رحمة الله الفائقة 54:5-14

رحمة الله الفائقة

54:5-14

كيف تكون أورشليم في المستقبل؟ سيعود إليها سكّانها، ويكون عددُهم كبيراً. غضبَ الله لحظة على عروسه، وها هو يستعيد رحمته فيستعيدها ولن يتركها إلى الأبد. حينئذ يُعاد بناءُ المدينة بأجمل ما كانت. ويعيش فيها أولادُها بأمان، بعد أن علّمهم الربّ فعاشوا بحسب البرّ. الربّ نفسه هو الذي يجمعهم. فلا يبقى لأورشليم سوى الترنيم ونشيد الفرح. مضى الخزيُ والعار، وها هو الافتخار والمجد بعد أن استعادت العروس عريسها «واسمه الربّ القدير»، وعرفت أنّ «إله الأرض كلّها» يدعوها.

1 - كتاب التعزية

«عزّوا، عزّوا شعبي، يقول الربّ إلهكم. طيّبوا قلب أورشليم» (40:1 - 2). هكذا يبدأ أشعيا الثاني (ف 40 - 55) وكتاب التعزية، الذي منه أخذ النصّ موضوع تأمّلنا. أمّا السياق التاريخيّ فهو كما يلي: إنّ منفى شعب يهوذا الذي سُبيَ سنة 586 ق م، قد شارف على نهايته. منذ سنة 547، جاء كورش ملك الفرس «الذي لاقاه النصرُ في كلّ خطوة» (41:2) يخطوها، فجعل بابل ترتعد. وهو سيذلّ المدينة العظيمة سنة 538. هذا سيكون علامةً للمنفيّين الراغبين في العودة إلى الأرض. وإذ رأى النبيّ الأحداث آتية، قام يتكلّمُ في بابل سنة 550. لا نعرف اسمه، ولكنّ كلامه حاضر. باسم الربّ أعلن للشعب تحرّره القريب: «ها أنا صانعٌ جديداً فينشأ الآن، أفلا تعرفونه؟ في الصحراء أشقُّ طريقاً، وفي القفر أجري الأنهار» (43:19).

ومن المواضيع الرئيسيّة في هذا السفر الذي دُعيَ «كتاب التعزية» نفهم أنّ صهيون كفّرت عن ذنبها، فجاء الوقت الذي فيه تتعزّى وتستعيد عزمها. ليس إله سوى يهوه، الربّ الواحد. أمّا أصنام بابل فهي باطلٌ وهباء (41:29)؛ «ها هم جميعاً باطل. أعمالهم عدم وأصنامهم هباء». مثل هذه الأصنام لا تنفع في شيء، لأنّها لا تعرف المستقبل: «أعلنوا لنا ما سيأتي من بعد، فنعلم أنكم آلهة. إعملوا شرّاً أو خيراً، فننظر جميعاً ونرى أنّكم أنتم كلا شيء وأنّ أعمالكم كالعدم» (41:23، 24). فالذي يقود الكواكب في السماوات، يستعدّ ليعيد شعبه إلى منازله. «أقود العميان في طريق يجهلونها، وفي مسالك لا عهد لهم بها، وأجعل الظلمة نوراً أمامهم، والطرقات المعوجّة مستقيمة. هذه الأمور أعملها لشعبي، فأنا لا أخذلهم أبداً. أمّا المتّكلون على تماثيلهم، القائلون للأصنام أنت آلهتنا، فإلى الوراء يرتدّون ويخزون» (42:16 - 17). يُعاد بناء صهيون فيكثر عدد سكّانها. «تطلّعي وانظري حولك! بنوك اجتمعوا كلّهم وعادوا» (49:18). والفداء القريب يبدو في شكل خلق عالم جديد، يتمّ فجأة وفي صورة لم يتوقّعها أحد.

أنا مبدعُ النور وخالق الظلمة،

وصانع الهناء وخالق الشقاء.

أنا الربّ صانع هذا كلّه (45:7).

أنا صنعتُ الأرض كلّها،

وخلقتُ البشر عليها.

يداي نشرتا السماوات،

وأنا أضأتُ جميع نجومها (آ 12)

هذا الاله القدير، يعلِن ما سوف يعمل (اش 48:6 - 7):

واليوم أُسمعك بما سيحدث،

وبأمور خفيّة لا تعرفها.

أُبدعها الآن، لا في القديم،

وقبل اليوم لم تسمع بها.

أمّا مجمل ف 54 فيشكّل نشيد فرح لصهيون عروس الربّ، وأم الأولاد العديدين. هذا ما نكتشفه في آ 5 - 10، ثمّ في آ 11 - 14.

2 - صهيون عروس الربّ (54:5 - 10)

نبدأ بقراءة النصّ

5 زوجُك هو خالقُك،

واسمُه الربّ القدير.

فاديك قدّوس اسرائيل،

وهو إله الأرض كلّها.

6 دعاك الربّ كعانس مهجورة، محزونة الروح،

كأنثى هُجرت في صباها.

7 هجرتُك لحظة قصيرة،

وبرحمة فائقة أضمّك.

8 في هيجان غضب حجبتُ وجهي عنك قليلاً،

وبرحمة أبديّة أرحمك.

هكذا قال فاديك الربّ.

9 كذلك لي كأيّام نوح:

كما حلفتُ أن لا تعبر المياه

على وجه الأرض من بعد،

فكذلك حلفت

أن لا أغضب عليك وأوبّخك.

10 الجبال تزول والتلال تتزعزع،

وأمّا رأفتي فلا تزول عنك،

وعهدُ سلامي لا يتزعزع.

هكذا قال الربّ راحمُك.

نجد في هذا المقطع ثلاثة أبيات، حبّ الصبا (آ 5 - 6). من الغضب إلى الرحمة (آ 7- 8). عهد سلام جديد (آ 9 - 10).

أ - حبّ الصبا (آ 5 - 6)

التعزية تقوم بأن نهدّئ القلب الكئيب، في عذابه. وكلّ أناشيد أشعيا الثاني تُسمعنا في الغناء، أنّات شعب يعيش في الذلّ. فتوجّه النبيّ إلى أشخاص خسروا كلّ عزم، فصعب إقناعهم، هذا إن سمعوا. أمّا أفضل برهان لديه، فهو الربّ ومعرفته للربّ ولعمله في الكون. إن كان كلّ شيء يقدر أن يتبدّل، فلأنّ الله أحبّ وما زال يحبّ، وأن حبَّه خلاَّق. والفداء الخلاق لا يمكن أن يفشل بسبب فقر الذين يخلّصهم (41:14: لا تخف من ضعفك، ولا من عددك القليل)، أو بسبب حذرهم وتراجعهم (42:16، 18: الصمّ، العميان).

والألقاب التي ينالها الربّ في آ 5 هي مهمّة من هذا القبيل. «عريسُك خالقك. اسمه ربّ الصباؤوت». لفظ «خالق» ليس اسماً يدلّ على واقع بسيط لفعل حصل في الماضي. كما نقول: هو خالقُ هذه اللوحة. اللفظ هو اسم فاعل. هكذا ندرك عمل الخلق كعلامة متواصلة بين الربّ وشعبه. هو يخلق الآن. يعطي حياةً من حياته الآن. وعبارة: يهوه صباؤوت، هي اسم إله بني اسرائيل الذي برهن على قدرته في التاريخ (1 صم 1:3). وهو يُفهمنا التواصل التاريخيّ لمخطّط الله. وفي الوقت عينه، يُدعى الربّ «قدوس اسرائيل»، «إله الأرض كلّها». هو تلميح واضح إلى حبّ الربّ الذي اختار شعبه. من أجل هذا، نورد خر 19:5. الذي يروي تقاليد العهد السينائيّ: «والآن إن سمعتم كلامي وحفظتم عهدي، فإنّكم تكونون شعبي الخاص بين الشعوب، فالأرض كلّها لي».

ولقب «فادي» يلوّن تلويناً خاصاً وجهة محدّدة من زواج الربّ بشعبه. فصهيون تبدو أرملة ثكلى لا أولاد لها. فلعب الربّ دور الوليّ، أي أقرب الأقارب بحسب العهد، فالتزم بأن يقيم لها نسلاً. هكذا لن تعود صهيون خربة. ويُمنع أحد من أن يضع يده عليها: فهي الآن خاضعة لسيطرة بابل. في الواقع، ما طلّق الربّ صهيون. قال: «إن كنتُ طلّقتُ أمّكم، فأين كتاب طلاقها؟ وإن كنتُ بعتكم يا شعبي، فلأيّ من دائنيّ؟ آثامكم هي التي باعتكم، ومعاصيكم هي التي طلّقت أمّكم» (50:1).

لا، ما كانت صهيون أرملة حقاً، وإلاّ فهذا يعني أنّ الله مات. بل هي عرفت خلال المنفى، عذابَ الترمّل، من عزلة واحتقار. كانت آ 5 - 6 قول خلاص. وجاءت آ 6 كباعث لما في آ 5: خبرة الفداء الأخيرة هي أمانة الله. صهيون هي عروسته في صباه، وهو لا يستطيع أن ينساها.

ب - من الغضب إلى الرحمة (آ 7 - 8)

إنّ رمز الزواج يعبّر تعبيراً عميقاً عن تاريخ مشترك بين الربّ وشعبه، عن عهد عرف أوقات الأزمات. ولكنّ الربّ يعود في انطلاقة جديدة. وفي هذا التاريخ المشترك، بدا المنفى على أنّه محطة بسيطة لا تستحق كلّ هذا الاهتمام. لا شكّ هو غضب الله. ولكنّه غضب دام لحظة قصيرة. وتجاه هذا الغضب، قدّم الربّ وُسعَ رحمته وأبديّة حبّه. إنّ «ح س د» يدلّ على الحبّ والصدق، على الرباط بين الأهل والأقارب. وهكذا جاءت آ 7 - 8 كجواب على أنين صهيون التي تحتاج في العمق إلى من يُهدئها ويعيد إليها الأمل من أجل انطلاقة جديدة. نقرأ مرا 5:18 - 22.

ها جبلُ صهيون مقفر، والثعالب تتجوّل فيه.

أنت يا ربّ باقٍ، وعرشُك ثابت مدى الأجيال.

لماذا تنسانا على الدوام، وتخذلنا طول الأيام.

أعدنا إليك فنعود، وجدّد أيّامنا كالقديم،

وإلاّ تكون نبذتنا نبذاً، وغضبت علينا كلّ الغضب.

أُلِّفت آ 7 - 8 في عودة مباشرة إلى صلاة عاديّة تتلوها الجماعة، فبدَتَا بشكل مباشر، جواب الله على أنين الأمّة العائشة في الحداد. ونحن نستطيع أن نقرأ في المزامير مثل هذا التحوّل، من البكاء إلى الفرح الطافح: هكذا حيّى المرتّل تدخّل الربّ المفاجئ. وما يقرّبنا من آ 7 - 8 نقرأه في مز 30:6: «غضبُ الربّ لحظة، ورضاه طول الحياة. إذا أبكاني في المساء، فمع الصباح أرنّم فرحاً».

ج - عهد سلام جديد (آ 9 - 10)

أراد الربّ أن يبيّن أنّ التحوّل القريب هو فعل نعمته، فعاد إلى العهد مع نوح، وعبر نوح مع البشريّة (تك 8:22). وقد جاء الالتزام من طرف واحد، ولا باعث له سوى الرحمة. هو أكثر من وعد بسيط باللاحرب. بل أقسم الربّ أنّه يحبّ مهما حصل (54:10). فأمانة (ح س د، لطف) الربّ ستكون أصلب من الجبال والتلال التي ترمز إلى الأبديّة (إر 31:35 - 37):

وهذا ما قال الربّ:

«الذي جعل الشمس نوراً في النهار،

والقمر والكواكب نوراً في الليل

الذي يثير البحر فتعجّ أمواجه،

الربّ القدير اسمه.

إن زال نظام الكون من أمامي

فنسل اسرائيل يبطل

أن يكون أمّة أمامي إلى الأبد».

وهذا ما قال الربّ:

«إن أمكن أن تقاس السماوات من فوق

ويُفحصَ عن أسس الأرض من تحت،

أنا أنبذ نسل اسرائيل

من أجل كلِّ ما عملوا».

والعهدُ يكون عهد سلام، أي حالة من السعادة لا تزول، يكفل فيها الله النظامَ والكمال. واللقب الذي أعطاه الله لنفسه: راحمك الربّ. هو يرحم اليوم وكلّ يوم ولا يكتفي بأن يكون الرحيم في الماضي، ساعة أخرج شعبه من مصر. هذا ما يلمّح إلى عهد سيناء. فالربّ عرّف نفسه إلى موسى على أنّه الإله الذي يرحم: «أتحنّن على من أتحنّن، وأرحم من أرحم» (خر 33:19).

حين نقابل نتائج هذه الأبيات بعضها مع بعض (آ 5 - 6، 7 - 8، 9 - 10)، يبرز شعورٌ يزداد سيطرة على الانسان: «قال إلهك» (آ 6). «قال الربّ فاديك» (آ 8). «قال الربّ راحمك» (آ 10). وفي آ 10، ينتهي القسمُ الأوّل من القصيدة التي تعود قوّةُ الإقناع فيها إلى رمزيّة الزواج. فإله اسرائيل ليس إلهاً بعيداً لا يُحسّ ولا يشعر. إنّه يتدخّل في التاريخ فيجعل نفسه شريك شعبه. وإذا كانت استعارة الحبّ الزوجيّ تتيح لنا أن نربط الله بالانسان دون مجافاة لله، فهي بالأحرى تتيح لنا أن نربط الانسان بالله دون أن يُصبح الانسان متسامياً وكأنّه الله. فمونوتاويّة (عبادة الله الواحد) أشعيا الثاني ليست فقط ثمرة نظريّة فكريّة، بل ثمرة خبرة معاشة في حبّ وغرام.

3 - أورشليم أم الأبناء العديدين (54:11 - 14)

أورشليم مدينة سيعود بناؤها، وهي أم بكثرة أولادها. هذا ما يقول النصّ:

11 أيّتها العانية المنفيّة، التي لا عزاء لها،

سأبني أسوارك بحجارة كريمة،

وأؤسّسك باللازورد.

12 أجعل شرفاتك ياقوتاً

وأبوابك حجارة بهرمان

وجميع حدودك حجارة ثمينة.

13 كلّ بنيك يكونون تلاميذ الربّ

ويكون سلامُهم عميماً.

14 تتثبّتين في العدل فيُبعَد عنك الظلم،

ولا تخافين الرعب فلا يدنو منك.

هنا أيضاً، نقسم المقطع إلى بيتين. في الأول (آ 11 - 12)، كلام عن المدينة. ماذا كانت وكيف صارت. وفي الثاني (آ 13 - 14)، كلام عن أولادها الذين يؤسّسون مدينتهم على البرّ، على العدل.

أ - مدينة بأساساتها (آ 11 - 12)

رسمت آ 11 أورشليم في أعمق عزلتها. هي بائسة، وحيدة، تضربها الأمواج والرياح من كلّ جانب. فأين تستطيع أن تجد العزاء؟ وفعلَ أشعيا الثاني هنا كما اعتاد أن يفعل، فانتقل من حزن يعرفه سامعوه إلى دهشة يستشفّها في فكره الخاص. فالتعزية تفتح على الإيمان وتستند إلى الرجاء.

على مستوى الصور، تغلّب الشاعر على عقبة قاسية فقال: صهيون هي في الوقت عينه مدينة (مبنيّة بالحجارة الكريمة) وامرأة تفرح بأولادها. واستفاد العبري من تلاعب على الكلام له معناه، فانتقل من الحجارة (ا ب ن ي م، آ 12) إلى الأبناء (ب ن ي م، آ 13). هذا الرباط بين الحجارة والأبناء ليس بجديد في الكتاب، وهو يعبِّر عن سيكولوجيا عميقة. ففي تك 30:3، لبثت راحيل عقيمة، فقالت ليعقوب: «ها هي أمتي بلهة. أدخل عليها فتلد في حضني. «بها أُبنى» (أي يكون لي بنون). وفرحت المرأة بالأمومة. هي «بُنيت» بالبنين والبنات الذين تلد. وكذلك صهيون يزيّنها أولادها: «بنوك اجتمعوا كلّهم وعادوا، حيّ أنا يقول الربّ. تلبسينهم جميعاً كالحلي، وتتقلّدين بهم كالعروس» (49:18).

هذه الرمزيّة اللطيفة تشرح منطق القسم الثاني من القصيدة. فتحوّلُ صهيون إلى مدينة مشعّة بالحجارة الكريمة، هو في الواقع تمثّل رمزيّ لسرّ الأمومة. ففي عالم المرأة، الحلي والأولاد هم عربون حبّ متبادل وعلامة حبّ قدّمته فعاد إليها. لهذا، تخيّل الكاتب صهيون كامرأة جمّلتها الجواهر والأولاد. وأفضل طريقة لقراءة ما في آ 11 - 12، هو أن نترك المعنى الحرفيّ يسحرنا فندرك لا تعبير المخيّلة، بل السند المصوّر للرمز. فالمدينة العاصمة توحّد الأمّة وتعيش من وحدتها. فأمومة صهيون ودورها كعروس يقومان في جمع الشعب وربطه بالربّ الواحد.

جنَّد أشعيا الثاني رجاء اسرائيل، لا بالماضي (قبل) في خطّ الزمن وحسب، بل أيضاً بمكان، بمركز، بمشهد هو أورشليم. هذا التمثّل المكانيّ للخلاص يفتح إمكانيّات تصويريّة هائلة تلامس أوتار القلب. صهيون هي موضع نرى فيه السلام والطمأنينة والبرّ. هذا ما يتوسّع فيه البيت التالي (آ 13 - 14).

ب - أولاد يعيشون البرّ (آ 13 - 14)

بنوك تلاميذ. يعلّمهم الربّ. فبهاء المدينة يقابل تجديد سكّانها من الداخل. هنا يلتقي أشعيا الثاني مع موضوع اسكاتولوجيّ تطرّق إليه قبله إرميا وحزقيال. «فلا يعلّم بعد واحدُهم الآخر، والأخ أخاه، أن يعرف الربّ، فجميعهم من صغيرهم إلى كبيرهم سيعرفونني» (إر 31:34). وقال حز 36:27: «وأجعل روحي في أحشائكم، وأجعلكم تسلكون في فرائضي، وتحفظون أحكامي وتعملون بها».

اللفظ الذي استعمله أشعيا «ل م د» (تلميذ) في كلامه عن الربّ، لا يعني أن سكّان صهيون ينظّمون حياتهم بحسب دروس تعلّموها مرّة واحدة ونقلوها بطريقة عجيبة. فمعنى اللفظ يتحدّد في مقطع موازٍ (50:4) يجعل عابد الربّ يقول: «كلّ صباح يوقظ أذني لأسمع مثل التلاميذ». فالأمانة تُدرك واجبها يوماً بعد يوم، في التفكير والتأمّل.

في آ 13 ب، ذُكر السلام مرّة أخرى فعنى السعادة في المعنى الواسع للكلام. وهكذا تلوّنت آ 13 بلون حكميّ: يجد الانسانُ سعادته في حكمة حياة تجعله يُصغي إلى الله. أمّا آ 14 فتحدّد موقع هذه السعادة في منظار جماعيّ باستعمال لفظة «برّ، عدل» (ص د ق ه)، على أنّه علاقة بين اثنين. ففكرةُ البرّ في نهاية القصيدة تحتاج إلى تحديد في مقابلة مع نصوص أشعيائيّة موازية.

نعود أوّلاً إلى 1:21 - 26: صهيون زانية بسبب قُضاتها الذين يُشرَون، يرتشون، ويتصرّفون بلا ضمير. ستصبح في يوم من الأيام «مدينة البرّ»، مدينة العدل والصدق (إر 33:16). ونقرأ أيضاً 28:16 - 17: «ها أنا أضع في صهيون حجراً مختاراً، حجر زاوية كريماً، أساساً راسخاً. فمن آمن به لا يتزعزع. وأجعل العدلَ ميزاناً والحقّ معياراً». تضمّن 54:14 هذه الإشارة الاجتماعيّة في لفظ «ص د ق ه» كما يدلّ 60:17 الذي أعاد قراءة ف 54: «وأجعل لك السلام والياً (قاضياً)، والعدل (الصدق) وكيلاً (حاكماً) عليك».

ويعني «ص د ق ه» أيضاً في 54:14: الخلاص. ففي مقطع آخر من أشعيا الثاني، نجد السعادة قرب العدل: «لو أصغيتَ إلى وصاياي، لكان كالنهر سلامك، وكأمواج البحر برّك» (عدلك) (48:18). وأخيراً، برُّ صهيون هو استقامة سكّانها: «ويتألّف شعبك فقط من أبرار يرثون الأرض إلى الأبد» (60:21). كلّ هذه المعاني حاضرة في 54:14 مع تشديد خاص على موضوع الخلاص، كما في الألفاظ الأخيرة في القصيدة. منذ الآن تعرف صهيون الطمأنينة وتنجو من الرعدة والضيق. هذا ما يوافق 32:17 - 18: «مع العدل يجيء السلام، ومع الحقّ دوام الراحة والأمن. ويحلّ شعبي في مقام السلام، وحيث الطمأنينة والراحة والهناء».

الخاتمة

وهكذا استعاد النبيّ من قلب المحنة، الأمل بخلاص الله القريب. وإلى ماذا استند؟ إلى حبّ الله الذي فعل وما زال يفعل. فذكّر مدينته بأنّ الربّ أحبّها حين كانت صبيّة، وهو حبّ أمين، ثابت، لا يتبدّل. فعلَ في الماضي، ويفعل اليوم وسوف يفعل غداً. ومن يعمل عمل الله؟ لا شخص غريب، بل بنو المدينة هم الذين يبنونها بعد أن عاد إليهم الرجاء. حوّلهم الربّ ففهموا أنّهم يقدرون أن يعملوا رغم الضعف الذي فيهم. فالرب يُخرج من الضعف قوة، ومن قلب الشقاء خلاصاً. فلا يبقى للمؤمنين سوى التمسّك بهذه الرحمة التي وإن بدت غضباً، لحظة قصيرة، تدوم إل

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM