الفصل السادس عشر: يفتاح الجلعاديّ والعمّونيون

الفصل السادس عشر

يفتاح الجلعاديّ والعمونيّون

حين نقرأ سفر القضاة، أي أولئك الذين قضوا في الناس فاهتمّوا بأمورهم ومنعوا عنهم الشرّ في الخارج (من العدوّ) وفي الداخل (من قبل إنسان يظلمهم ولاسيّما في القضاء)، نكتشف أنّهم اثنا عشر قاضيًا، على عدد أسباط بني إسرائيل. هو رقم رمزيّ وقد حاول المدوٍِّن النهائيّ، بعد العودة من المنفى، أن يكمّل العدد بأشخاص ذكر اسمهم فحسب وما قال شيئًا عن أعمالهم.

القاضي غير الملك. هو ينطلق من قبيلة ولا يخرج منها إلاّ نادرًا. قد تتآلف قبيلته مع قبيلة جارة، ولكنّه يبقى هو القائد. ثمّ يعود إلى قبيلته بعد أن تنتهي مهمّته الأساسيّة. هكذا كان الأمر بالنسبة إلى دبورة. انتهت الحرب بالنصر مع سيسرا، فعادت إلى "نخلة دبورة" تجلس قربها، وتمارس "القضاء" بالمعنى الحصريّ للفظ أي الاستماع إلى الناس، وفضِّ خلافاتهم، وإعادة كلّ صاحب حقّ إلى حقّه.

1- منطقة جلعاد

إن يفتاح الذي يعني اسمه: يفتح. أي الله يفتح، فهو من منطقة جلعاد. تقع شماليّ "شرق الأردنّ". ما هو أصل الكلمة؟ هذا ما لا نعرفه. ولكنّ خبر الآباء (تك 31: 47-48) تلاعب على الكلمات فقال: "ج ل. ع د". الجلّ هو موضع من الأرض تكثر فيه الحجارة. و"عد" تعني "الشهادة". هذه الحجارة التي جُمعت ربّما بشكل نصُب أو مذبح، صارت شاهدًا لعهد سلام بين الآراميّين ومملكة إسرائيل، وقد أعيدت إلى الزمن القديم، مع أبي كلٍّ من الشعبين: يعقوب وناحور. وانتهى الاحتفال بوليمة مقدّسة. قال لابان: "فتعال نقطع عهدًا، أنا وأنت، ونقيم شاهدًا بيني وبينك". فأخذ يعقوب حجرًا ونصبه عمودًا، وقال لرجاله: "اجمعوا حجارة". فجمعوا حجارة وكوّموها، وأكلوا طعامًا فوق الخيمة. وسمّاها لابان: ي ج ر. س ه د و ت ا. كذا في الآراميّة: كومة الحجارة. وسهدوتا تعني الشهادة في العربيّة.

هكذا كان يُختم كلّ لقاء حدوديّ: علامة كانت مدّة طويلة حجرًا أو صخرًا تحدّ بين أرض وأرض. ولقاء بالإله حول وليمة مقدّسة. أمّا هنا فإله إبراهيم حاضر وإله ناحور (آ 53). هي حدود بين البدو الآراميّين المنطلقين من الفرات وقنواته، وبين جماعة كنعان العائشة على الجبال الخصبة بينابيعها.

في الزمن القديم شكّل جلعاد الضفّة اليمنى للأردنّ، مع جبال تصل إلى 1200 متر فوق سطح البحر، وتعلو، وتلال اشتهرت بعطرها (تك 37: 25 وغابات التقلّبات، لأنّ الجميع تنازعوا عليها بسبب غناها، لم تعرف الحدود الواضحة. فالقوّة هي التي تفرض نفسها، ولا سيّما بعد أن تكوّنت الممالك الآراميّة في دمشق وصوبة وحماة. والقبائل الإسرائيليّة تحدّثت عن منسّى الذي جاء إلى هذه المنطقة من الشمال الشرقيّ، أي من الفيافي الخارجيّة (عد 32: 39-42). وما يُسند هذه الأخبار العتيقة، هو أن جلعاد يُعتبر ابن ماكير الذي هو ابن منسّى (عد 26: 29-30؛ 27: 1؛ 17: 1-3)

كلّ هذا يختلف عمّا حصل لقبيلة رأوبين وقبيلة جاد اللتين انطلقتا من سهل الأردنّ عبر يعزير، أي عبر مياه نمرة (وادي غرين الحاليّة، عدد 32: 1-38). وهكذا يبدو أن جلعاد كان خارج مملكة سيمون الأموريّ (تث 2: 36) ويتميّز عن سهل الأردنّ (تث 4: 43). وبحسب نظام أكثر تماسكًا نقرأه في سفر التثنية، امتدّ جلعاد من اليرموك إلى أرنون، وقد قسمه سيل يبّوق قسمين. فأعطى موسى القسم الجنوبيّ لرأوبين وجاد، والقسم الشماليّ لنصف قبيلة منسّى، التي أقام قسمها الآخر غربيَّ الأردنّ (تث 3: 10-15؛ يش 12: 2-5؛ 13: 11-31؛ 17: 1، 5-6)

اعتادت قبائل جلعاد، رأوبين ومنسّى ونصف قبيلة جاد، أن ينعزلوا عن الآخرين. فنبّههم موسى إلى ذلك (تث 3: 18-20)، ويشوع أيضًا (1: 28)، فطلب منهم أن لا يوقفوا الحرب لأنّهم أقاموا في أرضهم، شرقيّ الأردنّ. فلا يحقّ لهم أن يرتاحوا، قبل أن ترتاح جميع القبائل. هذا على المستوى السياسيّ والحربيّ. وعلى المستوى الدينيّ، حاولت هذه القبائل الانفصال عن قبائل غربيّ الأردنّ. فبنوا لهم مذبحًا عند النهر ليؤكّدوا حقوقهم الدينيّة (يش 22). وكادت الحرب تقع بين ضفّتي الأردنّ لولا مخرج جعل "النصّ أو المذبح" شاهدًا بيننا (شرقيّ الأردنّ) وبينكم (غربيّ الأردنّ) وبين أجيالنا وأجيالكم من  بعدكم" (آ27 ).

قائد هذه القبائل هو يائير "الذي تولّى القضاء لبني إسرائيل اثنتين وعشرين سنة" (قض 10: 3). ويروي سفر القضاة فيما بعد أن جلعاد رفض المضيّ إلى الحرب مع دبورة وباراق (قض 5: 7). وفي الحرب الأهليّة بين القبائل الأهليّة وقبيلة بنيامين، لم يشارك جلعاد في إعادة النظام كما فعلت سائر القبائل (قض 21: 14). وهنا نفهم أهمّيّة القرار الذي اتّخذه شاول بأن يأتي إلى معونة يابيش جلعاد التي ضايقها العمّونيّون المقيمون شرقيّ الأردنّ (1 صم 11: 1-9). وهكذا دخلت هذه المدينة تحت حكم شاول، الذي وحّد بعمله هذا صفّتي الأردنّ الشرقيّة والغربيّة. ومع هجمة الفلسطيّين التي تحدّث عنها (1 صم 13: 7، كان جلعاد أرض الملجأ للآتين من غربيّ الأردنّ. ويابيش لبثت أمينة لشاول بعد موته (1 صم 31: 11-13؛ 2 صم 2: 4-7)، ومدينة أخرى في جلعاد هي محنائيم، استضافت إشبعل بن شاول في جدرانها (2صم 2: 9).

2- يفتاح

من هذه المنطقة خرج يفتاح، "الرجل الجبّار" (قض 11: 1). ولكنّه كان المنبوذ في بيت أبيه، وبالتالي المطرود من قبيلته. بدأت حياته كما انتهت حياة قايين. كان "شريدًا، طريدًا في الأرض" (تك 4: 12). هرب فانضمّ إليه أناس مثله "يخرجون معه للغزو" (قض 11: 3). وهكذا يعتاشون.

نساه إخوته وأهل قبيلته، لأنّه ابن بغيّ. فكيف يختاره الله؟ ولكنّه أتى إلى الخطأة، قبل الأبرار. واختار من يحمّلهم مهمّة بحرّيّة تامّة، فما نظر إلى ماضيهم، بل خلقهم في مستقبلهم. ودعاه إلى عمل مهمّ. أمانتهم هي التي تحكم عليهم، لأنّ الله لا يحابي الوجوه، بل يقبل من يخافه ويعمل إرادته.

وماذا يقول سفر القضاة عن يفتاح ليدلّ على أنّ الله "نظر إليه وأحبّه" فحمّله مهمّة تخليص قبيلته وشعبه، مع أنّه كان "الحجر الذي رذله البنّاؤون". اسمه يفتاح أي الله هو الذي فتح الحشا. عرفه وهو بعد في بطن أمّه. عيّن له منذ طفولته الدور الذي يلعبه. ولكنّ يفتاح الذي فتحَ فمه ونذر نذره، سوف يغلق حشا ابنته إلى الأبد، فتمضي "إلى الجبال وهناك تبقي بتوليّتها مع رفيقاتها" (11: 35-38).

يفتاح هو ابن جلعاد. هو الجلعاديّ. ويُذكر اللقب ثلاث مرّات (11: 1-4؛ 12: 7). ورغم ظروف ولادته، هو مولود حقًّا في جلعاد. وما هو مهاجر من قبيلة أفرائيم (مز 82: 4). مهما قال الإفرائيميّون في حسدهم (آ 1). وهو محارب حقيقيّ (11: 1). هو "ج ب و ر". رجل في كلّ معنى الكلمة. هو القويّ والمتسلّط. وهو "ح ي ل" أي القويّ، الشديد، الشجاع، صاحب البأس. هو المؤهّل لكي يقود المقاتلين ضدّ بني عمّون الذين يضايقون القبيلة ويعملون السلب والنهب، بسبب مجاعة أو قلّة الماء والكلأ. جاءت العبارة العبريّة (ج ب و ر. ح ي ل) تشبّهه بدواد على مستوى الشجاعة (1 صم 16: 18). وبيربعام كقائد في طبيعته، كأصلٍ يسير في المقدّمة (1 مل 11: 28).

هو ابن امرأة أخرى لأبيه. وُلد من خارج الزواج (11: 2). وُلد لامرأة بغيّ (آ 2). قد تكون الزوجة الثانية، وبالتالي المحتقرة، كما كان الأمر بالنسبة إلى سارة الأميرة، تجاه هاجر الجارية. وكما بالنسبة إلى رفقة زوجة يعقوب المحبوبة تجاه ليئة المكروهة. وقد تكون امرأة غريبة، فتستحقّ أن تُطرَد في شرع نحميا (نح 13: 23). ولكن ليس من الواضح إن كان يفتاح نغلاً وابن زنى، أو ابن زواج غير شرعيّ، أو ابن زواج يُمنع عقده. من أجل هذا، استُبعد، فمنع من المشاركة في الحياة الدينيّة والسياسيّة في الجماعة، "جماعة المؤمنون بالربّ" (تث 23: 2). في أيّ حال، هو في الخارج بسبب ذنب لم يكن ذنبه.

هو ابن رجل، من جلعاد، لا نعرف اسمه. أبوه هو الجلعاديّ، وهويّته ترتبط بالأرض المقيم عليها. رجل عنده أملاك وقد يكون تعامل مع العمّونيّين للحفاظ على حياته وعلى ماله. أمّا يفتاج فحُرم من الميراث: "لا ميراث لك في بيت أبينا لأنّك ابن امرأة غريبة" (11: 2). حسده إخوته من أبيه (لا من أمّه)، وطال هذا الحسد. فقال لهم حين جاؤوا إليه: "ألم تبغضوني وتطردوني من بيت أبي"؟ (آ 7). من أجل هذا "هرب من أمام إخوته" (آ 3).

وأخيرًا، صار يفتاح رئيس عصابة، لرجال لا يمتلكون شيئًا، أو حُرموا مثله لسبب أو لآخر. "قوم بطّالون" (ر ي ق ي م: فارغ، بطّال، لا قيمة لهم، تعيس، بل شرّير). هم يعيشون على الحدود، في أرض طوب (آ 3). هم أشخاص على الهامش. أجبروا عن التخلّي عن أرضهم. أو منعوا من المجيء إلى المراعي، فخسروا سبل العيش. في هذا الإطار، يقول بعض الشرّاح: كان يفتاح خارجًا على القانون، ثائرًا، رجلاً فقيرًا رفض أن يقبل بدوره كفقير خاضع للوضع الاجتماعيّ، فثبّت حرّيّته بما وهبه الله من شجاعة وعزم وثبات في ما نوى أن يفعل. في هذا الدور، شابه داود (1 صم 22: 1-2)، الذي طالب بالمال من الأغنياء، ثمن حمايته لهم. ثمّ سلب الفلسطيّين ووزّع ما سلبه على شيوخ القريّة.

أمّا "طوب" التي مضى إليها، فهي قريبة قرب منابع اليرموك، على الحدود التي تفصل الآراميّين والعمّونيّين، والجاديّين والرأوبيّين والمنسّيّين، من جهة، ما أفسدته قوّة المحتلّ فتعامل معه، كما فعل والدُه ثمّ إخوته. ومن جهة ثانية، كان على اتّصال بآلهة الأمم. نشير إلى أن طوب لبثت خارج حدود مملكة شاول، كما تعاهدت مع العمّونيّين في الحرب على داود (2 صم 10: 6-8). ولكنّها دخلت بعد ذلك في مملكة داود.

ومضى إخوة يفتاح إليه مع شيوخ المدينة، من قلب ضيقهم. فوضع شروطه طلبوا منه أن يكون القائد (11: 6). معه يحاربون بني عمّون. ولكن، هل يكون قائدًا موقّتًا، يرمونه بعد أن يستنفدوه؟ قالوا له: "تكون رئيسًا علينا وعلى جميع سكّان جلعاد" (آ 8). وحلفوا له: "ليكن الربّ شاهدًا بيننا إذا كنّا لا نفعل ما تقول" (آ 10). وتثبّت كلّ هذا في فعلة دينيّة في مصفاة جلعاد، حيث بيت يفتاح (آ 31). وهكذا جاء الوقت لكي يزيل يفتاح الجور الذي فُرض عليه في الماضي، وليأخذ المكان الذي يحقّ له في أرض فيُدعى حقًّا وحقيقة "الجلعاديّ" لا ذاك المقيم على حدود أرضه.

3- حرب على العمّونيّين

من هم العمّونيّون؟ هم قبيلة أو مجموعة قبائل أموريّة (عدد 21: 21-32؛ قض 11: 13). أقاموا في القرن الثاني عشر ق.م. في شرق الأردنّ، بين نهر الأردنّ والصحراء. وفي النهاية، احتلّوا الغور الشرقيّ، إلى الجنوب من وادي كفرنجي، وهضاب البلقاء من أواسط وادي الزرقاء (يبّوق القديم، في الشمال، حتّى منطقة ميدبا في الجنوب. وبقيت آثارهم في عمّان، عاصمة الأردنّ الحاليّة. المقابلين وسحاب وخربة الحجّار وتل سيران وتل العميري. وفي الجنوب، تل حشبان (حشبون) الذي يبعد 26 كم إلى الجنوب الغربيّ من عمّان، ثمّ في الغور، في دير علا، تلّ المزار وتلّ السعيديّة.

ارتبط اسم عمّون بالكنية "ع م ن"، الذي هو اسم رجل، وهو اسم نقرأه مرارًا في الإسمائيّات الأموريّة، ونجده في عاصمة الأردنّ الحاليّة. حينئذٍ دُعيَ العمّونيّون "بني عمّون" (ب ن. ع م ن. أو ب ن ي . ع م و ن في العبريّ. وفي الأكّاديّ: ب. أن. أم. ما. نا. أيا والأرض هي في الأكّاديّة أيضًا: بيت أمانا). وهكذا لم يعد "ع م ن" فقط جدّ بني عمّون، والاسم الذي يحملونه فوق اسمهم (= كنية)، بل صار "جدّ" الأرض وصاحبها. وهي أرض تكوّنت في شكل رئيسيّ من هضاب البلقاء التي صارت عامرة بالسكّان بسبب الأراضي الخصبة، وكانت مركز عبور، لأنّها لا ترتفع كثيرًا عن سطح البحر.

لهذا كانت ربّة عمّون أو "ربّة" (الكبيرة) العاصمة العظيمة، في العبريّة: ر ب ه. ب ن ي. ع م و ن: (مدينة) بني عمّون الكبيرة. هي مركز هامّ لمرور القوافل مع نبلها الكبير الذي يقصده المارّون. والتقت فيها طريقان قجديمتان: الطريق الملكبّة (عد 22: 22) التي تربط عرابية الجنوبيّة بسورية وبلاد الرافدين الشماليّة. وطريق القوافل (قض 8: 11) التي تنطلق من بلاد الرافدين الجنوبيّة وعرابية الشماليّة الشرقيّة، فتمرّ في واحة الجوف (تبعد 450 كلم إلى الشرق من العقبة) ووادي سرحان، وتتواصل من عمّان إلى الغرب باتّجاه أريحا وأورشليم. هذا الموقع في ملتقى الطريق التجاريّة شكّل بالنسبة إلى عمّان ينبوع مداخيل هامّة وغنى كبير (2 صم 12: 30؛ 1 أخ 20: 2: الغنى الذي أخذه داود من هناك). وهذا ما جعل المنطقة مفتوحة على كلّ عابر سبيل. لهذا، بنيت الأسوار في القرنين 7-6 مع قلاعٍ محصّنة يشاهد الواحدُ الآخر. فهناك أبراج باقية حول عمّان تعود إلى عصر الحديد: رجم الملفوف، رجم المخيزن، خربة الحجّار.

أمّا تاريخ العمّونيّين، فما زال حتّى الآن غامضًا، بسبب غياب المصادر. أمّا انتقالهم من حياة البدو، إلى حياة الزراعة والإقامة في المدن وفي القرى، فيرتبط بمسألة قبيلتي رأوبين وجاد. وُجدت رأوبين في زمن دبورة (قض 5: 15-16)، ولكنّها تفكّكت بعد ذلك في منطقة أريحا. أمّا أرض جاد الأولى، "فأرض يعزير" (عد 32: 1؛ ص صم 24: 5) المحصورة بين ممتلكات عمّون، بانتظار أن يحتلّها العمّونيّون بشكل نهائيّ، في نهاية القرن الثامن ق.م. (إر 49: 1-5)، حين اجتاحوا جلعاد (عا 2: 13-15).

منذ المراحل الأولى لانتقال العمّونيّين من حالة البداءة، في القرن التاسع ق.م.، حاولوا أن يمتدّوا إلى شمال يبّوق، في جلعاد، فكانت الحرب التي نجد صداها في سفر القضاة (10: 7- 11: 33). وسفر صموئيل الأوّل (11: 1-11). وحاولوا أيضًا أم يمتدّوا إلى الجنوب، إلى حشبون التي كانت في أيديهم في القرنين 7-6. نشير هنا إلى أنّ سفر العدد احتفظ بنشيد قديم يحتفل بانتصار الحشبونيّين على الموآبيّين (قد 21: 27-30). قد يكون هذا النشيد سابقًا لمسلّة (كشفت سنة 1868 في ديبون، في شرق الأردنّ، وشرقيّ البحر الميت) ميشع، ملك موآب، فيعود إلى القرن التاسع ق.م. وقبل سلالة عمري في مملكة إسرائيل.

أمّا حملات داود العسكريّة على عمّون، فلم يكن سببها الحقيقيّ إهانة نالها موفدوه من حنّون بن ناحاش، ملك العمّونيّين (2 صم 10: 1-5؛ 1 أخ 19: 1-5)، بل الرغبة في احتلال ميدبا (1 أخ 19: 7) وربّة عاصمة العمّونيّين (2 صم 11: 1؛ 12: 26- 31؛ 1 أخ 20: 1-3). فهاتان المدينتان كانتا تشرفان على طرق التجارة، ولا سيّما الطريق الملكيّة. غير أنّ هذا الاحتلال لم يدم طويلاً (2 صم 12: 31؛ 1 أخ 20: 3). وسوف نرى سليمان يتزوّج "نعمة العمّونيّة" التي هي أمّ الملك رحبعام (1 مل 14: 21). هذا ما يدلّ على علاقات طيّبة. وقد تكون نعمة بنت "شوبي بن ناحاش من مدينة ربّة عاصمة العمّونيّين" (2 صم 17: 27)، الذي جاء إلى محنائيم، ليسلّم على داود خلال ثورة أبشالوم. ونستطيع أن نظنّ، وإن لم تسندنا براهين مباشرة، أنّ داود سلّمه التاج العمّونيّ.

إذا جعلنا جانبًا سيمون ملك حشبون، الذي كان حكمه، على ما يبدو، في بداية القرن التاسع ق.م. (عد 21: 21-32)، لا نجد ملكًا عمّونيًّا حتّى القرن الثامن، وبعد سقوط مملكة السامرة. والسبب سيطرة سلالة عمريّ، ثمّ سلالة ياهو، حتّى مجيء الأشوريّين. فالمصادر الأكّاديّة تخبرنا أنّ الملك شنيف دفع الجزية لتفلت فلاسر الثالث، سنة 729-728. ويُذكر هذا الملك على تمثال صغير مع حفيده: ياريح عازر، ابن زكور، ابن شنيف وذُكر أيضًا نودئيل الذي ملك سنة 701-677 ق.م. وعميناداب الذي دفع الجزية لأشور بانيبال.

- 4النصر وبنتُ يفتاح

أ- انتصار يفتاح

وبدأت المراسلة بين يفتاح والعمّونيّين: لمن الأرض؟ اعتبر يفتاح أنّ العمّونيّين أخذوا أرضًا تخصّ قبيلته. "ردّوها الآن تسلموا" (قض 11: 13). فقال العمّونيّون: بل هي أرضنا. وفي آ 15-27، شرح يفتاح كيف أخذ بنو إسرائيل الأرض من الأموريّين. ولكنّ عمّون اعتبر أنّه الأقوى فرفض كلّ البراهين (آ 28). هنا نقرأ في طريقة حيّة ما يقوله الكتاب عن لاهوت الأرض.

أوّلاً: "الربّ الديّان يقضي بين بني إسرائيل وبني عمّون" (آ 27). فالله هو فوق الأمم جميعًا (مز 82: 8). هو يحكم بين الأمم، ويقضي للشعوب البعيدة (أش 2: 4؛ رج مز 96: 13؛ 98: 9). وليس هذا الديّان لامباليًا بطريق الأمم (مز 86: 9). مرّة يقرّر أن يكسر أمّة من الأمم (إر 18: 7) مثل إناء مختار (مز 2: 3). ومرّة أخرى، "يبني ويغرس" أمّة (إر 18: 9). أمام هذا الديّان، جميع الأمم متساوون (قض 11: 27).

ثانيًا: أراضي الأمم. تحدّث يفتاح عن أرضي موآب (قض 11: 15، 18) وعمّون (آ 15) وأدوم (آ 17، 18)، وأرض الأموريّين. هذا الكلم يعكس اعتقادًا بأنّ الله وهب لكلّ من هذه الشعوب ميراثًا (تث 32: 8). ففي نظرة بني إسرائيل، آلهة الأمم (أبناء الله، تث 32، 8؛ مز 29: 1) هم أعضاء بلاط الله في السماء (إر 23: 18، 23). وقد وزّعهم "ديّان الأرض" (مز 94: 29 على كلّ أمّة بمفردها (تث 4: 19)، ليهتمّوا بها، وينظّموا حياة ذلك الشعب في الأرض فيحاسَبون على أعمالهم. هناك مزمور من أيّام القضاة، كما يقول ميتشيل داود، المفسِّر الكتابيّ اللبنانيّ الأصل، يصوِّر آلهة الأمم أمام البلاط السماويّ، فيسألهم الديّان العظيم: "إلى متى تقضون بالجور، وتنحازون إلى الأشرار" ؟ (مز 82: 2). ويأمرهم الربّ: "أنصفوا المسكين والفقير، أنقذوا الوضيع والبائس. ونجّوهما من أيدي الأشرار" (آ 3-4). غير أنّ هؤلاء الآلهة لم يقوموا بمسؤوليّتهم في ما يتعلّق بالسلطة وبالأرض.

ثالثًا: أرض إسرائيل. ما كان الله فقط ديّان جميع الأمم، بل أيضًا "إله إسرائيل" (قض 11: 21، 23). تكشف هذه العبارة اعتقادًا بعلاقة خاصّة بين ديّان جميع الأمم وشعبه أيضًا، وبين الأرض التي أعطيَت بشكل وديعة (تث 32: 9؛ يش 1: 2؛ إر 3: 19). قد يبدو هذا للوهلة الأولى امتيازًا ولكن نظرة عميقة تبيّن أنّ إسرائيل هو اختبار اجتماعيّ في العالم القديم، ومحاولة تنظيم الحياة خارج احتكار الأرض. وهذه النظرة الجذريّة ترتبط بتنظيم اليوبيل، بأنّ الأرض يجب أن تعود إلى مالكها الأوّل، كلّ 49 سنة، لأنّ الأرض هي لله (لا 25: 13). فهوّية مهمّة إسرائيل ترتبط بمثل هذه السياسة حين يعبد إسرائيل آلهة سائر الأمم، التي يرتبط بها على مستوى الازدهار الاقتصاديّ وتكريس الغنى، والأمان في الوطن، تُترك سياسة الأرض المميّزة فتسقط العدالة، ويتألّم الفقير، ويغضب الله.

رابعًا: الوضع الراهن. حين ينتقل البرهان من اللاهوت إلى صراع حاليّ من أجل أرض نطالب بها، تصبح الصورة ضبابيّة، ملتبسة. فملك عمّون طلب من إسرائيل أن "يعيد لي أرضي (أنا) بسلام، بدون حرب" (قض 11: 13). هذا يعني تهديدًا بالحرب. هي ستراتيجيّة دبلوماسيّة مع قوّة ملكيّة لتبرير عمل خُطِّط له سابقًا (10: 17؛ 11: 4). ومطالبة إسرائيل (آ 17) بأنّه أخذ الأرض، في السابق، "من أرنون (الجنوب) إلى يبّوق (الشمال) وحتّى الأردنّ (الغرب)، لا أساس لها. فحدود موآب الشماليّة في زمن الخروج كان أرنون (غد 21: 13)، ساعة كانت يعزير حدود عمّون الغربيّة (آ 24) بالقرب من ربّة عمّون. فطمع عمّون بأرض إسرائيل هو السبب الأوّل في هذه المواجهة.

ومطالبة إسرائيل بقطعة الأرض نفسها، لا تتأسّس على عطاء أصيل من قبل الربّ، بل على احتلال حربيّ به "أعطاهم" الله أرض الأموريّين "من أرنون إلى يبّوق، ومن الصحراء إلى الأردنّ" (قض 11: 21-22). هذا كان اعتبارًا للعمل خارج متطلّبات الأرض بحسب إرادد الله. في هذه الحالة، كان إسرائيل محاولاً بشدّة لاستعادة أرض منحها له الله ديّان الأرض.

وبدا خطر الوقاحة لدى العمّونيّين الذين رأوا أنّ كموش، الإله الصغير، تجاه الربّ الذي هو ديّان الأرض كلّها والمشرق عليها، والذي جعل من قطعة الأرض هذه "هديّة ِإلهيّة". وفي هذا النزاع، الانتصار الحربيّ يعني موافقة الله، وعذرًا للرابح الذي استعمل القوّة، ليأخذ ويشكر الله.

خامسًا: نصر بنعمة الله. رفض عمّون أن يسمع (قض 11: 28). وما هي حرب "روحيّة" بين الربّ وآلهة عمّون. وها هو الربّ يتدخّل بشكل مباشر مرّة أولى حين يُرسل روحه على يفتاح، روح القوّة (آ 29، فيُثبت اختيار الشيوخ له والشعب جلعاد (آ 11): فاختار المقاتلين، وربح المعركة على ملك عمّون، فكشف قرار الديّان العظيم بالانتصار على عمّون وعلى آلهته (آ 32-33)

ب- بنت يفتاح ونذر الأب

"ونذر يفتاح نذرًا للربّ وقال: "إن سلّمت بني عمّون إلى يدي، فكلّ خارج من باب بيتي للقائي حين رجوعي سالمًا من عند بني عمّون، أكرّسه وأقدّمه محرقة لله" (قض 11: 30). في هذا المجال نسوق الملاحظات التالية:

أوّلاً: إنّ حدث نذر يفتاح بما فيه من جرأة، حسب البعض، بل تهوّر، وذبح ابنته الوحيدة، هو مهمّ بالنسبة إلى دارس تاريخ الديانات. فنحن أمام حالات نادرة جدًّا، حيث نشهد ذبيحة بشريّة في العهد القديم. ولا نجد توبيخًا بسبب هذا العمل، بل "تهنئة" لأنّ القيام به فرضٌ وواجب، نجد حالة أخرى في تك 22: 1. ولكنّ إسحق لم يُذبح في النهاية. لا انتقاد لمثل هذا العمل، كما لا خيار آخر، كما كان الأمر بالنسبة إلى إبراهيم، الذي ذبح كبشًا بدل إسحق. فالطقس يجب أن يتمّ. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، تدين الشريعة هذا العمل بقساوة وتحكم عليه دون مساومة (لا 18ك 20؛ 20: 2-5؛ تث 12: 31؛ 18: 10: رج مي 6: 7) وتقابله بأعمال عباديّة كرامة لمديح. فالطابع الاستثنائيّ لهذا الحدث، على المستوى الإيديولوجيّ، يدفعنا إلى أن نتوقّف عنده.

ثانيًا: نبدأ فنلقي سوء فهم أبرزه هذا أو ذاك من الشرّاح، نحن أمام ذبيحة بشريّة، حقيقيّة (عد 30: 2ي). ثمّ إنّ النذر أشار إلى ذبيحة بشريّة، لا إلى ذبيحة حيوان. وهي محرقة كما في لا 1: 3ي. هناك من تكلّم عن نذر مشروط، كما هو الأمر مع أمّ صموئيل (1 صم 1: 11ي). ولا نستطيع أن نخفّف من خطورة هذا الحدث، ولا من أهمّيّته، فنتكلّم عن لافطنة لدى يفتاج، وعن "سخاء" في غير محلّه، واندفاع متهوّر مرتبط بطبعه. كلّ هذا لا نجده في النصّ. فالطريقة التي بها تفاوض يفتاح مع العمّونيّين، دلّت على أنّه رجل مسؤول، يحسب ألف حساب قبل أن يقرّر، ويدلّ على مهارته في المحادثات.

ثالثًا: هنا يجب أن ننطلق من أنّ هذه النذور والأعمال، تفرض وضعًا حرجًا. والمثال عن ذلك هو ما فعله ملك موآب في 2 مل 3: 26-27: ما استطاع أن يغلب ملك إسرائيل الذي يضايقه، ولا أن يتخلّص منه بشكل أو بآخر، فقدّم وريث العرش ذبيحة على أسوار المدينة. "فارتاع الإسرائيليّون جدًّا، وانصرفوا عن المدينة، ورجعوا إلى أرضهم". ونستطيع أن نتكلّم عن غضب بني إسرائيل على الإله الوطنيّ كموش. قد يكون الوضع مماثلاً في ما يتعلّق بيفتاح، وإن لم يكن إلحاح، وإن كان حساب قدير مسبَق. إذن، خاطر يفتاح، وهذا واضح. فمن في البيت سوى امرأته وابنته. ولكن بما أنّنا لا نعرف شيئًا عن امرأه فهذا يعني أن يفتاح عزم على التضحية بابنته.

رابعًا: يتفقّد هذا الحدث حين نعرف بوجود طقس تحتفل به كلّ سنة "بنات إسرائيل" في الجبال، خلال أربعة أيّام، وهو رقم لا يرتبط بالشهرين اللذين قضتهما الفتاة على الجبال. وهكذا نستطيع القول إنّ الخبر استقلَّ عن الطقس، ثمّ جُمعا فيما بعد. فطقوس البكاء عُرفت في العهد القديم. في حز 8: 14، تبكي نساء هيكل أورشليم "على تمّوز" إله الخصب في بلاد الرافدين، الذي هو أدون (راجع أدونيس) في العالم الساميّ الغربيّ، الذي يموت في بداية الصيف (في شهر تمّوز) فيدلّ على موت الخضار، ويقوم في فصل الخريف. وهناك طقسٌ موازٍ بالنسبة إلى بعل الكنعانيّ في أوغاريت. وفي الزمن البعد منفاويّ، كان سكّان أورشليم يبكون الإله هدد (أحد أسماء بعل) رمون، في سهل مجدّو (زك 12: 11). مات الإله، أو أخذ إلى السبي مثلاً، فبكته النساء.

خامسًا: إنّ الذين درسوا هذا الحدث قبل اكتشاف نصوص أوغاريت (1929) لم يقدروا أن يستعملوا إلاّ مواد بيبليّة أو من العالم اليونانيّ (أعنامنون الذي ذبح ابنة إيفيجيني قبل الذهاب إلى حرب طروادة). ولكن نجد توازيات عديدة في الأدب الأوغاريتيّ: البتول "عنات" بكت بعل الذي مات في الصيف، حين ييبس كلّ شيء، وتمضي في طلبه على كلّ جبل في قلب البلاد، وعلى كلّ تلّة وسط الحقول، هو طقس يرتبط بخصب الأرض.

سادسًا: هذه التوازيات تلقي الضوء على الحدث الذي قرأنا، ولكنّها لا تشرح لماذا أورد العهد القديم نذر يفتاح وربطه باحتفال دينيّ. نحن على حدود "الديانة"، وعلى حدود الأرض. أمام ظاهرة لا نجد تفسيرًا لها. في الواقع، تلك كانت ديانة إسرائيل قبل كرازة الأنبياء الكبار، وقبل إصلاح يوشيّا.

ما نستطيع أن نقوله في كلّ هذا، هو أنّ يفتاح عاش القلق طوال الليل، مثل شاول (1 صم 28: 5، 8، 15). إن خسر المعركة خسر استقلال شعبه. بل خسر ما يمكن أن يناله من استعادة نفسه. لهذا قدّم هذه الذبيحة التي لم تكن ضروريّة إطلاقًا. بعد أن عرف أنّ الحكم هو الربّ نفسه (آ 27). في الواقع، أراد أن يفرض نفسه على الله، أن يربط الله بنذر، لا أن يستند إلى موهبة الروح القدس. أما هكذا اعتاد أن يرى على حدود الأرض طوب مع الآلهة المتعدّدة، وهكذا تحوّلت ساعة النصر إلى ساعة بكاء ونحيب. وإن بدأ يفتاح ضعيفًا، خائفًا، دلّت ابنته على شجاعتها. وإن هي مضت تبكي على الجبال، فلم تمضِ لكي تستعدّ للموت، بل لأنّ أباها رفض نسلاً منه يحمل اسمه، وعاد إلى إخوته الذين ليسوا أولاد زنى كما كان هو.

وننهي هنا كلام أوغسطينُس حيث يفتاح هو صورة المسيح. "بعد أن هرب من حضرة إخوته، جمع لصوصًا يسيرون بجانبه". والربّ، قبل آلامه، لاموه لأنّه يأكل مع العشّارين والخطأة. فأجاب: "ليس الأصحّاء بحاجة إلى طبيب، بل المرضى (مت 9: 11) وفي النهاية، حسبوه لصًّا أش (53: 12) وصلبوه بين لصّين. وبعد قيامته، نرى أيضًا الخطأة ينضمّون إليه ليطلبوا منه غفران ذنوبهم".

وتابع أوغسطينُس كلامه شارحًا سفر القضاة: "ليشهد الكتاب بوضوح أنّ الله لا يحبّ الذبائح البشريّة... فماذا نقول عن ذبيحة إسحق التي تشبه ذبيحة يفتاح؟ هناك اختلاف كبير بين سلوك يفتاح وسلوك إبراهيم. إبراهيم قدّم ابنه طاعة لأمر الربّ. أمّا يفتاح فما تلقّى وصيّة خاصّة، فعل ما تمنعه الشريعة... وافق الكتاب على طاعة إبراهيم في ذبيحته، ولكنّه أورد ما فعله يفتاح، وما حكم عليه، فترك الحكم لعقلنا. ولكن مثل هذا النذر لا يرضي الله. هذا الأب الذي نقصته الفطنة نال عقابه: آه يا ابنتي! جلبتِ عليّ الحزن الشديد وصرتِ مصدرًا لتعاستي" (قض 11: 35). أجل، مثل هذا النذر لا يمرّ بدون عقاب...

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM