عيد القدّيس شربل

عيد القدّيس شربل

الرسالة : روم 8: 28-39

الإنجيل : مت 16: 36-43

عرفَنا الله فمجَّدنا

يا إخوتي، ونحن نعلم أنّ الله يعمل سويّة مع الذين يحبّونه لخيرهم في كلّ شيء، أولئك الذين دعاهم حسب قصده. فالذين سبق فاختارهم، سبق فعيّنهم ليكونوا على مثال صورة ابنه حتّى يكون الابن بكرًا لإخوة كثيرين. وهؤلاء الذين سبق فعيّنهم، دعاهم أيضًا، والذين دعاهم برّرهم أيضًا، والذين برّرهم مجّدهم أيضًا.

وبعد هذا كلّه، فماذا نقول؟ إذا كان الله معنا، فمن يكون علينا؟ الله الذي ما بخل بابنه، بل أسلمه إلى الموت من أجلنا جميعًا، كيف لا يهب لنا معه كلّ شيء؟ فمن يتّهم الذين اختارهم الله، والله هو الذي برّرهم؟ ومن يقدر أن يحكم عليهم؟ والمسيح يسوع هو الذي مات، بل قام، وهو الذي عن يمين الله يشفع لنا. فمن يفصلنا عن محبّة المسيح؟ أتفصلنا الشدّة أم الضيق أم الاضطهاد أم الجوع أم العري أم الخطر أم السيف؟ فالكتاب يقول: "من أجلك نحن نعاني الموت طوال النهار، ونحسب كغنم للذبح". ولكنّنا في هذه الشدائد ننتصر كلّ الانتصار بالذي أحبّنا. وأنا على يقين أنّ لا الموت ولا الحياة، ولا الملائكة ولا رؤساء الملائكة، ولا الحاضر ولا المستقبل، ولا قوى الأرض ولا قوى السماء، ولا شيء في الخليقة كلّها يقدر أن يفصلنا عن محبّة الله في المسيح يسوع ربّنا.

نعيّد اليوم للقدّيس شربل. عاش خفيًّا فلم يعرفه أحد. ولكن بعد موته، كان نورًا على جبل، وسراجًا على مكيال، فأنار الذين حوله. بل أنار لبنان، وامتدّ ضياؤه إلى العالم. كيف نال كلّ هذا التكريم؟ وكيف لبث حيًّا في موته، فعرفته الألوف، مع أنّه في حياته ما تعدّى نطاق الدير ثمّ المحبسة وما يمكن أن يلتقي بهم من جيران؟ ثلاث كلمات من مار بولس تفتح لنا طريق الفهم بالنسبة إلى هؤلاء القدّيسين: عرفهم، دعاهم، مجَّدهم.

1- سبق فعرفهم

قال الرسول: إختارنا الله منذ إنشاء العالم. إختارنا قبل أن نختاره. عرفنا ونحن في بطن أمّهاتنا. هذا ما قاله لإرميا: "قبل أن تخرج من الرحم قدّستك وجعلتك نبيًّا للأمم". ويقول بولس في الخطّ عينه: "الله بنعمته اختارني وأنا في بطن أمّي فدعاني إلى خدمته" (غل 1: 15). ذاك هو معنى عرف.

هناك معرفة خارجيّة. أعرف شخصًا وكأنّني أعرف شيئًا فأحلّله. ولكنّ معرفة الصديق لصديقه أمر آخر. والأمّ تعرف ابنها منذ ولادته. وكلّ دقائق حياته. خيره وشرّه. قلبها يرافقه سواء كان حاضرًا أم غائبًا. مثل هذه المعرفة هي اتّحاد على مستوى الفكر والإرادة والعواطف. هي صورة بعيدة عن الطريقة التي بها يعرف الله كلّ واحد منّا، ولا سيّما القدّيسين. عرف أيّ أحبّ، اختار، وحّد حياته، "خطب" كعريس عروسه، وكلّ واحد عروس للربّ إن هو شاء. هكذا عرف الربّ مار شربل. فلماذا لا يفعل فيه وبه من "معجزات"؟

2- حدّدهم ودعاهم

نستطيع أن نحدّد موقعًا من المواقع. وفي معنى شخصيّ، نحدّد لشخص نحبّه موقعه في مشروع نقوم به. هذا ما يفعل الله. يعيّن كلّ واحد في المكان المناسب. وذلك بحسب المواهب التي مُنحت له. هكذا حدِّدت رسالة الابن حين أتى إلى العالم. هو صورة الله. والبشر سيكونون معه "صورة الله ومثاله". هو يحمل صليبه، ووراءه يسير إخوته، مثل سمعان القيرينيّ الذي حمل الصليب وسار وراء يسوع. هو يموت كما يموت إخوته، ليقوموا معه كما قام هو.

في هذا الإطار يدعو الله شخصًا من الأشخاص. الله لا يدعو "قطيعًا من المعز" لكي يكونوا معه. بل يدعو كلّ واحد باسمه. ينظر إليه ويحبّه كما فعل مع الشابّ الغنيّ الذي لم يعرف أن يبادله الحبّ. يا سمعان بن يونا أتحبّني؟ أجاب نعم. قال يسوع: إرعَ خرافي. ما من دعوة حقيقيّة إلاّ وتنطلق من الحبّ. وفي نهاية حياتنا، ما يقودنا إلى الله هو الحبّ. ذاك الذي اشتاقت إليه نفسي على الأرض، وجدته في السماء. أمسكتَه ولا تفلته. كما قالت عروسة النشيد. وعيّن الربّ لمار شربل مكانًا يقف فيه كالرقيب، بحسب حزقيال. ودعاه باسمه، ناداه ملء الحبّ: تكون رجل الصلاة مثل إرميا، الذي قيل فيه بعد موته: "يُكثر من الصلوات من أجل الشعب" (2 مك 15: 14). فكان جواب مار شربل جواب أشعيا: ها أنذا فأرسلني.

3- برّرهم ومجّدهم

أعطاهم البرارة والنقاوة والقداسة. أعطاهم أن يعيشوا بحسب إرادة الله ووصاياه. مثل صموئيل الذي لم يترك كلمة من كلمات الله تسقط على الأرض. فالصديق لا ينسى كلمة قاله له صديقه. وكذا القدّيسون الذين تعلّموا قول المسيح: "ما جئت لأعمل مشيئتي، بل مشيئة من أرسلني. و: طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني." ذاك كان وضع يوسف أمام سرّ الحبل الإلهيّ. قيل له: لا تخف يا يوسف. خذ مريم امرأتك. قام يوسف باكرًا. ما تأخّر. لهذا دُعي بارًّا بعد أن دخل دخولاً عميقًا في مخطّط الله. وإن لم يفهم بعقله البشريّ المحدود، وإن لم يحسب ألف حساب حول إمكاناته. كان بإمكان يوسف أن يرفق، كما يفعل عدد من كبير من الناس. ولكنّه لم يفعل. وكذا مار شربل، لأنّ التبرير عمل يقوم به الله ويتجاوب معه الإنسان. فإن لم يتجاوب، كانت نعمة الله فيه باطلة لأنّها لم تصل إلى غايتها.

مثل هؤلاء الأبرار، هؤلاء القدّيسين، يمجّدهم الله. يُظهر فيهم مجده. مجد الله هو ما يُرى من الله الذي لا يُرى. أجل، الله ما رآه أحد قطّ. ولكن حين أتى يسوع على الأرض رأينا الله "من رأني رأى الآب". كلّ ما نستطيع أن نرى: مجد الله. أي بصماته التي يتركها في العالم. الخليقة هي مجد الله. كلّ إنسان هو مجد الله بمعنى أنّه يكشف صفاته العظيمة بالنسبة إلينا. حياتنا تمجّد الله. وأعمالنا تدفع الناس لكي يمجّدوا الله. ولكنّ نبع المجد هو الله. وهو الذي منح قدّيسيه أن يمجَّدوا على الأرض بعد موتهم. هذه النعمة الفريدة نالها مار شربل الذي نعيّد له اليوم.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM