الفصل السادس: الشمس والقمر يشهدان لأعمال الرب
الفصل السادس
الشمس والقمر يشهدان لأعمال الربّ

هذا المشهد الذي يقدّمه سفر يشوع، يحدّثنا عن معركة جبعون، مع الامتداد إلى الجنوب. يقول لنا ما فعله يشوع ورجاله
حين ساروا الليل كلّه ليصلوا قبل مطلع الصبح بقليل ويفاجئوا الأعداء، وهؤلاء في نومهم غارقون. هرب الأعداء قبل طلوع الشمس وانتهت المعركة. ويقول لنا الكاتب الملهم ما فعله الله: شجّع يشوع كي يشجّع رجاله. قال له: "أنا معك". وفعل ما لم يفعله العبرانيّون: ضرب "الأعداء" بالحجارة من سمائه، ضربهم بالبَرَد، "فكان الذين هلكوا بحجارة البرَد أكثر من الذين قتلهم بنو إسرائيل بالسيف" (يش 10: 11).
تلك هي معركة جبعون التي قدّمها الكاتب في إطار ملحميّ، مشدّدًا على عهد الله الذي أعطى الأرض المقدّسة لشعبه. نبدأ فنتوقّف عند التاريخ والواقع، لنصل بعد ذلك إلى المعنى اللاهوتيّ الذي أراد الكاتب أن يستخلصه من حدث قديم ليعيد الثقة إلى شعبه.
1- الوجهة التاريخيّة في الخبر
أ- نظرة عامّة
تحالف بعض الأمراء على يشوع وهاجموا حلفاءه الجبعونيّين. استعمل يشوع استراتيجيّة خاصّة، فتغلّب على الأعداء. هنا نتذكّر أنّ العبرانيّين لم يكونوا يملكون السلاح الذي يجعلنا نتخيّل حروبًا قاسية ومجازر واسعة. فيكفي أن نورد ما يقول سفر صموئيل الأوّل الذي جاء بعد يشوع: "لم يكن يوجد في كلّ أرض إسرائيل حدّاد، لأنّ الفلسطيّين قالوا: "يجب ألاّ يعمل العبرانيّون سيفًا ورمحًا". وهكذا كان بنو إسرائيل ينزلون إلى الفلسطيّين ليحدّد كلّ واحد سكّته ومنجله وفأسه ومعوله" (1 صم 13: 19-20). ويتابع النصّ فيحصي السلاح الذي كان مع بني إسرائيل، وهو لم يكن كثيرًا جدًّا: "لمّا حان وقت الحرب، لم يوجد سيف ولا رمح في أيدي جميع الشعب الذين مع شاول (الملك) ويوناتان (ابنه). لم يوجد إلاّ في يد شاول ويوناتان" (آ 22). حين نعلم أنّ هذا "الجيش الكبير" الذي ما كان يصل إلى المئة، لم يملك سوى سيفين ورمحين، نفهم أنّنا أمام حرب من نوع آخر، هي حرب روحيّة على العالم الوثنيّ الذي يجب أن تزول آلهته الكاذبة، فلا تبقى في أرض فلسطين إلاّ عبادة الله الواحد.
ب- تحليل النصّ (يش 10: 1-15)
يبدأ النصّ فيروي "خوف" الكنعانيّين بحسب ما فعله يشوع، ولا سيّما المعاهدة مع جبعون (آ 1-2). لقد اعتاد قارئ يشوع على مثل هذه الإجمالات التي تدلّ على قدرة شعب الله الآتي من البرّيّة بدون سلاح تجاه أناس سبقوهم في المدنيّة وأقاموا وراء أسوارهم. هنا نتذكّر أنّ سفر يشوع كتب في نسخته الأخيرة بعد العودة من السبي، ساعة كان الفرس مسيطرين على البلاد، وما كان ينعم بنو إسرائيل بأيّ استقلال سياسيّ وعسكريّ. شعب ضعيف. وإن هو استطاع أن يدخل، أن يتغلغل في أرض الوعد، فذلك نعمة من الله، لا قدرة من الشعب.
وبعد كلام عن تعاهد خمسة ملوك (نعرف أهميّة الرقم خمسة)، أرادوا أن يخضعوا جبعون، وبالتالي أن يسجّلوا انتصارًاعلى يشوع (آ 3-5)، كان نداء الجبعونيّين إلى يشوع: "فأرسل أهل جبعون إلى يشوع: هلمّ إلينا عاجلاً (آ 6-8)، فلبّى يشوع النداء
هنا يتداخل خبر ما عمله يشوع وما عمله الله. في آ 7، صعد يشوع من الجلجال مع رجاله. في آ 8، شجّع الله شاول، قائلاً: "أنا أسلمتهم إلى يدك". في آ 9، زحف يشوع بغتة في الليل. في آ 10-11، نعرف أنّ الربّ، لا يشوع، هو الذي هزم الأعداء ولاحقهم. في آ 12، لم يبقَ ليشوع سوى أن يدعو الشمس والقمر لكي يكونا شاهدين لأعمال الله العظيمة. وبعد أن قال الكاتب كلامه جعل يشوع يعود إلى المخيّم، هو "وجميع إسرائيل" (آ 15).
ج- نظرة إلى النصّ
إنطلق الكاتب من واقع، وهو أنّ العبرانيّين الذين جاؤوا من صحراء سيناء عبر موآب،، قد توصّلوا إلى الدخول إلى أرض كنعان، "أرض حنطة وشعير وكرم وتين ورمّان، أرض زيت وعسل" (تث 8: 8). وجدوا الآباء والقرى والمدن، وهم الذين أكلوا خبزهم بتقتير، وأعوزهم كلّ شيء" (تث 8: 9). وجدوا كلّ هذا "فأكلوا وشبعوا". أمّا طريقة دخولهم فمعروفة، على ما يقول سفر القضاة. دخلت كلّ قبيلة (كانت تتألّف من ألف شخص تقريبًا) بمفردها وبوسائلها الخاصّة. أمّّا الحديث عن حرب منظّمة يشارك فيها "جميع إسرائيل"، ففكرة متأخّرة عرفتها الشعوب القويّة مثل مصر وأشور وبابل.
من هذا المنطلق نفهم أنّ الكاتب استعاد أحداثًا عاشتها هذه القبيلة أو تلك، فربطها بجميع القبائل، واعتبر أنّ كلّ بني إسرائيل كانوا معًا حين دخلوا أرض كنعان، آتين من مصر. والمعروف أنّ قبائل عديدة من بني إسرائيل لم تطأ أرض مصر. وإن هي وطئتها، فهي لم ترافق موسى ولا رافقت يشوع في الدخول إلى كنعان. فهناك قبائل أسيويّة دُحرَت في القرن السادس عشر بعد أن كانت الثورة المصريّة على الهكسوس. وقبائل أقامت في الجنوب، فما احتاجت أن تدور حول أرض كنعان وتمرّ في موآب. وهكذا تبقى مجموعة صغيرة بقيادة يشوع. ولكنّ الكاتب جمع في شحص يشوع كلّ ما فعلته القبائل لتدخل إلى أرض كانت فارغة في قسم كبير منها. واعتبر أنّ كلّ ذاك تمّ في حرب طويلة وقاسية.
وهكذا نكون، على مستوى التاريخ، أمام هجمة سريعة لإحدى القبائل على قبيلة أخرى من أجل السلب والنهب. فرّت القبيلة تاركة وراءها ما لا تستطيع أن تحمله، فأخذ "رجال يشوع" الأسلاب ثمّ عادوا إلى مخيّمهم، بانتظار غزوة أخرى. ولكن لماذا كتب هذا النصّ؟ ألِتمجيد الشعب؟ كلاّ، فهو لم يفعل شيئًا تجاه ما فعله الله. ألِتمجيد يشوع؟ ولكن ليس يشوع هو الذي هزم الأعداء، بل الله: هزمهم ولحق بهم.
2- الوجهة اللاهوتيّة في الخبر
أ- الله هو الذي يعمل
أقام العبرانيّون في أرض كنعان منذ زمن القضاة والملوك. ولكنّهم طُردوا منها ومضوا إلى سبي بابل. حين أعطيت لهم تلك الأرض، فالربّ هو الذي أعطاهم إيّاها. وحين أخذت منهم تلك الأرض، فالربّ هو الذي أخذها منهم وأعطاها لأعدائهم. هذا لا ينفي مجهود البشر وأعمالهم . ولكنّه يشدّد بالأحرى على عمل الله. هو الذي خلّص شعبه من مصر وجعله يعبر بحر القصب. وهو الذي يخلّصه اليوم، ويجعله يعبر الأردنّ، ويمنحه الأرض التي هو مقيم عليها الآن. ويكفي أن نرى كيف "احتلّ" العبرانيّون أريحا. قاموا بتطواف، بزيّاح حول المدينة فسقطت. هذا مع العمل أنّ المدينة كانت مهدومة ساعة جاء العبرانيّون مع يشوع خلال القرن الثالث عشر ق. م.
من أجل هذا، سوف نرى الكاتب الملهم يشدّد على عمل الله وينسى أعمال البشر. فكتابه كتاب دينيّ في الدرجة الأولى. يحلّ الله محلّ الإنسان. ونحن لو كتبنا التاريخ اليوم، لبدَّلنا فاعل الأفعال. قال النصّ: "هزمهم الربّ وضربهم وتعقّبهم وخرّبهم" (آ 10). الفاعل هو يشوع وليس الربّ. فالربّ لا جيش له على مثال ملوك هذا العالم. ولكن بماذا يحارب الله إن هو أراد أن "يحارب"؟ هو يضرب بالحجارة. بضرب بالبرَد. وقد نبتسم للخبر: أتُرى البرَد يقتل الإنسان، بل يقتل جيشًا كبيرًا مؤلّفًا من خمسة ملوك؟! وإن هو قتل، أيصيب فئة ولا يصيب أخرى؟ أيقف "حجر البرَد" على العدو ولا يقع على أحد من بني إسرائيل؟
ب- الفنّ الأدبيّ
هنا نلاحظ طريقة الكاتب في تقديم الأحداث. الطبيعة سلاح في يد الله. هناك سهام البرق وضجّة الرعد. وهنا وجدنا البرَد، كما وجدناه في ضربات مصر. وإذ يتكلّم الكاتب، يضخّم الأمور، يضخّم الأعداء، يضخّم الصعوبات، ليدلّ على الله الفاعل الأوحد الذي جعل من "البحر" طريقًا آمنة كما على أرض يابسة.
أما هذه هي نظرتنا إلى الأمور؟ نربح مالاً، فنقول: "الله أعطانا". يموت عزيز لنا، فنعاتب الله ونقول: "الله أخذه". نعيد كلّ شيء إلى الله. وقد قال الكتاب:" "الله يميت ويحيي، ويعطي ويأخذ". إذا كان الشعب أمينًا، أعطاه الله "الأرض" وسائر الخيرات، من مطر وخصب وغيرهما. وإذا كان الشعب خائنًا لربّه متجاوزًا وصاياه، حرمه من الأرض وما عليها من خير.
هذا ما نسمّيه الفنّ الأدبيّ في الكتابة. هناك أوّلاً الفكر الساميّ الذي ما زلنا نعيش منه اليوم، والذي يربط كلّ شيء بالله: الصحّة والمرض، الفشل والنجاح، الموت والحياة. وهناك الطريقة الملحميّة في تقديم الأحداث، فتلفت نظر الإنسان الذي لا يعرف أن يكتشف أعمال الله الخفيّة. وهناك الهمّ التاريخيّ الذي ينظر إلى الشعب ككلّ، ويربط به كلّه ما حدث لقبيلة من القبائل أو عشيرة من العشائر. ما عاشته جماعة من الجماعات قد عاشته الجماعات كلّها. وهي تحتفل به بشكل خاصّ في الليتورجيّا، في أعياد الشعب. كان اللاويّون يردّدون هذه الأمور ويجمّلونها، فيدلّون على ما عمل الله لشعبه في الأيّام الماضية، وعلى ما هو مستعدّ أن يعمل لهم اليوم بعد أن عرفوا ضيق المنفى ويعرفون الآن ذلّ الاحتلال.
أمّا نحن فننطلق من النصّ الحرفيّ. نكتشف عمل الإنسان الذي يستند إليه الله ليعمل. ونكتشف الله الذي يوجّه الأمور لخير الذين يحبّونه. ونفهم أنّ لغة الحرب تدلّ على مجهود الإنسان، وأنّنا نحن لا نحبّ مثل هذه اللغة. فمخلّصنا هو إله السلام، وقد جاء يحمل السلام للأرض. ولكنّه يطلب منّا "الجهاد" لأنّ ملكوت الله يؤخذ "بالقوّة" لا بالضعف. ولكن لا قوّة السلاح، بل قوّة الحضور والعمل من أجل أرض جديدة وسماء جديدة، لا من أجل فردوس ضيّق يحفظ لبعض الناس على حساب البعض الآخر.
ج- الشمس والقمر
وكانت قمّة هذا المشهد من العمل الإلهيّ، حضور الشمس والقمر. قال الشرّاح من يهود ومسيحيّين إنّ يشوع أوقف الشمس ومنعها من متابعة مسيرتها، وكذلك فعل مع القمر. وهكذا يطول النهار وتنتهي المعركة. ولكنّ المعركة انتهت في آخر ساعات الليل وقبل طلوع الصباح وشروق الشمس، فلماذا إطالة النهار اثنتي عشرة ساعة؟
نقرأ في آ 14 أنّ الله "سمع لصوت إنسان". سمع لصوت يشوع ودعائه، فأعطاه النصر. في هذا الإطار، قال شاعر شعرًا في خطّ الكتاب المقدّس، وكأنّ الله يقوله: "يا شمس قفي على جبعون؛ ويا قمر أثبت على إيّالون"
دعاهما الشاعر لكي يشهدا ما عمله الله في هذا اليوم من أجل شعبه. فالشهادة لا تصحّ إلاّ بشهادة شاهدين. وها هما حاضران، واقفان كما يقف كلّ شاهد. رأيا، سمعا، لمسا لمس اليد النصر الذي حقّقه الله لشعبه. هما سيشهدان على عيون الملأ. بل هما سينشدان أعمال الله العظيمة. وهكذا شاركت الطبيعة شعب الله في فرحته، وعرفت قدرة الله وعظمته، على ما في المزمور التاسع عشر: "السماوات تنطق بمجد الله، والفلك يخبر بعمل يديه. فيعلنه النهار للنهار، والليل يخبر به الليل بغير قول ولا كلام، ولا صوت يسمعه أحد. في الأرض كلّها بان مقامها، وفي أقاصي الدنيا زمانها. للشمس أقيم مسكن فيها تطلّ منه كالعروس من خدرها، وتبتهج كالجوزاء بقطع شوطها. من أقصى السماء شروقها وإلى أقاصيها دورانها، ولا شيء يستتر عن حرّها".

خاتمة
من خبر قصير صار لنا تاريخ، ومن غزوة بسيطة كانت لنا معركة، لعب الربّ فيها الدور الأكبر، بل الدور كلّه. من أجل هذا كتب سفر يشوع كي يمجّد الله ويمدح عظائمه من أجل شعبه. وما اكتفى الشعب بأن يشهد ويهتف، بل شاركته الشمس والقمر، وسوف تشاركه الطبيعة كلّها. هكذا صوّر الشعب العبرانيّ طريقة دخوله إلى أرض الميعاد بقيادة يشوع الذي يعني: الربّ يخلّص. صوّر ما صوّر خلال المنفى وما بعد المنفى، ساعة لم يكن له شيء، ليدلّ على أنّ الله الذي أعطى ما زال يعطي، على أنّ الله الذي كان حاضرًا في ساعة من تاريخ شعبه، هو حاضر في هذا التاريخ من أجل معركة من نوع آخر: لا معركة سلاح، ولا سلاح بين أيديهم، بل معركة من أجل حياة كريمة في أرض آمنة، حياة تنعم ببركة الله وحضوره يبقى على الإنسان أن يتجاوب مع نداء الربّ ويفعل، والله هو الذي يكمّل.
Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM