الفصل الحادي والعشرون :من العهد القديم إلى العهد الجديد

الفصل الحادي والعشرون
من العهد القديم إلى العهد الجديد

موضوع الكتاب المقدّس الوحيد هو سرّ المسيح، سرّ الله مع البشر كما عاشه العهد القديم قبل أن يتمّ في واقع تاريخي هو تجسّد الكلمة وموته وقيامته. ولكنّ التعبير عنه خضع لتحديدات نجعلها في نقطتين. من جهة، إذا نظرنا اليه من زاوية نتائجه الفردية، فهو موضوع خبرة ناقصة. فمع أنّه معنيّ كلّه في حياة الإيمان، إلاّ أنّ وجهاته المتعدّدة لم تتجاوز عتبة الوحي عند الذين ينعمون به. وبالتالي، لا تستطيع الكلمات أن تعبّر عن واقعه وغناه إلاّ بشكل بدائي. وإذا كنّا فقط أمام هذا النوع من التحدّد (وضع حدّ لشيء)، فالعبور من المعنى الحرفي إلى المعنى التام يحصل بالتعمّق في العبارات المستعملة. فيكفي القارئ أن يضع تحت الألفاظ البيبلية غنى المعنى التي حمّلها إيّاها العهد الجديد.
ومن جهة ثانية، إذا تطلّعنا إلى السرّ من وجهة مساره التاريخي، فهو موضوع خبرة أكثر نقصًا من سابقتها، لأنّ مخطّط الخلاص لم يزل في مرحلة التهيئة. وبالتالي ما استطاع الكتّاب الملهمون أن يعودوا إلى وجود المسيح التاريخي ولا إلى البُنى الأسرارية في الكنيسة ليحدّدوا السرّ، فأجبروا على الانطلاق من تاريخ ونظُم بديئيّة (أوّل الحال). لم يتطلعّ العهد القديم إلى سرّ المسيح إلاّ بشكل غير مباشر عبر عناصر موقّتة تمثلّها في الزمن. وحين يكون الأمر هكذا، يفرض الانتقال من المعنى الحرفي إلى المعنى التامّ أن نعود إلى جدليّة الصور.
هذا ما سوف نقرأه في خبرة إسرائيل على مستوى المعنى الحرفي والتاريخي، وفي الإسكاتولوجيا على مستوى المعنى الحرفي والنبوي. ننطلق من حرفيّة النصوص فنلقي الضوء على سرّ المسيح.

I- في المنظار التاريخيّ
أ- تعميق تعبير بديئيّ
يكون التعبير عن سرّ المسيح بديئيًّا (بدأ ونشأ جديدًا) حين يلجأ الكاتب الملهم إلى الألفاظ والرموز التي لا ترجع رجوعًا خاصًّا إلى الخبرة التاريخية أو النُظْمية لدى إسرائيل. هنا لا نعود إلى الصور المسبّقة ونعرف أنّ هذه الخبرة قد تعطي النظم لونًا خاصًّا. إذا تركنا جانبًا كل عودة إلى وحي علوي، مثل هذه اللغة تقدر أن تترجم في أيّ إطار حضاري خبرة دينية مستقلّة كل الاستقلال عن ظروف الحياة الخاصّة بالشريعة القديمة. ومع ذلك، فنحن نكشف فيها، على ضوء العهد الجديد، تعبيرًا مسبّقًا (ناقصًا ولكنّه صحيح) للخبرة المسيحية بذاتها، لسرّ المسيح كما نعيشه في ملء نور الإيمان. ونحن نفهم أن يكون لسفر المزامير المكان المميّز في هذا المكان: إنّه كتاب صلاة إسرائيل، وهو يساعدنا أكثر من أيّ كتاب آخر على إدراك هذه الخبرة الروحية التي هي أيضًا خبرتنا. ولكنّ سفر المزامير لن يكون المرجع الوحيد الذي نستعمله.
إذن، سنعود إلى النصوص فنبحث عن تعبير مسبّق لنعمة المسيح، لسرّ الآلام، للعبادة بالروح والحقّ، لعمل الثالوث الأقدس في العالم. هي مواضيع خاصّة بوحي العهد الجديد. ولكنّ العهد القديم قدّم رسمة سريعة هيّأت الشعب اليهودي ليتقبّل ملء الوحي مج يسوع المسيح.

1- تعبير مسبّق عن نعمة المسيح
أوّلاً: استعارات الحديث عن النعمة
اختبر شعب العهد القديم مسبّقًا نعمة المسيح. وهذه الخبرة تتضمّنها تعابير سيستعيدها العهد الجديد دون أن يحوّلها. مثلاً: الرب راعي (مز 23)، الرب نوري وخلاصي (مز 27). لا شكّ في أنّ الصور المأخوذة من الخبرة اليومية تتجمّع في كلا الحالين: صورة الراعي الذي يقود خرافه إلى المرعى (مز 23: 1- 4)، صورة المأدبة التي يدعى اليها البّار (مز 23: 5)، صورة الإقامة في هيكل الله (مز 23: 6؛ 27: 4)، صورة القلعة المحاصرة (مز 27: 1- 3، 5- 6). ولا شكّ في أنّ عددًا من هذه الصور تتلوّن بخبرة إسرائيل: صورة الراعي (مز 80: 2؛ حز 34: 11- 20 ؛ أش 40: 11)، تلميح إلى شعائر العبادة.
ومع هذا، فما تشير اليه هذه الاستعارات بشكل رمزي هو وضع المؤمن في وجوده وحياته: لا ينقصه شيء لأنّ العناية الإلهية تهديه. لا يخاف الصعوبات لأنّ العناية الإلهية تسهر عليه. وهو يختبر الفرح الروحي حيث يجد حضور الله.
تشير النصوص إلى واقع هيكل أورشليم (مز 23: 6؛ 27: 4- 5) لأنه علامة، لأنّه "بيت الرب ".
منِ السهل أن نجعل من هذه النصوص تعبيرًا عن الصلاة المسيحية، فنضع في الصور مضمونًا تعليميًا نستقيه من العهد الجديد. لقد قال يسوع عن نفسه إنّه الراعي الصالح (يو 10) ونور العالم (يو 9: 5)، وملكوت الله الذي دشنّه يسوع يشبه مأدبة ووليمة (مت 8: 11؛ 22: 1- 10؛ رج رؤ 3: 20؛ 7: 16). والمسيحي الذي يهاجمه الشيطان أمين من نفسه (رج أف 10:6 ي) لأنّه في حماية الرب (1 بط 7:5- 9).
وهكذا نجد في هذين المزمورين تعبيرًا مسبّقًا عن نعمة المسيح في لغة الاستعارة.

ثانيًا: خبرة التبرير
واختبر المرتّل (في سفر المزامير) ما يسمّيه العهد الجديد "التبرير". فإنّ مز 32: 1- 5 يُنشد سعادة الإنسان الذي غفر الله له خطيئتهِ بعد أن أقرّبها. ويستعيد القدّيس بولس هذا النصّ لأنّه يرى فيه مثالاً عن برّ تقبّله المؤمن مجّانًا من الله (روم 4: 5- 8). واستعمل أيضًا روم 3: 20 نص مز 143: 2 ليشرح وضع البشر أمام الله: لا يستطيع أحد أن يقول عن نفسه إنّه بارّ. لهذا لجأ المرتّل في صلاته إلى برّ الله، لا البرّ الذي يدينه، بل البرّ الذي ينجّيه (رج أش 5:51، 6، 8).
يرينا القدّيس بولس "البرّ" المبرِّر والعامل في العالم بعد مجيء يسوع (روم 3: 21- 26). أمّا مز 51 فهو يطلب أن تُمحى خطاياه السابقة (آ 3- 4، 11)، كما يطلب الطهارة الداخلية (آ 4، 9) وتبديل القلب بنعمة من روح الله (آ 12- 13). هنا تعود صلاة التائب إلى الوعد الإسكاتولوجي الذي يتحدّث عنه حزقيال (36: 25- 27)، وكأنّها تطلب تحقيقه المسبّق. والعهد الجديد يرى أنّ هذا الوعد تمَّ في غفران منحه الله للخطأة بنعمته وحلول روحه في القلوب (روم 5: 5 ؛ 13:8- 16).

ثالثًا: خبرة بنوّة الله
ونقول الشيء عينه عن المقاطع التي تترجم علاقات الله بالبشر (داخل مخطّط العهد) بالأبوّة والتبنّي: إمّا في منظار جماعي داخل شعب إسرائيل (خر 4: 23؛ هو 11: 1؛ إر 3: 19)، وإمّا في منظار فردي على مستوى كل فرد من أفراد الشعب (تث 14: 1 ؛ 1 3: 5 -6؛ أش 1 :2؛ 6:63؛ 64 : 7).
إذا توّقفنا عند المعنى الحرفي، كنّا أمام تبنًّ لا يتضمّن مشاركة في حياة الله. نحن لا ننكر هذه المشاركة، ولكنّنا نقول بأنّ لا شيء يساعدنا على مشاهدتها. أمّا العهد الجديد فيدعونا لأن نفهم في العمق خبرة التبنّي التي منحها الله لشعبه (روم 9: 4). نحن أمام استباق للتبنّي الممنوح للمسيحيين "في المسيح يسوع " (غل 4: 5؛ رج روم 15:8- 17): ففي المسيح يسوع "كان إسرائيل " "الابن الاكبر" للرب (خر 4: 23) الذي نعرفه أبًا. وفي المسيح يسوع يستطيع أعضاء شعب الله ان يدعوه "أبانا" (أش 16:63). كل هذا يفترض استباقًا لنعمة المسيح كما عبرّت عنها النصوص البيبلية بشكل بديئي.

2- تعبير مسبّق عن سرّ الآلام
نجد في قسم كبير من المزامير صلاة الأبرار المتألّمين والمضطهدين. لسنا هنا أمام اصطلاح أدبي مصطنع. فقد عرف الشرق القديم موضوع البّار المتألّم. لأنّه يتجاوب مع خبرة بشريّة شاملة. وصاحب المزامير قد يلمّح إلى وضع خاصّ يقابل خبرته الشخصية. إذا توقّفنا عند المعنى الحرفي نرى أنّ مزامير المتألّمين تعبّر قبل كل شيء عن خبرة محيّرة للأبرار الذين جهلوا الحياة الأخرى.
ولكن الا نبحث عن شيء آخر أبعد من المعنى الحرفي؟ إنّ أخبار الآلام في الإنجيل تبيّن أنّ يسوع جعل صلاة الأبرار المتألّمين صلاته، فأدخل فيها استعدادات قلبه وأعطاها بالتالي ملء معناها. فعلى الصليب ردّد مز 22 (مت 46:27؛ مر 15: 34)، وسلّم نفسه بين يدي الآب (لو 46:23) مستعيدًا كلمات مز 6:31.
وإذا عدنا إلى الإنجيل الرابع، نرى أنّ المزامير تعود إلى ذاكرة يسوع في الساعات الأخيرة التي يقضيها معنا، وكأنّه يقرأ فيها الوضع الذي يجد نفسه فيه. فخيانة يهوذا تُتمّ مز 41: 10 (يو 18:13؛ تلميح ضمني في مر 18:14؛ مت 23:26؛ لو 21:22). وبغض اليهود يُتمّ مز 35: 19 (أو 69: 5). وإطار هذا المزمور (آ 11- 12، 15- 16، 21- 21) يشير إلى دعوى الظلم وإلى مشهد الاحتقار القريب ممّا حدث ليسوع خلال محاكمته. وأخيرًا كلمة يسوع على الصليب (أنا عطشان، يو 28:19) قد أخذت من مزمور (69: 22 أو 22: 16) تلاه يسوع على صليبه. ومجمل الكلام، إنّ المزامير 22، 31، 35، 41، 69 قد طبّقها يسوع على نفسه (وتبعه التلاميذ) في دراما الآلام. نخطئ في أسلوب دفاعي قصير النظر حين نبحث عن كل مقابلة دينية ممكنة بين تفاصيل المزامير وتفاصيل الخبر الإنجيلي. لا شكّ في أنّ الإنجيليين شدّدوا على بعض هذه التوافقات (رج يو 19: 23- 24 ومز 22: 19). غير أنّ هناك توافقات تأثرت بحضور مز 22 في خبر متى (رج مت 41:27-43 ومز 8:22- 9).
فالاتّصال في التفاصيل بين خبر الآلام والمزامير يبرز تقابلاً أعمق. فالموضوع الأساسي لهذه المزامير هو ألم البّار، ألم عبد الله الذي رذله البشر ظلمًا. ونلاحظ أنّ الإقرار بالخطايا يحتلّ فيها مكانًا ضيّقًا (مز 41: 5 ؛ 69: 6). أمّا الأمانة التي تشعل قلب الإنسان غيرة على بيت الله (مز 69: 10) فهي حاضرة.
إذن، نجد رسم يسوع الروحي، رجل الأوجاع، في مجموعة مزامير مختارة كما رآه يو 17:2 (أورد مز 69: 10 حين تحدّث عن تطهير يسوع للهيكل). على هذا الأساس يبرز الألم كله: لماذا قاسم البار مصير البشريّة الخاطئة دون أن يكون خاطئًا؛ لماذا سلّمه الله إلى قلق مميت (مر 14: 34) وأعطاه أن يشرب هذه الكأس المرّة (مر 4 1: 36)؟ فمن خلال أبرار العهد القديم ترتسم صورة البارّ السامي. وعلى شفتيه اتّخذت صلاتهم ملء معناها كتعبير شعري عن آلامه.
والعبور من المعنى الحرفي إلى المعنى التامّ يتأسّس هنا على واقع يقول إنّ كل إنسان يتألّم. فإن التصق بإيمان ومحبّة بمشيئة الله، "أتمّ في جسده ما ينقص لآلام المسيح " (كو 1: 24). كان هذا الأمر صحيحًا بالنسبة إلى رجال العهد القديم. وهكذا اكتشفنا آلام يسوع عبر صلاة الأبرار المتألّمين الذين اختبروها في جسدهم كما سيختبرها الرسل في ما بعد (2 كور 4:. ا). إنّ لمثل هذا الاستباق قيمة نبويّة وإن لم تكن مزامير التألّم أقوالاً إسكاتولوجية. ثمّ إنّ هذه المزامير تبقى بعد أن نالت من آلام يسوع المعنى التامّ، قريبًة من وضع البشرية المتألّمة، لأنّ آلام يسوع تجد امتدادها في كل أعضاء جسده.

3- تعبير مسبق للعبادة بالروح والحقّ
ونبحث أيضًا في المزامير عن تعبير مسبّق للعبادة بالروح والحقّ كما نظّمها يسوع (يو 4: 24) وحقّقها في حياته. كان تفوّق العبادة الباطنية والطاعة على تقدمة الذبائح موضوعًا نبويًّا هامًّا (عا 5: 21-25؛ أش 1 :10-16؛ 58: 1-8 ؛ هو 6:6 ؛ مي 6: 5، 8؛ إر 6: 20؛ 1 صم 15: 22). ونجد صدى لهذه الأقوال في مز 7:40- 9 ؛ 50: 7- 15؛ 51: 18- 19؛ 69: 31- 32. إذا انطلقنا من نظرة الروح القدس، لن نأخذ هذه التعابير وكأنّها حكم على الديانة الخارجية في حدّ ذاتها. إنّها تشدّد على جوهر الديانة أي موقف القلب الذي تعبّر عنه هذه الأعمال. ويسوع لا يشجب الطقوس اليهودية. ولكن حين ذهب إلى الهيكل حمل روحًا تُحقّق المثال الذي نقرأه لدى الأنبياء وفي المزامير. وإحلال طقس جديد محلّ الذبائح القديمة سيأتي فيما بعد حين يقدّم يسوع حياته ذبيحة عهد وفصح وتكفير (مت 26:26- 28).
وحين أراد صاحب الرسالة إلى العبرانيين أن يفهمنا استعدادات يسوع الباطنية تجاه الله وساعته السامية طوال حياته، وضع على شفتيه مز 40: 7- 9 (عب 10: 6- 10). ومع تكيّف آ 7 الذي نقرأه في بعض مخطوطات الترجمة السبعينية (كوّنت جسدًا)، فلا حاجة إلى الابتعاد عن المعنى الحرفي لنعبّر عن صلاة يسوع. ولكن أن تكون هذه الكلمات قد وُضعت في فم يسوع، فهذا ما يعطيها بعدًا كبيرًا جدًّا: إنّ ديانة ابن الله تتركّز في فعل طاعة، في تتميم إرادة الله (مر 14: 36 وز) حتّى الموت. هذه هي شعائر عبادة العهد الجديد كما تُرجمت في عطاء ذاتي يتمّ على الصليب.
بعد الآن، فكلّ من أراد أن يؤدّي لله عبادة "بالروح والحق "، عليه أن يتشبّه باستعداد يسوع هذا، فيقبل بأن يُقاد إلى "الذبح " بالطريقة التي يريدها الله. هذا هو المعنى التامّ في مز 40 الذي هو مزمور مديح ومزمور تألّم. ولا يستطيع المسيحي أن يتلوه إلاّ ويضع فيه مضمونًا لم يكن كاتبه قد فكّرفيه، أو بالأحرى المضمون هوهو، ولكنّنا نتلو كلماته في يسوع الذي يعطيها كثافة فريدة.

4- تعبير مسبق عن عمل الثالوث في العالم
لم يُكشَف سرّ الثالوث في العهد القديم. فقد تعرّف إليه البشر في مهمّة الابن الذي دخل بشخصه إلى تاريخ البشر حين تجسّد، ثمّ في مهمّة الروح الذي وعد به الابن وأرسله الآب والابن معًا منذ العنصرة. إذن، لا نبحث عن تعبير للاهوت الثالوثي في المعنى الحرفي للنصوص البيبلية قبل الأناجيل.
ولكنّ هذا لا يعني أنّ وحي الله في العهد القديم يتحدّث فقط عن وحدة الطبيعة المجرّدة، وكأنّنا أمام تعليم فلسفي يُعدّ إعدادًا خارجيًا الفكرة المسيحية عن الأقانيم الإلهيّة الثلاثة. في الواقع، هؤلاء الأقانيم يعملون بحسب مهمّتهم منذ بداية تاريخ الخلاص، منذ عمل الخلق. إذن البشر هم على اتّصال شخصي بهم بشكل يستبق النظام الحالي. في العهد الجديد نتعرّف إلى الأقانيم الثلاثة في أعمالهم في العالم. وكذا نقول عن العهد القديم حيث نجد بداية وحي مقبل.

أوّلاً: خبرة كلمة الله ووحي الكلمة
لقد اختبر البشر كلمة الله خبرة حيّة تجد سندها في عمل مرسَلي الله في إسرائيل. وخبر دعوة إرميا يبيّن التماثل بين الكلمة النبوية وكلمة الله: "ها أنا أضع في فمك كلامي" (إر 1 :9). وهذه العبارة تنطبق على الأنبياء منذ موسى أوّلهم. وتظهر كلمة الله التي يحملها هؤلاء الرجال، على أنّها وحي: وحي عن مقاصد الله، عن إرادته، عن مشاريعه المقبلة. من هذا القبيل هي تحرِّكُ عند الناس استعدادات داخلية تشكّل حياة لاهوتية كاملة. ولكنّ الكلمة التي تلهم هي التي تفعل أيضًا. فهي تخلق الأحداث حين تعلنها. وحين يرسلها الله، فهي لا تعود فارغة اليدين (أش 55: 10- 11).
انطلق إسرائيل من خبرته للكلمة النبوية العاملة في التاريخ، فاعتاد أن يرى في كل شيء نتيجة كلمة الله: الطبيعة تخضع لأوامر الله (مز 15:147- 18). ما ينعم به الإنسان من شفاء (مز 107: 20)، ما يصيبه من ضربات (حك 18: 14)، كل هذا هو نتيجة كلمة الله. والعمل الخلاّق نفسه سيتحرّر من كل صورة ليصبح أمرًا ينفّذ بسرعة (تك 1 :3، 6: كن فكان؛ مز 6:33- 9؛ سي 42: 15، يه 16: 14). بعد هذا، يُصبح كل اتّصال بين الإنسان والخليقة اختبارًا لكلمة الله على مثال اتّصال بالأنبياء او الكتب المقدّسة.
أمام هذا الواقع لن نتساءل هل كان كتّاب العهد القديم قد رأوا في الكلمة الإلهية أقنومًا وشخصًا. فنحن أمام تشخيص أدبي نجد آثاره في الشرق القديم كلّه، مثلاً في أش 8:40: "العشب يبس وزهره سقط، أمّا كلمة الله فتبقى إلى الأبد" (رج أش 55: 10- 11). وفي مز 119: 89: "كلمتك يا رب ثابتة في السماء إلى الأبد" (رج مز 15:147- 18؛ حك 14:18).
ولكن نتساءل قبل كل شيء عن المدلول العميق لخبرة روحيّة أوصلنا العهد الجديد إلى ذروتها: "بعد أن كلّم آباءنا بالأنبياء كلِّمنا الله بابنه الذي به صنع الدهور" (عب 1: 1- 2). فهذا الابن هو نفسه الكلمة القائمة الذي صنع الكون (يو 1 :18). فكيف نفصل خبرة العهد القديم عن العمل الشخصي للكلمة. فهو الذي كان يتكلّم بالأنبياء، وبه خلق الله العالم. وهكذا تضمنّت كل خبرة للكلمة اتصالاً ملموسًا مع كلمة الله الذي لم يُكشَف عنه قبل أن يتجسّد (يو 1 :14) ويصبح مرثيًا وملموسًا (1 يو 1: 1 -3). إذن نستطيع أن نقرأ النصوص القديمة التي تذكر كلمة الله على عمقين اثنين: عمق المعنى الحرفي حيث الكلمة هي تعليم عن الله الواحد وعمله. وعمق المعنى التامّ حيث يعود هذا التعليم وهذا العمل إلى الكلمة (يسوع المسيح) العامل في الخلق (مز 33: 6) وتدبير الكون (مز 147: 5) وفي مسيرة التاريخ (أش 55: 11؛ حك 18: 14). هكذا قرأ الآباء العهد القديم. لم يهتمّوا بطروحات لاهوتية مجرّدة يستخرجونها من المعنى الحرفي، بل بواقع سرّي اكمل العهدُ الجديد كشفَ طبيعته.

ثانيًا: لاهوت حكمة الله
ويطرح لاهوتُ حكمة الله المسألة نفسها. لقد تشخصنت (صارت شخصًا) الحكمة في سفر الأمثال (8: 12- 9: 6) وابن سيراخ (24: 1- 22) والحكمة (7: 22- 8: 1). ماثل ابن سيراخ بين الحكمة والكلمة الخلاقة (خرجت من فم العليّ، 3:24)، والكلمة الموحية أي الشريعة (23:24). ودلّ عليها سفر الأمثال وهي تعمل في الخلق (أم 8: 22- 31) وتعلّم البشر (أم 8: 12- 9: 6).
نحن هنا أمام بداية للاهوت العهد الجديد تصوّر المسيح، حكمة الله، بسمات الحكمة الخلاّقة (كو 1 :15- 16؛ عب 1 :3 ؛ يو 1 :3) والحكمة الموحية (مت 11: 28؛ يو 6: 34).
ونقول هنا ما قلناه عن الكلمة، ما قاله الكتّاب الملهمون بوضوح، وما نكتشفه من خلال خبرتهم الروحية: سرّ حضور المسيح حكمة الله، والعامل في الخلق، ومربّي شعبه.

ثالثًا: لاهوت روح الله
لا ينطلق الروح من تفكّرات مجرّدة بل من خبرة الأنبياء (1 صم 10: 10؛ 19: 20؛ رج عز 16:11- 17، 24- 25). كان الحديث عن الروح ملتبسًا، ولكن ما عتّم الكتاب أن قدّم طريقة لتمييز الأرواح وللتعرّف إلى الأنبياء الحقيقيين (1 مل 22: 21- 23). وفي النهاية، إذ زالت الموهبة النبوية (زك 13: 2- 6)، أعلنت المواعيد الإسكاتولوجية فيضها على المسيح المقبل (أش 11: 2) على عبد الله (أش 42: 2) على الشعب كلّه (حز 26:36- 27) بعد أن صار شعب أنبياء (يوء3: 1- 3). وفي موازاة هذه النظرة إلى المستقبل، نرى اعتبارًا حول عمل الروح الحاضر في أشخاص يحرّكهم (أش 63: 10- 13). وقد ربط الخلق والتدبير بعمل الروح. ففي البدايات "كان الروح يرفّ على المياه " (تك 1: 2؛ 33: 6). وفي عودة الفصول يستعيد الله روحه ويرسله ليبدّل وجه الأرض (مز 29:104- 30).
وهكذا اختبر شعب إسرائيل روح الله كما اختبر كلمة الله. فالاثنان لا يفترقان وإن ظهرا متمايزين. ففي الخلق تعمل الكلمة والروح معًا لتنفيذ إرادة الله. وفي النبوءة يلهم الروح الإنسان ليحمل الكلمة. وفي كل مؤمن تصبح الكلمة تعليمًا خارجيًا يلقى في الناس، ولكنّ الروح الحاضر يعطي هذا الإنسان أن يتمّ هذه الكلمة (حز 27:36؛ مز 13:51).
لقد كشف العهد الجديد المدلول العميق لهذه الخبرة الروحية. فقبل أن يُرسل الروحُ في الكنيسة ويُوحى به أقنومًا إلهيًّا، كان يعمل في العالم مع الله والكلمة، وقد خبر البشر نتائج عمله ليحوّلهم ويقدّسهم. هذا هو لاهوت الروح القدس الذي يقرأه المفسرّ المسيحي لنصوص العهد القديم إذا أراد أن يأخذ بعين الاعتبار السرّ الذي تشير إليه.

ب- عودة إلى الصور والرموز
إنّ التعبير عن سرّ المسيح يبقى بديئيًّا لأنّ خبرة إيمان الكتاب تنحصر في أفق تاريخي هو أفق العهد القديم، وفي بُنى نظُمية هي العهد القديم. فإذا أردنا ان نتجاوز هذه الحدود، يجب ان نتساءل عن المدلول الذي نسبوه إلى الأحداث والنظم التي تكلّموا عنها. وهكذا نكتشف من خلال الصور السابقة الواقع المسيحي المقابل. فالعبور من المعنى الحرفي إلى المعنى التامّ يتمّ حين نُحلّ الواقع محلّ الصورة.

1- تعبير مسبق عن الكرستولوجيا
أوّلاً: نحو لاهوت المسيح الملك
في التوراة (أو في قسم منه) يلعب الملك ابن داود دور وسيط بين الله وشعبه. وهذا الدور ينبئ بدور المسيح. مع العلم أنّنا ننتقل من المستوى الزمني (خبرة شعب إسرائيل التاريخية) إلى المستوى النهيوي (الخبرة المسيحية). نحن نستطع أن نقرأ المزامير الملوكية على هذين المستويين من العمق. فعلى المستوى الأوّل هي تتحدّث عن ملك إسرائيل، عن انتصاره وفشله، وفي المستوى الثاني تتحدّث عن المسيح الملك في ذلّه وانتصاره.
هناك مز 18، 21، 118. استعاد العهد الجديد مز 118 خاصة مع آ 22: "الحجر الذي رذله البنّاؤون صار رأسًا للزاوية" (مت 21: 42 وز؛ أع 4: 11؛ 1 بط 2: 4- 5). فانتصار الملك الذي غلب بنعمة الله بعد صراع مع أعدائه، صار رمز انتصار المسيح الفصحي الذي سيتمّ في مجيئه الثاني (1 كور 15: 24- 28). ونستطيع أن نمدّ هذا التعبير على مجمل النصوص التي تتحدّث عن انتصارات الملك. ففي مز 18 و118، المسيح نفسه يتكلّم فيشير إلى مجابهته لقوى الجحيم (مز 18: 5- 6) وارتفاعه بالقيامة. وفي مز 21، الشعب المسيحي يتكلّم فينشد مجد ملكه الذي جلس على عرشه يوم قيامته.
أمّا مز 89 فيشدّد على التعارض المؤلم بين مواعيد أعطيت لداود وذلّ "مسيح الرب " (مز 89: 4- 5 و 20- 38 تجاه 39- 52). نحن لسنا هنا فقط أمام واقع تاريخي خام، بل أمام سرّ ايمان نراه في منظار العهد القديم. وإن تعمّقنا، وجدنا سرّا آخر كان الأوّل رمزًا نبويًّا له: هو ذلّ المسيح في آلامه. "ابن داود" هو الوارث الشرعي للمواعيد. ولكن يتصرّف الله في الظاهر وكأنّه يرذله. لقد حمّله هزء الوثنيين. من هنا جاءت صلاة الضيق (رج عب 7:5): "أيّ إنسان يحيا ولا يرى الموت؟ من ينجّي نفسه من يد الجحيم " (آ 49)؟ ولكنّ المسيح عرف الهبوط الى الجحيم ولن ينجو من قدرتها إلاّ بالقيامة. في هذا المجال، نقول إنّ تفسير مز 8:16- 11 في أع 2: 24- 32؛ 13: 34- 37 يستند إلى قراءة "ملوكية" للنصّ. فالقدّوس الذي لا يتخلّى الله عنه في الجحيم (آ 10) هو ممسوح (مسيح) يهوه. وقد طبّق العهدُ الجديد المزمور على يسوع ابن داود وارث المواعيد (1ع 2: 30). وهكذا يجيب مز 16 على سؤال طرحه مز 89: 49: من خلال الصور اكتشف الأوّل يسوع والثاني قيامته.

ثانيًا: المسيح آدم الجديد
دلّ بولس الرسول في آدم "على صورة آدم المقبل " (روم 5: 14) ووازى بين الدورين اللذين لعبهما الآدمان في مسيرة مخطّط الخلاص (1 كور 15: 45- 49 ؛ روم 5: 21- 22). في الواقع، إنّ آدم الثاني "المولود من امرأة " (غل 4: 4) هو أيضًا ابن آدم الأوّل (لو 23:3- 38)، ومن هذا القبيل هو يقاسم البشرية الخاطئة وضعها (روم 3:8) ليكون لها مبدأ خلاص.
نجد في مز 8 تأمّلاً في وضع الإنسان ابن آدم، على هامش تك 1. لم يفكّر الكاتب الملهم بمصير البشرية الخاطئة التي تحارب طبيعة معادية (تك 17:3- 19)، بل بالدور الذي أعطاه الله لخليقته الكبيرة التي خرجت من يده وارتدَت بهاءً وجمالاً. هو لا يكاد يشير إلى انحدار آدم وأبنائه الذين هم أدنى من الملائكة (مز 8: 6 أ). مثل هذه النظرة المتفائلة والحماسيّة تبدو بعيدة عن الواقع. فمقصد الله هو غير الوضع الملموس الذي جعلت فيه الخطيئة الإنسان. ولكنّ الأمور تعود إلى ما كانت عليه في المنظار النهيوي (هو 2: 20). في العهد الجديد مع يسوع المسيح تستعيد الخليقة جمالها.
في هذا الإطار يقدّم القدّيس بولس تعليمه منطلقًا من مز 8: فالبشرية تستعيد مجدها والكرامة التي بها كلّلها الله في البدايات (آ 6)، تستعيد سلطتها على كل الخلائق (آ 6- 7) في آدم الجديد، ابن آدم الأوّل. هذا ما يعطينا أساسًا موضوعيًا لنقرأ النصّ قراءة كرستولوجية. وهذا ما فعله العهد الجديد. فالرسالة إلى العبرانيين (2: 6- 9) تحدّثت عن انحدار يسوع ابن آدم (أو: ابن الانسان) عن الملائكة (آ 16)، وهذا نفهمه عن تجسّده وموته على الصليب (فل 7:2- 8). ثم "كلّل بالمجد والكرامة" (آ 6 ب) في قيامته. في هذا الوقت، أخضع الله له كل شيء، جعل كل شيء تحت قدميه (آ 7). هذا هو معنى سيادة يسوع الآن على العالم.
واستعمل أف 1: 20- 23 هذا النصّ ليتحدّث عن سموّ يسوع القائم من الموت على كل شيء. وقارب 1 كور 27:15 بين هذا المزمو ومز 110: 1 ليقرأ فيه انتصار المسيح النهائي على الموت، آخر عدوّ له.

2- تفسير مسبق عن الاكليزيولوجيا
لا ينكشف سرّ الكنيسة، جسد المسيح وعروسه، إلاّ في العهد الجديد. ولكنّ سرّ إسرائيل هو رسمة بديئية له على مستوى التاريخ والنظم. فهناك تعابير من سرّ اسرائيل مرّت إلى العهد الجديد بعد تعميق في معناها الأساسي. مثلاً استعاد 1 بط 5:2، 9؛ رؤ 1 :6، 5: 10 ؛ 6:20 ما في خر 19: 5- 6 (مملكة كهنة، شعب مقدّس). ولكنّ تلك التي تشير إلى خبرة إسرائيل الزمنية، وهي أوّل ترجمة لخبرة شعب الله في التاريخ، لا تقدّم معناها المسيحي إلاّ إذا أعيد تفسير صورها.
نستطيع أن نطبّق هذا المبدأ على مزامير أورشليم: 46، 48، 122. فأورشليم ليست لبني إسرائيل مجرّد عظمة زمنية. فلها مدلول بالنسبة إلى الإيمان، وهي تترجم بصورة ملموسة وحدة شعب هي عاصمته ومدينة داود (مز 122: 5). أورشليم هي مدينة الهيكل وبالتالي هي علامة حضور الله وسط شعبه (مز 46: 5- 6؛ 48: 2- 3). فمن خلال مدينة الحجر يشير الإيمان إلى واقع عميق يمثلّه. فحبّ بني إسرائيل لأورشليم هو حبّهم لشعب مقدّس يكوّنونه، وحب لإله جعل مقامه في أورشليم. فهذا التعلّق يشبه تعلّق المسيح بالكنيسة التي هي موضع تجمّع شعب الله والعلامة الجديدة لحضور الله وسط البشر وحيث يقرأ المعنى الحرفي للمزامير: "أورشليم "، يقرأ المعنى التامّ كما نفهمه في منظار الإيمان المسيحي: "الكنيسة". وهذا يشرف على تفسير المزامير الثلاثة التي ذكرناها.
يشير مز 46: 2- 4 إلى اطمئنان المسيحي في الكنيسة تجاه عالم تصيبه دينونة الله. ونقرّب آ 5 من حز 47: 1- 12 الذي يماثل بين المدينة المقدّسة والفردوس الجديد (رج تك 2: 10؛ رؤ 22: 1- 2). وتبيّن آ 6- 7 الكنيسة في وضعها الدراماتيكي: كما كان إسرائيل في وجه الشعوب الوثنية أعدائه، كذلك ستكون الكنيسة أمام عالم معاد. وترسم آ 9- 11 لوحة عن السلام الإسكاتولوجي الذي إليه يتوق رجاء الكنيسة على الأرض. وينشد مز 48 الكنيسة على أنّها مركز حضور الله والملجأ الأمين للمؤمنين (آ 3- 4). وتصوّر آ 4- 8 وضعًا دراماتيكيًا سيتدخّل فيه الله وينتصر. فمن خلال هذا التلميح إلى خلاص أورشليم التاريخي، نكتشف وضع الكنيسة في التاريخ. فبقاؤها وسط الأخطار العديدة هو علامة نعمة الله التي تجعل المرتّل يقول: "اللهم قد ذكرنا (عشنا، تمثّلنا) رحمتك داخل هيكلك " (آ 10). ونفهم نهاية المزمور حسب رؤ 9:21- 21 (أورشليم السماوية).
أمّا مز 122 فيعلن الفرح الذي يحسّ به المسيحي الموجود في الكنيسة، ويدعو سلام الله على "مدينة السلام " هذه.
ونجد ذكرًا لأورشليم في مز 137. فهنا نجد مقابلة بين أورشليم وبابل. الأولى تمثّل كلّ ما يتعلّق به الإيمان في محنة المنفى، والثانية تمثّل القوة المعادية، القوّة الوثنية وما تحمل من ألم للشعب المضطهد. وهكذا يرتسم موضوع الوثنيين الذي يتوسع فيه سفر الرؤيا: بابل والشيطان (رؤ 17- 18)، أورشليم، عروس المسيح (رؤ 21- 22). حين يقف المسيحي في هذه الزاوية الخاصّة، يجعل من مز 130 صلاته الخاصّة. يعرف أنّه منفيّ، بعيد عن المدينة السماوية التي إليها يتوق (عب 11: 16؛ 13: 14 ؛ 2 كور 5: 6). وعليه في أرض منفاه أن يواجه الاضطهادات والمحن التي تأتيه من المدينة الأرضية. فأورشليم العليا تبقى في قمّة فرحه (آ 6) وهو ينتظر بثقة حكم الله على بابل (آ 8-9 ؛ رج رؤ 6:18؛ 19: 1- 2). فمن خلال علامات ناقصة وموقتة نجد اختبار إيمان في هذا المزمور الذي تدلّ عباراته القاسية (آ 9) على طلب من الله لكي يُجري عدالته.

3- تعبير مسبق عن الحياة في الكنيسة
تتضمّن حياة المسيح في الكنيسة وجهات عديدة: خبرة خلاص، خبرة في المحنة، خبرة دينونة الله حين لا يكون الانسان أمينًا. قبل أن تنكشف هذه الخبرات في منظار التاريخ الأسراري، فقد تسجّلت في تاريخ إسرائيل الزمني فوعى شعب الله مختلف وجهات وضعه الروحي. هناك معنى عميق نكتشفه في المعنى الحرفي لهذه الخبرات.

أوّلاً: خبرة خلاص
إنّ خبرة الخلاص العظيمة التي اختبرها إسرائيل هي خبرة الخروج. وقد رأى فيها القدّيس بولس مشاركة رمزية في الخبرة المسيحية المرتبطة بالعماد والإفخارستيا (1 كور 10: 1- 4). وهذا التفسير يتيح لنا أن نكتشف المعنى الكامل للنصوص التي تتحدّث عن الخروج: هي تتكلّم عن خلاص إسرائيل الزمني، ولكنّها تشير بصورة غير مباشرة إلى خلاص الشعب المسيحي في نهاية الزمن.
إنّ نشيد خر 15: 1- 8 يتضمّن إشارة إلى هذا الخلاص. فلنكتشف مقاطعه لنرى الواقع المسيحي الذي نستشفّه. القسم الأوّل (آ 1- 12) يصوّر في أسلوب ملحمي تدخل الله ليخلّص شعبه. ولكن خلف هذا التدخّل، نجد وضع إسرائيل الذي يهدّده العدوّ (آ 9). هذا هو وضع البشر بين فرعون والله. ومن خلال انتصار الرب في بحر القصب، نستشفّ انتصار المسيح على الشيطان والجحيم والموت في يوم قيامته المجيدة.
والقسم الثاني من النصّ (آ 13- 17) يتوقّف عند نقطتين: مسيرة شعب الله المفتدى نحو أرض الميعاد ونحو أورشليم، مقام الله (آ 13، 17)، ثمّ مخافة الشعوب الوثنية التي تسند القوى المعادية منذ أن قهرت مصر (آ 14- 16). لا يستطيع هؤلاء الشعوِب شيئًا ضد الشعب الذي يقوده الله. وهم لا يستطيعون أن يمنعوه من العبور. وهنا أيضَا يرتسم وضع الكنيسة في مسيرتها إلى الموطن السماوي من خلال وضع إسرائيل: تهدّدها القوى المعادية فتجد في الله الذي يقودها ينبوع رجاء أكيد.
في هذا التفسير المسيحي للنصّ، نحتفظ من إعطاء مدلول خاصّ لكل تفصيل بعد أن ننتزعه من سياقه التامّ من خلال المعنى الحرفي.
ولقد عبّر بنو إسرائيل عن الخروج من خلال طقس حمل الفصح: حُفظ شعب الله خلال الدينونة التي حلّت بمصر (الضربة العاشرة) فنسب هذا الحفظ إلى دم الحمل المذبوح (خر 12: 12- 13، 23). نحن أمام رمزيّة غنية سيطبّقها العهد الجديد على موت المسيح: "المسيح فصحنا قد ذُبح " (1 كور 5 :7؛ رج 1 بط 1 :19؛ يو 1 :29؛ رؤ 6:5-10).
إن كان الأمر هكذا، فالقراءة المسيحية لنصّ خر 12: 1- 20، 43- 51 تتضمّن من خلال المعنى التاريخي معنى آخر تفترضه ليتورجيّة يوم العظيمة. حين صوّر الإنجيل الرابع موت المسيح، أشار إلى شعيرة خاصّة ترتبط بمشهد الجلجلة: "لن يكسر له عظم " (خر 12: 46؛ يو 19: 16). ونحن نعلم أنّ المسيح الحمل لم يُذبح إلاّ ليصير طعامًا كاملاً في وليمة الفصح الجديد (يو 53:6- 56). ثمّ إنّ النصّ عن الفطير (خر 15:12- 20) كان يُقرأ في إطار الفصح المسيحي بحيث إن بولس الرسول طبّقه على الحياة المسيحية (1 كور 5: 7- 8). لقد انتقلنا من مستوى الطقوس إلى مستوى المواقف الروحية. ولكنّنا أمام التجديد عينه للعيد السنوي. لا لخمير عتيق بل لعجين جديد. لا لخمير الشرّ والفساد بل لخمير الطهارة والحقّ. لقد زالت الشعيرة، ولكنّ مدلولها يفرض نفسه اليوم كما في الماضي.

ثانيًا: خبرة في المحنة
نفهم المحنة في معان متعدّدة. هناك محنة الأمانة لله (في البّرية). وألم الشعب الأمين المثابر في تعلّقه بالله رغم خيبات الأمل المتكررة. وأخيرًا إلى العقاب المتمثّل في منفى سنة 587: محنة لا تُفهم لأنّها لا تُحتمل. وهي التي كانت في أساس مز 44، 60، 74، 79، 80.
ليس لهذه المزامير خلفيّة تاريخية واحدة، ولكنّها تنبع كلّها من خبرة واحدة هي خبرة هزيمة وطنيّة. لم يعد الله يخرج مع جيوش إسرائيل (مز 12:60). سلّم شعبه إلى تعيير الوثنيين ومعاملتهم السيّئة (مز 44: 10- 17؛ 79: 2- 4؛ 80: 6- 7). دنّست أورشليم وهيكلها ودُمّرا (مز 74: 3- 8؛ 79: 1 ؛ رج 80: 13- 17). وجدّف على اسم الله بالذات (مز 18:74؛ 79: 10). تعارض مؤلم مع ذكريات التاريخ السابق (مز 3:44- 9؛ 60: 8- 10؛ 80: 9- 12؛ رج 74: 12) وقدرة أظهرها الله في الخلق (مز 13:74- 17). لماذا يغضب الله؟ هل بسبب خطايا قريبة (مز 18:44- 33)؟ هل يعاقب الله بسبب خطايا الآباء (مز 8:79)؟ يترك الله شعبه فيدلّ على أنّه لم يعد يهتم بصيته وبالكلمة التي قالها.
نلاحظ خلفيّة الأمانة الدينية في شعب إسرائيل، في الكنيسة. ففي الحالتين تبدلت ظروف حياة شعب لله: لقد حلّت المؤسسّة الكنيسة محلّ أورشليم الأرضية وهيكلها، ولم يعد لحياة اسرائيل الجديد هدف زمني ووطني. غير أن شعب الله يجد نفسه في التاريخ مع جماعات قد تظهر العداء. وتقلّبات التاريخ قد تؤثّر في مصير الكنيسة. فحين تصيبها فهي تصيب عمل الله على الأرض. هذه هي الكنيسة حاملة وديعة الخلاص.

ثالثًا: خبرة دينونة الله
حين أشار القدّيس بولس إلى رموز أحداث الخروج، بيّن ما في وقائع البّرية من دروس لشعب يعيش "في آخر الأزمنة" (1 كور 10: 5- 11 ). هو لا يقوم بتأويل تفصيلي لنصوص يلمّح اليها (خرِ 32؛ عر 11: 14؛ 21: 4-9 ؛ 25: 1-18). ولكنّه يفترض هذا التأويل معروفًا فيستخلص النتائج. فوضعُ إسرائيل في البّرية يشبه وضع الشعب المسيحي خلال حياته على الأرض. المحنة واحدة، وواحد هو خطر الاستسلام للشهوات (1 كور 6:10) وبالتالي تحمل دينونة الله.
رسم مز 95 في إطار العهد القديم الموقف المطلوب من المؤمنين. فبعد تلميح إلى نعمة الخروج وعهد سيناء (آ 7)، ذكّر بالمحن التي اصطدم بها إسرائيل في البّرية. ولهذا حكم على الجيل القاسي في ذلك الوقت بأن لا يدخل في راحة الله (آ 11). وسنجد الموضوع عينه في مز 78، 106 وفي أش 8:63- 64: 10 (توبة جماعية). وإن عب 7:3- 4: 11 (= اكور 10: 5- 11) تقدّم لنا تفسيرًا مسيحيًا للمزمور 095 اتّخذ التهديد بالعقاب الإلهي شكلاً سلبيًا يتيح لنا أن نفسرّه تفسيرًّا رمزيًا: "لن يدخلوا في راحتي ". ما هي هذه الراحة؟ بالنسبة إلى عبراني الخروج، الراحة هي راحة أرض الموعد. ولكنّ خلف أرض الموعد، نجد وعدًا إلهيًا يشير إلى "راحة" أكمل، هي راحة الله التي يدعو الشعب المسيحي إلى المشاركة فيها (عب 3:4- 11).
دينونة إسرائيل ودينونة الأمم الوثنية ولاسيمّا بابل. فالأمم الوثنية تجسّد في نظر إسرائيل القوّة المعادية لله. وكذلك تقف في وجه الكنيسة قوّة معادية تعيق تحقيق قصد الله في التاريخ البشري. فالحكم على صور (حز 28) وبابل (أش 13: 47؛ إر 50- 51) وأدوم (أش 34) هو صورة مسبّقة للدينونة العظمى التي تصيب هذه القوّة كل المساندين لها في التاريخ. هذا هو المعنى التامّ للأقوال على الأمم التي تحتفظ بها المجموعات النبوية. وسيستغل سفر الرؤيا المعنى التامّ حينما يتحدّث " عن سقوط بابل في إطار نهاية العالم (رؤ 18).

II- في المنظار النبويّ
تحدّثنا عن خبرة إسرائيل التاريخية وفسرّناها تفسيرًا مسيحيًا. يبقى علينا أن نعالج النصوص التي تتضمّن مواعيد إسكاتولوجية، في معناها الحرفي النبوي. موضوع هذه النصوص هو تتمّة مخطّط الخلاص، تتمّة سرّ المسيح ندرسه في كل جوانبه وفي كل مراحل تحقيقه. ولكنّ الطريقة ناقصة ومليئة بالصور. فكيف ننتقل من المعنى الحرفي إلى المعنى التام؟
النهج بسيط: إنّ تكملة المواعيد النبوية في سرّ المسيح والكنيسة قد كشفت معناها التامّ. ونكون أمام حالتين: إمّا أن لا تكون المواعيد مطبوعة بتاريخ إسرائيل ونظمه. حينئذ يأخذها العهد الجديد كما هي، ويكون العبور من المعنى الحرفي إلى المعنى التامّ مجرّد تعمّق في معنى التعابير. وإمّا صُوّر الخلاص في لغة رمزية، فنلجأ حينئذ إلى جدليّة الرموز.

أ- الحالة الأولى: تعميق لعبارة بديئية
سنعطي عدّة أمثلة لنصوّر هذه الحالة الأولى ونجعلها في فصول ثلاثة: الظهور الإسكاتولوجي لله في يسوع المسيح. سرّ يسوع عبد الله. نعمة الفداء.

1- الظهور الإسكاتولوجي لله في يسوع المسيح
أولاً: أش 40: 1- 11
يعلن هذا النصّ الخلاص النهائي بشكل تيوفانيا (ظهور) مهيبة (رج أش 7:52- 10) ترتبط صورُها بخبرة إسرائيل التاريخية والعبادية: عبور الصحراء حيث الله يسير في مقدّمة شعبه كما في خروج جديد (أش 40: 3، 10- 11). صورة الراعي التي تدلّ على موضوع ملكية الرب (أش 40: 11؛ رج 7:51). تطواف على طريق عباديّة إلى أورشليم حيث يقيم الله (أش 3:40- 9؛ رج 7:52- 9).
كل هذه العناصر تطرح مسائل مختلفة عن التي تتطرّق اليها لأنّها رمزية. ولكن تبقى عبارة تترجم جوهر الحدث المعلن. "حينئذ يتجلّى مجد الرب كل بشر (جسد) يراه " (أش 5:40؛ رج 8:52 وتلميحات 2:35؛ 2:60).
لسنا أكيدين من ارتباط هذا النصّ بخبرة سيناء (حز 16:24- 17) كما في أش 23:24، لإنّنا لسنا في إطار عهد جديد أو إعلان شريعة جديدة. ومهما يكن من أمر، فالعبارة تشير قبل كل شيء إلى خبرة روحية لا تبدّل جوهرَها ظروف الزمان والمكان، وتترجمها الرؤى النبوية ترجمة ملموسة. إذن نأخذها بحرفيّتها شرط أن نفهم ما تعنيه عبارة "وحي "مجد الله.
فالعهد الجديد يفسّر ما تعنيه: في المسيح تتمّ التيوفانيا الإسكاتولوجية. ولكنّ هناك ثلاثة أزمنة في هذه التتمّة:
الأوّل هو زمن حياة يسوع على الأرض. شعّ مجد الله على وجهه (2 كور 4: 6). ورأى البشر هذا المجد في الكلمة الذي تجسّد (يو 1: 14)، وبه أدركوا مجد الآب غير المنظور (يو 1 :18): تلميح إلى المعجزات (يو 2: 11؛ 4011)، تلميح إلى التجلّي (مر 9: 2- 7؛ رج 1 بط 1 :17)، تلميح إلى تمجيد الابن النهائي في آلامه وقيامته (يو 13: 31 ؛ 1:17).
والزمن الثاني هو زمن الكنيسة. "فإنجيل المجد" أعلن للبشر (2 كور 4: 4؛ 1 تم 1: 11) وهكذا أشع الله في القلوب معرفةَ مجده (2 كور 6:4).
والزمن الثالث هو زمن "ظهور مجد إلهنا العظيم ومخلّصنا المسيح يسوع " "في نهاية الأزمنة" (تي 2: 13؛ رج مت 16: 27 ؛ 19: 28؛ 24: 30؛ 25: 31).
هذا هو الواقع الذي أشار إليه وعد أش 40: 4. تمّ العبور من المعنى الحرفي إلى المعنى الكامل بإغناء كلّ سرّ المسيح الذي يحقّق هذا الظهور.

ثانيًا: أش 45: 20- 25؛ مز 97
إنّ أش 45 يرسم شمولية الكنيسة الواثقة بارتداد الوثنيين (أع 14: 15- 17 ؛17: 24- 30؛ أش 1: 9- 10) بانتظار أن تأتي جموع كبيرة "من كل أمّة وجنس وشعب ولسان " فتنشد في السماء نشيد الله الواحد (رؤ 9:7- 10).
ويستعيد مز 97 الموضوع عينه (آ 7، 9) بالنظر إلى ملكوت الله الإسكاتولوجي. فصورة العاصفة تدلّ على تيوفانيا تبدو ذروتها في ظهور مجد الله على كل الشعوب (آ 2- 6). وتصوّر النهاية خيرات ملك الله بعبارات الحبّ والنجاة والنور والفرح (آ 10- 12).
ونحن نرى من خلال هذه الاستعارات خيرات روحية يحملها ملكوت الله إلى البشر في الأزمنة الثلاثة لتحقيقها على الأرض: تدشّنت في المسيح، أعلنت في الكنيسة عبر الحضور الأسراري، تمّت في نهاية الزمن.

2- يسوع عبد الله
تتجذّر صورة عبد الله في الخبرة البشرية المعروفة. وإنّ مهمة هذا العبد تتمّ في إطار العالم الحاضر، وتكمل بدخوله في المجد. يفصّل النصّ مهمّة العبد، ولكنّه يبقى غامضًا حين يتحدّث عن الدخول في المجد: نجاح يدهش المشاهدين (أش 13:52- 15). يرى العابد "نسلاً وتمتدّ أيّامه " (أش 53: 10). يرى النور ويُغمر بخيرات الرب (أش 53: 11). يعطيه الله الجموع ويقاسم العظماء خيرات السلب (أش 53: 12). نحن أمام تعابير متردّدة لمصير يتعدّى كل ما يتخيّله إنسان. ولا ننسى أنّ سرّ المجازاة في الآخرة لم يتوضّح بعد. فيبقى علينا أن نلقي على هذه العبارات الغامضة نور القيامة فنكتشف هذا السرّ في تمجيد عبد الله (أع 13:3؛ فل 9:2).
يشكّل رسم عبد الله في مهمّته الأرضية صورة عن شخص يسوع، عن مهمته، عن آلامه. فمنذ دعوته (أش 49: 1- 6) تقبّل العابد روح الله (أش 42: 1؛ مر 1: 10 وز) وقام بمهمّة التعليم (أش 3:42- 4؛ 49: 2- 6). كان خاضعًا لله (أش 50: 4) وحنونًا مع البشر (أش 42: 2- 3). لهذا جُعل "نور الأمم " (أش 42: 6؛ 49: 6؛ رج لو 2: 32). وهو وسيط العهد تجاه الشعب الجديد (أش 42: 6) ووسيط خلاص للأرض كلّها (أش 49: 6) والمتشفعّ من أجل الخطاة (أش 53: 12). كل هذا يشكّل دور يسوع الجوهري.
وقد أصطدم تحقيق هذه المهمّة بسوء فهم لدى السامعين الذين أساؤوا معاملة عبد الله (أش 50: 5- 9) وعذّبوه وقتلوه. ولكنّه قدَّم موته "ذبيحة تكفيرية" لخطايا البشر لن نبدّل شيئًا في هذه النصوص لنرى فيها وجه يسوع. فالتعليم عن العهد الإسكاتولوجي وتفسير ذبيحة المسيح وشموليّة تعليمه، كل هذا يطبّق حرفيًا على يسوع. ولكن حين نقرأ في هذه النصوص سرّ يسوع عبد الله (أع 13:3 ؛ 27:4)، نلقي عليها ضوءاً يجدّد فهمنا لها. جعل يسوع نفسه خادمًا بملء حرّيته، وهو الذي كان شبيهًا بالله (فل 7:2). وهذا يفسّر كل عمله: القيمة الفدائية لآلامه وموته، وساطته في العهد والخلاص، دوره كنور الأمم. ولكي نفهم النبوءة في معناها التامّ، لا ننسى أنّ عبد الله ليست فقط المسيح الداودي (أع 4: 27) بل ابن الله (غل 2: 7 ي). وبهذا هو البارّ (أش 53: 1 1؛ أع 3: 14) الذي يستطيع وحده أن يعلن نفسه أيضاً وسيط بشرية خاطئة.

3- تعبير عن نعمة الفداء
أوّلاً: المفردات والألفاظ
تتضمّن المواعيد الإلهية إشارة ملموسة إلى الخلاص الذي تنبئ به. هناك مفردات وألفاظ يتعمّق معناها ويغتني مضمونها بقدر ما ينمو الوحي. فبركة الله المعطاة للبشر (تك 2 3:1؛ إر 31: 14؛ أش 23:65) تتضمّن كل خير نتصوّره كل نعمة يحملها يسوع إلى البشر (رج غل 3: 8- 9؛ تك 12: 3). من هذه الخيرات: الخلاص، النور، العزاء. نحن ننتقل من المستوى الأرضي إلى الحياة الأبدية خاصّة مع دانيال (12: 2) وسفر الحكمة (15:5).

ثانيًا: توضيح المواضيع
دلّت كارثة سنة 587 على فشل النظام المؤسّس على عهد سيناء. والسبب هو قساوة قلوب البشر. كيف العمل في الازمنة الأخيرة والميثاق الجديد؟ أعلن إرميا (33:31- 34) وحزقيال (25:36- 26) فداء روحيًا يتضمّن تبدّلاً في القلوب بفعل نعمة داخلية. ويوضح حزقيال أنّ هذا التجدّد سيكون ثمرة روح الله المفاض في القلوب (حز 27:36).

ب- عودة إلى جدليّة الصور
ننطلق من التأويل النمطي لنفسرّ النبوءات. سنأخذ أمثلة تعود إلى نظُم أساسية (المسيح الملوكي، أورشليم الجديدة) أو إلى خبرات روحية مثل الخروج والعهد والدخول إلى أرض الميعاد.

1- يسوع مسيح ملوكي
تغرز المسيحيانية جذورها في خبرة الملكية الداودية وتُسقط مثالها على "نهاية الأزمنة". هذا ما يصوّره تاريخ مز 2، 72، 110. هي في الأصل مزامير ملوكية، فطبّقت بعد المنفى على المسيح الآتي بحسب تأويل متنام شكَّل الخطوة الأولى نحو المعنى التامّ.

أوّلاً: موقف يسوع من المسيحانية
كان يسوع خلال حياته جدّ متحفّظ بالنسبة إلى لقب المسيح، ليحذر التفسير الدنيوي الذي كان حاضرًا في العقول (يو 6: 15). تركهم يتعرفون اليه على أنّه "ابن داود" (مت 27:9؛ رج 23:12 ؛ 22:15؛ 20: 30 وز؛ 9:21، 15). ولكن في جداله مع الكتبة حول المسيح ابن داود (مت 22: 41- 46 وز)، لم يُظهر أنّه يُطالب بهذا اللقب قبل اعتراف إيمان بطرس الذي رأى فيه المسيح (مر 8: 29 ؛ مت 16: 16) ولكنّه أبعد حالاً كلّ تمثّل انتصاري للمسيح وأعلن آلامه القريبة (مر 8: 31- 33 وز)، فتشكّك بطرس بهذه النظرة غير المتوقّعة. وأتمّ حدثُ الشعانين (مت 21: 1- 10) نصًّا كتابيًا (زك 9: 9- 10)، ولكنّه اتّخذ منحى مأساويًا، لأنّه حين قبل حماس الشعب تجاه "ابن داود" قدّم لخصومه الحجّة ليتّهموه أمام السلطات الرومانية. ولمّا سأله قيافا، أجابه بطريقة غير مباشرة موجّهًا الأفكار نحو مسيحانية تتجاوز الزمن، وجعل صورة ابن الإنسان فوق صورة ابن داود (مت 26: 64؛ رج دا 7: 13؛ مز 110: 1). وأخيرًا أعطى يسوع أمام بيلاطس تفسيرًا للقب ملك اليهود، فحرّره من كل طابع سياسي وزمني، وربطه حصرًا بوظيفة الشاهد للحقّ (يو 18: 33- 37).
هذا يعني أنّ المجد الملوكي المنسوب إلى المسيح في الأقوال النبوية، يحيلنا إلى العالم الآتي.
ثانيًا: التفسير الرسولي
هذا هو التفسير الذي به أخذت كتابات الرسل وخطب أعمال الرسل وسفر الرؤيا. طبّقوا على يسوع قول ناتان لداود (أع 2: 30؛ رج 2 صم 7: 12 ؛ مز 132: 11). واستعملوا أش 11 ليصوّروا مجيء المسيح في المجد بعد أن يلغي أعداء ملكوته (2 تس 9:2 ؛ رؤ 19: 11؛ رصد أش 4:11).
يحتلّ مز 110 مكانة هامّة. فجلوس المسيح عن يمين الآب يتفرّع من آ 1 (أع 33:2-35 ؛ 7: 55- 56 ؛ مر 16: 19؛ عب 1 :3، 13). وتصوّر نهاية هذه الآية انتصاره التامّ في اليوم الأخير (1 كور 15: 25). وأخيرًا أحلّ التفكير المسيحي كهنوت يسوع محلّ الكهنوت اليهودي (آ 4 ؛ رج عب 6:5؛ 6: 20 ؛ 7: 21). ولكنّ النظرة تصل بنا إلى السماء حيث دخل يسوع ككاهن أعظم بقيامته وصعوده (عب 4: 14 ؛ 9: 11- 14 ؛ 12:10- 13؛ رج مز 110: 1). وانطلق التفسير من هذه الزاوية ليرى في الآلام فعلاً ذبائحيًا يتسامى على التاريخ والزمن.
ويُستعمل مز 2 في الطريقة عينها. فثورة عظماء هذا العالم "ضدّ الله وضدّ مسيحه " (آ 1 - 2) تماثل دراما الآلام (أع 4: 25- 28). والإعلان الإلهي "أنت ابني، أنا اليوم ولدتك " (آ 7) يُفهم بالنظر إلى القيامة (أع 13: 33 ؛ عب 5: 5؛ رج روم 1 :4 ؛ فل 2: 9). وأخيرًا سيادة المسيح على الشعوب وحكمه لهم بصولجان من حديد (آ 9)، ننتظره ساعة المجيء والدينونة الأخيرة (رؤ 19: 15).

2- الكنيسة، أورشليم الجديدة
أوّلاً: أورشليم في النبوءات
تحتلّ أورشليم وهيكلها مكانًا هامًّا في النبوءات. وترتدي النهية التي تصوّر ألوان ماضٍ مثالي يتمثّلونه بشكل قيامة تامّة ناجزة. غير أنّ المدلول الديني للنظم المعادة وقيمتها لحياة إيمان شعب الله تبقى أهمّ من التفاصيل الدقيقة. حين نجعل صورة عدن فوق صورة أورشليم والهيكل والأرض المقدّسة، لا نفترض أنّ الأنبياء أخذوا باستعاراتهم وحسبوها حقيقة (حز 36: 35؛ 7:47- 12، أش 51: 3). نستطيع أن نورد هنا أش 2: 1- 4 (= مي 4: 1- 3) ؛ 49: 14- 26؛ 17:51- 52 ؛ 60: 10- 12:62 ؛ 65: 5-14؛ حز 40- 48؛ زك 13: 1- 2، 14؛ طو 13؛ با 4: 20- 5: 9. في كل هذه النصوص يبدو مدلول أورشليم مضاعفًا. فكعاصمة وطنية، هي تدلّ على الوحدة الداخلية في شعب الله، وهي تمثَّل كأمّ منجبة (أش 54: 1- 2). وكموضع للهيكل، فهي تدلّ على مقام الله مع البشر (حز 27:37)، فهي مبدأ وحدة يستعيدها الجنس البشري (أش 2: 1- 4).
فأورشليم (وهيكلها المصنوع بالأيدي) احتفظت بهذا المدلول الى أن جاء يسوع ومات في أورشليم ضحيّة كفر أولادها. وليلة نهاية الدراما، لم يبق له إلاّ أن يُعلن حكم الله على المدينة التي أسندت طويلاً رجاء إسرائيل (لو 33:13- 34 وز؛ 19: 41- 44 ؛ 21: 20- 24 موضحًا مر 14:13-19 وز؛ رج مت 7:22). ففي ساعة موت يسوع، شدّد الإنجيليّون على نزع الصفة القدسية عن الهيكل (مر 38:15 وز) كمقدّمة للدينونة المعلنة، واحتفظ الإنجيل الرابع بكلمة يسوع فدلّ فيها على أنّ جسده القائم من الموت هو العلامة الجديدة لحضور الله على الأرض، وقد حلّ محلّ معبد والتغى (يو 2: 19- 22؛ رج مت 26: 51). إنّ هذه العناصر تفصل أورشليم الجديدة عن عاصمة العالم اليهودي.

ثانيًا: أورشليم في العهد الجديد
ونقل العهد الجديد إلى موضوع جديد نصّ هذه النبوءات. فأورشليم هي الآن المدينة السماوية التي أولادها هم المسيحيون (غل 26:4). فهذه المدينة ليست لنا فقط واقعًا مقبلاً ننضمّ إليه بعد الموت أو نصل إليه في نهاية الأزمنة. إنّها جزء لا يتجزّأ من خبرة إيماننا: قد اقتربنا منها بالعماد (عب 12: 22). وهي التي يدوسها الوثنيون حين يضطهدون الكنيسة (رؤ 11: 2). أورشليم الجديدة هي الكنيسة.
ولكن إذا أردنا أن نتأمّل فيها، يجب أن نتجاوز الظواهر التي تسجننا فيها الخبرة التاريخية. يجب أن نرى مدينتنا كما ستنكشف في نهاية الأزمنة، وكما ستكون فيما بعد التاريخ. هي الآن بشكل سرّي بعد أن قام المسيح من بين الأموات. وسفر الرؤيا يصوّرها في هذا الكمال النهائي خلال أعراس الحمل (رؤ 21: 1- 22: 5). ولكنّ النصّ هنا هو تجميع لإيرادات بيبلية تستعيد أش 54: 11- 12؛ 60: 1- 3، 11، 19- 20؛ 17:65؛ حز 40: 1؛ 12 ؛ 48: 31- 35 ؛ زك 14: 11؛ طو 16:13- 17 وتفهمها في المعنى التامّ.

ثالثًا: مواعيد الخلاص
لا تشير النبوءات فقط إلى الخلاص انطلاقًا من نظُم إسرائيل. فالخلاص هو الحدث الأسمى الذي يُتمّ التاريخ. لهذا يصوَّر كاستعادة لأحداث تضمّنت خبرة بدائية كالخروج، والعهد، والدخول إلى أرض الميعاد. فإذا بقينا على مستوى الظواهر، فالنصوص التي تتحدّث عنها لا تتعدّى التاريخ الزمني. ولكنّ العهد الجديد يعرّفنا إلى طبيعة الخروج الجديد، والعهد الجديد، والدخول الجديد إلى أرض الموعد. وهكذا يعطينا الوسيلة لنبلغ إلى المعنى التامّ في هذه النبوءات.

رابعًا: الخروج الجديد
إنّ خروج يسوع الذي يتحدّث عنه لو 9: 31 هو انطلاقة من هذه الأرض إلى أبيه (رج يو 13: 1). فالعبارة تدلّ على فرح السماء في العالم الجديد، عالم القائمين من الموت. لهذا يصوّر فرح المختارين (لاسيمّا بعد القيامة الأخيرة) في سفر الرؤيا (7: 16- 17؛ 21: 4؛ 22: 3) استنادًا الى نصوص توراتية أعلنت عن هذا الخروج الجديد مسيرة تحت سرادق المجد الإلهي (أش 4: 5- 6؛ 25: 4- 5)، غياب الجوع والعطش، حماية ضدّ الشمس والريح المحرقة (أش 49: 10)، إلغاء كل ألم (أش 34: 10 ؛ 8:25).
تضمّن المعنى الحرفي لهذه النبوءات استعارات ألهمتها معجزات سفر الخروج كما أوردها التقليد اليهودي. ولكنّنا نعرف اليوم الواقع الذي نستشفه من هذه الاستعارات: واقع عالم تجلّى، يفلت فيه الناس من وضعهم الحالي على مثال يسوع بعد قيامته.
في هذا الخط نستطيع أن نقرأ أش 35 فنجد مسيرة البشر نحو أورشليم الجديدة، أورشليم العليا، تحلّ محلّ عودة المسبيين إلى صهيون. فصور الصحراء التي تزهر (آ 1- 2) والمياه التي تتفجّر فيها (آ 6- 7) والطريق المقدّسة التي نسير فيها بأمان (آ 8- 10)، كل هذا يفسَّر تفسيرًا رمزيًا: نحن أمام مسيرة البشر المفديّين نحو عالم القيامة، حيث يتذوّقون المجازاة الإلهية التي تشجّعهم (آ 3- 4). وسنرى مجد الله (آ 2) وفرحًا تامًّا (آ 10). وشفاء من كل الأمراض (آ 5- 6) نفهمه في منظار قيامة الموتى.

خامسًا: العهد الجديد
تلاحظ الرسالة إلى العبرانيين أنِّ المسيح أتمّ الوعد المعبَّر عنه في إر 31: 31- 34: عهد (ميثاق) جديد يحلّ محلّ العهد القديم، ويحقّق ملء مخطّط الله كما رُسم في الميثاق القديم (عب 8: 6- 13؛ 10: 10- 17). وفي هذا تستند الرسالة إلى إشارة واضحة قدّمها يسوع في عشائه الأخير (مت 28:26 ؛ مر 14: 24؛ لو 22: 20؛ 1 كور 25:11)، فكشفت عن معنى موته القريب، ودلّت على ذبيحة العهد التي تربط الله بالبشرية المفتداة (صارت شعبه) برباط لا ينقطع.
ولكن إذا كان واقع موت يسوع قد أخذ هنا معناه العميق في دراما الخلاص، فالنصوص التي تعلن هذا الميثاق الجديد قد أخذت بُعدها النهائي (إر 24: 7 ؛ 32: 39- 40؛ حز 36: 25- 28؛ أش 6:42 ؛ 54: 10 ؛ 3:55؛ 8:61؛ با 2: 35). ونحن لن نفهم هذا العهد بالنظر الى حياة إسرائيل الزمنية، بل حصرًا على ضوء ما حقّقه يسوع من أجلنا.
أمّا سائر نصوص العهد الجديد، فهي ترى الوعد بالعهد الجديد في منظارين مختلفين. الأوّل، منظار الخبرة المسيحية. منذ الآن قد كتب الله شريعته في قلوبنا (2 كور 3: 3). منذ الآن جعل كنيسته عروسًا لا عيب فيها، واستعارة الزواج ترتبط بالعهد (أف 25:5، 27؛ رج أش 54: 4، 11؛ هو 2: 21- 22). والثاني هو منظار التتمّة النهائية: ساعة اعراس الحمل الإسكاتولوجية (رؤ 21: 2؛ رج 9:19) سيتحقق ملء سرّ العهد: "يكونون شعبه، وهو الله معهم (عمّانوئيل)، يكون إلههم " (رؤ 3:21). لقد تجاوزنا تجاوزًا تامًّا مستوى الحياة الزمنية.

سادسًا: الدخول الجديد إلى أرض الميعاد
يشدّد العهد الجديد على تماثل الموضوع الذي ترمز اليه أرض الميعاد والذي ترمز اليه مدينة أورشليم: فالسماء هي في الوقت عينه هذا الوطن وهذه المدينة التي اليها تاق رجاء الآباء من خلال كنعان وأورشليم (عب 11: 9- 10، 13- 16). فكل ما يرد حرفيًّا إلى أرض الميعاد والخيرات الزمنية التي سينعم بها الشعب المفتدى (رج إر 31: 10- 14)، كل هذا لا يعني أنّ أقوالهم ألغيت. فالفرح الذي أعلنوه يبقى ثابتًا. ولكن من خلال تحقيق أرضي يتجاوب مع نظرة ناقصة، يجب أن نكتشف تحقيقًا يتعدى الزمان والمكان، تحقيقًا ذُقنا في النعمة عربونَه.
خاتمة
نستطيع القول بعد هذه التوسّعات التي امتدّت على فصول طويلة إنّنا حين نعود إلى العهد الجديد، نكتشف قي نصوص العهد القديم موضوع الإيمان الواحد الذي هو سرّ المسيح. فهذا السرّ قد كُشف عنه منذ بداية التاريخ. والمسافة التي لاحظناها في العهد القديم بين المعنى الحرفي للنصوص ومعناها التامّ، لم تعد موجودة في العهد الجديد. كان المسيح "يختفي " بشكل أو بآخر في التوراة، وقد أشار الكاتب الملهم إلى ملء سرّه، وإن لم يعرفه بصورة واضحة. فما بدأ به العهد القديم كملّه العهد الجديد. والصورة التي كانت غامضة صارت واضحة.
وهنا نعود إلى ما قاله القدّيس أوغسطينس: اختفى (العهد) الجديد في (العهد) القديم. ووضح (العهد) الجديد في (العهد) القديم. لقد بحثنا في العهد القديم عن حضور خفيّ ومحتجب للسرّ الذي كشفه العهد الجديد. لقد رأينا مع العهد الجديد واقعًا وصل إلى ملئه وتمامه. وهكذا حاولنا أن نبيّن وحدة الوحي البيبلي، وحدة الكتب المقدّسة، من أوّل سفر إلى آخر سفر، من سفر التكوين إلى سفر الرؤيا.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM