الربّ برّنا، صدقنا

الربّ برّنا، صدقنا

33: 14-18

حين لا يعود المسيحيّون يهتمّون بانتظار عودة المسيح، يضيع عندهم كلّ اندفاع في عمل الرسالة وفي الحياة المسيحيّة. فيبدو أنّ ما يربطهم بأسرار الخلاص ينقطع فجأة مثل عقد من اللؤلؤ تتوزّع حبّاته. فلا تعود أعمال الربّ وتعاليمه ووصاياه ومتطلّباته وتذكّر فصحه وأسرار الكنيسة، سوى طقوس لا ندرك تماسكها. يقولون: هم أبناء الحاضر. وهذا أمر لا شكّ فيه. ولكن أين الانشداد نحو المستقبل. أين الرداء والاستعداد لتقبّل عطايا الله؟ هذا ما يدعونا إليه هذا النصّ من إرميا الذي يقدّم لوحة مشرقة لمستقبل بدأ الربّ يبنيه في قلب المحنة التي عصفت بمملكة يهوذا، بأورشليم وبهيكلها. لا أمل في الإنسان الخاطئ بأن يبرّر الإنسان. ولا رجاء في صدقيّا الذي يعني اسمه صدق الربّ. سيكون كاذبًا ويقود الأمّة إلى الخراب والدمار. وحده الله صدقنا. وحده يحمل إلينا الخلاص، ولو مرّ هذا الخلاص عبر محنة المنفى. ونورد النصّ الإرميائيّ (33: 14-18):

14 وستأتي أيّام، يقول الربّ،

أبرّ فيها بالعهد

الذي عاهدت به بيت إسرائيل وبيت يهوذا

15 وفي تلك الأيّام،

أُنبت من أصل داود غصنًا صالحًا،

فيحكم بالعدل والحقّ في الأرض

16 في تلك الأيّام،

أخلِّص بني يهوذا وأسكنهم في أورشليم،

في أمان، وتُدعى: الربّ صدقنا.

17 وقال الربّ: لا ينقطع لداود رجل من نسله

يجلس على عرش بيت إسرائيل

18 ولا ينقطع للكهنة اللاويّين

رجل يُصعد المحرقات أمامي

ويقدّم قرابين الحنطة،

ويذبح الذبائح إلى الأبد.

1- السياق

إنّ قول إرميا هذا يتسجّل في امتداد تقليد طويل يتأمّل في بعد المواعيد التي أعطيت في الماضي لداود. حين نوى الملك داود أن يبني للربّ "بيتًا يليق باسمه"، حمل إليه النبيّ ناتان رفضًا ووعدًا. "هل أنت من يبني لي بيتًا"؟ والجواب هو كلاّ. ثمّ: "أنا من يبني لك بيتًا" (2 صم 7: 5، 13). إنّ النسل الذي به وعد الله داود، سيملك إلى الأبد على عرش أورشليم. وإذ يعاقبه الربّ بسبب خطاياه، لا ينزع عنه نعمته ورضاه: "يدوم بيتك وملكك إلى الأبد أمامي" (2 صم 7: 16). وجاءت احتفالات البلاط الملكيّ وأدب القصر، صدى لهذا الوعد (مز 18: 5؛ 89: 20ي؛ 132). وفي زمن المنفى رأى سفر التثنية في كلّ هذا الخطّ الذي عليه يسير كلّ تاريخ مملكة يهوذا (1 مل 11: 36؛ 2 مل 8: 19). ويشير إليه القول النبويّ موضوع دراستنا: "هذا ما يقول الربّ: لا ينقطع لداود رجل يجلس على عرش آل إسرائيل" (آ 17).

غير أنّ أشعيا ومعاصره ميخا كانا قد ضمّا إلى هذا الوعد إعلان دينونة. فالسلالة المالكة في أورشليم قد بدت خائنة بحيث إنّ عقاب الله الذي ذكره ناتان (2 صم 7: 14) سيضربها ضربة خطيرة. وهكذا اتّخذ الوعد لداود شكلاً جديدًا: ستقطع سلالته كشجرة فاسدة، ولكنّها سوف تعرف التجدّد في شخص ولد (أو: فرع) سوف يأتي. وهكذا برز في شهادة الأنبياء الرجاء المسيحانيّ في وجهه المعروف.

واستعاد إرميا بدوره من هذا التقليد إعلان داود جديد، يحلّ بشكل نهائيّ محل أبناء داود الذين ملكوا في أورشليم. لا شكّ في أنّه يشرف على تعليمه موضوع الخروج والعهد كما تأوّن في إصلاح يوشيّا. وقول إر 23: 5-6 (يستلهمه النصّ الذي ندرسه الآن) هو نصّ منعزل في مجموعة أقواله. ولكن لا شيء يمنعنا إطلاقًا من أن نرى فيه قولاً لإرميا نفسه، توخّى أن ينهي بكلمة رجاء، سلسلة أقوال تدين آخر ملوك يهوذا (إر 22: 1- 23: 4).

مقابل هذا، كلّ شيء يدلّ على أنّ إر 33: 14-18 (يرافقه قولان لاحقان، آ 19-22، آ 23-26) يعود إلى زمن لاحق للزمن الذي عاش فيه إرميا.

* نحن هنا أمام استعاد لنصّ إر 23: 5-6 الذي أدخل هنا على أنّه استشهاد حقيقيّ: "الكلام الصالح الذي به تكلّمت" (آ 14). إنّ قول النبيّ الذي قبل المنفى، صار كلام كتاب مقدّس تستند إليه الكرازة.

* إنّ هذا القول القديم قد تبدّل بشكل لافت ليتكيّف مع وضع لم يعد ذاك الذي كان في أيّام إرميا، وضع انقطعت فيه السلالة الداوديّة (ذهب الملك إلى المنفى). وهكذا تحوّل الرجاء من شخص الملك إلى مدينة داود والكهنوت (آ 18). الاتّجاه هو ذاته الذي أشرف على تكييف القول الملكيّ في زك 6: 9-14 بحيث ينطبق على عظيم الكهنة، في الأصل قيل عن الملك، ثمّ انطبق على الكاهن.

* إنّ سلسلة الأقوال الثلاثة التي نجدها في إر 33: 14-26، قد غابت في نسخة السبعينيّة. وهذا الغياب ليس من قبيل الصدف، ولا هو نتيجة حذف مقطع يليق كلّ اللياقات بالاهتمامات المسيحانيّة في السبعينيّة. فما هو معقول، هو أنّ النصّ العبريّ الذي نقلته السبعينيّة لم يكن يتضمّن المقطع الذي ندرس والذي دخل متأخّرًا إلى النصّ العبريّ الماسوريّ الذي نقرأه الآن. قد يكون وُجد على حدة. وفي أيّ حال، هو لم يدخل في كتاب إرميا إلاّ في القرن الثالث، بسبب قرابته الوثيقة مع إر 23: 5-6.

إنّ هذا الزمن المتأخّر، لا يؤثّر على قيمة هذا القول النبويّ، بل هو يعطيه بعده الحقيقيّ حين يدلّ كيف أنّ الإيمان بمواعيد الله قد واجه أوضاعًا تاريخيّة جديدة، وقبل التحدّي الذي يشكّله تأخّر تتميم الخلاص الموعود به. هل فشل كلام الله (آ 14-18)؟ هل تحطّم العهد (آ 19-22)؟ هل تحوّل الاختيار إلى رذل واستبعاد (آ 23-26)؟ تلك هي الأسئلة التي أثيرت في زمن بدا الله وكأنّه "مات" (ما عاد يستطيع أن يفعل مثل الأصنام المائتة). وتجرّأت هذه الأقوال الثلاثة وأعلنت أنّ الوعد تنفّذ، والعهد لا يُقهر ولا يرد وأنّ الاختيار أمر مستمرّ.

إنّ هذه المقطوعة التي نقرأ (33: 14-16) هي كلام فيه يهاجم النبيّ الخصوم. لا شكّ في أنّه لا يذكر ما قاله محاوروه، بحسب هذا الفنّ الأدبيّ (آ 24). ولكنّ القتال بدا حول شرعيّة الوعد المعطى لداود، والذي عارضه البعض على أساس من الوقائع التاريخيّة في ذلك الوقت، والذي أقرّ به نبيّ لا نعرف اسمه، على أساس كملة أعطاها الله في الماضي. غير أنّ هذه الكلمة قد تكيّفت مع الوضع الحاضر: يقرّ النبيّ بأنّه لم يعد من وجود لملك داوديّ على العرش. ولكن تبقى مدينة أورشليم. ولكنّ السلالة الكهنوتيّة باقية. فبهما يتمّ الله وعده، كما يقول النبيّ.

وهكذا يتكوّن هذا القول النبويّ من ثلاثة عناصر. (1) آ 14. تعلن أنّ كلام الربّ الصالح قد تمّ. (2) آ 15-16. تستعيد أنّ ألفاظ ذاك الوعد بالرجوع إلى 23: 5-6. (3) إنّ آ 17-18 (اللتين لا تنفصلان عن آ 14-16) تحملان توضيحًا حول الطريقة التي بها سيتمّ الوعد.

2- تمّ وعد الربّ (آ 14)

"ها إنّها ستأتي أيّام، يقول الربّ، أقيم فيها الكلام الصالح الذي تكلّمت به لأجل آل إسرائيل وآل يهوذا"

هذه العبارة المقدّمة تحمل مرمى هجوميًّا. وهذا ما يدلّ عليه بشكل واضح القول الثالث في آ 24. فهي تواجه الشكّ لدى جماعة أورشليم اليهوديّة في ما يتعلّق بتتمّة مواعيد الله، ولا سيّما الوعد الذي أعطي لسلالة داود الملكيّة. برزت شعلة من الحماس المسيحانيّ حول زربّابل الذي من نسل داود، والذي سمّاه حج 2: 23 "الختم" وزك 6: 12: "النبت". غير أنّ أزمة سنة 520 انحلّت دون أن يأتي الزمن المسيحانيّ. فولد الشكّ من خيبة الأمل. أترى صارت كلمة الله كلامًا في الهواء لا يفعل شيئًا؟

وجاء الجواب في فعل "أقيم": أقيم كلامي الصالح، كالشمس التي تقوم (تشرق) في الأفق وتطرد الظلمة... أجعل كلامي يقوم كما يقوم شخص وقع على الأرض. يستعمل هذا الفعل ليصوّر تتمّة الوعد (تث 9: 5، 18؛ 1 صم 2: 35). كان إر 23: 5 قد استعمل هذا الفعل ليصوّر مجيء داود الجديد. أمّا هنا فخادم (وزير) الله ليس الملك المسيحانيّ نفسه، بل كلام الله الذي يعلن مجيئه (على مثال يوحنّا المعمدان في مت 3: 3). هو الكلام الصالح (في اليونانيّة: الإنجيل) الذي أعطي لمجمل الشعب المختار، والذي يعني بشكل خاصّ يهوذا.

3- خلاص موعود لأورشليم (آ 15-16)

"في تلك الأيّام، في ذلك الزمان، أنبت لداود نبت البرّ، فيُجري الحكم والعدل في الأرض. في تلك الأيّام يخلَّص يهوذا، وتسكن أورشليم في أمان. وهذا ما تدعى به (هذا ما اسمها): الربّ برّنا".

حين نقابل هاتين الآيتين مع إر 23: 5-6، نكتشف من خلال التوازي، نقاط اختلاف لافتة.

* إنّ اللقب المسيحانيّ "النبت" هو لقب تقليديّ. إستعيد من إر 23: 5، فتقوّى هنا بفعل من ذات الجذر: "أنبت". ولكنّه خاصّ وُصف وصفًا جديدًا. حيث قال إر 23 "نبتًا صدّيقًا" (ص م ح. ص د ي ق)، أي أميرًا يرث العرش بشكل شرعيّ، قال إر 33 "نبت البرّ" (ص م ح. ص د ق ه). وما خاف من الحشو مع ما يلي من الآية، لكي يشدّد على دوره: يكون أداة لبرّ الله الخلاصيّ وأداة تنفيذه.

* في 23: 6، اتّخذ السلام المسيحانيّ أبعادًا مسكونيّة: صار موضوع وعد لمملكة يهوذا ومملكة إسرائيل. وها وُجّه الوعد أيضًا إلى كلّ إسرائيل، غير أنّ الوعد بالسلام هو فقط ليهوذا وأورشليم. وهكذا تركّزت النظرة على المدينة المقدّسة التي هي مركز الرجاء المسيحانيّ.

* لم يعط الاسم الرمزيّ "يهوه برّنا" (ي ه و ه. ص د ق ن و) لداود الجديد كما في 23: 6، بل للمدينة نفسها. فهي قد حلّت محلّ السلالة الملكيّة التي توقّفت. وأورشليم التي عيّنت في الماضي كموضع تجمّع مشتّتي إسرائيل (أش 40: 9- 11؛ 52: 1-10)، بل مركز تجمّع جميع شعوب الأرض (أش 2: 2-4؛ 60: 1-22)، صارت الآن الموضع الرفيع الذي فيه يتمّ الخلاص الإسكاتولوجيّ واسم المدينة لم يعد أورشليم، ولا صهيون. صار اسمها اسم الربّ، لأنّها كلّها تخصّ الربّ. هي مسكنه والانعكاس الصافيّ لمجده (حز 38: 35: الربّ هو هنا؛ رؤ 21: 3: عروس الحمل). غير أنّ هذا الاسم يعبّر في الوقت نفسه عن اعتراف إيمانيّ به يعلن المؤمنون الذين أعلنوا التزامهم كاملاً، أنّ في الربّ وحده تتبرّر حياتهم. فالربّ، والرب وحده هو برّنا. وهكذا تسطع أورشليم الأرضيّة بعد أن تجلّت ووُلدت من جديد. إنّها ثمرة اجتياح العالم الجديد في العالم الحاضر.

4- علاقة الخدمة الكهنوتيّة الدائمة (آ 17-18)

ولم يتوقّف القول النبويّ عند هذا الحدّ. فبعد أن طبّق على المدينة الوعد الملكيّ في إر 23، أعطى الذين قد يشكّون في أن يتمّ هذا القول، علامة تثبت ما يقول.

"لأنّه هكذا قال الربّ: لا ينقطع لداود رجل يجلس على عرش آل إسرائيل. ولا ينقطع للكهنة اللاونيّين رجل يقف أمامي ليصعد المحرقة ويقرّ التقدمة ويذبح الذبيحة، كلّ الأيّام".

ليست العلامة في تواصل مع السلالة الملكيّة التي ذُكرت هنا كأساس تقليديّ للرجاء، والتي يجب أن نقرّ بأنّها توقّفت، بأنّها انقطعت. هذه العلامة هي في تواصل السلالة الكهنوتيّة التي تحتفل وستحتفل دومًا بشعائر العبادة في الهيكل. منذ الآن، صارت استمراريّة الخدمة الكهنوتيّة في قلب المدينة المقدّسة، علامة تدلّ على أنّ مخطّط الله الخلاصيّ يواصل مسيرته، وعلى أنّه سيتمّ بشكل أكيد.

خاتمة

إنّ هذا النصّ يوقظ في قلوبنا الرجاء. فهو يجيب على التحدّي الذي تسقطه مسيرة التاريخ على وعد الله، بما فيها من ظلم وألم وحرب تملأ العالم. بما فيها من ضعف وانقسام في الكنيسة. كلّ هذا قد يجعلنا نظنّ أنّ الله "ترك" المكان، أنّ كلامه ميت، وأنّ البشر الذين تحرّروا من سلطانه بشكل نهائيّ، يقودون العالم على هواهم.

وها هو النبيّ يحمل إلينا جوابين اثنين. الأوّل، لعبة الله أكثر نحافة وأ:ثر تشعّبًا ممّا نتخيّلها. فكلامه يعمل في مسيرة التاريخ، ولكن بشكل خفيّ. ولا شيء يوقف هذا العمل إلى يوم يقيمه الله ليحقّق في اليوم العظيم، عمل الخلاص الذي يتمّه الآن بشكل سرّيّ.

والجواب الثاني: إنّ رجاء شعب الله المؤسّس على التتميم النهائيّ والموجّه إلى هذا التتميم، يكشف منذ الآن علامات الخلاص الآتي. فأورشليم الإسكاتولوجيّة هي حاضرة منذ الآن في أورشليم الأرضيّة: هنا يعترف شعب المؤمنين منذ الآن بأنّ الربّ هو برّهم الوحيد. وهنا يدلّ تواصل الخدمة (التي سنجدها في خدمة المسيح الملكيّة والكهنوتيّة) على أمانة الله المخلّص. فكنيسة الأرض ليست بعد ملكوت الله. إنّما هي تعلنه، وتعلنه بشكل أكيد فتتيح لكلّ إنسان بأن يدخل في انتظار هذا الملكوت، كابن حقيقيّ لإبراهيم "الذي آمن على خلاف كلّ رجاء" (روم 4: 18).

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM