولم يفرضوا عليهم إلاّ مساعدة الفقراء في أورشليم.
إعتبر المسيحيّون من أصل يهوديّ الوثنيّين المرتدّين إلى المسيحيّة مؤمنين من الدرجة الثانية وأرادوا أن يفرضوا عليهم الختان. ولكنّ مثلَ هذا الأمر يشكّل للتبشير حاجزًا لأنّ اليونانيين يعتبرون الختان تشويهًا مُحِطًا للإنسان. ولكن أبعد من الزاوية الرعاويّة اكتشف بولس الزاوية اللاهوتيّة: ما قيمة الشريعة بعد اليوم؟ أيّ جديد جاءنا به موت يسوع وقيامته؟ على أيِّ مبدأ يبرّر المسيحيّ؟ كلّ هذه الأسئلة سيعيد طرحها في روم وغل فتشكّل قلب تفكيره اللاهوتيّ.

خامسًا: حادثة أنطاكية
يبدو أنّ لوقا جمع في أع 15 حدثين مختلفين: قرار بأن لا يختتن الوثنيّون المرتدّون، ووسيلة عمليّة تسهل المشاركة بين مسيحيّين من أصل يهوديّ ومسيحيّين من أصل وثنيّ. ونحن لن نفهم حادثة أنطاكية إلاَّ إذا عرفنا أنّ هذه الإجراءات لم تكن أخذت بعد.
نحن في أنطاكية، وبولس يعدّ العدّة لسفرته الرسولية الثانية. وصل كيفا وقاسم الوثنيّين المرتدّين المائدة. ولكن لما جاء أناس من صحب يعقوب "توارى وتنحّى خوفًا من أهل الختان فجاراه سائر اليهود في ريائه حتّى إنّ برنابا انقاد أيضًا إلى ريائهم" (غل 2: 12 ي). ما هي أبعاد الحدث وما الذي جل الحاضرين يتحرّكون؟
إنّ الشرائع اليهوديّة عرفت تأويلاً ضيّقًا: خافت أن يضيع التمييز بين اليهود واليونانيين حتّى في قلب فلسطين. لم تقل شريعة موسى شيئًا في أمر الطعام، ولكنّ العادات منعت أن يؤاكل اليهوديُّ الوثنيَّ لئلاّ يتنجّسَ به. هنا نتذكّر موقف بطرس يدعوه الصوت للذهاب إلى بيت كورنيلوس (أع 10: 10-16). تغلّب الروح على بطرس (أع 47:10). ولكن لا بدّ من التغلّب على جماعة أورشليم ولم يكن الأمر سهلاً (أع 11: 1-18)، والعقليّات لا تتبدّل في يوم واحد، وجماعة أورشليم باقية على أمانتها للممارسات اليهوديّة. لم يَلُمْها بولس، وهو الذي حدّد الموقف الواجب أخذه أمام الضعيف (رج 1 كور 9: 20؛ روم 14: 1 ي). ولكنّه لم يقبل أن نجعل من ممارسة حرّة قضيّة مبدأيّة تقسم الكنيسة قسمين. فقال عن نفسه: "لمّا رأيت أنّ كيفا وبرنابا لا يسيران سيرة قويمة كما تقضي حقيقة البشارة، قلت لكيفا بمحضر من جميع الإخوة: إذا كنت أنت اليهوديّ تعيش كالوثنيّين لا كاليهود، فكيف تلزم الوثنيّين أن يسيروا كاليهود" (غل 14:2)؟ ما يأخذه بولس على كيفا (بطرس) ليس غلطًا تعليميًّا بل موقف عمليّ وضعف أمام جماعة ضاغطة هي جماعة المتهوّدين.
وزاد بولس: "نحن يهود بالولادة ولسنا من الخاطئين الوثنيّين، ومع ذلك فنحن نعلم أنّ الإنسان لا يتبرّر بأعمال الناموس بل بالإيمان بيسوع المسيح" (غل 2: 5). وبداية هذا الخطاب تتضمّن أصل التعليم الذي سيتوسعّ فيه بولس في الرسالة إلى أهل رومة. فامتيازات اليهود (لهم التبنيّ والعهود والشريعة وشعائر العبادة، رج روم 9: 4) لا تستطيع أن تخلّصهم. فالشريعة التي يعتبرونها طريق حياة تزيد شعورهم بالخطيئة حين يخطئون بكامل معرفتهم. وعاطفة التعالي التي تجعل اليهوديّ يرفع نفسه أمام الوثني تقوده فورًا إلى الرياء... اتّهام لا تخفيف فيه... ولكنّ سواد اللوحة يُبرز المبدأ الأساسيّ الذي هو: يسوع المسيح وحده يخلّصنا بالإيمان. وهكذا نتذكّر كلماتِ يسوع: "إذهبي إيمانك خلّصك"، فنفهم أنّ القدّيس بولس عمّم كلمات قالها يسوع في ظروف خاصّة.
والخلاصة: شركة المائدة تدلّ على وحدة الإيمان ووحدة الكنيسة، وسيقول بولس في 1 كور 17:10: "نحن كلّنا جسد واحد لأنّنا نشارك في الخبز الواحد".

4- السفرة الرسوليّة الثانية
بولس رائد مقدام همّه أن يزرع صليب المسيح في كلّ مكان، هذا ما عرفناه عنه. ولكنّه أيضًا رئيس جماعة شاغله ثبات المؤمنين على الإيمان. لهذا نراه، بعد وقت قصير من الراحة في أنطاكية، يعرض على برنابا أن يرافقه: "لنعد فنتفقّد الإخوة في كلّ مدينة بشّرنا فيها بكلام الربّ ونرى كيف أحوالهم" (أع 15: 36). ولكنّ برنابا أراد أن يرافقَهما يوحنّا مرقسُ، غير أنّ بولس لم ينسَ له تراجعه أمام الخطر.. فتنازع بولس وبرنابا وتفارقا (أع 15: 39). ذهب برنابا ومرقس إلى قبرص واصطحب بولس سيلا (أو سلوانس).

أوّلاً: عبور في آسية الصغرى
لا يهتمّ لوقا بالقسم الأوّل من السفرة الذي يتمّ في آسية الصغرى فهو يريد أن يصل سريعًا إلى أوروبا. عبرَ بولس أبواب كيليكية حتّى وصل إلى لسترة. فاستقبلته أسرة تيموتاوس فدعا بولسُ الشابَّ إلى أن يتبعه فتبعه وكان له من أخلص المعاونين.
نوى بولس أن يذهب مباشرة إلى أفسس ولكنّ الروح القدس منعه فجال في فريجية ومنطقة غلاطية (أع 7:16). ذهب بولس إلى قلب غلاطية (غل 3: 1) ولم يكتف بالمرور في بسيدية وليكونية.
كان بولس يرغب في أن يبشّر المدن الكبرى (1 تس 1: 8) ومنها ينطلق إلى الأرياف، ولكنّ مرضًا أجبره على تبديل مشاريعه فبقي في أرض الغلاطيّين وحدّثنا عن لطافتهم في استقباله يوم عاملوه كأنّه "ملاك الله" (غل 4: 14).
لم يمنع مرضُ بولس ضيوفَه من التعلّق بالمبشّر. مرض فلم يعتبروا مرضه عقابًا من الآلهة. بل تأثّروا بكرازة المسيح المصلوب (غل 3: 1)، وانطبع ارتدادهم الحماسيّ بتدخّلات الروح (غل 3: 2). وسيحتفظ بولس من هذه الرسالة غير المنتظرة بِعَاطفةٍ عميقةٍ وهذا ما سيجعله يدهش من انقلابهم حين مرّ عليهم الوعّاظ المتهوّدون (غل 3: 1-15).

ثانيًا: رسالة في مكدونية
وتردّد بولس في أيّ طريق يتّخذ (أع 6:16- 10) ولكنّه سمع في الحلم نداء رجل مكدونيّ يدعوه: "أعبر إلى مكدونية وأغثنا" (أع 16: 10). فانطلق الفريق الذي انضمّ إليه لوقا (المتكلّم الجمع انطلاقًا من أع 16: 10) إلى ترواس ونيابوليس حتّى وصل إلى فيلبيّ.
فيلبيّ مستعمرة رومانيّة تتمتعّ بامتيازات هامّة، منها المواطنيّة الرومانيّة التي يشير إليها بولس حين يحدّث المؤمنين عن "موطننا في السماء" (فل 3: 20). عرفت فيلبيّ تعدّد الآلهة وآمنت أكثر من غيرها بحياة بعد الموت. جاءها بولس فاتّصل بأبناء ديانته وكان عددهم قليلاً. لم يكن لهم مجمع بل مكان قرب النهر يجتمعون فيه للصلاة. وستهتمّ ليدية، وهي تاجرة غنيّة، بكرازة بولس فتدعوه إلى بيتها (أع 16: 11- 15).
كم من الوقت قضاه بولس في فيلبيّ؟ بضعة أشهر ولا شكّ. وجعل فيها أساقفة وشمامسة (فل 1: 1) سيرتبط بهم بمحبّة تجعله يقبل مساعداتهم الماليّة (فل 4: 10-18). ولكن ستهبّ العاصفة بسبب جارية عرّافة، طرد منها بولس الشيطان فضاع الرزق على سيّدها. حينئذ جاء سيّدها وشكا الرسول لدى القضاة المحلّيّين: "هذان الرجلان يوقعان الاضطراب في مدينتنا، وهما يهوديّان، يدعوان إلى سنن لا يحلّ لنا قبولها ولا اتّباعها نحن الرومانيّين" (أع 16: 20 ي). سمح القانون بالديانة اليهوديّة في المملكة الرومانيّة، ولكنّه لم يسمح لليهود بنشر ديانتهم بين الرومان. اهتمّ القضاة للأمر فجلدوا الرسولين وجعلوهما في السجن: أنشد السجينان طوال الليل وحدث زلزال فخاف السجّان فارتدّ إلى الإيمان. ولن يترك بولس المدينة إلاّ بعد أن اعتذرت السلطات لديه. أمّا لوقا فبقي في فيلبيّ حيث سنلقاه في السفرة الثالثة (أع 20: 5- 15).
ووصل بولس وسيلا وتيموتاوس إلى تسالونيكي، أهمّ مدن مكدونية، تلك المدينة الحرّة التي يحكها مجلس يختاره الشعب (أع 17: 5 ي). وذهب بولس كعادته إلى المجمع فأبان بالكتب المقدّسة أنّ يسوع المصلوب هو المسيح (أع 17: 1-3). وتكلّم ثلاثة سبوت، ولكنّ اليهود طردوه. أمّا خائفو الله فقبلوه، ومنهم ياسون (أع 17: 8) وبعض النسوة.
بعد هذا سيخصّص بولس وقته لتبشير العالم الوثنيّ. كان يعمل بيديه (1 تس 2: 9) ويتقبّل معوناتِ الإخوة في فيلبيّ (فل 16:4). سيكرز في تلك المدينة الوثنيّة بالإله الواحد الحيّ والحقيقيّ (1 تس 1: 9) الذي لا نكتفي أن نكرّمَه بل نخدمه. وبعد أن ركّز أساس وحدانيّة الله، انتقلَ بولس إلى ما يميّز الإيمان المسيحيّ، وشدّد على الطابع الإسكاتولوجيّ الذي يميّز المرحلة الأولى من تبشيره. "نحن ننتظر أن يأتيَ من السماوات ابنه لينجِّينَا من الغضب الآتي" (1 تس 1: 10). هدّد يوحنّا المعمدان سامعيه "بالغضب الآتي" (لو 3: 7)، واستند بولس إلى التهديدات الجليانيّة التقليديّة، فأبرز دور يسوع كمخلّص يتدخّل من أجل أخصّائه ساعة الدينونة. ونتصوّر بأيّ حماس انتظر بولس رجوع الربّ: "تعال أيّها الربّ يسوع". وستجد كرازة بولس الإسكاتولوجيّة نجاحًا لم ينتظره. إذا كان مجيء الربّ قريبًا فلماذا نعمل؟ هذا ما قاله الكسالى. فأجابهم بولس بحزم: "نوصيكم أن تشتغلوا بأيديكم وتشغلوا بالكم في ما يعنيكم" (1 تس 4: 11؛ 2 تس 6:3-12). علّمه الاختبار فتجنّب أحاديث تُفهَم بغير معناها.
وأبرز بولس ميزة رسالته (1 تس 2: 1-12): تجرّد، نقاوة تعليم، تعلّق محبّ بالمؤمنين الذين ولدهم بالبشارة (1 كور 4: 15). ونجح بولس، غير أنّ نجاحه أيقظ عداوة اليهود (1 تس 2: 14-16)، فشكَوا بولس ورفاقه لأنّهم يبشّرون بملك غير قيصر (أع 6:17 ي). كفل ياسون المرسلين فتركوا المدينة ولكنّ بولس سَيَحْذرُ بعد ذلك من التكلّم عن مملكة يسوع وسيدعو المؤمنين إلى طاعة السلطات (روم 13: 1-7).

ثالثًا: كرازة في أثينة
ووصلوا إلى بيرية وكرزوا فاستمع إليهم الناس برغبة شديدة. ولكن جاء اليهود من تسالونيكي وحرّضوا الجمع وأثاروه. فرأى الإخوة أن يرسلوا بولس إلى أثينة ويبقى سيلا وتيموتاوس في بيرية.
لا يذكر بولس اسم أثينة في رسائله إلاّ مرّة واحدة (1 تس 3: 1). أمّا لوقا فيقدّم لنا لوحة عن نشاط بولس في هذه المدينة وهمّه أن يعارض الرسالة الإنجيليّة والفلسفة اليونانيّة. كان هناك الأبيقوريّون الذين بحثوا عن سعادة الحكيم في اللذّة وغياب كلّ قلق، وكان الرواقيّون الذين يطلبون الحياة بحسب الطبيعة فتتوافق مع شريعة الكون السامية. وصل بولس إلى أثينة وتكلّم بلغة الفلاسفة فهنّأ الأثينيّين لشدّة تديّنهم (أع 17: 22). وشدّد على لوحة كُتِبَ عليها "إلى الإله المجهول"، فانطلق منها يبشّر بالإله الحقيقيّ. نجد في خطبته أمورًا مأخوذة من عالم اليونان (أبيمنديس وأراتوس) ومن عالم الكتاب المقدّس (رج مثلاً عا 15:5؛ أش 55: 6؛ إر 13:29؛ حك 11-2؛ 12:6-14). هذه الخطبة التي سيستوحي منها الآباء (يوستينوس مثلاً) ستفشل فشلاً ذريعًا، لأنّ فكرة القيامة بدت لأهل أثينة وكأنّها لا معنى لها. فقالوا: "سنستمع إليك مرّة أخرى" (أع 17: 32).

رابعًا: كورنتوس
إكتأب بولس لفشله في أثينة (1 كور 3:2) فعزم على الذهاب إلى كورنتوس، عاصمة أخائية. قضى بولس في هذه المدينة اليونانيّة المطبوعة بالحياة الرومانيّة ثمانية عشر شهرًا (أع 18: 11)، من شتاء 49/50، إلى صيف 51/52. وإذ نحدّد هذا نتذكّر الكتابة التي وجدت في دلفس والتي تورد اسم غاليون (أع 18: 12) حاكم أخائية.
أمّا مراحل رسالة بولس في كورنتوس فهي كما يلي: بدأ عند اليهود ووجد عملاً لدى أكيلا وبرسكلّة ولكنّه لقي معارضةً من قِبَلِ اليهود (أع 18: 16-17). في هذه الظروف كتب إلى التسالونيكيّين رسالة شكر وتشجيع وحدّثهم عن معارضة اليهود لتبشير الوثنيّين (1 تس 2: 14-16): "فهم الذين قتلوا الربّ يسوع والأنبياء واضطهدونا... ويمنعونا من أن نهديَ الوثنيّين إلى الخلاص". ولكن وصل تيموتاوس، فحمل إلى بولس الأخبار الطيّبة عن أهل تسالونيكي فتشجعّ بعد خبرته القاسية في أثينة. قال: "وجدنا فيكم تعزية بفضل إيمانكم وسط كلّ ضيقاتنا ومحننا والآن عادت إلينا الحياة لأنّكم ثابتون في الربّ" (1 تس 7:3-8).
طرد اليهود بولس من المجمع فتوجّه إلى الوثنيّين. أقام عند تيطس يوستس وبدأ رسالة مثمرة. ولقد قال له الربّ ذات ليلة: "لا تخف، بل تكلّم ولا تسكت فأنا معك ولن يمدّ أحد يده إليك لينالك بسوء. فإنّ لي شعبًا كبيرًا في هذه المدينة" (أع 9:18- 10). لا يحدّثنا بولس عن النعم الروحيّة التي نالها فيكتفي بظهور الربّ له على طريق دمشق. ولكنّه يرفع الستار قليلاً بعض المرّات: إن كان لا بدّ من الافتخار وإن لم يكن منه فائدة فأذكر رؤى ووحيًا من الله. انتقل إلى السماء الثالثة، وأوحي إليه أنّ ضعف الإنسان لا يقف حاجزًا أمام عمل الله. طلب مرّات أن تنزع شوكة الشيطان من جسده فسمع صوتًا يقول له: "تكفيك نعمتي، ففي الضعف يبدو كمال قدرتي" (2 كور 12: 9 ).
وحضر بولس أمام غاليون للمحاكمة بعد أن شكاه اليهود. أمّا الحاكم فما أراد أن يسمع لشكواهم. قال: "تجادلون في ألفاظ وأسماء، وفي شريعة خاصّة بكم. هذا يتعلّق بكم. أمّا أنا فلا أريد أن أكون قاضيًا في هذه الأمور" (أع 18: 15).
ممَّن تألّفت جماعة كورنتوس؟ من اليهود والوثنيّين. كان اليهودُ أقَلِيَّةً ومنهم كرسبس رئيس المجمع الذي اهتدى هو وأسرته (أع 8:18). أمّا الوثنيّون فمنهم الرومان الذين يحتلّون المراكز الهامّة: تيطس يوستس، أكيلا، برسكلّة، فورتوناتوس، ومنهم اليونان، ومنهم العبيد الآتون من الشرق. كلّهم كانوا يشكّلون الجماعة المسيحيّة: "اعتمدنا كلّنا بروح واحد لنكون جسدًا واحدًا، يهودًا أو يونانيّين، عبيدًا أو أحرارًا" (1 كور 13:12). وتألّفت من أناس مساكين، من عمّالِ المرفأ والعبيد، من أناس ليسوا بشيء (1 كور 1: 28). هناك حشم خلوة، (1 كور 1: 11) هذه التاجرة الثريّة، وهناك أغنياء يسمحون لنفوسهم بإقامة الدعاوى بعضهم على بعض (1 كور 6: 1-8): نذكر منهم أكيلا وبرسكلّة اللذيين يمْلكان محلاّتٍ تجاريّةً في رومة وأفسس وكورنتوس، وخلوة وكرسبس، وغايوس (روم 23:16) الذي يستضيف الكنيسة في بيته، وإرستس، خازن المدينة (روم 16: 23).
وبعد أن مثل بولس أمام غاليون بشرّ بعض الوقت في كورنتوس، ثمّ قرّر الرجوع إلى أنطاكية قبل نهاية الصيف. مرّ سريعًا في أفسس ووعد أن يعود إليها ثمّ ذهب إلى الكنيسة الأمّ في أورشليم. وبعد هذا قضى الشتاء في أنطاكية (أع 18: 18-22).

5- السفرة الرسوليّة الثالثة
في الربيع انطلق بولس في الطريق التي أخذها خلال سفرته الثانية فزار الجماعات الجديدة التي أسّسها. وعبَر منطقة الغلاطيّين وفريجية قبل أن يصل إلى أفسس.

أوّلاً: أفسس
تشكّل أفسس في حياة بولس مرحلة هامّة. هو لم يؤسّس فقط جماعة مزدهرة أشعّت إيمانها على المدن المجاورة، بل كتب من أفسس رسائل كثيرة وجابه الأزمة التي افتعلها اليهود. وأقام في أفسس سنتين ولاقى محنًا قاسية يلمّح إليها في 1 كور، 2 كور، فل.
حين وصل بولس إلى أفسس كان فيها بعض التلاميذ (أع 18: 27) وكان لأكيلا وبرسكلّة محلّ تجاريّ. هذان التاجران اهتمّا بتثقيف أبلّوس المتجدّد المتحمّس الذي أخذ بكرازة يوحنّا ولم تصل به الطريق إلى ملء الإيمان المسيحيّ (أع 18: 24-28). كان أصله من الإسكندريّة وكان سيّد المنابر فنجح نجاحًا باهرًا لدى الطبقة المتعلّمة وتكوّن حولَه حزب (1 كور 1: 12) لم يكن له فيه يد (1 كور 16: 12). والتقى بولس في أفسس باثني عشر تلميذًا من تلاميذ يوحنّا المعمدان (أع 19: 1-7) فعمّدهم ووضع عليهم يده فأخذوا يتكلّمون باللغات ويتنبّأون فدلّوا بذلك على حلول الروح القدس عليهم.
هناك مرجعان يعلماننا عن حياة بولس في أفسس: سفر الأعمال والرسالتان إلى كورنتوس. يتحدّث سفر الأعمال عن كرازة بولس في أفسس (أع 19: 8- 10): بدأ في المجمع فبشّر خلال ثلاثة أشهر (أع 8:19) فقبلت الإنجيلَ أقليّة ضئيلة. ثمّ انتقل إلى المحيط الوثنيّ فامتدّت رسالته سنتين (أع 19: 9- 10). ولقد نجح بولس فضاقت قاعة الاجتماع، فاستأجر مدرسة تيرانّس وكان يعلّم فيها، كما يقول النصّ الغربيّ، من الساعة 11 إلى الساعة 4 بعد الظهر. ولكن ثارت ثائرة الصاغة إذ رأوا مورد ربحهم قد خفّ بسبب الارتدادات إلى الإيمان الجديد.
وظلّ بولس على علاقة بالكورنثيّين، والمواصلات سهلة بين أفسس وكورنتوس، ولكنّ الأمور لم تكن دومًا على ما يرام بين الرسول والكنيسة التي خطبها للمسيح (2 كور 11: 2). ومرّ في محن قاسية حدّثنا عنها في 2 كور 1: 8-9 فقال: "لا نريد أن تجهلوا الشدّة التي ألمّت بنا في آسية، فثقُلت علينا جدًّا وجاوزت طاقتنا حتّى يئسنا من الحياة، بل أحسسنا أنه قُضي علينا بالموت". أيكون أنّ بولس وقع في الأسر في أفسس وأنّ هذا الأسر يشكّل إطار الرسالة إلى فيلبيّ؟ الأمر معقول. حين كتب بولس إلى أهل فيلبيّ أعلن بوضوح أنّه يتحمّل القيود من أجل المسيح (فل 1: 13) وهذا ما شجّع الإخوة (فل 1: 14) على متابعة العمل. وستعمل قيود بولس على تقدّم الإنجيل وتكون سبب فرح له (18:1) رغم نوايا هؤلاء وأولئك. وسيتساءل: ما الأفضل أن يموت الآن ويكون مع المسيح أم أن يعيش ليخدم إخوته (فل 1: 21-24)؟
في نهاية إقامته في أفسس كتب بولس إلى أهل كورنتوس رسالة في الدموع هي الثانية إلى كورنتوس، وفيها يهاجم المقلقين، هؤلاء "الرسل" الذين يعتبرون نفوسهم وكلاء المسيح وهم في الواقع معاونو الشيطان (2 كور 11: 13). وفي الوقت ذاته أرسل بولس تيطس ليسوّيَ الأمورَ بمزاجه اللين. وفي الواقع ستعود الجماعة إلى نفسها فتتّخذ إجراءاتٍ ضدّ المخطىء (2 كور 2: 6). وهكذا عاد تيطس بأخبار معزّية فالتقى في مكدونية بولس الذي حمّله رسالة هادئة إلى الكورنثيّين الذين تصالحوا مع رسولهم لأنّ قلبه مفتوح لهم دومًا (2 كور 6: 11 ي).
في تلك الأثناء انفجرت أزمة أخرى هي أزمة المتهوّدين دفعت بولس ليُنْضِجَ لاهوتَه فيقدّم لنا الخطوط الأولى في الرسالة إلى الغلاطيين والفكر المعمّق في الرسالة إلى الرومانيّين.

ثانيًا: أزمة المتهودين
عرفنا صعوبات بولس مع المتهوّدين بمناسبة الختان (مجمع أورشليم) والمشاركة في المائدة (حادثة أنطاكية). وها نحن الآن نجد وعّاظًا متهوّدين يتكلّمون فيلقون الاضطراب في جماعات أيسّمها ويحاولون أن يعيدوا إلى إسرائيل الأمم المرتدّة إلى الإيمان.
ردّ بولس على هؤلاء المتهوّديَّن في رسالته إلى أهل غلاطية. وقال في فل 3: 1-2: "إحذروا الكلاب، إحذروا عمال السوء، إحذروا أنصار الختان". ما سبب هذه الأزمة؟ أوّلاً: تقلُّب الغلاطيّين: استقبلوا الرسول بلطف واهتمام وها هم يصدّقون ببساطةٍ الوعّاظَ الجدد الذين يدعونهم إلى درجة "أسمى" من القداسة؛ ثانيًا: بحثوا عن اطمئنان لهم في الطقوس والمراسيم فتعلّقوا بالختان. ولكنّ القدّيس بولس لا يفرّق بين الممارسات اليهوديّة وشعائر الوثنيّين، فمن أخذ بها خضع لعناصر العالم (غل 4: 9) ووقف موقف العبد. ولكن هل نسينا أنّ الله يدعونا إلى الحريّة (غل 5: 1)؛ والسبب الثالث هو سياسيّ ودينيّ معًا: نحن في زمن توتّرت فيه العلاقات بين المسيحيّين والسلطة الحاكمة في أورشليم واتّسعت حركة الغيورين، والغيرة على الشريعة لا تفترق عندهم عن الحُمَّى الوطنيّة. فكيف لهؤلاء أن يقبلوا أن ينسحب أناس من الأمّة اليهوديّة ويصيروا مسيحيّين. ويجيب بولس رسول الأمم: يجب أن نفصل بين الإيمان بالمسيح والتعلّق بإسرائيل بحسب الجسد؛ وهناك سبب خامس أعمق وهو مكانة المسيح في تاريخ الخلاص ومعنى الإنجيل بالنسبة إلى الشريعة: جعل المتهوّدون المسيح نبيًّا يكرز بالتوبة كسائر الأنبياء الذين حاولوا أن يقودوا شعبهم إلى ممارسة أفضل للشريعة. أمّا بالنسبة إلى بولس فالمسيح هو ابن الله المرسل إلى العالم "ليفتديَ الذين هم في حكم الشريعة". مع المسيح كلّ شي جديد. وما يهمّ الآن ليس الختان ولا عدم الختان بل الخليقة الجديدة (غل 6: 15). وأورشليم التي إليها نتوجّه ليست أورشليم هذه الأرض بل أورشليم السماويّة (غل 26:4).
وللوصول إلى مبتغاهم قام المتهوّدون بحملة افتراء على بولس: هو رسول من الدرجة الثانية لأنه لم يتبع يسوع خلال حياته على الأرض، بل هو ذلك الذي اضطهد الكنيسة الأمّ. وهو في جولاته البعيدة يعمل وحده وبمعزل عن عُمُد الكنيسة. ويجيب بولس فيدافع عن حقيقة رسالته، ويشهد لصحّة الخلاص بالإنجيل: "ما هناك بشارة أخرى، بل هناك قوم يلقون البلبلة بينكم وبغيتهم أن يبدّلوا بشارة المسيح. فلو بشّرناكم نحن أو بشّركم ملاك من السماء بخلاف ما بشّرناكم به فليكن ملعونًا" (غل 1: 7-8).
وفي الرسالة الثانية إلى أهل كورنتوس يجابه بولس خصومه الآتين من الخارج فيتحدّث عنهم بقساوة: "رسل كذّابون وعملة مخادعون يتزيّون بزيّ رسل المسيح... ولكنّ عاقبتهم تكون على قدر أعمالهم" (2 كور 11: 13-15). يوبّخهم على تدخّلهم في طريقة عمله حين يفرض على نفسه أن يكرز بالإنجيل حيث لم يُكرز به بعد (2 كور 10: 13-16). هم يعلنون أنّهم عبرانيّون وإسرائيليّون ومن ذرّيّة إبراهيم ولكنّ بولس لا يتأثر بهذا الكلام (1 كور 11: 22). يعتبرون نفوسهم خدم المسيح (2 كور 11: 23) فيجيبهم بولس معدّدًا علامات الرسالة الحقّة (2 كور 11: 23-13:12). ويعتدّون برؤىً وانخطافاتٍ ، فيجيبهم بولس: "إن كان لا بدّ من الافتخار، فإنّي أنتقل إلى رؤى الله ومكاشفاته" (2 كور 12: 1). ويعلن أنّ علامة الرسالة لا تكن في ظواهرَ خارجيّةٍ مرتبطة بالروح ولا بتعازيَ روحيّةٍ بل بالتشبّه بآلام المسيح، وفي هذا المجال لا أحد يجاري بولس: "في المشقّات أفضل منهم، في السجون أفضل منهم. في تحمّل الجلد أفضل منهم. أشرفت على الموت مرارًا... جُلدت... رُجمت..." (2 كور 23:11 ي).

ثالثًا: الحسنات من أجل القدّيسين في أورشليم
خلال مجمع أورشليم سُلِّمَ بولسُ توصيةً أن لا ينسى مساكين المدينة المقدّسة، والتوصية لا تعني الفقراء فحسب بل الكنيسة المؤلّفة من "مساكين الربّ". فكنيسة أورشليم كلّها فقيرة بعد أن عرف البطالة الجليليّون الذين صعدوا إلى أورشليم. ثمّ إنّ الأعمال في ترميم الهيكل توقّفت فحُرم العمل مسيحيّون كثيرون.
أمّا إرسال التقدمات إلى أورشليم فهو تعبير عن إقرار بفضل الكنيسة الأمّ. وما يقدّمه المسيحيّ لأبناء أورشليم يقابل الفلس الذي يدفعه يهود الشتات للهيكل كلّ سنة (رج مت 17: 24). ويهتمّ بولس في أن يعطيَ معنىً خاصًّا لهذه "اللمّة" التي ينظّمها: "إنّ القيام بهذه الخدمة المقدّسة لا يقتصر على سدّ حاجات القدّيسين، بل ينجم عنه أيضًا حمد جزيل لته" (2 كور 12:9).
نظّم بولس هذه "اللمّة" فخلقت له المتاعب. دعا المؤمنين ليهيّئوا تقدمتهم كلّ أسبوع، بل في اليوم الأوّل (أي يوم الأحد، رج 1 كور 16: 2) وأُعجب بسخاء الفيلبّيّين ووبّخ الكورنثيّين الذين هم أسرع إلى الكلام منهم إلى العمل (2 كور 9: 5-9). إتّخذ الاحتياطاتِ اللازمةَ لئلاّ يتّهمَه أحدٌ بسوء التصرّف، فاختار أناسًا مجرّبين ليجمعوا المال وقال أنه لن يذهب إلى أورشليم إلاّ بصحبتهم، شرط أن تكون كميّة المال وافرة (2 كور 8: 20- 5 2).
وقضى بولس شتاء 57/58 في كورنتوس، عند غايوس (روم 16: 23). فاستفاد من الأزمات السابقة وعرض في الرسالة إلى أهل رومة الخطوط الكبرى لتاريخ الخلاص وهي تتلخّص في هذه العبارة: "البارّ يحيا بالإيمان". سنكشف نفسيّته في هذه الرسالة. هو القاسي على المتهوّدين يعلن: "إنّ في قلبي حزنًا شديدًا وألمًا يلازمني" (روم 9: 2) بسببهم. هو الذي اتّهم اليهود بمعارضة ارتداد الوثنيّين (1 تس 2: 14 ي) أقرّ أنّ "فيهم غيرة على الشريعة" (روم 10: 1-2).
إقترب زمن رجوع الربّ (روم 13: 12)، فلا بدّ من الإسراع في الكرازة بالإنجيل في كلّ مكان لإعداد مجيئه. هذا ما فكّر به بولس الذي ينوي أن يتوقّف في رومة قبل أن يذهب إلى إسبانية (روم 15: 24). ولكنه الآن يحمل "اللمّة" إلى أورشليم فيدلّ على وحدة الكنيسة. ولكن كيف سيكون استقباله هناك؟ كتب للمؤمنين: "أناشدكم باسم ربّنا يسوع المسيح وبمحبّة الروح، أن تجاهدوا معي بصلواتكم التي ترفعونها من أجلي، لأنجوَ من الكفّار الذين في اليهوديّة" (روم 15: 30- 31). كأنّي به أحسّ مسبّقًا بالأسر ينتظره هناك.

6- سنوات بولس الأخيرة
أوّلاً: السفرة الأخيرة إلى أورشليم
لا نملك في رسائلِ بولسَ إشارةً إلى هذه المرحلة من حياته، ولكنّ سفر الأعمال يقدّم لنا رواية نابضة بالحياة. فإن استندنا إلى المقاطع المكتوبة بلغة المتكلّم الجمع نرى أنّ لوقا الذي ظلّ في فيلبيّ انضمّ إلى رفقة بولس وهم: سوبترس بن بروس البيريّ، أرسترخس وسكندس التسالونيكيّان، وغايوس الدربيّ وتيموتاوس وتيخيكس وتروفيمس اللذان من مقاطعة آسية (أع 20: 4 ي).
متى تصّت هذه الأحداث؟ إذا عرفنا أنّ الحاكم الرومانيّ فستس جاء إلى قيصريّة سنة 60، يكون بولس قد أوقف في هيكل أورشليم في عيد العنصرة سنة 58.
حين نقرأ أع 20 يمكننا أن نقرأه كمسافر فنعدّد المراحل، أو كمؤرّخ فنكتشف الإشارات المختصّة بجماعات مسيحيّة تكاثرت على شاطىء لبنان وفلسطين، أو كليتورجيّ فنتذكّر سهرة ترواس التي انتهت بكسر الخبز (أع 7:20- 11)، أو خطبة بولس إلى كهنة أفسس. أمّا لوقا فقابل بين صعود بولس إلى أورشليم وسفرة يسوع الطويلة نحو المدينة المقدّسة (لو 9: 15 ي) التي تقتل الأنبياء وترجم المرسلين إليها (لو 13: 34). أنبأ يسوع مرارًا بآلامه، ونبّه بولس من مدينة إلى مدينة بالمصير الذي ينتظره (أع 20: 22 ي). ومرّات رافقت الحركة الكلمة فأعطتها قوّة. وهكذا تصرّف أغابوس القيصريّ على مثال الأنبياء الأقدمين: تناول منطقة بولس وشدّ بها رجليه ويديه وقال: "إنّ الروح القدس يقول: صاحب هذه المنطقة يشدّه اليهود هكذا في أورشليم ويسلّمونه إلى أيدي الوثنيّين" (أع 25:21). في هذه المجموعة يبدو إحياء الولد أفتيخس رمزًا هامًّا (أع 7:20-12): إنّ قوى الموت لا تتغلّب على الحياة.
وأسرع بولس إلى أورشليم، ولهذا لم يتوقّف في أفسس بل في ميليتس وهناك جمع شيوخ الكنيسة في أفسس. سبق لوقا فأورد لنا كيف وعظ بولس في المجمع (خطاب أنطاكية بسيدية، أع 13: 16- 41) وكيف حدّث الطبقة المتعلّمة (خطبة أثينة، أع 17: 22- 31)، وها هو يسمعنا وصيّة بولس الرعاويّة. نجد في هذه الوصيّة الخطوط الكبرى لكلام يوصي به الآباء أبناءهم. إلاّ أنّ خطبة بولس تتميّز بطابع خاصّ: السمات الخاصّة ببولس، اهتماماته التي ستظهر في الرسائل الرعاويّة (1 تم، 2 تم، تي)، الذئاب الخاطفة والأناس الذين ينطقون بالضلال. ويشير بولس إلى طبيعة الرسالة المسيحيّة: "خذوا الحذر لأنفسكم ولجميع القطيع الذي أقامكم عليه الروح القدس لترعَوا كنيسة الله التي اكتسبها بدمه" (أع 28:20).

ثانيًا: بولس في أورشليم
وصل بولس إلى فلسطين فوجد البلاد تغلي، والناس لا يحتملون إدارة الحاكم فيلكس الذي استفاد من الحكم ليجمع ثروة. قرنَ القساوة بالجشع، ومارس صلاحيّة الملك بنفسيّة عبد. في هذه الظروف كان موقف الجماعة المسيحيّة دقيقًا بين المتطرّفين من كلّ جهة. أمّا يعقوب وشيوخ أورشليم فاستقبلوا بولس استقبالاً خجلاً لأن مواقفه التحرّريّة أغضبت الكثيرين فاتّهموه بأنّه يمنع اليهود من ممارسة الشريعة (أع 21: 21). قدّم له يعقوب نصائحَ فَطِنةً وأعلمه بالقرارات المتّخذة لتسهيل العيش المشترك بين المسيحيّين الآتين من العالم اليهوديّ والمسيحيّين الآتين من الأم (أع 21: 25).
دعاه يعقوب فقبل بولس بالمشاركة في احتفال تطهير الهيكل (أع 21: 26 ي). هل عاد بولس إلى اليهوديّة فحلق رأسه لنذر كان عليه (أع 18:18)؟ ليس بولس معلّمًا يعيش في النظريّات بل إنسان من عصره مطبوع بالتربية التي تلقّاها، بل رسول تهمّه عقليّات الناس. هو يتكيّف مع الظروف شرط أن لا تكون استقامة الإيمان في خطر. أما أعلن هو أنّه جعل نفسه يهوديًّا مع اليهود وبلا شريعة مع الذين بلا شريعة (1 كور 9: 20)؟ والتعليمات عن اللحوم المقدّمة للأوثان (1 كور 8: 10) وتحريض الضعفاء والأقوياء في جماعة رومة (روم 14: 1-13:15)، كلّ هذا يدلّ على الحسّ الرعائيّ عند القدّيس بولس.
دخل بولس الهيكل مع أربعة رجال حلقوا رؤوسهم فاتّهمه اليهود أنه أدخل يونانيًّا من آسية الصغرى في رواق الهيكل المخصّص لبني إسرائيل، وكادوا يقضون عليه لولا تدخّل الجنود السريع وهكذا نجا بولس من غضبة الناس عليه (أع 27:11-36).

ثالثًا: من أورشليم إلى قيصريّة
نوجز هنا الأحداث التي أوردها القدّيس لوقا بفنّه الروائيّ. دافع بولس عن نفسه أمام اليهود (أع 22: 1- 21). فروى خبر ارتداده وأبرز تعلّقه بديانة الآباء ودور حنانيّا الرجل التقيّ والأمين للشريعة في هذا الارتداد. وكشف عن صفته كمواطن رومانيّ فأعفي من الجلد (أع 22: 22-29). وقُدّم أمام مجمع اليهود أو السنهدرين (أع 22: 30-23: 10) فأعلن إيمانه بقيامة الموتى على طريقة الفرّيسيّين فزرع الخصام بين قائلين بقيامة الموتى ورافضين لها. وتآمر اليهود عليه (أع 23: 11-22) فنُقل تحت حراسة مشدّدة إلى قيصريّة حيث يقيم الحاكم (أع 23: 23-35). فاتّهمه اليهود أمام فيلكس (أع 24: 1-9) بأنّه يقلق النظام العامّ وينجّس الهيكل. ودافع بولس عن نفسه (أع 24: 10- 21)، وأبان بطلان الاتّهامات الموجّهة إليه، وشدّد على الإيمان بالقيامة. وجعل فيلكس بولس في السجن (أع 24: 22-27) وانتظر منه مالاً ليطلقه، إلاّ أنّه سمح لأصحابه بالقيام بخدمته.

رابعًا: بولس يرفع دعواه إلى قيصر
تميّزت الأوقات الأخيرة في إدارة فيلكس بصدامات دمويّة بين اليهود واليونانيّين في قيصريّة. ما استطاع الوالي أن يقمع الفتنة فأرسل وجهاء الفريقين إلى رومة ليفضّ الخلاف. حينئذ أرسل الإمبراطور فستسَ حاكمًا ليقوم بعمل التهدئة. يقول سفر الأعمال إنّ فستس كان سموحًا مع الناس صلبًا في ممارسة العدالة. ولكي يستميل إليه السنهدرين دعا بولس ليمثل أمام المحكمة اليهوديّة. أمّا بولس فأجاب: "أنا واقف لدى محكمة قيصر، ولديها يجب أن أُحاكم". (أع 25: 10). كان بولس مواطنًا رومانيًّا فطلب أن يحاكم لدى الإمبراطور، ولا أحد يستطيع أن يرفض له هذا الحقّ. ولكن لا بدّ من تهيئة ملفّ عن القضيّة، فاستفاد فستس من مرور الملك أغريبا الثاني وامرأته برنيكة ليطلب من بولس أن يشرح قضيّته (أع 25: 13-27). قال: "ليس من عادة الرومانيّين أن يُسْلموا أحدًا قبل أن يتقابل المتّهَمُ ومتّهِموه ويعطى له الحقُّ بأن يردّ على دعواهم" (أع 16:25).
وألقى بولس دفاعه كخَطِيبٍ من الخطباء القدماء (رج أع 26: 1) فروى قصّة ارتداده وعبّر في بضع كلمات عن معنى رسالته. قال له يسوع: "أرسلتك لتفتح عيون الأم الوثنيّة فيرجعوا من الظلام إلى النور، ومن سلطان الشيطان إلى الله، وينالوا بإيمانهم بي غفرانًا للخطايا ونصيبهم من الميراث في عداد القدّيسين" (أع 18:26). بدا بولس بريئًا للحاكم والملك والملكة، ولكن بما أنّه رفع دعواه إلى قيصر فإلى قيصر يذهب (أع 26: 30-32).
ويروي أع 27 سفر بولس في البحر والعاصفة التي ضربت السفينة فاضطرب الجميع ما عدا بولس الذي شجّع رفاقه وكسر الخبز وشكر (أع 35:27). وهكذا وصل الركّاب كلّهم إلى مالطة.

خامسًا: الوصول إلى رومة
وكانت الظروفُ موافقةً في السفر من مالطة إلى رومة، فاستقبل الإخوة بولس في بوطيولي. نلاحظ هنا انتشار المسيحيّة في مدن مثل الإسكندريّة (أع 18: 24 ب) وبطلمايس (أع 7:21) دون أن نعرف من بشّرهما. ثمّ أكرم مسيحيّون من رومة بولس فلاقوه في ساحة أبيّوس والحوانيت الثلاثة.
حين دخل بولس رومة كان فيها جماعة يهوديّة مهمّة. أمّا الإشارة الأولى لترسيخ المسيحيّة في المدينة الخالدة فنلاحظها على أثَرِ قرارِ كلوديوس الذي طردَ اليهود من رومة سنة 49. وحين كتب بولس رسالته كانت الجماعة المسيحيّة معروفة بإشعاعها (روم 1: 8) فتألّفت من يهود مرتدّين هم الأقلّيّة ووثنيّين وكانوا الأكثريّة.
رفع بولس دعواه إلى قيصر، فأوفد قيصر من قبله حاكم المدينة، ولمّا كان التقرير الذي أرسله فستس موافقًا لبولس، لم يجعل بولس في السجن بل في منزل استأجره وكان يحرسه الجنود. فأقام في المنطقة الشرقيّة الشماليّة من المدينة كما يقول النصّ الغربيّ (أع 16:28) وظلّ على هذه الحال سنتين (أع 28: 30).
وحدّثنا لوقا عن كرازة بولس بحرّيّة في رومة. أرسلت إليه الجماعة اليهوديّة وفدًا، فسبّبت خطبته انقسامًا بين السامعين، ولاحظ بولس أنّ ساعة تبشير الوثنيّين وتصلّب اليهود قد دقّت (أع 25:28-28). وهكذا أبان لوقا شموليّة الخلاص في قلب الإمبراطوريّة الرومانيّة.
وينتهي سفر الأعمال بلوحة متفائلة: بولس يبشّر بثقة فلا يمنعه أحد (أع 28: 31). ها ساعة الحرّيّة اقتربت. ما الذي حدث بعد ذلك؟ هل جاء يرد أورشليم، وهم متّهمو بولس، فلاحقوا عدوّهم أمام محكمة الإمبراطور؟ لا، على ما يبدو (أع 28: 21). ومرّت سنتان ولم يأتِ أحد، فاعتُبر الاتّهام باطلاً وبولسُ بريئًا، فأُخلي سبيله.

سادسًا: بولس وجماعات آسية الصغرى
ما زال بولس خلال أسره في رومة يحمل اهتماماتِ كلِّ الكنائس (رج 2 كور 28:11)، ولهذا كان ينتظر بفارغ الصبر رسولاً يعلمه عن تقدّم الإيمان في هذه الجماعات العزيزة على قلبه. فزاره أبفراس الذي من مدينة كولسيّ والذي ردّه بولس إلى الإيمان في أفسس. فلمّا ارتدّ ذهب يبشّر في كولسيّ ولاودكية وهيرابوليس (كو 4: 13). ولكن أحسّ أنّ الأمور تطغى عليه. فالجماعات الجديدة تتبلبل بسبب وعّاظ يبشّرون بالختان (كو 2: 11-13) وممارسات تتعلّق بالأطعمة (كو 2: 16- 21) ويعلنون التقيّد بروزنامة لتتوافق عبادة الأرض وعبادة الملائكة (كو 2: 16-18). والمعلّمون الكذبة في كولسيّ يعتبرون أنّهم رأوا رؤى (كو 18:2) فيتوسّعون في نظريّات غريبة عن المراتب السماويّة.
حرّك تقرير أبفراس عند بولس تأمّلاً عميقًا في أولويّة المسيح في كلّ شيء. لم يعد الأمر أن نعلن أنّ الخلاص يأتينا من المسيح، بل أن نقرّ بدور المسيح الخلاصيّ الذي ينبع من قدرته الخلاّقة.
وهكذا طبّق بولس على المسيح نصوص العهد القديم التي تذكر الدور الخلاّق للحكمة الإلهيّة، فدعانا إلى التأمّل في المسيح صورة الله اللامنظورة، بكر جميع الخلائق والذي به خُلق كلُّ شيء (كو 1: 15). فلماذا التعلّق بقوى ألغاها المسيح فسمّرها على الصليب، ورئاسات وسلطات خلعها يسوع وعاد بها في رَكبه ظافرًا (كو 2: 15)؟ لماذا نهتمّ بممارسات خارجيّة بعد أن لبسنا بالمعموديّة الإنسان الجديد (كو 3: 10)؟
في هذه الفترة هدى بولس أونسيموس، وهو عبد من كولسيّ هرب من سيّده والتجأ إلى رومة، تم عمّده. أحسّ بولس بحنان نحو هذا "الولد" الذي ولده في سجنه. هو يستطيع أن يبقيه عنده، ولكنّه قرّر أن يعيده إلى سيّده وهو مسيحيّ غنيّ من كولسيّ يستضيف الجماعة في بيته (فلم 1-2) وهكذا سلّم بولس تيخيكس (كو 7:4) رسالتين: واحدة لجماعة كولسيّ، وأخرى لفيلمون طلب فيها منه أن يعفو عن عبده، بل أن يحرّره (فلم 16). وأخيرًا أعلن الرسول عن أمله بأن يتحرّر من الأسر ويذهب إلى كولسيّ (فلم 22).
الرسالتان إلى كولسيّ وفيلمون غنيّتان بالأخبار الشخصيّة التي تساعدنا أن نتصوّر ما كان فريق عمل الرسول (كو 4: 14). هناك مرقس الذي نسي ورفه مع بولس في أنطاكية (أع 15: 38)، وأرسترخس ابن تسالونيكي (أع 20: 4) الذي رافق بولس إلى أورشليم وحمل معه "اللمّة"، وديماس ابن تسالونيكي الذي ترك بولس رغبة في الدنيا (2 تم 4: 10)، ولوقا الطبيب الأمين الذي بواسطته كونّا فكرة عن جولات بولس الرسولية، وأبفراس الذي يقاسم بولس حياة الأسر (فم 23).

سابعًا: بعد الخروج من السجن
الغموض يلفّ السنوات الأخيرة من حياة بولس. لا شكّ في أنّه استشهد في رومة، ولكنّنا لا نعرف متى استشهد. هناك تقليد قديم يحدّد تاريخ الاستشهاد في السنة الرابعة عشرة من حكم نيرون أي 67/68. هذا ما يقوله أوسابيوس في الكرونيكون وإيرونيموس الذي يزيد أنّ بولس مات سنتين بعد الفيلسوف سينيكا الذي توفّي في نيسان 65.
وبين السنة 63، سنة الأسر الأوّل في رومة، والاستشهاد، نذكر تنقّلاتِ بولس الواردة في 1 تم، 2 تم، تي. وفي هذا يقول أوسابيوس القيصريّ: بعد أن دافع بولس عن نفسه ترك رومة لرسالة الكرازة، ثمّ جاء مرّة ثانية إلى رومة وأنهى حياته بالاستشهاد.
خرج بولس من السجن وذهب إلى إسبانية (روم 28:15)، إلى تراغونة، كما يقول التقليد القديم (قانون موراتوري). وفي هذا يقول إكلمنضوس الرومانيّ: بعد أن علّم البرَّ في العالم كلّه ووصل إلى حدود الغرب، شهد أمام الحكّام ثمّ ترك هذا العالم إلى موضع القداسة. ونستنتج من الرسائل الراعويّة الأمور التالية: في أفسس ترك بولس تيموتاوس يهتمّ بأمر الجماعة، في كريت أوكل إلى تيطس أن ينظّم الحياة الكنسيّة وأن يقيم كهنة (تي 1: 5). ومرّ بولس في ترواس فترك رداءه وبعض الكتب (2 تم 13:4) وقضى الشتاء في نيكوبوليس، مرفأ دلماطية.
في تلك الأثناء تطوّرت الأمور وهدّدت الكنيسة الفتيّة. ففي سنة 62 استفاد حنّان رئيس الكهنة من غياب الحاكم، فأمر برجم يعقوب أخي الربّ كما يروي يوسيفوس. وفي سنة 64 شبّ حريق في رومة وظنّ الناس أنّ نيرون افتعل هذا الحريق، إلاّ أنّه أبعد الظنّ فوشى بالمسيحيّين. حينئذ صُلب بطرس ودُفن قرب ملعب نيرون.

ثامنًا: إستشهاد بولس في رومة
ما زال بولس يروح ويجيء فيدلّ على أنّه رجل قَلِقٌ تلاحقه السلطات، وسيشي به مرّة إسكندر الحدّاد (2 تم 5: 14). نُقل إلى رومة فعرف قساوة الأسر في سجن ممرتين قرب الكابيتول كما يقول التقليد، وأحسّ بمحنة العزلة الباردة، وبشقّ النفس سيتوصّل أونيسيفورس الذاهب من أفسس أن يصل إليه (2 تم 1: 16-18). ولكنّ لوقا سيكون معه (2 تم 4: 11). في هذا الإطار نقرأ مقطعًا من إكلمنضوس الرومانيّ عن الحسد الذي سبّب موت بطرس وبولس. قال: بسبب الحسد والخلاف دلّ بولس على الثمن المحفوظ للثابتين. أُسر سبع مرّات، نُفي، رُجم فصار مناديًا بالإنجيل في الشرق والغرب ونال شهرة واسعة استحقّها له إيمانه. من أين جاء الحسد؟ من المتهوّدين أو من اليهود الغيارى على الشريعة، الذين وشوا به فتخلّصوا منه.
ونستطيع أن نجمع إشاراتٍ عن مسيرة الدعوى انطلاقًا من 2 تم. في الجلسة الأولى وجد بولس نفسه وحيدًا، والعادة كانت أن يرافق الأهل والأصحاب المتّهم ليؤثّروا في القاضي. ومضى وقت قبل الجلسة الثانية فكتب بولس وصيّته الروحيّة: "الربّ أعانني وأيّدني لتُعلن الدعوة على يدي وتبلغ إلى جميع الوثنيّين، فنجوت من شدق الأسد وسينجّيني الربّ من كلّ مسعى خبيث ويحفظني لملكوته السماويّ" (2 تم 4: 17-18).
ومرّت أسابيع احتمل بعدها بولس العقاب الذي يليق بمواطن رومانيّ: قُطع رأسُه، وهكذا استشهد كما يقول التقليد قرب طريق أُستية. ثمّ بنيت على مدفنه كنيسة الملك قسطنطين. ولكن بقي لنا من بولس أهمّ من بناء الحجر: رسائله التي تجعل منه معلّم الكنيسة من دون منازع.

7- خاتمة
تعرّفنا في هذه العجالة إلى هذا المسافر الذي لا يعرف التعب، إلى السامعين المتنوّعين الذين وجّه كلامه إليهم، وأدركنا مشاكل عصره التي هي مشاكل عصرنا. فهلاّ نمت فينا الرغبة في التعرّف إلى بولس أكثر وقراءة رسائله؟ وفي النهاية نودّ أن نبرز بعض السمات الرئيسيّة لهذا الذي جمع فيه الميول والأفكار المتفرّقة في إيمانه بالمسيح الحيّ، لهذا الرّابي الذي ارتدّ إلى المسيحيّة فجمع غنى الفكر اليهوديّ وثقافة العالم الوثنيّ ليعلن إيمانه بالمسيح المخلّص ويؤسّس جماعة تشعّ بشارة الإنجيل الجديدة.

أوّلاً: بولس رسول يسوع المسيح
يعلن بولس بقوّة أصل دعوته المباشرة ولا يريد أن يخضع إلاّ للمسيح فيعلن أنّه خادم له. يختلف بولس عن الاثني عشر الذين تبعوا يسوع على طرقات أورشليم، أمّا هو فجاء متأخرًّا (كالسقط، 1 كور 15: 8) واكتشف في لمحة بصر الحضور السرّيّ للمسيح المنبعث الحاضر في كنيسته. لهذا سيختلف لاهوته. عن لاهوت الاثني عشر، وإنّ عثار الصليب والإشعاع الفصحيّ وسرّ الموت والقيامة ستسيطر على تأمّله بحيث نكتشف بصعوبة صدى لتعاليم يسوع. ما يهمّ بولس هو أن يبيّن أنّه يجب أن نعيش في المسيح لا أن ندلّ على سرّ البدايات المسيحيّة مع يسوع.
ولكنّه إذ يعلن أنّ رسالته خاصَّة، فهو يؤكّد أن لا إنجيل إلاّ ذلك الذي يبشّر به كلّ الرسل (1 كور 15: 1-11؛ غل 1: 6-9)، وهو لن يتردّد في الذهاب إلى أورشليم رغم سوء التفاهم الذي يمكن أن يحصل، ليبيّن بوضوح التضامن الرسوليّ.

ثانيًا: اليهوديّ واليونانيّ
يرتبط بولس بأصله وتربيته بثقافتين مختلفتين ولكنّه لم يتنكّر لأيّ منهما، بل أخصب الواحدة بالأخرى. درس الكتب المقدّسة وتعلّم أساليب التأويل لدى قدمي جملائيل، ولكنّه جعل علم التأويل في خدمة المسيح الذي يكتشف سر حضوره في تاريخ إسرائيل. وإعلانه أنّ المسيح مات وقام بحسب الكتب يصبح مفتاح التأويل الذي يساعده على قراءة العهد القديم دون حجاب (2 كور 3: 14). هر يعرف أن يكون دقيقًا في تفسيره، ولكنّه يتتبع مسيرة النصّ الذي يورد، فيجد المعنى العميق للعهد الذي يعطي التاريخ معناه، ويكتشف عدالة الله التي لا تحكم على الإنسان بل تخلّصه بكامل زخمها.
يونانيّ مع اليونانيّين، هكذا حاول بولس في أثينة أن يصل إلى إله يسوع المسيح انطلاقًا من العبادة للإله المجهول. فَشَلٌ في خطابه في أثينة وتصرّفُ الكورنثيّين المتبجّحين بعلمهم دفعاه إلى أن يقول كلمات قاسية في حكمة البشر (1 كور 1: 17-2: 5). ولكنّ بولس لم يشجب كلّ القسم الإنسانيّة. هزىء بالخطابة، ولكنّه خطيب من بطن أمّه. وهو يعرف أن ينقل قوّة قناعته الداخليّة إلى سامعيه وأن يستعمل أساليبَ الجَدَلِ المعروفة في أيّامه. قدّر كلّ جمال في مدنيّة عصره (فل 4: 8) حتّى عندما دعا المؤمنين إلى التجرّد (1 كور 29:7- 31)، ولكنّه لم يطلب من المؤمن أن يخرج من العالم: إنّ المسيحيّ ينمّي نعمة العماد في الحالة التي دُعي فيها.
كان رسول الأمم، ولكنّه تمزّق بسبب مأساة عدم إيمان إسرائيل (روم 9: 1-5)، ورغم الفشل بعد الفشل كرّر رسالته في المجامع. أمّا قساوته فسببها حبّ كبير قد خاب، وهو لم يشكَّ يومًا بمصالحة اليهود مع المسيح الذي هو سلامنا (أف 2: 14). أجل، كان بولس باختباره وبتعليمه المعلّم الأكبر في كنيسة مدعوّة لأن تجمع كلّ الشعوب في محبّة الله.

ثالثًا: الإيمان والمحبّة
هذا الذي رأى الربّ على طريق دمشق، مقتنع أنّنا نسير في الإيمان لا في العيان (2 كور 5: 7). هذا الذي تمتعّ بنعم روحيّة يحذّر من كلّ ما يغذّي الغرور، ويعلن أنّ لا قيمة إلاّ لنعمة الله وحدها في الحياة (2 كور 11: 9). جادل المتهوّدين، قال كلمات قاسية في الشريعة وسنحتاج إلى توسيعات طويلة لنشرح نظرية البرّ بالإيمان ورفض أعمال الشريعة. أشرنا إلى الموضوع وبيّنّا أنّ قضيّة المسيح كانت مطروحة: يجب أن نعرف من يخلّص الإنسان، يسوع أم الشريعة. هاجم بولس الشريعة وكان قاسيًا في هجومه، ولكنّه أوضح الأمور في الرسالة إلى رومة دون أن يخفيَ انحطاط الإنسان من دون المسيح.
الإيمان الذي يمتدحه بولس ليس فضيلة إلهيّة كسائر الفضائل، بل كلّ شيء في الحياة المسيحيّة: هو تجرّد الإنسان من نفسه لأنّ الروح يقوده إلى الربّ يسوع (1 كور 12: 3)، وهو زخم روحيّ يفتح على أبعاد المحبّة الإلهيّة. قال في غل 5: 6: بالنسبة إلى الذي "في يسوع المسيح، لا الختان ينفع ولا عدم الختان، بل الإيمان الفاعل بالحبّ".
والتعليم عن الحرّيّة الذي يتمسّك به بولس (غل 5: 1) يذكّرنا بتفكير الرواقيّين الذين يعتبرون أنّ الحكيم ملك وبالتالي حرّ

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM