عيد ارتفاع الصليب

عيد ارتفاع الصليب

الرسالة : 1 كور 1: 18-25

الإنجيل : يو 12: 20-32

الصليب حكمة الله

يا إخوتي، فالبشارة بالصليب "حماقة" عند الذين يسلكون طريق الهلاك. وأمّا عندنا نحن الذين يسلكون طريق الخلاص، فهو قدرة الله. فالكتاب يقول: "سأمحو حكمة الحكماء، وأزيل ذكاء الأذكياء". فأين الحكيم؟ وأين العلاّمة؟ وأين المجادل في هذا الزمان؟ أما جعل الله حكمة العالم حماقة؟

فلمّا كانت حكمة الله أن لا يعرفه العالم بالحكمة، شاء الله أن يخلّص المؤمنين به "بحماقة" البشارة. وإذا كان اليهود يطلبون المعجزات، واليونانيّون يبحثون عن الحكمة، فنحن ننادي بالمسيح مصلوبًا، وهذا عقبة لليهود وحماقة في نظر الوثنيّين. وأمّا للذين دعاهم الله من اليهود واليونانيّين، فالمسيح هو قدرة الله وحكمة الله. فما يبدو أنّه حماقة من الله هو أحكم من حكمة الناس، وما يبدو أنّه ضعف من الله هو أقوى من قوّة الناس.

في عيد ارتفاع الصليب المقدّس، يدعونا الرسول إلى البداية، إلى زمن الكنيسة الأولى حيث اليهود فيها والوثنيّون. والفئتان على خطأ لأنّهما في النهاية تنكران الصليب وتنتظران صليبًا تريدانه. صليب يكون على قياس الواحد منّا، وبحسب مشيئتنا. وإذا لم تكن الأمور كذلك، رمينا الصليب جانبًا. ولكنّنا ننسى أنّ الصليب يشبه ذاك الحجر الذي رذله البنّاؤون، فصار رأس الزاوية. "من وقع عليه تهشّم" وإن هو وقع على رافض الصليب يسحقه (لو 20: 17-18). الصليب في حياتنا، فلماذا لا ندخل في منطقه فيكون لنا بعد الألم المجد، وبعد الموت القيامة. إن شئتَ، يقول لنا الربّ. ونحن نشاء يا ربّ.

1- اليهوديّ والصليب

إنتظر اليهود مسيحًا ممجّدًا لا يمرّ في الألم والموت. لا يمرّ في الوداعة والتواضع فيرفع أمراضنا ويحمل عاهاتنا. إنتظروه يختار فئة دون فئة، الأصحّاء لا المرضى، الأبرار لا الخطأة. فإذا يسوع بعيد كلّ البعد عن هذه النظرة. قال لتلميذَي عمّاوس، على المسيح أن يمرّ في هذه الآلام قبل أن يدخل في مجده. لا طريق سوى طريق الصليب التي تطول وتطول، وتكون صاعدة، في طريق صعبة وباب ضيّق.

رفض بطرس "الصليب" ليسوع. "حاشا لك يا ربّ". وكان جواب يسوع قاسيًا له. ومن خلاله للتلاميذ ولنا نحن أيضًا. فاليهود يطلبون الآيات. منذ أيّام موسى، مرورًا بالأنبياء. ولكن حين جاءت الساعة لم يعرفوا ذلك الذي أرسله الآب. يريدون من خلال الآيات أن "يُبهَروا". شيء جديد، يحرّك العواطف ولكنّه لا يصل إلى العمق. مثل فقاقيع الصابون بألوانها المزركشة التي لا تعتم أن تزول. والكثيرون مثلنا اتّخذوا اليوم هذا الموقف: زيارة إلى هنا، حجّ إلى هناك. خروج من ذواتنا، بحث عمّا لا يفيدنا. ونتعلّق بالقشور كما نتعلّق بالصنم. تطلب الآيات، ساعة مسيرة الصليب وراء المسيح آية الآيات.

2- اليونانيّ والصليب

إعتبر اليونانيّ نفسه حكيمًا. وسائر الناس جهلة "برابرة" (كو 3: 11). هم لا يتكلّمون لغة الحضارة، ولا يُشغلون العقل. أمّا اليونانيّ فيريد أن يعرف نفسه بنفسه، وينظّم حياته بالنسبة إلى الأمور العمليّة. أمام الألم والصعوبة، يفهم الرواقيّ أهميّة الإرادة الصلبة التي لا تلين. هو موقف عقليّ. ولكن إذا جاء وقت البكاء، فماذا يعمل الإنسان؟ يتحجّر، يصبح كالخشبة، كالحديد. لا يعود إنسانًا. وأمام العيش اليوميّ، تعرف جماعة إبّيقور كيف تأكل، كيف تشرب؟ كيف تبحث عن لذّة. فلدى الأغنياء عدد من العبيد. هم لا يعملون، لا يتعبون. بل يأخذون من الحياة أقصى ما تستطيع أن تعطيهم.

هؤلاء الذي اعتبروا نفوسهم حكماء، رأى بولس في حكمتهم "جهالة". إعتبروا أنّ الصليب جهالة، حماقة. ذاك موقف المقيم في الظلمة ويتمنّى أن يكون في النور. أما رأوا أين وصلت بهم حكمة العالم القديم؟ صوّرها الرسول في بداية الرسالة إلى رومة "أبدلوا حقّ الله بالكذب. فاتّقوا المخلوق وعبدوه بدل الخالق" (1: 34). حسبوا أنّهم بهذه الطريقة يزيحون الصليب من دربهم. فإذا هم عميان، ولن تنفتح عيونهم إلاّ ساعة الموت. مثل الغنيّ في مثل لعازر: يا ليت الفقير يمضي إلى إخوتي وينبّههم!

3- الصليب حكمة في الضعف

الله لفظ يعني القويّ، القدير، هو كالسنديانة التي لا تميل. بكلمة خلق السماوات والأرض. لا يقف أمامه إنسان مهما علا مقامه وكثر غناه. يضربه بنار محرقة، كما قيل عن الآتين إلى إيليّا النبيّ. ولا يقف جيش في وجهه. هو يحطّمهم كإناء من خزف. هكذا تصوّرت الديانات الله: يجازي على هذه الأرض بالخير. يدين، يعاقب بعد أن يحكم على الإنسان بالعذاب. يحمل الفأس ويهدّد كلّ شجرة لا تروق له، يمسك المذراة، يضرب وما أقسى ضرباته. على فرعون، على أيّوب وعلى الواحد منّا.

فكرة خاطئة كلّ الخطأ. مع يسوع المسيح صار الله ضعيفًا. وضعفه ضعف المحبّة التي تطلب قوّة غير قوّة العاتي المستبدّ. وُلد في بيت حقير، في مذود، شأنه شأن صغار القوم. لُفَّ في القمط. كان من لحم ودم، فلبس الضعف والألم والموت. شابه الإنسان في كلّ شيء. اللامحدود صار محدودًا. وربّ الدنيا صار عبدًا طائعًا حتّى الموت على الصليب. لن نجد يسوع وهو يحوّل الحجر إلى خبز. أو يطير على قمّة الهيكل فيصفّق له الناس. بعد تكثير الأرغفة، أرادوا أن يقيموه ملكًا، فتوارى عنهم. إذن، أين نجد يسوع؟ حاملاً صليبه، صاعدًا إلى الجلجلة. تلك هي الحكمة التي يقودها أمامنا ويقول لنا: من أراد أن يتبعني يحمل صليبه. ولكنّ واحدًا باعه، والآخر أنكره، وكلّهم هربوا... فماذا نفعل نحن؟

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM