القوّة والحيلة تقودان إلى الموت

القوّة والحيلة تقودان إلى الموت

حين نقرأ سفر التكوين في ف 34. نجد نفوسنا مع يعقوب وأبنائه وبناته في شكيم. هي مدينة في جبل أفرائيم وقريبة من مدينة نابلس (فلسطين) الحاليّة. والخبر يدور حول دينة الابنة التي لم يذكر الكتاب سواها مع أبناء يعقوب الاثني عشر. أذلّها ابن حمور، أمير المدينة، ثمّ طلب يدها. هو الأقوى ويفعل كما يشاء، والسلطة في يده. فما بقي لشمعون ولاوي سوى الانتقام لأختهما. قتلا من اغتصب أختهما واستعاداها. تجاه هذا الوضع، بدا يعقوب ضعيفًا. بل هو لم يأخذ موقفًا، منتظرًا ما يفعله أبناؤه، أو بالأحرى الشيوخ في قبيلة.

«وخرجت دينة، بنتُ يعقوب من ليئة امرأته، لتشاهد بنات تلك الأرض. فرآها شكيم بنُ حمور الحوّي، أمير تلك الأرض، فأخذها وضاجعها وأذلّها. وتعلّق قلبُه بها، فأحبّها ولاطفها. وقال لأبيه حمور: ''خذ هذه الفتاة زوجة لي''. وسمع يعقوب أنّه دنّس دينة ابنته، فسكت حتّى جاء بنوه الذين كانوا مع ماشيته في البريّة... (تك 34: 1-5)

من خبر عائليّ فيه زنى واغتصاب من جهة، وتعويض وانتقام من جهة أخرى، إلى كلام عن إقامة قبائل ارتبطت بيعقوب، في شكيم. وفي النهاية، نسمع صوت بولس الرسول: أهربوا من الزنى.

 

1- خبر عائليّ

جاء هذا الفصل من سفر التكوين في تقليدين اثنين. نتوقّف هنا عند التقليد الأوّل ونترك التقليد الثاني إلى المقطع الثاني.

اختطف شكيم دينة واغتصبها، ثمّ طلب أن يتزوجّها. وضع إخوةُ دينة شرطًا عليه. هو أن يختتن. فاللامختون منجّس، وبالتالي لا يستطيع أن يتزوّج ويقيم وسط المختونين الذين ينتمون إلى الإله الواحد. قَبِل شكيم بما طُلب منه. وإذ هو في أوجاعه، دخل أخوا دينة شمعون ولاوي، فقتلاه واستعادا أختهما.

نقف هنا على المستوى العائليّ الذي ما زالت آثارُه حاضرة في مجتمعنا. «من ضاجع ابنة وأذلّها»، وجب عليه أن يدفع مهرها ويتزوّجها. هذا ما قال سفر الخروج: «إن أغرى رجلٌ فتاة بكرًا لا خطيب لها فضاجعها، فليدفع مهرها ويتزوّجها. فإن رفض أبوها أن يزوّجها به، فليدفع له مهرًا كمهر الفتاة البكر» (خر 22: 15-16). وسوف يوضح سفر التثنية ما يدفع الشاب لقاء فعلته: «إذا صادف رجل فتاة بكرًا لم تُخطب فضاجعها، فانكشف أمرها، يُعطي ذلك الرجل لأبي الفتاة خمسين من الفضّة، وتكون له زوجة في مقابل مضاجعته لها، ولا يطلّقها كلّ أيّام حياته» (تث 22: 28-29).

هي خطيئة أولى تجاه الأب الذي أصيب في سمعته. هو حافظُ عذريّة ابنته وكافلُها. وخطيئة ثانية تجاه الفتاة. لهذا فهو يأخذها. ولكن لا لفترة قصيرة، ثمّ يطلّقها. بل تكون رفيقة حياته ما دام حيٌّا. وما يلفت النظر في سفر الخروج، هو حرّيّة الوالد وبالتالي حريّة الفتاة، في الزواج من هذا الرجل أو عدم الزواج. وفي الحالين، يجب على الزاني أن يدفع المال لقاء فعلته.

وسيكون سفر التثنية قاسيًا في مجال الزنى. فالفتاة التي لا تكون بكرًا عند زواجها، يُخرجها شيوخ المدينة إلى باب بيت أبيها وهناك تُرجم بالحجارة حتّى تموت، لأنّها ارتكبت حماقة في بيت أبيها. «هكذا تُزيلون الشرّ من بينكم» (تث 22: 20-21). ويميِّز المشترع بين زنى في المدينة، فيه يُرجَم الاثنان. فلو صرخت الفتاة صراخ النجدة، لوجدت من يدافع عنها. وبين زنى في الحقل. فقد تكون الفتاة صرخت، فلم يكن من يخلّصها وهي بعيدة عن الناس. في هذه الحالة الأخيرة، يُقتَل الرجل وحده (تث 22: 23-27).

نلاحظ هنا القساوة تجاه الزنى. فالمحيط ضيّق. والشرّ يُنشَر بسرعة، وقد منع سفر التثنية أيضًا ابن الزنى ونسلَه من الدخول إلى الهيكل (تث 23: 3). ولكن مع أشعيا سوف يتبدّل الوضع: الجميع يأتون إلى الجبل المقدّس، لأنّ بيت الله «يُدعى بيت صلاة لجميع الشعوب» (أش 56: 7).

نظّم المشترع حالات الزنى. وشيوخ المدينة هم الذين يحكمون في الأمر. أمّا هنا فما انتظر شمعون ولاوي حكم «المحكمة». ولا هما قبلا التعويض: استعدّ شكيم أن يدفع المهر ويتزوّج دينة. بل طلبا الانتقام والغدر. فكانت خطيئتهما كبيرة. وفي أيّ حال، الزانية لا تُرجم في المسيحيّة. ولا الخاطئة تُرذل. بل تستطيع أن تسبق من يُدعَون أبرارًا إلى ملكوت الله. ويرافقها العشّارون (متّى 21: 31) الذين ينالون الخلاص هم أيضًا، لأنّهم أبناء إبراهيم (لو 19: 9). ولكن شرط أن يتوبوا ولا يعودوا إلى الخطيئة (يو 8: 11).

 

2- إقامة القبائل في شكيم

جاء التقليد الأوّل خبرًا عائليٌّا، فيه يدافع الإنسان عن نفسه بجميع الوسائل التي تقع تحت يده. فكان ما فعله شكيم شرٌّا. وكذلك ما فعله شمعون ولاوي. فما من بار ولا واحد. وجميعُ البشر خطأة. ومن اعتبر نفسه بلا خطيئة كان كاذبًا. ومن اعترف بخطاياه، غفر الله له، وطهّره من كلّ إثم، لأنّه أمين وعادل (1يو 1: 8).

وتحدّث التقليد الثاني عن إقامة قبيلة من القبائل بجوار شكيم. نلاحظ هنا التلاعب على الكلام. فشكيم اسم ابن أمير المدينة، ابن حمور. وشكيم هي اسم مدينة أيضًا وقعت عند سفح جبل جرزيم حيث سيُبنى معبد للسامريّين (تث 11: 30؛ يش 8: 33).

ماذا قال هذا التقليد؟ أحبّ شكيم بن حمور دينة فطلب يدها للزواج بواسطة والده. عندئذٍ عرض أمير المدينة على بني يعقوب عهدًا زواجيٌّا: «نعطيكم بناتنا ونأخذ لنا بناتكم، ونقيم معكم ونصير شعبًا واحدًا» (تك 34: 16). بواسطة الزواجات بين قبيلة شكيم وقبيلة يعقوب يُصبحُ الشعبان شعبًا واحدًا. وبدا المكر واضحًا لدى بني يعقوب الذي سيقتلون وينهبون ما في المدينة. ولدى أمير المدينة الذي قال: «تصير مواشيهم ومقتنياتهم وجميع بهائهم لنا، إن نحن وافقناهم على هذا، فأقاموا معنا» (آ 23).

هي قساوة ووحشيّة. ولا شيء يبرّر ما فعله ابنا يعقوب. لهذا قال لهما الوالد: «كدّرتماني وجلبتما عليّ البؤس (والشقاء)» (آ 30). صار أهل البلاد يبغضونني، الفرزيّون الذين قد يكونون الفلسطيّين المذكورين في ف 20. والكنعانيّون الذي طبعوا بطابعهم ساحل البحر من مصر إلى تركيّا. ورأى يعقوب الخطر: «ونحن قليل عديدنا. فإن اجتمعوا عليّ وهاجموني، هلكتُ أنا وأهل بيتي».

أهكذا يكون الأمان بين الشعوب؟ أنغشّ بني حمور. قال عنهم: «هؤلاء القوم مسالمون لنا... فنتزوّج بناتهم ويتزوّجون بناتنا» (آ 21). أيّ سلام هو هذا السلام، ولا سيّما حين يتاجر المؤمن باسم الله وبأهم عمل يقوم به المؤمن ليدلّ على أنّه من شعب الله. وهكذا صار الختان مناسبة للقتل، لا للحياة. صار الختان فخٌّا لأناس غير مختونين. وإذا كان الفرزيّون المذكورون هنا هم الفلسطيّين، نرى من خلال هذا الخبر القبليّ، أنّه كان بالإمكان أن يكون بنو يعقوب المقيمون في الداخل، في سلام مع الفلسطيّين الذين أقاموا في المدن الخمس على شاطئ البحر. ولكنّ المؤمنين بالله الواحد رفضوا السير في وصايا الله. قتلوا مع أنّ الوصيّة قالت: لا تقتل. وسلبوا، مع أنّ الوصيّة قالت: لا تَسرق. وهكذا جدّف الناس على اسم الله بسبب الذين وجب عليهم أن يرفعوا الاسم الإلهيّ ويمجّدوه.

وهكذا بدا هذا الفصل انتقادًا لتصرّف يعقوب وأبنائه. تجاه مدينة مسالمة، مارسوا العنف والقتل، والحيلة والمكر «فسبوا وغنموا جميع ثروتهم (= أهل شكيم) وكلَّ أطفالهم ونسائهم وسائر في ما البيوت» (تك 34: 29). كم نحن قريبون من تك ف 20. اعتبر إبراهيم أن مخافة الله غير موجودة عند الفلسطيّين. ولكنّه أخطأ. فما إن سمع أبيمالك صوت الربّ في الحلم، حتّى أطاع. بيّن أوّلاً براءته وبراءة شعبه. «بسلامة قلبي ونقاوة يديّ فعلت هذا» (20: 5). أمّا إبراهيم فجلب على جرار خطيئة عظيمة. وما فعله هذا «المؤمن» لا يفعله أحد.

 

3- اهربوا من الزنى

أرسل الكورنثيّون بعض الأخبار إلى بولس. وحدّثوه عن واقع زنى خطير: رجل ينام مع امرأة أبيه (1كور 5: 1ي). اعتبر هؤلاء المؤمنون أنّ الأمر عاديّ. بل مجلبة للافتخار. كان هذا الرجل حقٌّا رجلاً. هو لا يسرق ولا يقتل. ففعلُه في ذاك الوقت معيب. أمّا الزنى فيدلّ على الرجولة. لكنّ المرأة لا يحقّ لها أن تخون زوجَها. وحده الرجل يحقّ له! ما هذه التعاليم الخلقيّة التي لا تمتّ بصلة إلى الإنجيل؟

وجاء ردّ بولس قاسيًا على المستوى العمليّ. مثلُ هذا الرجل يُطرد من الجماعة، لا سيّما وأنّ خطيئته علنيّة، معروفة، تحمل الشكّ إلى الجماعة. بكّت الرسول الجماعة في كورنتوس: «كان الأولى بكم أن تنوحوا حتّى تُزيلوا من بينكم من ارتكب هذا الفعل» (آ2). لا يمكن أن يبقى الشرّ فتكون الشهادة المسيحيّة بخلاف إرادة المسيح. أمّا صاحب الخطيئة، فيُحرم من العيش في وسط الجماعة. يُقطع من الجماعة ولا يعود يستفيد من البركة التي جعلها الله فيها. وأرسل بولس حكمه الذي يحمل الدواء، بل ربّما يحمل اليأس. في أيّ حال، هو عمل الطبيب الذي يقطع العضو المزمن لكي ينجو الجسد.

قال: «سلّموا هذا الرجل إلى الشيطان» (آ 5). أو بالأحرى هو في خطيئته لم يعد من حزب يسوع، بل من حزب الشيطان، ذاك الذي يقاوم إرادة الله. فمن يفعل الخطيئة يُصبح عبدًا للخطيئة. ومن يترك وصايا الله، يتعلّق بالشيطان. أتركوه وحده. هذا ما كان يحدث في القبائل: يُطرد الفردُ المخطئ من القبيلة، فلا تستقبله قبيلة فيكون مصيره الموت. ومثل هذا الخاطئ لا تستقبله جماعة مسيحيّة واحدة. وفعل بولس ما فعل، لا انتقامًا، بل نداء إلى التوبة والخلاص قبل أن تأتي الدينونة. «يهلك جسده فتخلص روحُه في يوم الربّ». يحسّ مثل هذا الخاطئ أنّه وحده. هو طريد، شريد، مثل قايين بعد أن قتل أخاه. وقد يوبّخه ضميره فيعود عن غيّه وضلاله. حينئذٍ تستقبلُه الجماعة أجمل استقبال.

ذاك كان موقف الرسول إلى الكورنثيّين تجاه الذي احتقر من بعث به ليمثّله ويحلّ المشاكل العالقة. قال: «ويكفي هذا الرجل من العقاب ما أنزله به أكثركم. والآن، خير لكم أن تصفحوا عنه وتشجّعوه، لئلاّ يبتلعه الغمّ الشديد. فأوصيكم أن تزيدوه محبّة» (2كور 2: 6-8). تاب، صفح الله عنه. ونحن نصفح. وصل به الندم إلى اليأس، ونحن نشجّعه. أحسّ بالغربة وظنّ أنّ الجميع يبغضونه. نحن نحبّه. بل نحبّه أكثر من الآخرين. لأنّ المحبّة وحدها تشفي. أما هكذا هي محبّة الأمّ لابنها المريض؟

وقدّم بولس المبدأ اللاهوتيّ الرفيع: «أجسادكم هي أعضاء المسيح» (1 كور 6: 15). فكيف نأخذ عضو المسيح ونجعل منه عضو زانية؟ إذا كان الإنسان، رجلاً أو امرأة، واحدًا في المسيح، فهو لا يستطيع أن يتّحد بالزاني ويكون معه جسدًا واحدًا. «من اتّحد بالربّ صار وإيّاه روحًا واحدًا» (آ 17). ومن اتّحد بالزانية صار وإيّاها روحًا واحدًا. أخذ روح الزنى من الزانية. والمرأة تأخذ روح الزنى من الزاني. وكانت الوصيّة. بل كان أمرُ الأب لأولاده: «اهربوا من الزنى» (آ 18).

وجاء مبدأ لاهوتيّ آخر: «أجسادكم هيكل الروح القدس» (آ 19). يقيم فيها الروح القدس الذي لا يمكن أن يتوافق مع الخطيئة. فمن عاش في الزنى كان وكأنّه يطلب من الروح أن يتركه ليحل محلّه إبليس. ولكن حين يسير المؤمن بحسب شريعة الله، يأتي الربّ إليه. يهرب إبليس. أما هذا الذي حدث ليسوع بعد أن انتصر على التجربة؟ قال متّى في هذا المجال: «تركه إبليس، فجاء الملائكة يخدمونه» (4: 11). والملائكة يدلّون على حضور الله وعمله.

لا يستطيع التلميذ أن يعمل ما يشاء. لا يحقّ له أن يظنّ أنّه يحلّ له أن يفعل ما يشاء. فجسدُنا لم يعد لنا. صار لله بعد أن افتدانا المسيح ودفعَ الثمن (2 كور 6: 20). صرنا مُلك الله. وهنيئًا لنا إن قبلنا أن نكون عبيدًا سلّموا أمرهم إلى الله. جعلوا من جسدهم أداة لتمجيد الله. ولا يستطيع التلميذ أن يعتبر الزنى حاجة للجسد كما الأكل حاجة للبطن. فبالزنى ينطبع الإنسان بحيث لا يقدر بعد أن يرجع إلى الله. يُصبح عبدًا للزنى. ومن يخلّصه في ذلك الوقت من جسد الموت هذا؟ ربّنا يسوع المسيح وحده (روم 7: 24-25).

 

خاتمة

جاء هذا الفصل في إطار مظلم. على مستوى الفرد، كان الزنى حين غرّر بدينة هذا الشاب، شكيم بن حمور الحوّيّ، «فضاجعها وأذلّها». وأراد أن يُصحّح ما فعله من أمر خطير. رفض إخوتها. فقتلوا المخطئ وأعادوا أختهم. وعلى مستوى الجماعة، كانت حرب ودمار مدينة، بحيث حلّت قبيلة مكان قبيلة. وشعبٌ بدل شعب. وضاع السلام الذي طُلب من يعقوب أن يُقيمه حوله. فلا جواب نهائيٌّا إلاّ في المسيح. لا مكان للزنى في حياة الإيمان. جسدُنا هيكل الروح القدس. ونحن أعضاء المسيح الذي هو كلّيّ القداسة. وإن كان من زنى، فهناك تعويض على المستوى البشريّ. وهناك صفح وغفران على المستوى المسيحيّ. وفي النهاية، جاء المسيح إلى أورشليم إلى مدينة السلام. ما أراد أن يضحّي بأحد من أجل مُلكه. فما عاد ذئبًا. ولا خوف على الطفل من الأفعى. هي فقدت سمّها وتركت حيلتها. ويأكل الأسد طعامه العشبيّ مع الثور. ففي جبل الربّ المقدّس، وكلّ مكان هو هذا الجبل، لا إساءة ولا فساد (أش 11: 9). لماذا؟ لأنّ الأرض امتلأت من معرفة الربّ، كما امتلأ البحر

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM