الفصل الخامس: جبعون تقوم من رقادها

الفصل الخامس

جبعون تقوم من رقادها

لبثت جدعون حتّى هذه الأيّام الأخيرة بين المدن النادرة التي أفلتت من المنقّبين الذين كثُروا في فلسطين في القرن العشرين. ومع ذلك، ورد اسم جبعون ثلاثًا وأربعين مرّة في البيبليا. وكانت مسرحًا لأحداث عديدة، منها دراماتيكيّة، في حياة الشعب. أمّا سكّانها فلجأوا إلى حيلة فكانت لهم معاهدة سلام مع يشوع. وهكذا نجت مدينتهم من الدمار، كما كان الأمر بالنسبة إلى عاي (يش 9: 3). يروي سفر يشوع المذكور في البيبليا، والذي ضاع الآن، أنّ يشوع صرخ في جبعون خلال الحرب مع الأموريّين: "قفي يا شمس على جبعون" (يش 10: 12). وبركة جدعون التي كانت معلَمًا معروفًا، ذُكرت على أنّها مسرح مبارزة بين جيش يوآب وقائده يوآب، وجيش أبنير في خدمة إشبعل بن شاول. في هذا القتال المرير، سقط اثنا عشر مبارزًا من كلّ فئة، بعد أن غرزوا سيوفهم في أجسام خصومهم (2صم 2: 14). وفي هذا الموضع أيضًا التقى يوآب الكاهن عماسا وقتله "وتركه غائصًا في دمه وسط الطريق" (2صم 20: 12).

وأهل جبعون طلبوا من داود فسمح لهم بأن يشنقوا أبناء شاول (2 صم 21). وقدّم سليمان ذبيحة على مرتفع جبعون، قبل إتمام تشييد الهيكل. وهناك نال الحلم الشهير الذي فيه طلب الحكمة من الربّ، قبل الغنى. والنبيّ الكاذب حنانيا، خصم إرميا، كان من جبعون (إر 28).

*  *  *

ولكن أين تقع هذه المدينة القديمة؟ في 5 أيّار سنة 1838، زار باحث أميركيّ، إدوار روبنسون[1] موقع الجيب، وهو قرية عربيّة تبعد 13 كلم عن أورشليم. استخلص روبنسون من تقارب الإسمين، إنّ "جيب" هي جبعون المذكورة في الكتاب المقدّس. لاقى هذا الاقتراح قبولاً، كما لاقى بعض المعارضة، مثلاً من الأستاذ ألبراخت ألت[2]، من ليبزيغ الذي اعتبر أنّ "الجيب" هي بكيروت. وجاء البروفسير مرتين نوت[3] من بون (ألمانيا)، فأخذ برأي ألت. وأتى جامس بريتشرد[4] سنة 1955، وهو أستاذ في مدرسة اللاهوت في بركلاي، في كاليفورنيا (الولايات المتّحدة). ماذا كشف؟

تلّة ترتفع 50 مترًا فوق السهل، وتمتدّ على ستّة هكتارات ونصل الهكتار. كانت موقعًا ستراتيجيًّا هامًّا. مثل هذه المساحة غير معقولة لمدينة في فلسطين. مثلاً، تلّ بيت مريم، ثلاثة هكتارات. مجدّو: خمسة هكتارات وربع الهكتار. تل النبتة: 3،20. العاي: 3،60.

تسقي الجيب ثمانية ينابيع منها ينبوع القرية الذي ما زال يعطي المياه لألف عربيّ (سنة 1950). يعيشون على تلّة لا تبعد كثيرًا عن الموقع القديم، وقد وقعت في الشمال. هناك نفق حُفر في الصخر، فانفتح في أحد جوانبه على نبع القرية. هذا ما اكتشفه الروسي رسكي سنة 1899. ونقب عنه الأب أبال سنة 1911. بعد ذلك، سُدَّ هذا النفق بحائط حجريّ كثيف.

سنة 1955، كُشف عددٌ من القبور المحفورة في سفح التلّة. كلّها فُتحت في القديم ونُهبت. وكان العدد 34 قبرًا. أمّا قمّة التلّة فوُجدت عليها أجزاء فخّاريّة. حينئذٍ بدأ التنقيب سنة 1956 في فريق ضم تسعة باحثين فاستعانوا بأشخاص من مصر والعراق، عدا الذين عملوا في أريحا. ورافق العمل سبعون عاملاً من الجيب.

في اليوم الثالث من العمل، قرب ينبوع القرية، برزت فجوة عمقها خمسة أمتار. تبيّن أنّها النفق. وامتدّ رفع الأنقاض أسابيع وأسابيع. كان يقود إلى الينبوع نفق بـ 93 درجة. وهذا من أجل الدفاع عن المدينة. ومن أجل حماية المدينة، بُني سور على حافّة التلّة، أي على علوّ خمسين مترًا. فكيف العمل للدخول إلى الينبوع الذي يجري في أسفل التلّة؟ فحين تحاصَر المدينة وتُغلق الأبواب، يُحرَم المدافعون من الماء. حينئذٍ حفروا خزّان ماء شبيهًا بمغارة عند سفح التلّة حيث يجري الماء. ثمّ رُبط هذا الخزّان بالمنطقة المحصّنة داخل السور، بواسطة نفق بدرجات حُفر في صخر التلّة، فخلال الحصار، يكفي المدافعين أن يغلقوا المدخل الخارجيّ للخزّان وينقلوا الماء من الفتحة الداخليّة للخزّان، إلى داخل المدينة بواسطة سلّم من 23 مترًا في الطرف الخارجيّ من الخزّان، أغلق المقاتلون المدخل الخارجيّ أمام هجمة الأعداء.

حين كُشف النفق، رأى المنقّبون أنّه يتألّف من 93 درجة محفورة في الصخر على مدى 51 مترًا. ويصل إلى ساحة المدينة على مسافة 105 م داخل السور المزدوج. في هذا الموضع، وُسِّع السور. يبدو هذا النفق حُفر في القرن الثامن ق.م. قبل ذلك الوقت، كانوا ينزلون إلى الينبوع بواسطة باب حُفر في السور، لا يتجاوز عرضه المتر الواحد. حين انتهوا من حفر النفق أوصِد الباب بواسطة حجارة كبيرة ما زالت مرميّة هناك. هذا يعني أنّ النفق حُفر بعد أن بُني سور المدينة. وعلى مدّ النفق، وفي مسافات منتظمة، كانت نوى السرُج تضيء النفق المظلم (وُجدت آثار دخان أسود). نشير هنا إلى أنّه كُشف أنفاق مماثلة في أورشليم وجازر ومجدّو وبلعام.

بفضل هذا الخزّان، استطاع الباحثون أن يتعرّفوا إلى جبعون. كان حائط حجارة مبنيًّا بناء محكمًا حول الخزّان، ما عدا في الجهة الشرقيّة حيث الفتحة. دُمِّرت المدينة حوالى سنة 600، فبقيَت الفخّاريّات العديدة. قرابة 35 ألفًا. وعلى مسكة إبريق رُسمت لفظة عبريّة تعود إلى القرن الثامن أو السابع: ج ب ع ن. كما قرئت كلمة ثانية تدلّ على صاحب الإبريق: ن ع ر ي ه. وقُرئ لفظ آخر مع اسم المدينة: ج و ر. وهكذا تأكّد أنّ هذا التلّ هو جبعون. ووُجد أيضًا اسم "حننيا". هنا نتذكّر إر 28: 1 الذي يتحدّث عن "حننيا الذي من جبعون".

في منطقة الخزّان والنفق، وُجدت آثار نظام دفاع عن المدينة. هو سرعه عرضه 3،5 م وبني بحجارة مقصوبة على الصخر، مع سور داخليّ، يحيث يكون عرض السور كلّه ثمانية أمتار. وفي جهة المشرق، وُسّع السور فضمّ بنائين بشكل برجين عرضها تسعة أمتار. وأتاحت الاكتشافات في الأساسات على تحديد زمن هذا البناء الدفاعيّ: القرن الثامن ق.م. إلى غربيّ المدينة، وُجد سور يقابل السور الخارجيّ من جهة الشمال. فطريقة إيصال الماء إلى المدينة، كان أمرًا حيويًّا. ولكنّه كان سريع العطب، فوجب تقوية السور عند تلك النقطة.

بعد أن كشفت أسوار عهد الحديد، وصلنا إلى مستودع موادّ يضمّ أغراضًا تعود إلى البرونزيّ الأوّل. في هذه الحقبة القديمة التي تعود إلى ثلاثة آلاف سنة ق.م.، كانت بعض الجدران كبريتًا أحمر، وبعضها الآخر حجرًا ووُجد في مخزن 14 جرّة بعضها صحيحة. وفي أسفل البرونز القديم، لا أثر لسكن سابق في الجيب.

ما وُجد في السور أثرٌ لإقامة إسرائيليّة، بل جدران رومانيّة، تعرّفنا إلى زمنها بفضل 23 قطعة فضّة أخفاها أحدُ السكّان في زاوية إحدى القاعات. هي تعود إلى زمن الإسكندر ينايوس (103-76 ق.م.). ووُجد أيضًا حوض للسباحة مغطّس بطبقة من الجفصين. وكانت فيه درجات تصل إلى عمق مترين اثنين. في تلك الحقبة، كان السور خرابًا. ويبقى خلال الحقبة الرومانيّة النفق الذي تحدّد موقعه على بعد 36 م إلى الشمال الشرقيّ من ينبوع القرية. وُيرى قسم منه. ظنّ بعض الباحثين أنّ هذا النفق يعود إلى الحقبة الملكيّة في مملكة يهوذا وإسرائيل. ولكنّ الجرار هي من الخطّ الرومانيّ. وفي أيّ حال، ظلّ النفق مستعملاً حتّى الاحتلال العربيّ.

خاتمة

تلك هي جبعون التي عُرفت خصوصًا، في الكتاب المقدّس، بسبب الجبعونيّين الذين تعاهدوا بالحيلة مع يشوع، فما دُمِّرت مدينتهم. كشفت الحفريّات بشكل خاصّ ذاك النفق الذي تميّز عن سائر أنفاق المدن في فلسطين. ذاك الذي حُفر في القرن الثامن ق.م. أعيد تنظيمه في القرن الأوّل ق.م. ولبث مستعملاً حتّى القرن السابع أو الثامن ب.م. ومجيء الجيوش العربيّة.



[1] Edward Robinson

[2] Albrecht Alt

[3] Martin Noth

[4] James Pritchard, Berkleley

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM