النبيّ شاهد لله وشهيد

النبيّ شاهد لله وشهيد

38: 4-10

يورد لنا الخبر الذي يشكّله الفصل 38 من إرميا، أحداثًا حُدِّد موقعها وزمانها: نحن في قصر الملك صدقيّا، بين كانون الثاني 588 وتمّوز 587، أي خلال حصار أورشليم على يد نبوخذنصّر. خفّف الجيش البابليّ الحصار، فترة قصيرة جدًّا، لكي تشلّ يد جيوش الفرعون المصريّ خفرع، وقد أتوا ليعينوا حليفهم اليهوذاويّ. استفاد إرميا من وقت قصير توقّف فيه القتال، فمضى يزور قريته عناتوت، التي تبعد ساعة عن المدينة المقدّسة، باتّجاه الشمال الشرقيّ. اتّهم بأنّه انتقل إلى العدو، فقبض عليه وجُلد وجُعل في السجن. وها هو الآن في بئر موحلة، يكاد يموت غرقًا لولا نفس كبيرة لدى عبدكوشي. لماذا هذا العنف من السلطة على النبيّ؟ وكيف يساعدنا هذا المشهد على معرفة وسع نظراته وشجاعته في الإقدام والجرأة؟ نكتشف هنا ثلاثة من موقف إرميا:

- حربه على وطنيّة دينيّة متطرّفة

- نداؤه من أجل الشموليّة

- بطولته في الاستشهاد.

وقبل أن نتوسّع في هذه الدروس، نقدّم النصّ الكتابيّ (38: 4-10):

4 فقال أولئك الرؤساء للملك: "أقتل هذا الرجل، لأنّه يضعف عزيمة المحاربين الباقين في هذه المدينة، وعزيمة جميع الشعب بكلامه هذا، لأنّه لا يريد لهذا الشعب خيرًا، بل شرًّا".

5 فقال الملك صدقيّا: "هو في أيديكم، وأنا الملك لا أقدر أن أمنعكم".

6 فأخذوا إرميا ليلقوه في جبّ ملكيا ابن الملك، في سجن القصر. فدلّوه بحبال، وكان في الجبّ وحل ولا ماء فيه، فغاص إرميا في الوحل.

7 فسمع عبد ملك الكوشيّ، أحد الخصيان وهو في قصر الملك، أنّهم ألقوا إرميا في الجبّ، وكان الملك جالسًا بباب بنيامين.

8 فخرج عبد ملك من القصر، وقال للملك:

9 "يا سيّدي الملك! أولئك الرجالُ أساؤوا في كلّ ما فعلوا بإرميا النبيّ الذي ألقوه في الجبّ، فهو يموت جوعًا هناك، وما بقي في المدينة خبز".

10 فأمره الملك قال: "خذ من هنا ثلاثة رجال، وأخرج إرميا من الجبّ قبل أن يموت".

 

1- حرب على وطنيّة دينيّة متطرّفة

سنة 597 ق.م، جعل نبوخذنصّر صدقيّا على العرش، فحلف له حلفًا احتفاليًّا، أمام الربّ بأن يكون تابعه (2 أخ 36: 13؛ حز 17: 13-21). حسب تعابير النصوص التي نعرف، اعتبر الربّ هذا القسم وكأنّه قسمه، وهذا العهد بين يهوذا وبابل كأنه عهده. "أخلّ بقسمه، ونقض عهده" (حز 17: 16) حين مضى إلى فرعون.

تلك هي فكرة إرميا أيضًا بالنسبة إلى صدقيّا: رأى أنّ ملك بابل أتمّ وظيفته الزمنيّة كعبد الربّ، كذاك الذي استعمله الربّ قضيبًا ليعاقب شعبه. إذًا، دعا إلى الخضوع للكلدانيّين، والأمانة للالتزامات التي أخذت تجاهم أمام الله. فتجرأ واتّخذ موقفًا علنيًّا مع العدو ضدّ أمّته: فالعدوّ هو على حقّ وأمّته حنثت بالوعد. بهذه الأقوال، أراد أن يقتلع هذه الرذيلة الذميمة، الوطنيّة الدينيّة المتطرّفة: تحسب الأمّة أنّ الله هو لها. يخصّها، وفي النهاية تحتكره. هو ليس إله الآخرين، بل إله يهوذا وحدها! مال بنو إسرائيل إلى مثل هذا الوضع، حين أساؤوا فهم العبارة التي تشير إلى العهد: "أكون لكم إلهًا، وتكونون لي شعبًا". لسنا أمام استئثار، بل أمام خدمة ورسالة.

ما جعل الأنبياء الربَّ يومًا بقول: "أنا إله لكم وحدكم" بحيث يستبعد الآخرين، بل هو قال بوضوح منذ عاموس بأنّه يهتمّ بسائر الأمم، بل دلّ على ذلك حين دافع عن جلعاد وآدوم... بوجه الظالمين القاتلين. وما جعل الأنبياء الربّ يقول يومًا: أكون لكم إلهًا مهما كنتم. لن أسأل عن سلوككم الخلقيّ. بل أكفل لكم السعادة مهما كانت الجرائم التي تقترفون. بل إنّ مرسلي الله ذكروا الشعب دومًا بأنّ امتيازات العهد تتبعها فرائض ومتطلّبات.

لا نظنّ أنّ هذه "الوطنيّة الدينيّة المتطرّفة" رذيلة خاصّة بيهوذا دون غيرها، أو بإسرائيل. فالتجربة حاضرة اليوم بأن يجعل شعبٌ (أو طائفة) الله في خدمته، لا أن يكون هو في خدمة الله. فالمحاربون من أيّ جهة أتوا، يشدون: "ألله معنا". هو يعطينا النصر على أعدائنا الذين هم أعداء الله! الله هو "عمانوئيل" كما قالت جماعة يعقوب (أش 8: 10؛ مز 46: 1ي). وتكلّموا عن حرب عادلة حيث يكون الله بجانبنا ويقهر الآخرين. بل يوافق على كلّ ما نعمل.

هذا ما أعلنه خصوم إرميا (21: 2) حين طلبوا منه قائلين:

أطلب من الربّ عنّا أن يساعدنا

لأنّ نبوخذنصّر ملك بابل يحاربنا

لعلّ الربّ يصنع معنا معجزة،

بل جميع معجزاته ليردّه عنّا.

حالتنا صعبة. فماذا يفعل الربّ؟ ماذا ينتظر أن يخرجنا من مأزق وضعنا فيه نفوسنا. أجاب النبيّ: لا يستطيع الربّ إلاّ أن يعاقب أمّته المحبوبة، لأنّها أمّته المحبوبة، فإن عاندت في تمرّدها، تكفّر تكفيرًا صعبًا ويطول تكفيرها. قال الربّ بفم النبيّ:

4 سأستردّ سلاحكم الذي به تحاربون ملك بابل وجيشه

الذي يحاصرونكم في خارج السور، وأجمعه في وسط

المدينة

5 وأحاربكم أنا بيد ممدودة وذراع قويّة، وبغضب

وحنق وغيظ عظيم (3: 4-5)

في سفر الخروج مثلاً، كانت اليد الممدودة مع بني إسرائيل. والآن صارت عليهم. "أضرب سكّان هذه المدينة... بوباء رهيب، وبعد ذلك، أسلم صدقيّا ملك يهوذا..." (آ 6-7).

ونقرأ في 34: 2-3: "إذهب وقل لصدقيّا، ملك يهوذا، سأسلّم هذه المدينة إلى يد ملك بابل فيحرقها بالنار، وأنت لا تفلتُ من يده، بل تقع في قبضته". نحن نفهم أنّ مثل هذه الأقوال جعلت الناس يعتبرون إرميا خائنًا لوطنه، فجرّ عليه بعض الوطنيّين المتعصّبين. أمّا هو فلبث واعيًا لخطايا بابل، ساعة جعل الحقّ في يدها. نقرأ في ف 51:

54 صوت صراخ في بابل،

صوت دمار عظيم في أرض البابليّين

55 هو الربّ يدمّر بابل ويُسكت فيها الضجيج

56 المدمِّر يزحف على بابل

فجبابرتُها أسروا وقسيّهم كُسرت

لأنّ الربّ يجازيها بما تستحقّ

57 سأسكر رؤساؤها وحكماءها،

وحكّامها وولاتها وجبابرتها،

فينامون نومًا أبديًّا ولا يفيقون.

وحين يرى النبيّ أمّته على خطأ، يدعوها للعودة إلى الغنى الروحيّ الذي فيها. نظر إليها نظرة الله فرآى فيه الخير بجانب الشرّ، وعند الغرباء أيضًا رأى الخير ورأى الشرّ أيضًا.

2- الدعوة إلى الشموليّة

بالنسبة إلى "عبد ملك" هو رجل كوشيّ، حبشيّ، وبالتالي غريب ونجس، هو خصيّ، نقيصة فوق نقيصة. هو لا يستحقّ الاحترام. بل لا يُلمس لدى "الغريبين". إذًا، ليس بأهل لأن يشارك في عبادة الربّ (تث 23: 2):

2 لا يدخل مرضوض الخصيّين

ولا مقطوع العضو التناسليّ

3 ولا يدخل ابن ونى

جماعة المؤمنين بالربّ

ولا أحد من نسله في جماعة الربّ

4 ولا يدخل عمّونيّ ولا موآبيّ

ولا أحد من نسهل

في جماعة المؤمنين بالربّ،

ولو في الجيل العاشر وإلى الأبد.

ولكنّ تبدّل الوضع ولا سيّما مع أشعيا الثني (65: 3-7):

3 لا يقل الغريب الذي ينتمي إلى الربّ

لا بدّ أن يفصلني الربّ عن شعبه

ولا يقل الخصيّ أنا شجرة يابسة

4 لأنّ الربّ قال للخصيان:

5 أعطهم في بيت وفي داخل أسوار مدينتي

جاهًا واسمًا يكون خيرًا من البنين والبنات

واسمًا أبديًّا لا ينقطع ذكره.

وإرميا تفوّه ببركة من عند الربّ، الذي فيه جعل هذا الكوشيّ ثقته (39: 15-18):

17 أنقذك في ذلك اليوم

فلا تقع في أيدي الذين تخاف منهم

بل تنجو بحياتك لأنّك توكّلت عليّ،

يقول الربّ.

وها هي ضربة تصيب الخبر "الملفّق" الذي يكتشف في البيبليا لعنة من الله ضدّ العرق الأسود الذي يعتبر نسل حام الملعون (تك 9: 25). وفي الوقت نفسه، انفتاح على الشموليّة يصدم سامعين منغلقين على ذواتهم في امتيازات شعبهم.

3- بطولة في الاستشهاد

التوافق مع بابل، مباركة الغريب، اتّهام إسرائيل ولا سيّما المسؤولين فيها. هذا يكفي ويزيد ليحمل إلى إرميا الاضطهاد. ولكنّ إرميا اعتاد على هذا الأمر.

أ- حين مات يوشيّا سنة 609، هاجمه بيتُه وأهل عناتوت (11: 18-12: 6). قال أهل عناتوت:

لا تتنبّأ لئلاّ تموت بأيدينا (11: 21)

ثمّ في 12: 6:

إن كان إخوتك وأهل بتيك يغدرون بك،

ويصرخون وراءك بملء أفواههم،

فكيف تأتمنهم إذا كلّموك بالخير

ب- في أيّام يوياقيم (609-608) ندّد بالعبادة الشكليّة التي تقوم في الالتجاء إلى الهيكل مع سلوك ينافي وصايا الله. بل أعلن في كلام اعتُبر منتهكًا للأقداس، دمار بيت الله المقدّس. نقرأ ف 7:

12 إذهبوا إلى موضعي الذي في شيلو،

حيث أسكنتُ اسمي أوّلاً

13 والآن، بما أنّكم عملتم هذه الأعمال

بعدما كلّمتكم ولم تسمعوا

ودعوتكم ولم تجيبوا،

14 فأفعل بهذا البيت

الذي دُعيَ باسمي وأنتم عليه متّكلون

وبهذا الموضع الذي أعطيتُه لكم ولآبائكم

كما فعلت هناك بشيلو.

من أجل هذا، حُكم عليه بالموت. ولكنّه واجه بعزم هذا الحكم (ف 26). قال النبيّ في آ 6:

سأفعل بهذا الهيكل كما فعلتُ بشيلو

وأجعل هذه المدينة لعنة لجميع أمم الأرض.

فلمّا فرغ من الكلام، "قبضوا عليه، وقالوا له: موتًا تموت، كيف تنبّأت باسم الربّ أن يصير هذا كمصير شيلو، وتصير هذه المدينة خرابًا لا ساكن فيها" (آ 8-9). غير أنّ النبيّ لم يتراجع. فقال للرؤساء وللشعب:

12 الربّ أرسلني لأتنبّأ

على هذا الهيكل وعلى هذه المدينة

بجميع الكلام الذي سمعتموه

13 فالآن أصلحوا طرقكم وأعمالكم

واسمعنوا لصوت الربّ إلهكم.

14 أمّا أنا ففي أيديكم،

فأفعلوا ما ترونه حقًّا وعدلاً

15 ولكن اعلموا حقّ العلم،

أنّكم إن قتلتموني

تسفكون دمًا زكيًّا.

ج- وفي أيّام يوياقيم أيضًا، حوالي سنة 6-5، تجرّأ وأنبأ بأنّ أورشليم، المدينة المقدّسة المشهورة بمناعتها، ستتحطّم مثل إبريق من فخّار. هذا ما جلب عليه التهديد بالموت: "تعالوا نتّهمه ولا نصغي إلى كلمة من كلماته" (18: 18). ثمّ الضرب والسجن. ضربه (فشحور)، و"حبس رجليه في القيود" (20: 2).

ولكنّ إرميا لم يسكت، بل هدّد فشحور بالعقاب الإلهيّ. "سأجعلك رعبًا أنتَ وجميع أحبّائك، فيسقطون بسيف أعدائهم وعيناك تنظران" (آ 4).

د- وأخيرًا، في أيّام صدقيّا، اتّهم بالخيانة. ضرب، وُضع في السجن (37: 11-16). وفي النهاية، جُعل في جبّ كان بالإمكان أن يكون قبره.

أمام المعاملة السيّئة، بل أمام الموت، ما تراجع إرميا، بل لبث يحمل بأمانة البلاغ الإلهيّ في نقاوته وقساوته، وإن جلب له البغض. وهكذا نفهم أن يكون لإرميا مكانة مميّزة بين الشاهدين والشهداء، الذين كانوا ضحيّة إيمانهم، ولكنّهم انتصروا بفضل هذا الإيمان. وهو بذلك يوجّه نظرنا إلى عزم يسوع في حاشه وفي آلامه. كما يقدّم لنا صورة مسبقة عن يسوع الذي كان "علامة خلاف" وسط البشر.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM