خاتمة

خاتمة

قدمنا لاسفار العهد الجديد، فبان لنا غنى تعليم لا ينفد. وما اكتشفناه في الواقع هو وحدة العهد الجديد أولاً. ثم وحدة العهدين، حيث العهد الجديد يغرز جذوره في العهد القديم، والعهد القديم يجد كماله في العهد الجديد

1- وحدة العهد الجديد
لا بدّ لنا من أن نأخذ بعين الاعتبار تنوّع الكتّاب الذين دوّنوا أسفار العهد الجديد. أراد الله أن يقدّم وحيه إلينا فأفاد من أناس تختلف طباعهم وتتنوّع مواهبهم. أفاد منهم ولم يستعملهم كأداة تنفعل ولا تفعل، كآلة يُحرّكها ولا تتحرّك. فكل واحد له طريقته الشخصية في نقل كلمة الله. فالقديس بولس ليس القديس يوحنا. والازائيون الذين قدّموا صورة مماثلة عن حياة يسوع وأعماله وأقواله، ابرزوا أيضاً الاختلافات العديدة بين انجيل وآخر. فلا بدّ إذن من الأخذ بعين الاعتبار نظرة كل واحد منهم. هذا ما يصبو إليه البحث البيبلي الحالي. ان المسيح لم يكتب بيده، ولكنه سلَّم تعليمه إلى تقليد حيّ. ولم تصل إلينا التعابير عن هذا التعليم إلا بعد عشرات السنين من التوارث والتناقل. والالهام لا يكفل شهادة شخص واحد، بل عدة اشخاص تعرفوا إلى مختلف وجهات التعليم الاساسي في أوساط واوضاع ملموسة. ولم يصل بنا الالهام إلى نص نموذجي واحد أنزل علينا فلا نحيد عنه. إن تنوع الشهادات هو علامة عن الغنى التعليمي الذي وصل إلينا. فلا نجمع هذه الاقوال المتنوعة في بوتقة ضيقة تخنق الحياة التي في كلمة الله وتعيدنا الى قاسم مشترك لا يحمل شيئا من زخم الانجيل. أجل، التنوّع هو سمة أسفار العهد الجديد.
ولكن نود أن لا تنسينا هذه الملاحظة الأولى، على اهميتها، الوحدة الاساسية في تعليم الخلاص كما نقرأها في العهد الجديد. فكم من كاتب حوَّل تنوع وجهات النظر إلى تناقضات، وجعل يسوع يعارض الكنيسة، أو يعارض القديس بولس. فكأن هناك إنجيل المسيح وأنجيلاً آخر دوّنته الجماعات الاولى! توقّف هؤلاء الشرَّاح عند التفاصيل ونسوا المعطيات الاساسية التي فيها يجد التعليم المسيحي وحدته.
هناك نواة أساسية في أسفار العهد الجديد: كرستولوجيا واحدة، اكليزيولوجيا واحدة، سوتيريولوجيا واحدة.
كرستولوجيا واحدة، أي تعليم واحد عن يسوع المسيح. فأسفار العهد الجديد كلها تقول لنا ان يسوع هو إله وانسان. فلا سفر يشكّ في لاهوت المسيح حتى سفر الاعمال وانجيل مرقس. ولا سفر يهمل التشديد على ناسوت المسيح حتى الرسالة الى العبرانيين وانجيل يوحنا.
اكليزيولوجيا واحدة، أي تعليم واحد عن الكنيسة. فالاناجيل الاربعة تخبرنا عن يسوع الذي أراد حقًا أن يؤسسّ جماعة، أن يؤسّس كنيسة. ووعى المسيحيون الاولون مع رؤسائهم، ولا سيما بطرس وبولس، انهم يشكّلون هذا الشعب الجديد المرتبط بالله.
سوتيريولوجيا واحدة، أي تعليم واحد عن الخلاص. لكل شاهد وجهته الخاصة وطريقته الشخصية في عرض شقاء الانسان (على المستوى الاخلاقي) وسر الفداء الذي حمله يسوع. غير أنهم كلَّهم مقتنعون أن لموت يسوع وقيامته بعدًا خلاصيًا، أنهما يتمّان الكتب. ويشهد القديس بولس الذي توقّف عند لاهوت الفداء، على هذه الوحدة العميقة بين مختلف النظريات، فيقول: "سواء أنا (بولس)، سواء هم (بطرس، يعقوب، يوحنا)، هذا ما نكرز به، وهذا ما به آمنتم" (1 كور 21:15).

2- وحدة العهدين
حين عرضنا مختلف الاسفار البيبلية شدّدنا على رباط العهد الجديد بالعهد القديم. وحين تصرّفنا بهذه الطريقة، اتبعنا ما أشار اليه الكتَّاب الملهمون الذين ما فتئوا يعودون إلى الأسفار السابقة بصورة واضحة أو ضمنية. فهناك صفحات، بل أسفار، مثل سفر الرؤيا، تبدو بشكل تأمل في أسفار العهد القديم. كل هذا يدلّ على الوحدة العميقة بين العهدين. وهذا ما سوف نتوقّف عنده.
هذه الوحدة ليست تماثلاً وتماهيًا. فإيمان إبراهيم ليس إيمانًا بالمسيح في معنى صريح. وأكل المن لدى العبرانيين ليس تناولاً افخارستيًا ومشاركة في جسد المسيح ودمه. فإن نحن نسينا هذا المبدأ الغينا تاريخ الخلاص كما فهمه الكتّاب الملهمون أنفسهم. فهؤلاء يفترضون بين العهدين تواصلاً وانقطاعًا.
نحن أمام تواصل حيوي، لأننا أمام المخطّط الالهي الواحد. استشففناه منذ البداية وسار إلى كماله مع يسوع المسيح. لقد أبرز الانبياء هذا التواصل وهذا النموّ، وأوّلهم اشعيا. ففي القسم الأول من كتابه، نرى تاريخ شعب الله يسير حسب مخطّط اله قدير، فكّر بكل شيء وقاد كل شيء إلى هدف يعرفه وحده. وسيستعيد اشعيا في القسم الثاني من كتابه فلسفة التاريخ هذه المطبوعة بالطابع الديني، فيظهر أن التحرّر من عبودية مصر هو صورة مسبقة عن خلاص يتعدّاه عمقًا وروحانية. وسنجد هذا الخلاص بشكل آخر في سفر دانيال ورؤيا القديس يوحنا، كما سنجده في الاناجيل ورسائل القديس بولس.
ينتج عن هذا أن حقائق العهد الجديد لا تمتلك بُعدَها الحقيقي إلاّ إذا أخذنا بعين الاعتبار النبؤات المسيحانية ومجمل التيار الديني الذي نكتشفه في التوراة. وهناك نتيجة أخرى: إن عدنا إلى الوراء وقرأنا نصوص العهد القديم كما تمت في نهاية الزمن، فهي تستضيء بنور جديد. إنها شاهدة لديانة تجاوزتها المسيحية، ولكنها لا تزال حاليّة بفضل الحدث الأول الذي يشكّل أساسها، وهو خبرة الخلاص التي تجد قمتها في خلاص حمله إلينا يسوع المسيح.
تواصل وانقطاع. فكتّاب العهد الجديد الذين يعودون دومًا إلى العهد القديم، يشدّدون على التمايز والتفاصل بين التدبيرين. فتدبير العهد الجديد مفصول عن تدبير العهد القديم. وان كان يسوع يتمّ الكتب، فهو يتمّها بسلطان لا سلطان فوقه. فلا نتخيّل النبوءات دينًا يدفعه ابن الانسان، أو أمرًا مكتوبًا ومحتومًا يخضع له ابن الله المتجسّد. فعمل يسوع هو خلق الهي يرفض كل تقابل آلي مع إنباءات وردت في العهد القديم. وهنا نورد كلمة اوريجانس بمَا فيها من صورة موحية: "حين جاء المخلص إلينا وأعطى للانجيل جسدًا، صيّر بالانجيل كل شيء شبيهًا بالانجيل".

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM