بشرية جديدة بعد الطوفان

بشرية جديدة بعد الطوفان

تناقلت التقاليد عن الآباء الأولين خبر «طوفان» دمَّر البشرية كلها، ما عدا نوحاً وامرأته وبنيه الثلاثة وزوجاتهم. وبيّن العلم أن هذا الخبر لم يكن خطأً. ففي الحقبة الرابعة من تكوين الأرض والبشرية، ذاب الجليدُ في الأرض بحيث صارت مسكونة. غير ان هذا الذوبان السريع لم يمهل البشر فمات الكثيرون. ويقول العلماء إن البشرية تناقصت فلم تعد تصل إلى المئة الف. قد يكون هذا الخبر أساساً متيناً في ملحمة غلغامش، وفي اساس خبر الطوفان الذي جعل البشريّة تذوب. بل إن الكتاب الملهم اعطى معنى لاهوتياً، فما بقي على قيد الحياة إلاّ بارٌ واحد مع اسرته الصغيرة. وفي اي حال، هذا البار ما صار خالداً في ذاته مثل بطل غلغامش، بل عرف الخطيئة وبالتالي مات. غير أنه صار خالداً في ابنائه الثلاثة الذين يمثّلون البشرية كلّها.

1- سام وحام ويافث

بدأ النص الكتابي فقال: «وهؤلاء مواليد بني نوح، سام وحام ويافث، ومن وُلد لهم من البنين بعد الطوفان» (تك 10: 1). وجعل الكاتب نفسه في القرن الخامس ق م، فقدّم لنا لوحة تاريخيّة ولا أروع. فهمّه أن يجمع البشرية في مسيرة تصل بها إلى ابراهيم. ففي خط سام، نصل إلى تارح الذي ولد ابرام (او ابراهيم) وإخوته (تك 11: 27). هي نقلة جديدة، نقلة نوعيّة. لم نعد على مستوى الشعوب التي تقف البعض بجانب بعضها ، مسالمة او مقاتلة، بل أمام انطلاقة الايمان في طاعة تبدأ مع ابراهيم، الذي رحل كما قال له الربّ (تك 12: 4)، وتنتهي بيسوع المسيح الذي جاء ليجعل الرعيّة واحدة بإمرة راعٍ واحد، فاستعدّ لأن يضحي بنفسه من اجل الخراف.

أ) يافث

أورد الكاتب أسماء أبناء نوح، وجعل ساماً في المقام الأول. ولكن حين وضع السلسلة البشرية التي تتحدّر منه، بدأ بيافث وانتهى بسام، ليصل في النهاية إلى ابراهيم. من يضمّ يافت؟ العالم الهندو اوروبي الذي يبدأ بايران ويمرّ في تركيا وفي اليونان وجزرها كي يصل إلى إيطاليا. يذكر جومر او القميريّين الذين اقاموا في فيافي روسيا، وذكرتهم الكتابات للمرة الاولى في سنة 714 ق م. وفي النهاية أتوا إلى آسية الصغرى الشرقيّة. ويذكر الليديين الذين حكمهم جوج في ماجوج عاصمة ليدية، في تركيا الحاليّة. ماداي شعب اقام على هضاب ايران الحاليّة وتحالف مع الفرس على البابليين. وياوان هي إيونية والمستعمرة اليونانية على شاطىء البوسفور. واقام توبال وماشك على شاطىء البحر الأسود. وقد تعني تيراسُ اجداد الاتروسكيّين الذين تحاربوا مع رومة في القرن الثامن ق م. ويصل بنا الكاتب إلى رودس وقبرس وإلى اسبانيا مع ترشيش حيث وُجدت مناجم الذهب.

ب) حام

ممّن تألف نسل حام في الكتاب؟ كوش او بلاد النوبة التي تضمّ جنوبي مصر والسودان والحبشة. ثم مصرايم اي مملكتي مصر الجنوبية والشمالية. نستطيع القول: المصرَين. فوط هي ليبيا باسم اول قبيلة اقامت في تلك البلاد. اما كنعان فضمّ صيدون ومعه صور، وجزءاً من الشاطىء السوري، وعدداً من القبائل التي اقامت في فلسطين.

في الواقع، نستطيع القول ان الكاتب تطلّع نحو مصر وما بعدها، فوصل إلى القارة الأفريقية. وستُذكر كوش في إش 11: 11 مع عدد من الشعوب التي يفتديها الربّ. «وفي ذلك اليوم، يعود الربّ فيمدّ يده لافتداء بقيّة شعبه (ولم يقل شعوبه، لأن البشريّة كلها شعب الله الواحد) في اشور ومصر وفتروس وكوش وعيلام وشنعار وحماة، وفي جزر البحر...» كان نداء اول مع الذين خرجوا من مصر بقيادة موسى. وها هو نداء ثانٍ لا يترك شعباً من الشعوب بدون نداء. في هذا المجال، يوسّع اشعيا حدود شعب الله إلى ابعد من فلسطين، فيصل إلى اشور في الشمال وإلى مصر في الجنوب، بحيث تعبد مصر الربّ مع اشور، مع حضور الربّ في فلسطين كجسر يجمع الشعبين المتخاصمين: «وفي ذلك اليوم، يكون طريق من مصر إلى أشور، فتجيء أشور إلى مصر، ومصر إلى اشور» (اش 19: 23). وحين تكون مصر في ضيق، تستطيع ان تصرخ، كما سبق للعبرانيين ان صرخوا، فيأتي الربّ ويخلّصهم: «فإذا ما صرخ المصريون إلى الربّ في ضيقهم، أُرسل لهم مخلصاً ومحامياً فينقذهم» (إش 19: 20). عندئذٍ يعرفون الربّ ويعبدونه، وينذرون له نذوراً. لا شك في أنه ضربهم حين استعبدوا الشعوب الغريبة، ولكنه «يشفيهم حين يرجعون اليه ويستجيب لهم» (اش 19: 22). وهذا سوف يتمّ في ميلاد يسوع ووصول الانجيل إلى مصر.

ج) سام

وجاء سام في نهاية السلسلة، لأنه هو الذي يتوقّف عليه الكتاب. قال فيه: «هو ابو جميع بني عابر، واخو يافث البكر» (تم 10: 21). من هم اولاده؟ عيلام او هضاب ايران. اشور او شمال العراق. ارفكشاد او القبائل الحوريّة التي اقامت شرقي نهر دجلة. الأراميّون الذين اقاموا في دمشق وحماة وغيرهما من المدن. وذُكر عوص، موطن ايوب في شرقيّ الاردن. كما ذُكر أبناء الجنوب في الجزيرة العربيّة، ومنهم مملكة سبأ التي جاءت ملكتها في زيارة إلى سليمان (1مل 10: 1- 13). وحضرموت مع اوفير التي اشتهرت بذهبها.

الساميون هم سكان آسيا، بقدر ما عرف الكاتب منها، ولا سيّما بعد ان وصلت الفيلة من الهند او بعد ان سُمع عن اخبارها. وهم يتوزّعون في عشرة اسماء، كما كان الأمر بالنسبة إلى آباء ما قبل الطوفان، وقد ذكرنا منهم انوش واخنوخ ونوحاً... فالعدد عشرة هو ضعف خمسة الذي هو رقم مقدّس. وبين هذه الاسماء ما له معناه. فإن فالج يدل على انقسام الأرض. ورعو يرتبط بالرضى. تارح يجعلنا قريبين من مدينة تل تورحي في حوض البليخ (العراق الحالي). ناحور يشير إلى الخصام الذي يجعل الناس يتناحرون.

وانتهت سلسلة الساميين، مع عائلة تارح، التي هي في شمال العراق. مع أبنائهم الثلاثة: ابرام، ناحور، هاران (تك 11: 27). غير اننا نلاحظ ان هاران يرتبط بأور التي هي في جنوب البلاد، والقريبة من البصرة الحالية. فإلى اور مضى المهجّرون بعد هزيمة سنة 587 ق م، ودمار اورشليم وحريق هيكلها. من هناك اتى ابراهيم، ماراً بحاران، في الشمال، قبل أن يصل إلى فلسطين. ومن منطقة اور يعود المنفيّون كي يواصلوا الارث الذي تسلّموه من ابي الآباء حين رحل «من ارضه وعشيرته وبيت ابيه» (تك 12: 1). في الواقع، كلّ مؤمن هو في رحيل، ولن يتوقّف قبل ان يدلّه الله على الموضع الذي يقف فيه. ذاك كان وضع ابراهيم حين مضى ليذبح ابنه على الجبل، بعد مسيرة ثلاثة أيام. «رفع ابراهيم عينيه فأبصر المكان من بعيدٍ» (تك 22:4). هذا الموضع هو الموريا حيث يتراءى له الله، وهو الجبل الذي سيُبنى عليه الهيكل كما سوف يقول التقليد اللاحق، ووضع الكاتبُ موسى أيضاً مع القبائل العبريّة: حطوا الرحال عند قدمي جبل سيناء، وهناك رأوا الربّ وسمعوه يكلّمهم. ووضع المجوس أيضاً الذين جاؤوا من مكان بعيد، فوصلت بهم المسيرة إلى البيت حيث «وجدوا الطفل وامّه مريم، فركعوا وسجدوا له. ثم فتحوا أكياسهم وأهدوا إليه ذهباً وبخوراً ومراً» (متى 2: 11).

2- مجوس من الشرق

عن هؤلاء المجوس، الذين اعتبرهم بعضُ الشرّاح «ملوكاً»، يحدّثنا القديس متى. ففي نظره، هم وثنيون، لا يؤمنون بالإله الواحد، كما كان الوضع بالنسبة إلى الشعب العبراني. أما الروحانية الغربيّة، فاعتبرتهم ثلاثة اشخاص، لأن الهدايا ثلاثة. بل هي اعطت لهم أسماء: ملكيور، غسبار، بلطازار. واحد اشقر اللون يقودنا إلى اوروبا مع نسل يافث. وآخر أسود اللون يربطنا بحام وعالم افريقيا. والثالث اسمر اللون، مثل سام وهو يرتبط بآسيا، حيث صُوّر آدم بلون الأرض التي أُخذ منها.

أ) من هم هؤلاء المجوس

راحت الأبحاث تُطلق الأفكار حول هؤلاء الأشخاص الذين جاؤوا من البعيد لكي يسجدوا للطفل الالهي. قالوا: هم يرصدون النجوم. يعملون في التنجيم. وعملهم يشبه عمل السحر. نحن نراهم بشكل خاص في مصر. أولاً مع يوسف. دعاهم الفرعون بعد أن حلم حلمه. «وفي الصباح الباكر انزعجت نفس فرعون، فأرسل ودعا جميع سحرة مصر وجميع حكمائها، فقصّ عليهم حلمه. فلم يقدر أحد أن يفسّره له» (تك 41: 8). حكمة مصر لم تعد تكفي. وستتغلّب عليها حكمة أتت من الله. قال فرعون ليوسف: «رأيت حلماً وما من أحد يفسرّه. وسمعتُ عنك أنك إذا سمعت حلماً تفسّره». فأجابه يوسف: «لا انا، بل الله هو الذي يجيب فرعون» (تك 41: 15- 16). وهكذا بانت حكمة مصر جاهلة تجاه حكمة الله، فجاءت إلى الطفل الالهي «وسجدت له» وطلبت ان تتعلّم منه وسييتبعها اليونانيون الذين «يبحثون عن الحكمة» (1 كور 1: 22). وهكذا «ما يبدو أنه حماقة من الله، هو أحكم من حكمة الناس، وما يبدو انه ضعف من الله هو اقوى من قوّة الناس» (آ 25).

وضعفُ الحكماء سيظهر مع موسى: «دخل موسى وهرون على فرعون، وفعلا كما أمر الربّ. ألقى هرون عصاه أمام فرعون ورجاله فصارت حيّة. فدعا فرعون المنجّمين والعرّافين وهم سحرة مصر، فصنعوا كذلك بسحرهم. ألقى كلّ واحد منهم عصاه فصارت كل عصا حيّة عظيمة، ولكن عصا هرون ابتلعت عصيّهم» (خر 7: 10- 12). نحن هنا امام خبر رمزيّ. فقد يحوّل الربّ العصا، حقيقة، إلى حيّة. ولكن الساحر يؤثّر على الحاضرين، ولكنه في الواقع، لا يقدر على ذلك. وسوف يقوم «السحرة» بأعمال خارقة، فيما بعد. غير انهم سيعترفون في النهاية: «هذه اصبع الله» (خر 8: 14). وصلت قدرتُهم إلى حدّ من الحدود ووقفت. عندئذٍ لم يكن من حوار لفرعون بعد معهم، بل مع موسى وهرون، إلى ان يستسلم في النهاية، على مضض. اما مع مولد يسوع، فهؤلاء السحرة، هؤلاء المجوس، لأن هذا هو معنى الكلمة في اليونانية، قد اتوا إلى يسوع طوعاً. وفتحوا الطريق. ولما كتب متى انجيله سنة 85 ب م، لم تعد مصر خاضعة للآلهة الوثنية، بل للإله الواحد، كما تجلّى في تجسّد يسوع. وتركت حكمةَ حكمائها وأخذت بحكمة الصليب.

ب) مجوس من المشرق

قرأنا نصّ انجيل متى ورأينا في المجوس سحرة مصر. فيسوع الذي يُولد في قلب الخطر، يشبه موسى. وهو سيهرب إلى مصر خوفاً من هيرودس، ليعيش خبرة العبرانيين في العودة من مصر إلى ارض فلسطين. ولكن عبارة «من المشرق» تنقلنا بالأحرى إلى شمال فلسطين وشرقيها، لا إلى جنوبها مع مصر. فكيف نوفّق ما يبدو هنا متعارضاً؟

لا بدّ أن نفهم أولاً أن سحرة مصر يلتقون مع سحرة بابل، ولا سيّما في خبر دانيال. ونتذكّر أن دانيال قد كُتب في الحقبة الهلينيّة اليونانيّة. والمشرق يصبح في هذه الحال رمزاً ينطلق من الواقع. فهؤلاء المجوس الآتون إلى يسوع لم يعودوا الآن سحرة ومنجّمين. إنهم قد اكتشفوا الخالق، وسوف «يرونه» في هذا الطفل. إن كان رؤساء الكهنة عرفوا بمولد يسوع انطلاقاً من نبوءة ميخا، فأهل العالم الوثنيّ نظروا إلى عظمة الخليقة، فاكتشفوا الله خالقَها. ونظروا إلى جمالها فرأوا كم ربّنا اجمل منها. وبما انهم عرفوا الله ومجّدوه، فاختلفوا عن الذين يحدّثنا عنهم القديس بولس في الرسالة إلى رومة (1: 21)، وصاروا من المشرق حيث الفردوس الأرضي. فالكتاب يقول: «وغرس الربّ الاله جنّة في عدن، في المشرق» (تك 2: 8). ويتابع النصّ بعد الخطيئة: «فطرد (الله) آدم، واقام الكروبيم شرقي جنة عدن» (تك 3: 24). هو على حدود «أرض» الله. فخارج الجنة يقيم قايين (تك 4: 16)، كما يُمنع الوثنيون من الدخول إلى الهيكل للمشاركة في الصلاة. ولكن هؤلاء الوثنيين، هؤلاء المجوس، صاروا في الداخل، صاروا «في المشرق» لهذا اتوا إلى يسوع ثمّ استقبلوه أجمل استقبال.

خاتمة

إذا كان الشعب اليهوديّ قد تمثّل في الرعاة الذين مضوا إلى المغارة، فالعالم الوثنيّ تمثّل بأكبر دولتين في ذلك الزمان: مصر بسحرتها، وبلاد الرافدين بمنجّميها. ولكن الفئتين ما كانتا تستطيعان السير، لولا النور الذي أشرق عليهما. ترك المصريون سحرهم والكلدانيون تنجيمهم، واخذوا بجهالة الصليب، وهكذا التقى الشرق مع الغرب، التقى الشعب الذي استعدّ بكتبه المقدسة، والشعوب التي قرأت في كتاب الطبيعة. والجميع أتوا إلى طفل المغارة. جاؤوا باسم اولاد نوح فحمل يافث الذهبَ لمن هو الملك الذي جاء يعلن: اقترب ملكوت السماوات. وحامُ المرَّ، لأن هذا الطفل الذي ارسله الآب إلى العالم، هو انسان حقيقيّ وسوف يموت. لهذا حمل نيقوديمس «المرّ والعود» من اجل دفن يسوع (يو 19: 39). واخذ سام البخور، لأن هذا الطفل هو ابن الله المتجسّد الذي نسجد له ونعبده. مسيرة بدأت بعد الطوفان، فوصلت إلى هؤلاء المجوس، هؤلاء الحكماء بحكمة العالم، الذين بحثوا عن الطفل حتى في اورشليم، وفي النهاية وجدوه في بيت لحم «مع امّه مريم، فركعوا وسجدوا له

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM