تقديم

تقديم

حين كان يسوع في الناصرة، وطُلب إليه أن يقرأ في المجمع، لم يذكر الإنجيليّ لوقا القراءة الأولى التي تُؤخذ من البنتاتوكس أو الأسفار الخمسة. بل توقّف عند نبوءة أشعيا التي طبّقها يسوع على نفسه فقال: "اليوم تمّت هذه الكلمات التي تلوتُها على مسامعكم" (لو 4: 21).

إذا كان المؤمنون اليهود يهتمّون بأن يقرأوا أسفار موسى، بدءًا بسفر اللاويّين وما فيه من أمور طقسيّة وعباديّة، فالمسيحيّون يشدّدون على نصوص الأنبياء، التي يعودون إليها بعد قراءة الإناجيل والعهد الجديد، ليكتشفوا تمتمات ما سيكون كاملاً مع يسوع المسيح.

سبق لنا في جزئين سابقين فتأمّلنا في نصوص أشعيا مع موضوع "السماع"، وها نحن نواصل تأمّلاتنا في نبوءتي إرميا وحزقيال، وفي سفرَي دانيال وباروك. عاصر إرميا وحزقيال المنفى الذي امتدّ منذ سنة 597 حتّى سنة 582 وذهاب إرميا إلى مصر حيث يموت ويُدفن. أمّا سفرا دانيال وباروك، فدوّنا في الحقبة المكابيّة، أي في القرن الثاني ق.م. وعلى ضوء الخطر الذي يهدّد جماعة الإيمان، بعد أن خسرت السلطة السياسيّة وخضعت للحاكم الأجنبيّ، للفرس ولليونان. والخطر الثاني هو عبادة الأصنام التي ملأت المعابد والمدن والغابات العديدة.

وما نلاحظ، في شكل خاصّ مع دانيال، هو أنّ الكاتب عاد إلى سنة 587-586 وسقوط أورشليم ودمار الهيكل، فقرأ الأحداث وكأنّها آتية، ليدلّ على أنّ التاريخ هو في يد الله. نحن نعود إلى الماضي لكي نقرأ الأحداث ونأخذ درسًا للحاضر وأملاً للمستقبل. أمّا الله فالتاريخ أمامه، لا وراءه. لهذا وضع "دانيال" نفسه سنة 587، 586، وكأنّه يرافق الله. فكتب النصّ في صيغة المضارع، لا في صيغة الماضي. أمّا الفنّ الأدبيّ المرتبط بالحلم، فيفهمنا أنّ الله يرى في الظلام، ويجعلنا نمشي في ظلمة الإيمان، بانتظار أن نصل إلى النور.

تكلّم إرميا وحزقيال في زمن المنفى وقبله بقليل. ولكنّ النصّ الأخير جاء ربّما في نهاية المنفى، وفي أيّ حال، بعد حصول الأحداث. لهذا أعيدت قراءة النصوص النبويّة مع تفاصيل لا يستطيع إنسان أن يعرفها قبل وقتها. ولكنّ كاتب النبوءة استفاد من الواقع الذي أمامه، لا ليقول إنّ هذا النبيّ "تنبّأ"، عرف مسبقًا ما سوف يحدث، بل ليصوّر مخطّط الله الذي كان أمينًا لشعبه في الماضي، وسيبقى أمينًا حتّى النهاية. كما ليعطي درسًا للمؤمنين. يكفي أن نعرف أنّ أقوال إرميا قيلت في الأصل من أجل مملكة إسرائيل بعاصمتها السامرة. وكانت سقطت سنة 722-721. ولكن طُبّقت على المؤمنين في مملكة يهوذا. فقول الله يتعدّى المكان والزمان، فيصل إلينا نحن الذين "انتهت إلينا أواخر الأزمنة" (1 كور 10: 11). أمّا النبيّ، فيعرف ما يعرف معاصروه. ولكنّه يقرأ كلّ شيء على ضوء الوحي الذي ناله في قلبه. هو لا يريد أن يخبرنا بتفاصيل سوف تأتي، بل أن يعلّمنا قراءة كلام الله في حياتنا اليوميّة والاجتماعيّة والسياسيّة.

ما توقّفنا عند دراسة هذه الأسفار من الوجهة النظريّة. ففي المجموعة الكتابيّة، كان تفسير كامل لسفر إرميا. وفي "القصص الدينيّ"، كان شرح لسفرَي دانيال وباروك. أمّا هنا، فهي تأمّلات مع دراسة النصّ في إطاره تساعدنا على تأوين كلام الله وتطبيقه في حياتنا اليوم.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM