مسكن الله مع البشر
با 5: 1-9
1- سياق النصّ
قبل أن نتطرّق إلى با 5 يجب أن نضعه في سياقه لنفهمه فمهًا أفضل. سفر باروك متعدّد العناصر، ولكن ثلاثة من أقسامه تعود إلى بداية القرن الثاني ق.م. وهذه المقطوعات الثلاث هي: صلاة متواضعة وتائبة يرفعها المنفيّون (1: 15؛ 3: 8)، تحريض حكميّ ينتهي بنشيد إلى الحكمة التي هي الشريعة (3: 9-4: 4)، كلمة تشجيع تعد المسبيّين من بني إسرائيل بالرجوع إلى أورشليم وتبيّن شروط هذا الرجوع (4: 5-5: 9).
وهذه المقطوعات تتماسك. فالتعزية في القسم الثالث هي جواب على الصلاة في القسم الأوّل شرط أن تسمع الكرازة في القسم الثاني. فإذا أراد المؤمنون المشتّتون أن يجتمعوا إلى الله ومع بعضهم، يتوجّب عليهم أن يخضعوا لإرادة الله المحفورة في الشريعة. والرجوع إلى الربّ (4: 28) هو الرجوع إلى وصاياه (4: 2). نحن نجد هنا ما قاله يسوع (يو 15: 10) وما ردّده يوحنّا في رسالته الأولى (3: 23ي؛ 5: 2ي).
وهناك سمة تربط بين المقاطع الثلاثة، هي إعجاب بأزليّة الله. فالله يقدّم عهدًا أزليًّا ويحافظ عليه (2: 35). إنّه يملك أزليًّا بينما البشر يزولون دون توقّف (3: 3). ولكنّ الشريعة تستطيع أن تحمل سلامًا أزليًّا لهؤلاء الكائنات الضعفاء (3: 13) لأنّها تدوم أزليًّا (4: 1). فمن حفظ الشريعة تعلّق بالأزليّ. وهكذا يشدّد باروك على الحياة التي لا ضعف فيها والأمانة التي لا كسوف فيها والتي يتحلّى بها خالق البشر وسيّدهم. هذه هي الحالة الوحيدة التي فيها نجد لفظة "الأزليّ" مستعملة وحدها لتدلّ على الله. فالبهاء والفرح اللذان يقدّمهما الله للبشر هما أزليّان مثله ويريدان أن يتّحدا بهم إلى الأبد (5: 1-4).
2- تفسير النصّ
1 أخلعي، يا أورشليم، لباس النوح والمذلّة.
والبسي بهاء مجد الله الأبديّ.
2 تسربلي بثوب البرّ الذي من الله،
وتوّجي رأسك بتاح مجد الأزليّ.
3 فالله يُظهر بهاءك
لكلّ الشعوب تحت السماء،
4 ويعطيك هذا الاسم إلى الأبد،
وسلام البرّ ومجد التقوى
5 فانهضي يا أورشليم، وقفي في الأعالي،
وتطلّعي من حولك إلى الشرق
وانظري أبناءك مجتمعين،
من مشرق الشمس إلى مغربها،
بكلمة القدّوس الواحد،
وهم يبتهجون بذكر الله.
6 خرجوا من أبوابك
على الأقدام، يسوقهم الأعداء
فأعادهم الله إليك
محمولين في المجد مثل عرش ملكيّ
7 فالربّ عزم
أن يمجّد كلَّ جبل عالٍ وتلّة،
وأن يملأ الأودية كلّها
بحيث تتمهّد الأرض
ويسير بنو إسرائيل عليها،
دون عثار، لمجد الله
8 بأمر من الله،
يظلّلهم من الغاب
كلّ شجر طيّب الرائحة.
9 لأنّ الله سيعيد بني إسرائيل،
فرحين يُعيدهم في نور مجده،
برحمةٍ وعدلٍ من عنده.
النشيد الذي يجعل الأزليّ أمامنا هو اللوحة الثالثة من القسم الثالث (4: 5-5: 9). يتكلّم فيه النبيّ باسم الله فيذكّر إخوته على طريقة تث 32 أنّهم تركوا الربّ بخطاياهم وأحزنوا أورشليم (4: 5-9). وتتكلّم هذه المدينة الأمّ لتدعو أبناءها إلى التوبة وتعيد إليهم الأمل (4: 9-29). بعد هذا يعلن النبيّ باسم الربّ كلام التعزية (4: 30-5: 9). يدعو أورشليم التي يحسبها شخصًا حيًّا لكي تخلع عنها ثوب الحداد وتلبس البهجة.
يا أورشليم، اخلعي ثوب الحداد والشقاء، والبسي إلى الأبد بهاء المجد الذي من عند الله (آ 1).
تسربلي ثوب البرّ الذي من الله واجعلي على رأسك تاج مجد الأزليّ (آ 2). فأورشليم عرفت بعد دمارها على أيدي البابليّين، أعظم حزن (4: 9). إنّه حزن أمّ حرمت من أولادها (4: 11، 23). أمّا الآن فتعيش بابل الخبرة عينها (4: 34). وبعد أن تحرّرت أورشليم فهي ستخلع ثوب الحداد (أش 60: 20؛ 61: 2) وتلبس المجد الذي سيزيّنها به الله فيعطيها مجده وبرّه. لقد خسرت هذا البهاء بخطيئتها (مرا 1: 6) وهي لا تستطيع أن تستعيده بقواها الخاصّة. فهي لا تقدر إلاّ أن تتقبّله من الربّ. وهكذا يردّد النصّ أنّ المجد والبرّ يأتيان من الله ليسربلا أورشليم كما بمعطف وليزيّناها كما بتاج (أش 6: 10).
وتوجّه النبيّ إلى المدينة المقدّسة فقال:
إن الله يظهر سناك لكلّ ما تحت السماء (آ 3).
ويلفظ إلى الأبد اسمك الذي جاءك من الله وهو: سلام البرّ ومجد العبادة. إنّ سناء جبل صهيون الذي يجتذب كلّ الأمم (أش 60: 3) ليس إلاّ انعكاسًا لسناء الله (4: 24) والله الأزليّ يقدر وحده أن يعطيه اسمًا أزليًّا. فباروك يكمّل لائحة نبويّة صوّر فيها الكتّاب الملهمون الوجهات المتعدّدة لرسالة أورشليم وزيّنوها بأسماء هي برنامج. وعلى أثرهم نحتفل ونشيّد أورشليم المثاليّة: مدينة العدل والمدينة الأمينة (أش 1: 26)، عرش الربّ (إر 3: 17)، الربّ صدقنا (إر 33: 16)، قلب الأمم (حز 5: 5)، الربّ هناك (حز 48: 35)، الخلاص (أش 46: 13)، المدينة المقدّسة (أش 48: 2، 52: 1) مدينة الله وصهيون قدّوس إسرائيل (أش 60: 14)، سرور الله وعروس الله (أش 62: 4) رغبة الله والمدينة غير المهجورة (أش 62: 12)، مدينة الفرح (أش 65: 18) أمّ الشعوب (مز 87: 5) سلام البرّ ومجد العبادة (با 5: 4).
ينهي باروك هذه اللائحة بلقب طويل. ففي نظره تكون أورشليم هادئة ومهدّئة، تشعّ من هذا الكلام الذي هو عمل البرّ (أش 32: 17) ومن المجد الحقيقيّ الذي هو ثمرة العبادة أي الاحترام الذي نظهره نحو الله. بعد أن سمّيت المدينة المقدّسة بهذا الاسم دعيت لا أن تنهض فقط (أش 51: 17؛ 52: 12) بل أن تصعد إلى مكان مرتفع لترى رجوع أبنائها.
يا أورشليم، انهضي وقفي في الأعالي وتطلّعي من حولك نحو المشرق. وانظري بنيك مجتمعين من مغرب الشمس إلى مشرقها بكلمة القدّوس، وهم مبتهجون لأنّ الله تذكّرهم (آ 5).
ذهبوا عنك راجلين يسوقهم الأعداء لكنّ الله يعيدهم إليك راكبين بكرامة كمن هو على عرش الملك (آ 6).
ها هم أبناء أورشليم وقد تجمّعوا فألّفوا وحدة من طرف العالم إلى الطرف الآخر (4: 37). والقوّة التي تجمعهم هي كلمة الله، هذا النداء الذي يوجّهه الله إلى البشر لأنّه أمين لمواعيده ولا ينسى المائتين. ذاكرته لا تخطئ وقد سمعه المنفيّون يقول هذا (4: 27). والآن ها هم يبتهجون بفرح حين يتكلّم عن شعبه (إر 31: 20). فالله يحبّ شعبه ويعزّيهم ويعيدهم مظفّرين بعد أن كانوا مشتّتين. ذهبوا يدفعهم العدوّ في سير حثيث وعادوا من دون تعب يحملهم الذين استبدّوا بهم على الهوادج مثل أبناء الملوك (أش 49: 22؛ 60: 4).
ولكي يسهّل الله هذا الرجوع سهّل صعوبات الطريق (آ 7) كما قال أشعيا (40: 4). هبطت الأسوار وتمهّدت الخليقة كلّها ليسهل مسيرة شعب تصالح مع الله ومع نفسه (آ 8-9). فبحسب نبوءات أشعيا صارت الصحراء خضراء (أش 41: 19). ولكنّ الحماية العابرة التي تقدّمها للقافلة الراجعة إلى أورشليم ليست بشيء قرب الحماية الدائمة التي يؤمّنها الله لها. فالله هو من يسهر على أبنائه ويقودهم في هذا الخروج الثاني كما فعل في الخروج الأوّل. في الخروج الأوّل كان خباء لهم (خر 13: 21؛ تث 1: 33) وفي الثاني طلب من الحكمة أن تقودهم (حك 10: 17). وهو يفرح حين يجعل أبناءه في الطريق الصالح ويشركهم في برّه وفي رحمته.
3- قراءة مسيحيّة
لقد صلّى الفرّيسيّون أناشيد باروك ودخلت 4: 36-5: 9 في المزمور الحادي عشر من مزامير سليمان الذي دوّن في القرن الأوّل ق.م. وسيتأمّل فيه المسيحيّون.
أورشليم هي لنا أورشليم الجديدة والمدينة النهائيّة التي تقوم ما وراء الأحزان (رؤ 21: 4). إليها نسير وإن تقدّمنا في مسيرتنا فهذا يعود إلى نعمة الله فننال يومًا بعد يوم البرّ والرحمة والصلاة والجمال التي تأتي من الله. وننتظر من الله أيضًا وحدتنا وأن نفعل ما في وسعنا لنتقبّل مشيئته في أن نتّحد وقوّته الموحّدة. إنّ أبانا يدفعنا لأن نهدّ جدار الانفصال الذي مهما ارتفع لا يصل إلى السماء. يريدنا أن نهدم الحواجز التي تقف بين الناس وبين المؤمنين. يريد الأرض موحّدة دون انقسامات ودون بغض.
أمّا صانع هذا التوحيد فهو كلمة الله عينها (5: 5)، ليس فقط الكلمة المكتوبة التي تجمعنا حولها بل الكلمة المتجسّدة الذي يجمعنا فيه فيصالحنا مع الآب ومع إخوتنا. إنّ مجيء المسيح يشكّل كمال المواعيد التي أعلنها باروك. والله يعمل بابنه الذي هو نور العالم والحكمة الإلهيّة ليعود البشر ويجمعهم من المشرق إلى المغرب فيمنحهم برّه وفرحه ورحمته وفي النهاية يهبهم مجده.