ليس بار ولا واحد

ليس بار ولا واحد

اعتبر الشعب العبراني انه إن مارس الختان، وحفظ نفسه من بعض الاطعمة يكون باراً، مرضياً أمام الله. ونعتبر نحن اليوم أننا إن قمنا ببعض الصلوات والعبادات التي لا تصل إلى عمق حياتنا، أننا ابرار، أننا نعيش حسب مشيئة الله ووصاياه. وإن نقصنا بعض الشيء نعود إلى الآباء وكأنهم أساس خلاصنا بحيث نستطيع ان لا نفعل شيئاً ونكون من المخلّصين. لهذا جاء كلام المزمور قاسياً حول الانسان ورجس اعماله (مز 14: 1). لا، ليس بارّ ولا واحد، وجميع البشر هم في الخطيئة. ومن اجل ذلك فهم يموتون. ونوح نفسه الذي خرج من الطوفان سالماً، سقط في الخطيئة. فكان مصيره مصير كل انسان في هذا العالم، وما أصبح خالداً مثل بطل الطوفان في الآداب السومريّة والآكاديّة. وحده الله من الازل إلى الأبد. أما الانسان فسوف تقصر أيامه بسبب الخطيئة، بحيث يحتاج إلى الخلاص بيسوع المسيح.

1- كان نوح باراً

أول مرّة يُذكر فيها نوح في الكتاب، كان في نسب الآباء الاولين الذين سبقوا الطوفان: «وعاش لامك مئة واثنتين وثمانين سنة، وولد ابناً وسمّاه نوحاً. قال: «هذا يريحنا عن أعمالنا وعن تعب أيدينا في الارض التي لعنها الربّ» (تك 5: 28). ويتابع النصّ: «ولما كان نوح ابن خمس مئة سنة ولد ساماً وحاماً ويافث» (آ 32). واللغة المسيطرة: «كان نوح في زمانه رجلاً باراً كاملاً في أجياله. وسار نوح مع الله» (تك 6: 6).

كان نوح رجلاً باراً، عاش بحسب مشيئة الله. فتميّز عن أهل زمانه، عن أجياله، حيث «فسُدت الارض أمام الله وامتلأت عنفاً» (آ 11). عاش حياة صلاح جعلته ينجو من الخطر الذي هدّد البشرية قبل أن يفنيها بماء الطوفان. هو رجل كمال عاش قبل الوقت كلام الانجيل: «كونوا كاملين لأن أباكم السماوي كامل هو» (متى 5: 48). بل كان باستطاعته أن يجيب بما أجاب الرجل الغني الذي جاء يسأل عن طريق تصل به إلى الحياة الأبدية: «هذه الوصايا كلها، حفظتها منذ صباي» (مر 10: 20). ولكن يسوع أجاب ذاك الرجل، كما يمكن أن يجيب نوحاً: «يعوزك شيء واحد» (آ 21). اجل، لا بار ولا واحد. والابرار والانبياء في العهد القديم «لا يصيرون كاملين إلاّ معنا» (عب 11: 40). لا يكون لهم ملء البرارة إلاّ بيسوع المسيح الذي هو وحده «القدوس والبار»، كما قال عنه بطرس، في خطبته في الهيكل، وبعد أن شفى المخلّع في رواق سليمان (أع 3: 14).

سار نوح مع الله، شأنه شأن أخنوخ. ما أجملها رفقة بالنسبة إلى المؤمن. هو ما سلك طريق الأشرار، ولا توقّف مع الخطأة يتكلّم كلامهم، ولا جلس معهم يهزأ بالذين يتعلّقون بالربّ ويطلبون رضاه. فكانت «مسرّته في شريعة الربّ، وبها يلهج نهاراً وليلاً» (مز 1: 1- 2). غير أن هذا الذي أنشد نزاهة سلوكه وابتعاده عن اهل المكر والسوء هتف: «عليك توكّلت فلا اتزعزع» (مز 26). في الواقع، اتكل على رحمة الله وأمانته لكي يبقى ثابتاً، «وتقف قدماه على ارض آمنة» (آ12). استند إلى الله فنال بركة الله. غير أن هذه البركة ظلّت محدودة. فما تعدّت أسرته الصغيرة ساعة قال الربّ: «أمحو الانسان الذي خلقتُ عن وجه الارض، هو والبهائم والدواب وطيور السماء، لأني ندمتُ أني صنعتهم» (تك 6: 17). ويتابع النصّ: «أما نوح فنال رضى الربّ» (آ 8). وتتوّج هذا الرضى حين قدّم نوح ذبيحة للربّ بعد أن نجا من الطوفان. اصعد المحرقات، «فتنسّم الربّ رائحة الرضى» (تك 8: 20- 21). كانت بداية الكلام عن نوح «إراحة» الربّ، بل إراحة الأرض من اللعنة. وبعد الطوفان، سيقول الربّ ناظراً إلى نوح: «لن العن الأرض مرّة أخرى بسبب الانسان» (آ 21). هي بركة نالها نوح، فتجد امتدادها في بركة نالها ابراهيم، وتجد كمالها في يسوع المسيح الذي فيه «كلُّ بركة روحيّة في السماوات» (أف 1: 3).

2- ولكنه خطىء

 

حين نقرأ كتب الأقدمين في الشرق، نرى كم يمجّدون الأشخاص الذين يتحدّثون عنهم. ذكرنا بطل الطوفان الذي صار على مستوى الله، فما عاد الموت يصيبه مثل سائر الناس. والملوك الأقدمون في بلاد الرافدين وصلت اعمارُهم إلى اربعين الفاً. صاروا تجسيداً للاله، هذا مع العلم أن الرقم الف هو رقم الله، رقم الخلود. أما في الكتاب المقدّس، فلم يصل انسان إلى الرقم الف. فآدم، بعد أن عاش ما عاش من السنين، مات. وشيت الذي ولد البنين والبنات، في النهاية مات (تك 5: 5، 8). ولماذا يموتون؟ لأنهم خطأة. والوصية الاولى التي توجّهت إلى البشرية واضحة: يوم تأكل من شجرة معرفة الخير والشرّ، يوم تريد أن ترذل الوصايا التي تدلّك على الخير وتحذّرك من الشرّ، يوم تريد أن تصير كالله فتقرّر ما تودّ أن تفعله، يوم تفضّل مشيئتك على مشيئة الله «موتاً تموت» (تك 2: 17). وقال بولس في الخط عينه: «والخطيئة دخلت في العالم، وبالخطيئة دخل الموت، وسرى الموت إلى جميع البشر، لأنهم كلّهم خطئوا» (روم 5: 12).

ليس من بار ولا واحد، وابراهيم نفسه عرف الخطيئة. ولوط غرق في خطيئة أهل سدوم، فوصلت به الامور إلى الزنى مع ابنتيه. ويعقوب مارس الحيلة مع أخيه، والكذب مع خاله. وداود الذي قيل فيه انه بحسب قلب الله، قتل قائداً من قوّاده وأخذ له امرأته. ونوح البار سوف يسكر ويتعرّى في خيمته (تك 9: 21). ويتابع النصّ: «فرأى حام أبو كنعان عورة أبيه» (آ22). فالشرّ موجود في العالم، في الماضي وفي أيامنا. والخطيئة ترافق الانسان. والكتاب المقدّس في عهده القديم، يرينا مسيرة الانسان من الخطيئة إلى النعمة. من اللعنة إلى البركة. من اخلاقيّة انسان يقتل أخاه لسبب تافه، يطلّق امرأته لأجل كل علّة. ولكن الكتاب لا يوافق على هذه الاعمال. فمسيرة الله مع الانسان تنطلق من عمق الخطيئة لترفع الانسان إلى حياة بارة صالحة.

أما نوح الذي بدأ حياته فأزال اللعنة عن الأرض (تك 5: 28)، ودلّ على كماله، فقد أنهى حياته بإعادة اللعنة. حين حصل ما حصل من شرّ، قال: «ملعون كنعان ! عبداً ذليلاً يكون لإخوته». لهذا خلص الكتاب إلى الكلام: «فكانت كل ايام نوح تسع مئة وخمسين سنة عندما مات» (تك 9: 29). وهكذا ما بلغ الألف سنة، ولا كان خالداً. فيبقى على المؤمن أن يتعلّم من كلام النبي اشعيا: «ويل للمبكرين صباحاً في طلب المسكر، والساهرين الليل كله والخمر تلهبهم... الخمر شرابهم، ولا يلتفتون إلى عمل الربّ ولا يتأملون ما صنعت يداه» (اش 5: 11- 12) ويتابع النبي كلامه: «ولكن هؤلاء انفسهم ضلّوا بالخمر وتاهوا بالمسكر. حتى الكاهن والنبيّ ترنّحا بالمسكر وغرقا بالخمر، وعثرا في الحكم. كل الموائد امتلأت من القيء القذر وما بقي مكان نظيف» (اش 28: 7- 8).

نحن لا نأخذ من الأبرار البرارة. فالبرارة عطيّة من الله، ونداء من لدنه تعالى. ونحن نحاول أن نتجاوب مع هذا النداء. فالخطيئة رابضة بقربنا كالاسد المستعدّ للوثوب على فريسته (1 بط 5: 8). وكان الربّ قد قال لقايين الذي يستسلم إلى الشرّ: «الخطيئة رابضة بالباب وهي تتلهّف إليك، وعليك أن تسود عليها» (تك 4: 7). وتأتي الشريعة فتنبّه الانسان من التجربة التي تقود إلى الخطيئة. ''لا تكشف عورة أبيك بكشف عورة أمك. فهي أمك، لا تكشف عورتها. وعورة زوجة أبيك لا تكشفها، فهي عورة أبيك» (لا 18: 7- 8). مثل هذا الزنى مع الأقارب يُمنع. وماذا نقول عن الزنى بين الذكر والذكر، في إطار القرابة بين الابن وأبيه. نشير هنا إلى ان مصر عرفت الزواج بين الاخ وأخته. وسدوم عرفت الزنى في كل أشكاله، فحاولت ان تتعدّى على الملاك الذي جاء يزور لوطاً (تك 19: 8). وربط الكاتب الملهم هذه الخطيئة بنوح، لينبّهنا: إذا كان نوح البار خطىء، فما يكون مصير المؤمنين الآخرين. أجل، جُعل الكتاب المقدّس من أجل تعليمنا.

3- لا خلاص الا بيسوع

ذاك هو الكلام الذي قاله بطرس لرؤساء اليهود والشيوخ، مبيّناً ان شفاء المخلّع تمّ «باسم يسوع المسيح الناصري» (أع 4: 10). لا، لم تتمّ المعجزة بيدينا، «فلماذا تنظرون إلينا كأننا بقدرتنا أو تقوانا جعلنا هذا الرجل يمشي» (اع 3: 12).

«بفضل الايمان باسم يسوع، عادت القوّة إلى هذا الرجل الذي ترونه وتعرفونه. فالايمان بيسوع هو الذي جعله في كمال الصحّة أمام انظاركم جميعاً» (آ 19). والمبدأ الاول جاء يختم الكلام حول هذه المعجزة: «لا خلاص إلا بيسوع فما من اسم آخر تحت السماء وهبه الله للناس نقدر به أن نخلص» (أع 4: 12).

في هذا الاطار نفهم مخطط الله: جعل الجميع تحت الخطيئة. سمح أن يخضعوا لسلطان الخطيئة (روم 3: 9)، لينالوا كلّهم الخلاص. فالوثنيون خطأة «إذ عرفوا الله فما مجّدوه ولا شكروه كإله، بل زاغت عقولهم وملأ الظلام قلوبهم الغبيّة» (روم 1: 21). واليهود أيضاً خطأة: يفتخرون بالشريعة وفي الوقت عينه يهينون الله حين يعصون الشريعة (روم 2: 23) بحيث يستهين الناس باسم الله بين الأمم بسببهم (آ 24). لا، ما من واحد بار، لا احد (روم 3: 10). والانسان لا يقدر أن يستند إلى برّه الخاصّ إلى البرِّ الآتي من الناموس. إذا أردنا أن نختار الافضل ونصير أنقياء لا لوم علينا في يوم المسيح، يجب أن نمتلىء، لا من ثمر أعمالنا، بل «من ثمر البرّ بيسوع المسيح، لمجد الله وحمده» (فل 1: 10- 11).

أراد العبرانيّون أن يستندوا إلى نوح ودانيال وأيوب (حز 14: 14). فكان جواب النبيّ: «ولو كان في الأرض هؤلاء الرجال الثلاثة، لما تمكّنوا من إنقاذ أنفسهم إلاّ بيدهم». ويريد المؤمن أن يستند إلى برّه السابق، فيحسب أن لا جهاد له بعد الآن. أو هو يحسب أن أعماله كانت كافية وهو يستحقّ الأجر الذي ينتظره. فنوح نفسه ما استطاع أن يستند إلى برّه. ولذا نقول عن الآباء الذين أرضوا الله: هم كلّهم معرّضون للخطيئة، ونحن أيضاً. لهذا يقول لنا بولس الرسول: «من ظنّ انه واقف فليحذر من السقوط» (1 كور 10: 12). من ظنّ انه قويّ تكون آخرته تعيسة. ويحدّثنا الرسول عن أولئك الذين «تعمّدوا لموسى في السحابة وفي البحر، وأكلوا طعاماً روحياً وشربوا شراباً روحياً. ومع ذلك، فما رضي الله عن أكثرهم، فسقطوا أمواتاً في الصحراء» (1 كور 10: 1- 5). ما انتفعوا من رفقة الله في الصحراء. ولكن لماذا كل هذا؟ فيجيب الرسول: «حدث هذا كلّه ليكون لنا مثلاً... بحيث لا نستسلم للزنى مثلما استسلم بعضهم» (آ 6- 8).

أجل، حين يروي لنا الكتاب خبراً، فلكي يقدّم لنا درساً بحيث لا نقع في خطيئة الغرور والاعتداد بالنفس. بحيث لا نوقف الجهاد بعد أن طالت بنا الحياة. ونسمع في هذا الاطار تنبيه النبيّ حزقيال. جاء الناس حوله يقولون: طريق الربّ غير مستقيم. ينظر إلى أعمال الانسان الحاضرة، وكأنه ينسى السابقة. فجاء جواب النبيّ قاطعاً: «إذا ارتدّ (تراجع) البار عن برّه، وفعل الاثم ومات، فبسبب إثمه الذي فعله يموت» (حز 18: 26). لا يمكن للمؤمن أن ينام على الحرير. فأمامه جهاد قد يصل به إلى الدم بإزاء الخطيئة (عب 12: 4). ومقابل هذا الارتداد عن الخير، هناك الاهتداء إلى الخير والابتعاد عن الشرّ: «وإذا تاب الشرّير عن شرّه، وعمل ما هو حقّ وعدل، فهو يُنقذ حياته» (حز 18: 27). ويأتي النداء: «فتوبوا وارجعوا عن جميع معاصيكم، لئلا يكون الاثمُ سبباً لهلاككم» (آ 30).

ولكن الانسان لا يقدر أن يحافظ على البرارة، دون نعمة من لدنه تعالى. لا يقدر ان يغتسل من خطاياه إن لم يحرّره الربّ من الداخل. فمن حسب نفسه باراً، صار خارج الخلاص. أما من اعترف بخطاياه، فالربّ رؤوف عادل. ويبيّن لنا بولس الرسول ان الله أتى إلينا حين كنا لا نستحقّ شيئاً. ساعة لا يضحّي الانسان بنفسه من أجل انسان بريء، ضحّى يسوع بحياته من أجلنا، يوم كنا خطأة. قال: «ولكن الله برهن عن محبّته لنا بأن المسيح مات من أجلنا ونحن بعدُ خاطئون. فكم بالاولى الآن بعدما تبرّرنا بدمه، أن نخلص به من غضب الله» (روم 5: 8- 9).

خاتمة

لا بار ولا واحد، لا انسان إلا وسقط في الخطيئة في يوم من الأيام. ويرينا العهد القديم ما صنع نوح حين سكر. وابراهيم حين أراد أن ينجو بحياته حين كان في مصر: «باع» حاملة الموعد، امرأته سارة، ولكن الربّ استردّها له. ويونان النبي حاول أن يهرب من وجه الله لئلا ينقل الرسالة التي كلّف بها. وهرون الكاهن صنع العجل الذهبيّ فجعل على شعبه خطيئة كبيرة. وجدعون القاضي الذي خلّص الشعب، صنع في النهاية صنماً. وشمشون أفشى بسرّه العميق بينه وبين ربّه، إلى امرأة من «الأعداء». وفي العهد الجديد خطىء بطرس حين أنكر سيّده ثلاث مرات. وخان يهوذا الربّ يسوع وباعه بقبلة تعبّر عن الصداقة في الحالات العاديّة. أما هنا فدلّت على الخبث والكذب، وطلعت منها رائحة المال. وحده يسوع هو البار والقدوس. والخليقة تبقى خليقة وهي تنتظر خلاصها ممن هو وحده المخلّص. «من الوسيط بين الله والناس، الذي ضحّى بنفسه فدى لحميع الناس» (1تم 2: 5).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM