الفصل السابع عشر ;سفر الرؤيا

الفصل السابع عشر
سفر الرؤيا
الرؤيا ترجمة كلمة يونانيّة تعني كشف وأوحى.
وحين نتكلّم عن الرؤيا نفكّر اليوم بالنكبات والخوف وهيجانِ القوى الهائلة والشبيهة بانفجار ذرّيّ. أمّا في الحقيقة، فالرؤيا هو كتاب وحي نقرأه لأنّه يكشف لنا معنى الإنجيل. ولا نتوقّف عند تنديدات نبيٍّ غارَ غَيْرةَ الربّ فحكم على العالم الخاطئ وأنذره بأقسى العقوبات.
إلى هذا الكتاب سنتعرّف، فندرسُ وجهَه الأدبيّ والمحيطَ الذي كتب فيه، واللاهوتَ الذي نستنتجه من سفرٍ هو صدىً لصوتِ الله يعزّي المضطهَدين في شدّتهم.

أ- الوجه الأدبيّ لسفر الرؤيا
1- رؤيا يوحنا والرؤى اليهوديّة
إنّ العالم اليهوديّ الذي سبق المسيح وتلاه، قد شهد ولادة كتبِ رؤىً عديدةٍ نذكر بعضها:
* كتاب أخنوخ الأوّل أو أخنوخ القبطيّ (وجدت نسخة قبطيّة فقط): يجمع تقاليد ترجع إلى القرنين السابقين للمسيح. يقدّم وحيًا عن نهاية العالم، عن عقاب الملائكة الجاحدين، عن أسرار الطبيعة ونواميس الكواكب وتاريخ الكون.
* كتاب أخنوخ الثاني أو كتاب أسرار أخنوخ أو أخنوخ السلافيّ (نسخة في لغة السلاف). دوِّن في بداية العصر المسيحيّ. حَسَبَ تاريخَ الكون، وحدّد له زمن 6000 سنة تتبعها راحة سبتيّة تمتدّ على ألف سنة.
* وصيّات الآباء الاثني عشر. يقتدي الكتاب بسفر التكوين (49: 1- 27) فيتضمّن الوصيّة الروحيّة لكلّ من أبناء يعقوب الاثني عشر. نجد تقديمًا لتاريخ الأب (يهوذا أو غيره) ونبوءةً تعني مستقبل القبيلة التي تسمّت باسمه. يعود النصّ إلى نهاية القرن الثاني ق م، وقد دُسَّتْ فيه مقاطعُ مسيحيّةٌ فيما بعد.
* رؤيا عزرا أو سفر عزرا الرابع. دوّنت حوالي السنة 100 ب م، فتضمّنت سبع رؤًى تتعلّق بتاريخ إسرائيل. إنّها محاولةٌ للإجابة على التساؤلات المؤلمة التي أثارتها نكبة سنة 70 الوطنيّة. إنّ الإسكاتولوجيا وحدها تعطي هذا الشقاء معناه في مخطّط الله.
* رؤيا باروك السريانيّة أو سفر باروك الثاني. يعود الكتاب إلى نهاية القرن الثاني ب م، ويقدّم نقاطاً مشتركةً مع رؤيا عزرا.

أوّلاً: مؤلّفات مُغفَلَةٌ
تعلن الرؤى اليهوديّة أنّ كتَّابَها شخصيّاتٌ كبيرةٌ من تاريخ إسرائيل، مثل موسى، أخنوخ، عزرا... وهكذا تحاول أن تستند إلى سلطة آباء أجلاّء.
أمّا صاحب رؤيا يوحنّا فيقدّم نفسه ببساطة: إنّه شاهد يسوع المسيح (1: 1- 2، 9).
الشاهد والشهيد كلمتان تعودان إلى جذر واحد وإنِ اختلف معناهما. في 1: 5 ينال المسيح ثلاثة ألقاب متتالية: إنّه الشاهد الأمين، وبكر الأموات، وملك ملوك الأرض. من الواضح أنّ اللقبين الثاني والثالث يشيران إلى قيامة يسوع وارتفاعه في المجد. فكيف لا نفهم أنّ كلمة "الشاهد الأمين" تلمّح إلى الصلب؟ حين مات المسيح على الصليب، كشف عن نفسه أنّه الشاهد الأمين. وهنا نفهم لماذا يُدعى الشهيد أنتيباس أيضاً الشاهد الأمين (2: 13). أنه دُعي كمعلّمه وربّه ليختم شهادته بدمه.
ونقرأ أيضاً في 6: 9 عن المسيحيّين المذبوحين من أجل الشهادة، في 11: 7 عن الشهيدَين المقتولَين، في 12: 11 عن انتصار المسيحيّين الذين ماتوا من أجل شهادتهم.
وهكذا لا يرى كاتب سفر الرؤيا أنّه يكشف المخطّط الذي نقله الله في ماضٍ سحيق إلى أحد عِباده الأمناء، بل يريد أن يقدِّم في العالم المعاصر له، صدى إنجيلٍ يتطلّب أمانة صعبة.

ثانيًا: الرمزيّة
تتكلّم الرؤى اليهوديّة بالألغاز والصور والرموز، فلا تختلف عنها رؤيا يوحنّا، كما يبدو. ولكن، إن عرفنا العهد القديم، لاحظنا أنّ أكثر الصور المستعملة تُفهم بسهولة: ابن الإنسان (ف 1)، الابن المسيحانيّ للمرأة (ف 12)، الحمل (ف 5)، العريس (ف 19)، كلّ هذهِ ألقابٌ تشيرُ إلى المسيح الذي أنبأ به العهد القديم.
وإن وجدت في سفر الرؤيا رموزٌ أكثرُ غموضاً (مثلاً 13: 18، عدد اسم نيرون)، فهي ولاشكّ تثير الفضول، ولكنّها لا تمنعنا من اكتشاف البشارة من خلال هذا الأسلوب المصطلح.

ثالثًا: التشاؤم
تلقي الرؤى على العالم نظرة تشاؤم: فالشرّ يسود الأرض، والمؤمنون يُضايَقون، بل يُضطهَدون. ولكنّ الله سيتدخّل قريبًا، ويبدّل الحالة التي يشهد لها "الرائي" مسبقًا.
قد نظنّ أنّ أسلوب رؤيا يوحنّا لا يختلف عن أسلوب هذه الرؤى. ولكن إن قرأنا النصّ بتمعّن، وجدنا أنّ الكاتب يشدّد على أنّ الخلاصَ والنصر حاضران الآن (رج 12: 11). لا شكّ في أنّه يعلن ظهور الملكوت المجيد في المستقبل. ولكن بعد أن انتصر المسيح بصليبه، حصل البشرُ على جوهر الأمور، فلم يبق لهم إلاّ أن يحقّقوا في حياتهم واقع هذا الخلاص الذي تمّ.

رابعًا: الكشف عن المصير
تكشف هذه الرؤى عن أسرار مخطّطٍ وضعَهُ اللهُ منذ الأزل. فالذي حصل على وحي يقدر أن يتتبعّ في التاريخ تحقيقَ هذا القصد تحقيقًا تدريجيًّا وأن يصلَ إلى سرّ المستقبل.
ولكن، كيف لا نلاحظ أنّ الإله الذي تتكلّم عنه هذه الرؤى لم يعد الإلهَ الحيّ الذي كلّم شعبه خلالَ تاريخه وفرض عليه الطاعةَ له وعاقبه على خياناتِه وتراجعَ عن قساوتِه عندما يتوب الإنسان، ودعا البشر لأنْ يقدّموا التزاماتٍ جديدة... إنّ إله الرؤى هو سجين مخطّطه. لقد قرّر كلّ شيء فحلّ محلّه مصيرٌ محدَّدٌ سلفًا.
ولكنّ رؤيا يوحنّا تستعمل لغة نبويّة أكثر منها جليانيّة. لا شكّ في أنّها تؤكّد أنّ إرادة الله سوف تتحقّق حتمًا (1: 1). ولكن تعاد هذه الآية في 22: 6- 7 لتعلن: ما يجب أن يحصل هو مجيء المسيح. وعندما تلجأ إلى صورة مطبوعة بالحتميّة فتعلن عدد المختارين المطبوعين بختم الحمل (ف 7)، فهي تؤكّد أنّ ما يميّز هؤلاء المختارين هم أنّهم يلبسون ثوبًا تبيّض بدم الحمل.
ويبدو العدد 144000 حاملاً تعليمًا رمزيًّا يماثل بين هؤلاء المختارين وقبائل شعب الله الاثنتي عشرة. المهمّ أنّنا نبيّن أنّنا لا نستطيع أن نتأمّل في المختارين وفي عددهم إلاّ في علاقتهم بالمسيح.
لا شكّ في أنّ مخطّطَ الله أزليّ ولكنّنا نزيد أنّه مركَّز على يسوع المسيح منذ الأزل. لهذا نستطيع أن نقول عن الناس الذين دلُّوا على أمانتهم بطاعة حاليّة وخطرة، إنّهم مسجَّلون منذ البدايات في سفر الحمل (13: 8).
هكذا تُحوِّل رؤيا يوحنّا حتميّة الرؤى اليهوديّة الباردة إلى بشارة خلاص في يسوع المسيح. ولهذا نَسْمَع نداءاتٍ وتحريضات: يجب أن تحيا كإنسان مختار أي أن تبقى متّحدًا بالمسيح.
كلّ هذه الملاحظات تقودنا إلى القول إنّ كاتب رؤيا يوحنّا وعى أنّه يكتب كتابًا جليانيًّا: إنّه يعرف الفنّ الأدبيّ الخاصّ بهذا النوع من الكتابة ويستلهمه. ولكنّ إيمانه المسيحيّ يحوّل التعليم الجلياني من الأساس. احتفظ الكاتب بالشكل الخارجيّ، ولاسيّما حين يساعده على إعلان الانقلاب الذي يُتِمُّهُ يسوع في حياة كلّ إنسان كما في حياة العالم كلّه، وعلى الاحتفال بيقين انتظار مجيئه النهائيّ على أساس خبرة حضوره الحاليّ والمتطلّب والخلاصيّ.

2- تصميم سفر الرؤيا
لن نستطيع الآن أن نتكلّم عن تصميم بالمعنى الحصريّ. لاشكّ في أنّ هناك سبعَ كنائسَ وسبعَ رسائلَ وسبعةَ ختومٍ وسبعةَ أبواق... وهناك ثلاثُ بلايا... ولكن لا نستطيع أن نبيّن كيف تتنظّم هذه البنى.

أوّلاً: المواضيع المطروحة
مقدّمة ورؤية أولى (ف 1).
الرسائل السبع إلى الكنائس (ف 2- 3).
رؤية العرش والحمل والكتاب صاحب السبعة ختوم (ف 4- 5).
الختوم السبعة (6: 1- 8: 5) مع المعترضة في ف 7.
الأبواق السبعة (8: 6- 11: 19) مع المعترضة في 10: 1- 11: 14.
المرأة وابنها والتنين (ف 12).
الوحشان (ف 13).
144000 مختار أو الدينونة (ف 14).
الملاك والكؤوس السبع (ف 15- 16).
الحكم على بابل (17: 1- 19: 10).
المسيح الديّان (19: 11- 21).
الألف سنة والدينونة (ف 20).
عصر جديد (21: 1- 22: 5).
الخاتمة (22: 6- 21).

ثانيًا: بعض الملاحظات حول بنية سفر الرؤيا
نتوقّف هنا بعضَ الشيء عند أسلوب الكتاب ومبادئه ومعلّلاته.

معنى التوازيات
يتضمّن الختم السادس "بالقوّة" الأبواق السبعة (8: 1- 15). فحين يصوّت البوق الرابع يعلن النسرُ باحتفالٍ ثلاثَ ويلاتٍ (8: 13) لا يتقابل تعاقبها مع تعاقب الأبواق وهذا ما يدلّ على أن نتيجة البوق السابع ستمتدّ إلى أبعدَ ممّا يرد في 11: 15- 19.
"ثم إنّ الموازاةَ بين الأبواق السبعة والكؤوس السبع، واستعادةَ بعض المواضيع مثلَ موضوع الدينونة، وتأكيداتٍ عن آنيَّة ملكوت الله، كلّ هذا يقودنا إلى قراءة لا تجد في الرؤيا إنباءات متعاقبة لأحداث مرتّبة ومتسلسلة في الزمن: مثلاً ما تُنْبِئ به الختوم السبعة يسبق في التاريخ الأحداث التي أنبأت بها الأبواق السبعة. وفي داخل كلّ سباعية، فالعدد 1 إلى 7 لا يقابل سياقًا تاريخيًّا، بل وحيًا بأشكال متنوّعة عن واقع هو هو.
وبكلام آخر، فموضوع السبعة أبواق لا يختلف جذريًّا عن موضوع السبع كؤوس. فالتعاليم هي هي في الأساس. أو بالأحرى هي تعلن الحقائقَ عينَها بطرق مختلفة. هذا ما يسمّيه الموسيقيّون: استعمال اللحن الرئيسيّ مع بعض التغيير.
وهكذا نستطيع أن نقابل بين سلسلة الأبواق وسلسلة الكؤوس.
الأبواق الكؤوس
1- البرد والنار على الأرض 1- سكبت الكأس على الأرض
التي احترق ثلثها. سكبت الكأس على البحر.
2- اشتعل الجبل وسقط البحر 2- فصارت دمًا هلك كلّ شيء.
الذي صار ثلثه دمًا.
3- اشتعل كوكب فسقط على المياه 3- سكبت الكأس على المياه الحلوة
الحلوة فصارت دمًا.
التي تسمّم ثلثها.
4- خرب ثلث الكوكب. 4- سكبت الكأس على الشمس التي أحرقت البشر.
5- سقطت نجمة من السماء ففتحت 5- سُكبت الكأس على عرش
الغمر، فخرمنه غمام حجب الوحش
الشمس، ثمّ خرج الجراد أو الذي أظلمت مملكته.
العقارب عضّ الناسُ على ألسنتِهم من الألم
فأضرّ بالبشر الذين ليسوا لله. ولكنّهم لم يتوبوا.
6- تحرير أربعة ملائكة قيِّدوا على 6- سكبت على الفرات الذي جُفِّفَ
الفرات، اجتياح، قتل ثلث فأتاح
البشر. لملوك الشرق عمليّةَ
الاجتياح.
7- إعلان آنيّة الدينونة 7- دينونة بابل.
نلاحظ المقابلة بين جزء وجزء ونلاحظ أيضاً تدرّجًا: فضربات الكؤوس أوسع من ضربات الأبواق (هنا الثلث، هناك الكلّ). وقد يتّخذ التدرّجُ طريقَ المنطق: هناك توضيح متزايد: من دينونة المضطهِدين بصورة عامّة نصل إلى دينونة بابل أو رومة.
ثمّ إنّ الكاتبَ يشدّدُ على وحدةِ كلِّ الرؤى. مثلاً: تستعيد الرسائلَ بعض المواضيع في الكتاب. مثلاً: الفردوس، المدينة السماوية، الموت الثاني.
ولكنّنا لا نقول إنّ سفر الرؤيا يدور على نفسه، وإنّ تعليم الخاتمة موجود في الأسطر الأولى. فالكاتب يقدّم لنا مسيرةً، وكتابُه يقودنا إلى تمام وكمال. فرؤى ف 21 لا تُنْقَلُ إلى بداية الكتاب دون أن تؤثّر على مضمونه.
إنّ الوحي يقودنا إلى اعلان الملكوت. إذن، يجب أن يأخذ التفسيرُ بعين الاعتبار هاتين الخاتمتين اللتين تبدوان متعارضتين: تعود الرؤى إلى التأكيدات عيِنها، ولكنّها تنفتح على منظورات إسكاتولوجيّة.

معترفات جوهرية
إذا عدنا إلى التصميم نلاحظ على مرّتين أنّ تصوير سلسلة العناصر السبعة قد انقطعت وتركت المكانَ لمعتِرضة. وإذا تأمّلْنا بدقّة فهمْنا أنّنا أمامَ معترضات خارجة عن التوسيع الجاري، بل أمام عناصر تلعب دورًا خاصًّا فتؤخّرُ قصدًا السيرَ المتدرِّج. مثلاً الوقفة التي تفصل الختم السادس عن الختم السابع (ف 7)، أو تلك التي تفصل بين البوق السادس والبوق السابع (10: 1- 11: 13)، أو تلك التي تلي البوق السابع وتسبق الكأس الأولى (ف 12- 14).
أنها ملاحظةٌ شكليّةٌ ولا شكّ، ولكنّ هذهِ المعترِضاتُ تقدّمَ توسُّعاتٍ هامّةً جدًّا: إنّها تدعو القارئ ليتوقّف ويفكّر في المعنَى العميق والبعدِ الوجوديّ للسلسلات الجليانيّة التقليديّة.
حينئذ نجد الدور ذاته الذي تلعبه الأناشيد والإعلانات الاحتفاليّة داخل الرؤى المختلفة: إنّها تدعو القارئ ليكتشف أنّه معنيٌ مباشرةً بالأحداث الجليانيّة المعلنة. ينقطع الخبر ويبدأ تأمّل يدعو الناسَ ليُدخلوا في قلوبهم حقائقَ الإيمان التي تنبعث من التاريخ المقدّس.
ونقول أيضاً إنّنا نجدُ في هذه المقاطع (معترضات وإعلانات) ما يهمّ الكاتبَ بالدرجة الأولى.
يتوقّف عن استعمال موادِّ التقليدِ الجليانيّ فيتكلّم هو نفسُه ويقدّم لنا أعمقَ وأهمّ ما في سائر فكره.
فإذا أردنا أن نفسّر سفرَ الرؤيا تفسيرًا صحيحًا لا بدّ من إعطاء هذه النصوص الشاذّة مكانةً مميّزةً.

3- تأليف سفر الرؤيا
أوّلاً: نصّ منقّح
هناك إشارات عديدة تدلّ على أنّ سفر الرؤيا نُقِّحَ مرّاتٍ بعد أن دوّن. وها نحن نقدّم مثلاً واحدًا: 16: 15: ها أنا آتٍ كالسارق. هنيئًا لمن يسهر ويحرس لئلاّ يمشيَ عريانًا فيرى الناسُ عورتَه. هذه الآية مزادة، فإذا حذفناها ترابطت آ 14 وآ 16. ولكن إذا تأمّلنا اللغة والمفردات نجد أنّ الكاتبَ نفسه وضع هذه الزيادة.
وإليك أمثلة أخرى.
18: 14: الثمر الذي اشتهته نفسُك ذهبَ عنكِ وزال الترف والبهاء جميعًا ولن تجديه. يبدو أنّ هذه الآية ليست موضوعةً في محلّها.
22: 11: من كان ظالمًا فليداوم على الظلم، ومن كان نجسًا فليبق في نجاسته. ومن كان صالحًا فليداوم على الصلاح. ومن كان قدّيسًا فليبقَ في قداسته. إنّ هذه الآية تعطّل القرينة وتزعج الشرّاح. من زاد هذا العنصر الموازي أو الأعتبار الإضافيّ؟
كلّ هذا يصبح معقولاً حين نتوقّفُ عند حركة فكرة ف 17. فالآية 15 تقدّم تفسيرًا ثانيًا للمياه التي تقيم بقربها الزانية. إنّ 17: 1 كشف أنّ التفصيل يرجع إلى إر 51: 13 وأنّ الكاتبَ يلمّح إلى مملكة رومةَ البحريّة. ثمّ إذا حذفنا آ 15 وأولى كلمات آ 16 نحصل على نصّ واضح وبنية مركّبة أفضلَ تركيبٍ بأسماءَ الإشارة الثلاثة. في 13:17: هؤلاء اتّفقوا... 14:17: هؤلاء سيحاربون....16:17: هؤلاء سيبغضون.

ثانيًا: نشرتان متتاليتان
فرضيّة الأب الدومينينيّ بوامار
افترض شرّاح عديدون أنّ سفر الرؤيا لم يؤلَّف دفعةً واحدة في الشكل الذي نعرفه اليوم. فقالوا هناك نسخات متعدّدة وأيدٍ متنوّعة وطبقاتٌ مختلفةٌ. وانطلقوا من إثباتين. الأوّل: نرى في سفر الرؤيا مقاطعَ تتكرّر. قال بوامار: كلّ رؤية، كلّ حدث يظهر في نسختين. مثلاً: 000 144 من مؤمني المسيح (2:7- 8؛ 14: 1- 5). الطوباويّون في السماء (7: 9- 17؛ 15: 2- 5). ضربات السبعة أبواق والسبع كؤوس (ف 8- 9؛ ف 16). تصوير الوحش برؤوسه السبعة وقرونه العشرة (13: 1- 8؛ 3:17- 8). وتمتدّ اللائحة وتنتهي مع "أورشليم المثاليّة" (21: 1- 8؛ 21: 9- 22: 5) ورذل الأشرار بصورة نهائيّة. الإثبات الثاني: ولكنّ الدراساتِ الأخيرةَ وصلت بنا إلى القول إنّ كلّ الرؤيا دوّنت بيد واحدة. يبقى أن نجد تفسيرًا يرتبط بالإثبات الأوّل دون أن نقول إنّ كتَّابًا عديدين دوّنوا سفرَ الرؤيا.
وإليك الحلَّ الذي عرضه بوامار: ألّف الكاتب نفسه كتابين متميّزَيْنِ ومتوازيَيْن في تواريخَ مختلفة وفي أطرٍ تاريخيّة مختلفة. النصّ الأقدم يعود إلى زمن نيرون. يستعيد نبؤاتِ دانيالَ ليعلن للمؤمنينَ المضطهَدين تدخلَ اللهِ الخلاصيَّ وعقابَ المملكة الرومانيّة، ثمّ الدينونةَ الأخيرة ونهايةَ العالم وحلولَ أورشليمِ السماويّة. وأُلِّفَتِ "الرؤيا الثانية" في عهد فسباسيانس أو دوميسيانس. استعادتِ الرحمة عينَها ولكنّها استندت إلى نبوءات دانيال. وتوحّدت الوثيقتان مع بعض التكيّفات وزيادة الرسائل إلى الكنائس.
ولكنّ هذا النوعَ من التفسيرِ يتلاعب بالنصّ ويتخيّل الكاتبَ كأحد البحّاثة يستقون من وثيقتين مختلفتين. إنّ هذا النظريّة تجيد في طرح المسألة لا في تقديم الجواب. ونأخذ مثلاً على هذا: أورشليم المثاليّة التي قيل إنّ موضوعَها تكرّر في 21: 1- 8 و21: 9- 22: 5. أما يكون الأفضلُ أن نرى في 21: 1- 22: 5 وحدة موضوعيّةً تتألّف من ثلاثة مقاطع؟ المقطع الأوّل: 21: 1- 8: العالم الجديد. المقطع الثاني: 21: 9- 27: أورشليم السماويّة. المقطع الثالث: 22: 1- 5: الفردوس. إنّها المواضيع الإسكاتولوجيّة الرئيسيّة عند أنبياء العهد القديم. ولقد شدّد الكاتبُ على تلاقي هذه النبوءاتِ الثلاث بل على وحدتها. مثلاً: نلاحظ التوازيَ بين 21: 2 و21: 10، بين 21: 8 و21: 27، بين 21: 23 و22: 3، بين 21: 23- 25 و22: 5. أراد الكاتبُ أن يقول: أعلن الأنبياء النهايةَ بكلمات عن العالم الجديد وأورشليمَ الجديدة والفردوس الجديد. هذا هو تمام هذه النبوءات. ولكن لا نحسب أنّ الله يبدأ بتبديل العالم لينزل فيما بعد إلى مدينته المقدّسة، وينتهي بإقامة الشروط الفردوسيّة. فالعالم الجديد وأورشليم الجديدة معاصران ومتماثلان للفردوس. إنّها ثلاث صور وثلاث طرائق لنقول بكلمات البشر كيف يكون العالم العجيب الذي يهيّئه الله. لهذا يقابل الكاتبُ بين النهرِ العجيب الذي يسقي الفردوس والشارعِ الرئيسيّ في المدينة (22: 2).

نسخة ثانية زيدت عيها الرسائل
هناك إشاراتٌ تدلّ على أنّ الكتاب عرف تحوّلاتٍ أكثر جوهريّة. فأوّل كلماتِ سفرِ الرؤيا تعلن البرنامج الذي أراد الكاتبُ أن يتوسّع فيه: أنْ يعلنَ ما سيحدث قريبًا (1: 19)، ويستعيد العبارةَ عينها في الخاتمة (22: 6) ليبيّن أنّه وصل إلى الهدف الذي وضعه نُصْبَ عينيه: لقد كرّس الكتاب حقًّا لإعلان ما سيحدثُ قريبًا. وهذه علامة واضحة تدلّ على وحدة النصّ وكماله. إنّه لا ينقصه شيء.
ولكن ماذا نجد إذا تمعّنّا في الأمور؟ في 1: 19 تعود الكلماتُ عينُها مع بعض التغيير: "أعلن ما يكون الآن وما سيكون فيما بعد". وهذا النظام يجد كماله المباشر: هذه هي الرسالة إلى الكنائس منذ بداية ف 2. وما إن تنتهي الرسالة السابعة حتّى يتقبّل الرائي وحيَ "ما سيحدث قريبًا" (4: 1).
نفهم إذن، أنّ الرسائلَ هي إعلانَ ما يكون الآن. وإنْ تَصَحَّحَ البرنامجُ الأوّل في 1: 19 و4: 1، فلكي يتيح للكاتب إقَحام توسّع غاب عن النصّ الأوّل. أجل، إنّ الرسائلَ إلى الكنائس زيدت فيما بعد.

خاتمتان
تبدأ خاتمة سفر الرؤيا في 22: 6 حيث نجد تذكيرًا بشروط الوحي: إرسال ملاك من قبل الله. وهدفًا: أن نبيّنَ ما سيحصلُ قريبًا. إلاّ أنّنا نلاحظ في 22: 16 عبارة مماثلة نكتشف فيها تبديلين مهمّين: صاحب الوحي هو يسوع، وموضوعٍ الوحي يعني الكنائس. فكأنّي بنا أمام خاتمة أولى استعيدت لتقدّم إيضاحاتٍ جديدةً ومهمّة: ما عدَّته آ 6- 7 وحيَ الله المتعلّق بالمسيح ومجيئه، صارَ الآنَ كلمةَ المسيح عن الكنائس. غير أنّنا لا نجد إلاّ حصة واحدةً في سفر الرؤيا تتحدّث عن كلمة المسيح الموجّهة إلى الكنائس، هي الرسائل السبع. ف 2 و 3 هما الفصلان الوحيدان اللذان يتحدّث فيهما المسيحُ بصيغةِ المتكلّم إلى الكنائس.
كلّ هذا يدفعنا إلى القول إنّ 22: 16 ي تشكل خاتمةً ثانيةً زيدت على النسخة الثانية لتبرّر وجودَ الرسائل التي لم توجد في النسخة الأولى.

ب- المحيط الذي كتب فيه سفر الرؤيا
1- حالتان متتاليتان
ما قلناه سابقًا يدلّ على أنّه كان لسفر الرؤيا وجهتان مختلفتان ومتتاليتان.
الحالة الأولى: نجدها في بداية الفصل الأوّل وصلب سفر الرؤيا (4: 1- 22: 15). اهتمّ الكاتب بالمسائل التي تطرحها على المسيحيّين حياةٌ يعيشونها وَسْطَ مملكة وثنيّة، وتهديداتٌ تفرضها متطلّباتُ العبادة للإمبراطور على الذين يرفضون أن يشاركوا فيها.
الحالة الثانية: تعالج الرسائلُ إلى الكنائسِ المسائلَ عينَها ولكن من زاوية مختلفة: هي تتوجّه إلى جماعات لم تقتنع كلّيًّا بأمانة الرائي التي لا مساومة فيها. إذن، تحاول الرسائل أن تطبّق استنتاجات الرؤى الأساسيّة على وضع محدّد، وضعِ مسيحيّين تجتذبهم سهولةُ المساومة والتسوية.

2- عبادة الإمبراطور
تضع أمامنا رؤية ف 12 الشيطانَ والمرأة السماويّة (التي هي صورة عن شعب الله) والمسيح. إنّها قصّة العدواة التي يحرّكها الشيطان ضدّ الله وأخصّائه. ولكن قُهر إبليسُ وطُرد من عالم السماء، فانحدر على الأرض. غضب لأنّه قُهر، فهاجم نسل المرأة أي الذين يعملون بوصايا الله ويحفظون شهادةَ يسوع (12: 17). هكذا ينتهي ف 12.
ويتابع ف 13 فيورد كيف تظهر هذه العداوة. هذا يعني أنّ الوحش الذي برز هو خليفة الشيطان وأحد وكلائه على الأرض. الوحش هو واقع يجسّد الشيطانَ في العالمِ المعاصِرِ للرائي. يبقى علينا أن نحدّد هُوِيًّةَ الشخصِ الذي يختفي وراءَ هذه الصورة. ولهذا ننطلق من ف 13.

أوّلاً: الوحش الأوّل
وكيل الشيطان
يدلّ وجهُه بوضوح على قرابته الوثيقة بالتنين الذي هو الشيطان (ق 12: 3 و13: 1). إنّه أداةُ إبليسَ ومُفَوَّضُه. فلا نعجب بعدَ هذا أن يعمل الوحشُ الأوّلُ ليدفعَ الناسَ إلى عبادة التنين.

واقع سياسيّ
يستعيد الوحش سماتِ الوحوشِ الثلاثة الأولى في دا 7. إنّها ترمز على التوالي إلى ممالكِ بابل ومادايَ وفارس. إذًا، لا تختلف الرمزيّةُ في نصّ الرؤيا، والوحشُ يدلّ أيضاً على مملكة. وما يُثْبِتُ قولنا هو أنّ السلطةَ تميّز عمل الوحش الأوّل الذي يأتي ليمارس السلطان باسمِ التنين. إنّه قدير جدًّا وله عرش وسلطته تشمل الكون. وبما أنّنا أمام سلطة يعرفها الشيطان، فإنّها تُمارَسُ بالطبع ضدّ المسيحيّين الذين يضطهدهم ويقتلهم.

طابع دينيّ
ونلاحظ أخيرًا الإشاراتِ التي تبرز طابع الوحش الدينيّ. هو يحمل اسمًا كلّه تجديف. ويتلفّظ بتجاديفَ تدلّ على ادّعائه بأن يرتفع إلى مستوى الله. يطلب هذا الوحشُ أن يُعْبَدَ وأن يُزيّح باحتفال. أمّا العبارة "من هو مثلُ الوحش" فهي منسوخة عن فعل إيمان شعب إسرائيلَ بالله الوحيد: من هو مثلُ الله.

المملكة الرومانيّة
كلّ هذه السماتِ ترسم صورةً عرفها حالاً قرّاءُ سفر الرؤيا: صورةَ المملكة الرومانيّة التي يتلوَّن سلطانُها الشاملُ بألوان شيطانيّة في عين من يعرف أن يميّز الأساسَ الذي يرتفع فوقه البنيان.
فالعقليّة الشعبيّة تعتبر أنّ النظام الرومانيّ الذي يتيحُ العيشَ في عالم عادي ومُنَظَّمٍ هو نتيجةُ بركةِ الالهة الموجودين وراء كلِّ سلطة بشريّة. لهذا فالملك الذي يجتمع فيه السلطانُ كلّه هو من مصافّ الالهة. عند ذاك استفاد الأباطرةُ الرومانَ من هذا الوضع ليركّزوا سلطتهم على عرش منيع تاركين الناسَ يعتبرونهم كآلهة أو فارضين عليهم أن يؤلّهوهم ويعبدوهم.
تصرّف الأباطرةُ في القرن الأوّل المسيحيّ بطرق مختلفة. تحفّظ بعضهم ولكنّهم تركوا الناس ولاسيّما في آسية الصغرى يلتهبون حماسًا بعبادة الإمبراطور. أمّا الآخرون ففرضوا لقبًا دينيًا رسميًّا وشجّعوا الناسَ على تشييد معابدَ لعبادةِ الإمبراطور وتنظيم كهنة لهذه المعابد. فيمكننا القولُ إنّ هذا المجتمع التوتاليتاريّ يستند إلى أساس وثنيّ يتنافى والمسيحيّة.

رومة وبابل
في هذا الإطار نقرأ ف 17- 18، فنجد فيهما دينونةَ بابلَ، الزانية الكبرى. نحن هنا أمام صورة تقليديّة عند أنبياءِ العهد القديم الذين رأَوا في صورة الزانية رمزًا إلى خيانةِ الشعوب والمدنِ لله (هو 5: 3: إسرائيل؛ أش 1: 21: أورشليم؛ نا 3: 4: نينوى).
ولكن من تكون هذه المدينة؟
اسم بابلَ يعطى لكلّ من يعارض اللهَ وشعبه (أش 46: 1- 3؛ 47: 1- 15؛ إر 50: 29- 32). وقد احتفظ الكاتبُ بهذا اللقبِ ليدلّ على رومة التي حَكَمَ اللهُ عليها أيضاً (آ بط 5: 13). وتتحدّث 17: 9 عن التلال السبعِ فتدلّ على رومة بتلالها السبع.

رؤوس الوحش السبعة
تتوسّع 9:17- 11 في مثل سرّيّ تدلّ بموجبه رؤوس الوحش السبعة على سبعة ملوك. خمسة منهم سقطوا. السادس لا يزال يملك. والسابع مرّ سريعًا. أمّا الثامن فهو يقابل الوحش وأحد الملوك السبعة السابقين. إذا كنّا نعرف أنّ الوحشَ يدلّ على المملكة الرومانيّة في القرن الأوّل المسيحيّ، فهل نقدر بسهولة أن نتعرّف إلى هؤلاء الملوك؟ الأمر صعب. لأنّه يجب أن نعرف من هو الملك الأوّل. ثمّ هل نحسب حسابًا لمغتصبين دام ملكهم بضعة أيّام؟
إذًا، يبدأ الحسابُ من التاريخ كما يراه صاحبُ الرؤيا. فحسب ف 12 قِمّة التاريخِ هي هزيمة الشيطان والنصر الفصحيّ. فيقول: في أيّام طيباريوسَِ طُرد الشيطانُ من السماء فانحدر على الأرض. حينئذ بدأ يستعمل المملكةَ ليُعْمِلَ بُغْضَه في مؤمني يسوع. وهكذا يكون كاليغولا خلف طيباريوس أوّلَ إمبراطور شيطانيّ. وجاء بعده كلوديوس ونيرون. وإذا ترى جانبًا كلاًّ من غلبا وأوتون وويتاليوس، يكون الرابع فسباسيانس والخامس تيطس والسادس دوميسيانس الذي في أيّامه كُتِبَ سفرُ الرؤيا. ولا يزال الكاتبُ ينتظرُ الإمبراطورَ السابع. ثمّ يأتي الثامن الذي هو أحد السبعة ويقابل الوحش نفسه. نفهم إذًا أنّه تجسيد كامل للمملكة الوثنيّة. كلّ هذا يوجّهنا نحو الجواب: لقد خلبَ نيرونُ معاصريه بكثرة شرّه (قتل أمّه، أحرق المدينة، تسلّط على البلاد). إنّه يرمز إلى مملكة يلهمها الشيطان ويوجّهها. ويلاحَظ أنّّه بعد موت نيرون انتشرت شائعاتٌ بأنّه لم يمت، بأنّه يختفي في الشرق ومن هناك سيأتي ليسحقَ خصومَه. وقالت بعض هذه الشائعات: مات نيرون ولكنّه سيعود. سيحيا من جديد وسيكون رجوعه العجيب رجوع المنتصرين.
هذا هو الإمبراطور الثامن الذي هو أحد السبعة والذي هو الوحش. هذا هو رأس الوحش الذي ضرب فمات، ولكنّه عاد إلى الحياة (13: 3). هذا هو الوحش الذي كان ولم يعد موجودًا ولكنّه سيطلع من الهاوية (17: 8).
من المفيد أن نلاحظ أنّ صاحب سفر الرؤيا لا يكتفي بأن يُبْعِدَ باحتقار هذه الآمالَ وهذهِ المخاوفَ: إنّه يتوجّه إلى أناسٍ يشكّل رجوعُ نيرونَ في نظرهم جزءًا من المستقبل. قال: أجل، سيعود ولكن ليذهب إلى الهلاك (17: 8، 11). لن يدلّ رجوعُه على انتصاره، بل سيكون مناسبة ليرى العالمُ كلُّه، ليشاهدَ بصورةٍ نهائيّة هزيمةَ القِوى الشيطانيّة.

ثانيًا: الوحش الثاني (13: 11- 18)
قرابة مع الوحش الأوّل
نلاحظ أنّ بين الوحش الأوّل والوحش الثاني نقاطًا مشتركَة. الوجهان يختلفان. ولكنّ صوتَ الوحش الثاني يدلّ على طبيعته: ألقى الخطبة عينها التي ألقاها التنين. ثمّ إنّ عمله يرتبط بالوحش الأوّل: يمارس سلطانه ويخدمه دومًا.

عمل دينيّ
يَبْرُزُ فعلُ "صَنَعَ" سبعَ مرّات وفاعله الوحش الثاني. وفي حالة ثامنة (13: 14) يكون الفاعل "البشر" الذين يصنعون، بناءً على أمره، تمثالاً للوحش الأوّل. وهكذا يتّصل واقع هذه الصورة بحياة البشر ويحقّق فيهم أعماله.
وهذه الأعمال هي أوّلاً دينيّة: يصنع الوحش معجزات ويمارس السحر. وتتوجّه هذه الأعمال نحو شعائر العبادة تجاه الوحش الأوّل. وسيعطي سفر الرؤيا فيما بعد (16: 13؛ 19: 20؛ 20: 10) للوحش الثاني لقب النبيّ الكذّاب. وهذا ما يُثْبِتُ قولَنا السابق: نحن أمام واقع يهدف إلى أن يعترف البشر بالطابع الإلهيّ للوحش الأوّل.

عبادة الإمبراطور
إذا بحثنا في عالم ذاك الزمان، عمّا دفع الإنسان للإقرار بالطابع الدينيّ للإمبراطوريّة نجده في عبادة الأباطرة أو في الرغبات الدينيّة التي تشير إلى التأكيد الأساسيّ وهو أنّ الإمبراطوريّة تدلّ على طابعها الدينيّ في شخص الإمبراطور.

عالم توتاليتاريّ
تتحدّث 13: 16- 17 عن نتائجَ اجتماعيّةٍ واقتصاديّةٍ لعَمَلِ الوحش الثاني. ولكنّ هذا لا يعارض النتائج السابقة. يجب أن لا ننقل إلى عالم الزمن المبادع التي توجّه مجتمعاتِنا الحديثة: فالإمبراطور في القرن الأوّل يجهل كلّ انفصال بين مجالات الدين والسياسة والحرب والاجتماع والاقتصاد. كلّ هذا يشكّل وحدة تربط الديانة بين أجزائه وتوجّهه.

دين سياسيّ
إليك بعض الوقائع: وضعت مقاطعة آسية الرومانية (غربيَّ تركيا اليوم) تحت سلطة وال عيَّنه الإمبراطور. ولكن كان بقرب هذا الوالي مجلسُ مقاطعات يتمتّع بسلطات محدودة. وكان هذا المجلسُ ينتخبُ كلَّ سنة كاهنًا أعظمَ لإقامة شعائرِ عبادة الإمبراطور.
نقرأ نصّينِ يذكّراننا بقرار مجلس آسية. نقرأ في الأوّل وهو كتابة وُجدت في بريانيس: يشكّل يوم ولادة الله (أي الإمبراطور أغوسطس الذي يحتفل بيوم مولده في 23 أيلول) بالنسبة إلى الناس بداية الأخبار السارّة. وفي كتابة هليكرناسيس نقرأ: أعطت طبيعة الكون الأزليّة والخالدة للبشر خيرًا ساميًا. فَمَنَحَتْ لحياتنا السعيدة أغوسطس قيصر، أبَا وطننا الإلهيّ رومة... ومخلّصَ مجموعةِ الجنس البشريّ، إنّه العنايةُ التي لا تكتفي باستجابة صلاتنا، بل تسبقها.
في سنة 23 ب م، وفي عهد طيباريوس، اتّخذ المجلسُ نفسُه قرارًا ببناء هيكل جديد في المقاطعة إكرامًا للإمبراطورِ وأمِّه ومجلسِ الشيوخ الرومانيّ. فلمّا قبل طيباريوس بالمبدأ تزاحمت إحدى عشرةَ مدينةً لتحصل على إذنٍ ببناء المعبد الجديد، مشدّدة على أمانتها السابقة في إطار السياسة والحرب. واختيرت إزمير لتشيّد هيكلاً إكرامًا لمدينة رومة.
فحياة المقاطعات السياسيّة ونشاط رابطة النقابات وإدارة المدن والقرى، كلّ هذا تغلغلت فيه الديانةُ وانطبع بطابع العبادة للإمبراطور. مثلاً: قد تعود اللحوم التي تباع في السوق إلى ذبائح قدّمت في هيكل الإمبراطور.
إذا كانت المملكة لا تزال ثابتة فتتيح الحياة والنشاط للأفراد والجماعات، فهذا عائد إلى الالهة، وأوّلهم هو الإمبراطور. فمن عارض هذا الأساس الدينيّ دلّ على أنّه ثائر خطِر يهدّد موقفُه أُسُسَ المجتمع عينَها.

الرقم 666
وتشير 13: 18 إلى صعوبة كبيرة: ماذا يعني رقم الوحش: 666؟ إنّه يدلّ على الوحش، كما يقول الكاتب. فمن تحلّى بالعقل والذكاء (الملهم) يقدر أن يحلّل ويترجم.
نحن نعرف أنّ الحروف تدلّ على الأرقام والعكس صحيح. فإذا أخذنا اللغة العبريّة وجدنا أنّ الحروف التي تؤلّف اسم "قيصر نيرون" تساوي 666. هذا افتراض أوّل ممكن ومميّز. وهناك افتراض ثان. فالرقم 7 يدل على فكرة كمالات الله، والرقم 12 يدلّ على الاثني عشر سبطاً أو رسلاً، وبالتالي على كلّ شعب الله (وهذا يصحّ في الرقم 144000= 12 × 12 × 1000). أمّا الرقم 6 وهو قريب من 7، فهو يرمز إلى الشرّ والتمرّد على الله، يرمز إلى العالم الوثنيّ (يدلّ على النقص). نجد في الأقوال السيبيليّة (كتاب منحول) أنّ اسم يسوع يساوي في اليونانية 888. فالرقم 8 هو فوق الرقم 7 ويدلّ على كمال ألوهيّة الابن.

3- تعليم سفر الرؤيا
ولكنّ الوضعَ كان أكثر تعقيدًا من هذا العرض السريع والواضح، وقد اختبره معاصرو يوحنّا فأحسُّوا بثقله.
يجب أن نتذكّر أنّ المملكةَ لم تعلن نفسها في ذلك الوقت عدوّ المسيحيّة اللدود. كانت للمسيحيّين صعوباتهم مع السلطة الملكيّة أو ممثّليها، ولكنّ الصعوباتِ وإنْ خطيرةً، لم تكن تعبيرًا عن تعارض مبدئيّ. وفي آسية الصغرى مثلاً، لم تُتّخذْ إجراءاتٌ لاضطهادِ المسيحيّين اضطهادًا منظّمًا. كانت هناك حالات من العداوة، ولكنّها ارتبطت بظروف عابرة ومحلّيّة كانت تتبدّل مع الزمن.
في هذا الإطار الصعب أسمعَنا يوحنّا تعليمَه النبوي الذي نحدّده في شكلينِ اثنينِ: المملكة الشيطانية والنصر.

المملكة الشيطانيّة
أوحى أوّلاً الطبيعةَ الحقيقيّةَ للمملكة. كانت هناك أصوات مسيحيّة تشدّد على التوافقِ المُمْكِنِ بين مُثُلِ العصرِ السياسيّةِ والأخلاقيّةِ وبين الإيمان المسيحيّ. وقلّل آخرون من أهمّيّة الصِدامات التي جعلت سلطات المملكة تقف بوجه أعضاءِ الكنيسة الفتيّة واعتبروها تحوّلاتٍ بسيطةً وأخطاءَ مؤسفةً وعملَ الأباطرة الأردياء. أمّا سفر الرؤيا فأعلن بقوّةٍ أنّ المملكةَ هي في خدمة الشيطان. والبرهانُ على ذلك العبادة الوثنيّة التي هي في أساس النظام. فلا نستطيع أن نأمل تحسنا في العلاقات بين الكنيسة والمملكة. لا تقدر المملكةُ إلاّ أن تضطهدَ المسيحيّين. فعلى المسيحيّين أن يعرفوا أنّهم يسيرون نحو غَدٍ صعب. سيتكاثر الشهداء. قُهِرَ الشيطانُ على يد المسيح فقام بحملة على الكنيسة.

النصر
وما هو أخطرُ من هذا هو أنّ المملكةَ تنتصر، وهذا أمر طبيعيّ إذا قابلنا القوى الحاضرة: من جهة قبضةٌ من المؤمنين بالمسيح لا سندَ لهم ولا جيشَ ولا تأثيرَ. ومن جهة ثانية قوّةٌ رومةَ التي تسيطر على كلّ العالم المعروف. قال يوحنّا (رؤ 13: 7): "أعطي له أن يحارب القدّيسين ويغلبهم". وكل من يسجد لصورة الوحش يقتل (13: 5). هذا ما يقوله عادة كتّاب الرؤى. ولكن نسمع هنا صوتًا جديدًا. ترك يوحنّا الطريقة التقليديّة، فم يعلن تدخّلَ الله المقبل الذي سيأتي في النهاية ويُعِيْنُ أخصّاءه ويسحق أعداءه. بل أكّد: ليس الوضع الحاضر كما يبدو لعيونكم. لا تؤخَذوا بالظواهر. انزعوا القناعَ عن الوجوه المستعارة: يمكنكم أن تؤخذوا إلى الشهادة، أن تموتوا وتُغْلَبوا بطريقة نهائيّة. ولكنَّ الواقعَ الصحيحَ والحقيقةَ الأزليّةَ المؤسَّسَةَ على الله تختلف عن هذا: فالوقت الذي فيه صُلب يسوع كان وقت انتصاره. حينئذ قُهر الشيطان وأُنْزِلَ من السماء إلى الأرض وحُصر في مكان لا يقدر منه أن يبدّل مخطّطَ الخلاص. وكلّ مرّة يعترف أناسٌ على الأرض بأنّ السلطانَ الوحيدَ الذي أمامه ننحني وإيّاه نطيعُ هو سلطان الله ومسيحه، وكلّ مرّة يبرهن الناس في سلوكهم وفي استشهادهم على واقعيّة موت المسيح، ينتصرون هم أيضاً ويدلّون على الحقيقة الوحيدة التي لا تطمسها ظلمة قطّ.

3- الغنوصيّة
أولاً: الرسائل إلى الكنائس
لم يتضمّن سفر الرؤيا في نسخته الأولى الرسائلَ إلى الكنائس. إنّه أراد أن يعلن حضور المسيح القائم من الموت ورجوعه القريب، وأن يحتفل بنصره على العالم الوثنيّ. ومهما استعملت المملكة الرومانيّة من قوّة، ومهما جعل الشيطان هذه المملكةَ أداةَ بغضِه على المسيحيّين، فالمسيحيّون هم المنتصرون الحقيقيّون مع ربّهم حتّى ولو ماتوا مثله من أجل إيمانهم.
تبدو الرسائل كلمة نبويّة يوجّهها يوحنّا إلى الكنائس من قبل يسوع. وهي تشير إلى ما هو حاضر الآن. لهذا سنبحث عن هذا الحاضر الذي سيلقي ضوءًا على جماعات آسية الصغرى في نهاية القرن الأوّل المسيحيّ.

الهراطقة
تتحدّث الرسائل عن مجابَهات واضطهادات. ولكن ليس هذا هو همّها الأوّل. فإن تمعّنّا في ف 2- 3 اكتشفنا اهتمام الكاتبِ الأوّل: إنّه يتوجّه إلى كنائسَ تعالجُ خطرًا خاصًّا. لهذا يبدأ يسوع، مُلْهِمُ هذه الرسائل، بأن يعلنَ أنّه يعرض الوضع المحلّيّ. فيوافق أو يحرّض أو يندّد حسب ردّة فعل الكنيسة أمام ما يهدّدها.
يكمن الطابع الجديد للوضع، في أنّ الخطرَ لا يأتي فقط من الخارج. إنّه حاضر في قلب هذه الكنائس وهو يتزيّا بالزيّ المسيحيّ ليطغي المؤمنين. هذا الخطر هو الهرطقة.
في أفسس: بدأت الكنيسة بطرد الهراطقة ثمّ تسامحت معهم. في سميرنة: لا مشاكل. في برغامس: التهديد ظاهر، ولكن لم يؤخذ بالأفكار الجديدة إلاّ بعضُ أعضاء الجماعة. في ثياتيرة: كانت ردّةُ الفعلِ حسنةً لدى الكنيسة. ولكنّ الكنيسةَ تسامحت مع نبيّة تضلّل الناسَ بتعليمها الهرطوقيّ. في سارديس: الحالة مقلقة. لم يقاوم العدوى إلاّ عددٌ قليل من المسيحيّين. أمّا في فيلادلفية فالوضع عكس ذلك. وتبقى كنيسة لاودكية التي مالت كلُّها إلى الهرطقة، على ما يبدو.

النقولاويّون
ويسميّ يوحنّا الهراطقة مرّتين: إنّهم النقولاويّون (2: 6- 15). ويمكننا أن نزيد النبيّة إيزابيل (ق 12: 14- 15 و 2: 20) التي لا يختلف تعليمها عن تعليمهم. ويبدو أنّ الخطر الذي يهدّد سائر الكنائس هو خطر النقولاويّين.
لا تقول رسائل سفر الرؤيا شيئًا كثيرًا عن هذه الهرطقة. ولكن حين نضع بعض المعلومات التي بين أيدينا في الإطار الذي يرسمه الكتّابُ المسيحيّون اللاحقون، نحصل على صورة متماسكة ومحدّدة. فهناك تقليد يعود بالحركة النقولاويّة إلى الشمّاس نقولا أحدِ الهلّينيّين السبعة المذكورين في سفر الأعمال (6: 5). كان هذا الشمّاس متزهّدًا، فاهتمّ بجعل جسده في الدرجة الدنيا. هذا يعني أنّ النقولاويّين يقولون بثنائيّة بين الجسد والروح.
نحن إذًا أمام غنوصيّة، أي منهجٍ فكريٍّ يُعْرَضُ فيه الخلاصُ على الناس بشكل وحي عن أصلهم وعن هُوِيَّتِهم.
يكتشف "المختار" أنّه يحمل شعلة إلهيّة مَخْفِيَّةَ في جسده كما في سجن. بما أنّ جسدَنا ليس أنا الإنسان الحقيقيّ، نستطيع من دون خطر أن نغامر به ونأخذه إلى احتفالاتٍ وثنيّة. فالخلاص لا يتأثّر بمثل هذه الأعمال التي هي أمور طفيفة. ولكنّ يوحنّا يعتبر على خطى أنبياء العهد القديم، أنّ هذا العملَ هو زنى مُشِينٌ وخيانةٌ لله الحيّ لا تغتفر.
في هذه الأوقات التي صارت فيه الطاعة المسيحيّة أكثرَ صعوبةً وأكثرَ خطرًا، وجب على المؤمنين أن يرذلوا هذه التجربةَ النافذةَ التي تجعلهم يعتبرون أنّ الاستشهادَ هو عنادٌ قصير النظر وليس اقتداءً بيسوعَ المسيح.
وانطلق النقولاويّون في فكرهم الثنائيّ إلى نتائجه الأخيرة، فأعلنوا أنّ المسيح لم يستطع أن يأخذ جسدًا، لأنّ الجسد يرتبط بمبادئِ المادّة البغيضة. فجسد المسيح هو ظاهرٌ الجسد، وصَلبه حيلةٌ كاذبة. بما أنّ المعلّمَ لم يتألّم على الصليب، لماذا يُجبِرُ تلاميذَه على تحدّي الموت والاستشهاد.

ثانيًا: تعليم الرسائل
قد تكون اللوحةُ التي رسمناها عن النقولاويّين سوداء. ولكنّ الهدفَ ليس أن نكتشف حقيقة هُوِيَّةِ النقولاويّين الروحيّة، بل أن نفهم جواب صاحب الرؤيا. لسنا أمام تنوّع في التعليم المسيحيّ، بل أمام نهج شيطانيّ. فالنقولاويّون يقفون على نقيض تعليم سفر الرؤيا: إذا لم يعد لانتصار المسيح شهود في هذا العالم، فهذا يعني أنّ هذا الموتَ غيرُ حقيقيّ.
لهذا أحسّ يوحنّا أنّ المسيح يدفعه ليكتب إلى الكنائس ليحثّها على طرد هؤلاء المسيحيّين الكذبة، وعلى السير بثبات على خطى المسيح في طرق تحفّ بها المخاطر إذا أردنا أن نعترف بإيماننا. لهذا نجد في الرسائل تلميحاتٍ عديدةً إلى الاعتراف باسم المسيح، إلى الابتعاد عن إنكار المسيح، إلى الأخطار التي تواجهنا (2: 3، 10، 13، 26؛ 8:3...).
ويبدو أنّ هناك هرطقةً ثانيةً في هذه الكنائس، تتمثّل في التيّار اليهوديّ وهي حاضرة في كنيستي سميرنة وفيلادلفية. مهما يكن من أمر هذه الهرطقة الثانية، فيوحنّا يعتبر أنّ الشيطان يُلْهِمُ هاتين الهرطقتين اللتين تقودان إلى النتائج نفسها. في هذه الظروف يبدو من الفطنة أن نتكلّم عن هرطقة واحدة هي الهرطقة النقولاويّة: تلوّنت بلون الغنوصيّة، تغذّت بالتقاليد اليهوديّة، واعتبرت أنّها تقدّم التفسير الحقيقيّ للعهد القديم.

ج- اللاهوت في سفر الرؤيا
1- ف 11 أو رسالة الكنيسة النبويّة
أُمِرَ الرائي في نهاية ف 10 أن يتنبّأ على كثير من الشعوب والأمم والألسنة والملوك (10: 11). فجاءت رؤية ف 11 تدلّ على أّنه أتمّ المهمّة: مارس شخصانِ رسالةً اعتُبرت نبويّةً.
الشاهدان هما اثنان: إذا أردنا أن نعرف السببَ نعودُ إلى زك 4: 2- 14 الذي يشكّل خلفيّة 11: 3- 4. يرى يوحنّا في هذين النبيّين تتمّةَ نبوءة زكريّا التي تتحدّث بالصور عن خادمين لله. فالزيتونتان في رؤية زكريّا تدلاّن على رئيسَيْ شعبِ إسرائيل، رئيس الكهنة يشوع، وزربابل الرئيس المدنيّ الذي أوكلت إليه مهمّة السهر على مستقبل الشعب (أو الهيكل) الذي يمثّله الشمعدان (أو المنارة).
حوّلَ سفرُ الرؤيا النُبوءة: صار الشخصانِ منارتينِ. فأتاح له هذا التحويلُ أن يُبْرِزَ الطابع النبويّ للشاهدَينِ: فالمنارةُ الحاملة السراج هي رمز الروح في رؤ 4: 5؛ 5: 6. ولقد حاول بعض الشرّاح أن يجدوا في المنارتين الرسولينِ بطرسَ وبولسَ.
ولكن يبقى همُّ الرائي أن يشدّد على الطابع النبويّ (الملهَم) للشاهدين. لم يتكلّم عن زيتونتين كما فعل زكريّا بل عن منارتين. ولكن يبقى أنّ الأعمالَ المنسوبةَ إلى هذين الشخصين تذكّرنا بنماذج معروفة: فإيليّا منع المطر (آ مل 17: 1) وموسى حوَّل الماء إلى دم (خر 7: 17). هذا يعني أنّ الشاهدين يُتمّان عملاً نبويًّا عرفه العهد القديم.

أولاً- أنبياءٌ وشهود
من المفيد أن نلاحظَ كيف يقدّم لنا سفرُ الرؤيا هذه الخدمةَ النبويّة. فإذا قرأنا ف 11 وجدنا أنّه لا يقول كلمةً عن مضمون كرازة الشاهدَينِ.
يظهرُ الشاهدانِ فجأةً كما تصوّرهما نُبوءة زكريّا (4: 2- 14). ثمّ يصوّر النصّ نشاطهما على مثال نشاط إيليّا (آ مل 17: 1) وموسى (7: 17). بعد هذا يتحدّث مطوّلاً عن موتهما وقيامتهما. وهكذا يبدو أنّ المهمّ ليس تعليمَ هذين النبيّين بل موتُهما وقيامتُهما.
ونلاحظُ أيضاً أنّ الكاتبَ يقرّبُ موتَهما من موت ربّهما (11: 8) ويصوّر قيامتَهما بكلمات تدلّ على قيامة المسيح. وإذا زدنا على كلّ هذا أنّهما يقدَّمان كشاهدين أي كرجلين لا يتردّدان في أن يتبعا معلّمَهما، الشاهدَ الأمينَ (2: 13)، نصل إلى الاستنتاج أنّ ف 11 يريد أن يبيّن ماهيّة الرسالةِ النبويّةِ في الكنيسة المسيحيّة، ويشدّد على أنّنا نعيشُ هذه الرسالةَ بالاتّحاد بموت يسوعَ وقيامته.
إنّ هدفَ تعليم هذه الرؤية هو إعلانٌ للمسيحيّين العائشين وسط عالم معادٍ أنّ دعوتهم أن يكونوا شهودًا للمصلوب. أوّل ما يجب عليهم هو أن يعيشوا أو يموتوا مثل معلّمهم لا أن يتكلّموا.

ثانيًا- 1260 يومًا
يبقى علينا أن نوضح شروط هذه الدعوة وإطارها الزمنيّ: يدوم زمن نبوءة الشاهدين 1260 يومًا (11: 3). نلاحظ أنّ هذا يساوي 42 شهرًا (مذكور في آ 2) إذا حسبنا الشهرَ 30 يومًا. إذًا، نحن أمام حِقْبَةٍ تقليديّة تعود بنا إلى حِقْبَةٍ صعبةٍ من تاريخ شعب إسرائيل.
إذا عدنا إلى سفر دانيال، نرى أنّ اضطهادَ أنطيوخسَ إبيفانيوسَ (الذي دنّس الهيكلَ ومنعَ اليهودَ من ممارسة ديانتهم) دام ثلاثَ سنوات وبضعة أيّام. ولكنّ دانيال قال: ثلاث سنوات ونصف السنة (زمان، زمانان ونصف زمان: دا 7: 25؛ 12: 7) متطلّعًا إلى رمزيّة هامّة. فالثلاث سنوات ونصف السنة تشكّل نصف السنة السبعينيّة والأخيرة. هذا يعني أنّه إن كان للاضطهادِ مكانةٌ في مخطّطِ الله، فهذا المكانُ محدودٌ تحديدًا دقيقًا: إنّ الله لا يتخلّى عن أخصّائه. فالمحن لا تصيبهم يومًا واحدًا يزيد عن إرادته، والربّ لا يسمح أن تَطُولَ هذهِ الأيّام الصعبةُ وحدة زمنيّةً كاملة.
هذا هو المعنى الدينيّ. لهذا يعود إليه الكاتب في ف 12- 13 من أجل مضمونه ومدلوله: إنّه زمن المحنة وزمن الحماية الإلهيّة. وما يحدث في هذا الوقت يدلّ على ثنائيّة دائمة: فالنبيّان الشاهدان يُتمّان مهمّتَهما دون أن يعترضَهما أحد (11: 5) ولكنّهما في النهاية سيُقتلان.
والمدينة المقدّسة (ولاسيّما الهيكل الذي هو أقدس مكان فيها) قد حمى اللهُ قسمًا منها (هذا هو معنى قياس الهيكل في آ 1)، وأسلم القسمَ الآخر للأممِ ليدوسوه (2:11).

ثالثًا- واقعان اثنان
يصوَّر الوقت الذي فيه تمارَس دعوةُ الكنيسة النبويّة، وهو وقتُ الشهادة والوقت الحاضر، بشكلين مختلفين اختلافًا جذريًّا: نرى فيه الوقتَ الذي فيه تكمِّل الكنيسةُ حياتَها العابرةَ فتصلُ إلى نهايتِها. ونرى فيه أيضاً الوقت الذي فيه يُظهر الربّ سلطانه ويَمنح النصر لمؤمنيه. وهذا الشكلُ الثاني لا يُحفظ للأيّام المقبلة. فنحن نكتشف نصرَ الله في الواقع الحاضر، شرط أن يضيء نظرَنا نورُ الإيمان.
ونلاحظُ أنّ الله يأتي من خارج هذه الحِقبة من الزمن ويحمل إلينا الوحي: إنّه يتدخّل ويقيم شاهديه بعد انتهاء 1260 يومًا. وهذا أمر أساسيّ: فإذا ظهر موت الشاهدين كانتصار يتوِّجه الربّ، لا فشلاً ذريعًا كما اعتبره الناسُ، فهذا الانتصار لا ينتمي إلى العالم الحاضر: فالشاهدان لم يكونا ضحيّة قضيّة نبيلة سيقتنع بها خصومهما. والنصّ لا يتكلّم عن قداستهما التي لم تصل إلى القمّة في العطاء. ما يقوله النصّ بوضوح هو أنّ مصيرهما أمر جديد لأنّ الله يرضى أن يكونا شاهديه. أوحى الله أنّ هذين الشاهدين كانا أمينينِ له مثلَ ابنه، فدلاّ على حقيقة العالم الجديد الذي دشّنه يسوع المسيح.

رابعًا- ما هي النبوءة؟
نقرأ 19: 10: "شهادة يسوع هي روح النُبوءة". من يتنبّأ يترك روحَ الله يتكلّم فيه ويعمل فيه، هذا الروح الذي أعلن عبر أنبياء العهد القديم مجيء يسوعَ وشهادتَه. فعلينا أن نكتشف هدف النُبوءات القديمة ونسير على خط هؤلاء الأنبياء على طريق شهادة يسوع وفي إثر يسوع. ونجد في ف 11 ما يبرز هذا التحديد: العودةَ إلى نبوءة زكريّا، الموازاةَ بين مصير الشاهدين ومصير ربّهما. فالنبيّ هو وكيل المسيح على هذه الأرض، وهو يشهد بطريقة ملموسة وحتّى في حياته وفي موته على موت المسيح. والله يشركه في قيامة ربّه.
لهذا كانت حياة الشهيد وموتُه علامةَ دينونةٍ للعالم (لهذا يغضب سكّان الأرض) وعلامة خلاص. لهذا السبب تُقدَّم رسالةُ الكنيسة النبويّة في هذا الموضع من الرؤيا كعنصر ضروريّ لتاريخ الخلاص. ولا يصل مخطّطُ الله إلى تمامه، ولا يُنفخ في البوق الأخير قبل أن تُعطى الكنيسةُ الوقتَ الكافيَ لتقومَ بدعوتِها كشاهدةٍ ليسوع في العالم.

خامسًا- مسألة الأماكن
وهناك إشاراتٌ طوبوغرافيّةُ في ف 11 لا نفهم سرّها. إنّ 11- 2 اللتين تذكران الهيكل والمدينة المقدّسة تجعلان العمل يتمّ في أورشليم. ولكنّ استشهاد الشاهدين تمّ في المدينة العظيمة أي في رومةَ الملقّبةِ ببابل. وتسمَّت هذه المدينةُ رمزيًّا باسم سدوم ومصر: فرومةُ تلعب دورَ أمِّ الرذائل وأمّ المعارضين لله، الدَورَ الذي لعبته سدومُ ومصرُ الفرعون. ولكنّنا نندهش حين تحدّد آ 8 أنّ المدينة العظيمة (رومة) هي المكان الذي صُلب فيه الربّ. فكيف نجيب على هذه الصعوبة؟ هنا نعود إلى النظرة إلى الزمن في سفر الرؤيا: كما أنّ طرق تحديد الزمن ترتبط كلّها بالحقبة ذاتها، حقبة زمن الحاضر الذي بعد الفصح، كذلك تحدّد كلّ الإشاراتُ الطوبوغرافيّةُ فقط الموضوعَ الذي تعيشُ فيه زمن الشهادة في العالم.
فالعالمُ هو حقًّا مملكة الشرّ، ورومةُ هي اليومَ شعارُ هذا العالم كما كان شعارَه في الماضي سدوم ومصر. هناك كانت المقاومةُ لله وابنِه على الجلجلة. فأقدس أمكنةٍ مكرّسةٍ لِله ليست بمنأًى عن محاولاتِ سكّان البشر الشريرة، فحظّها حظّ الشاهدين. فالناس يقتلون النبيّين ويهدمون أقدس الأماكن وحتّى هذا المعبد الذي هو الكنيسة (كشعب الله). ومع ذلك، هناك هيكل ومذبح ومدينة مقدّسة وعبّاد. إنّ الله يسهر على أخصّائه فلا يترك المضطهدين يدنّسونهم. فالمكان والزمان هما في يده ولا شيء يفلت من إرادته.

2- ف 12 وولادة الإنسان الجديد
أوّلاً: تصميم الفصل
يَحْتَلُّ ف 12 قلبَ الكتاب. إنّه مقطع صعب وها نحن نبدأ بتلخيص المراحل المميّزة: ظهرت امرأة في السماء متجلببة بحلى عجيبة. وَلدت ولدًا أراد التنين أن يفترسه. أفلت الولد وأّخذ إلى قرب الله. أمّا المرأة فالتجأت إلى الصحراء 1260 يومًا تحت حماية الله. وقهر ميخائيلُ الشيطانَ فسقط على الأرض. واحتفل نشيد بنتائج هذه الهزيمة المذهلة.
ويرد هربُ المرأة مرّةً ثانية في كلمات واضحة: لسنا أمام هرب ثان، بل أمام تقديم ثان للهرب عينه: فشلت محاولات التنين ضدّ المرأة فنقل بغضَه على سائر أولاد المرأة.

امتداد ف 11
لا يكفي هذا الملخّص لإفهامنا النصّ. وها نحن نكمِّله ببعض ملاحظات: نلاحظ أوّلاً العلاقات بين ف 11 وف 12: نحن في الزمن الواحد. حين حدّد الكاتب أنّ زمن إقامة المرأة في الصحراء هو 1260 يومًا (آ 6) فهو يشدّد على أن ليس لهذا الحدث إطار زمنيّ مختلف عن ذلك الذي جرى فيه نشاط الشاهدين. نحن دومًا في الزمن الحاضر، زمن ما بعد الفصح. ورقم آ 14 لا يختلف عن سابقه. فالأزمنة الثلاثة ونصف الزمن (ثلاث سنوات ونصف) تقابل 1260 يومًا و 42 شهرًا في 11: 2. وكلّها تأتينا من نبوءة دانيال. لهذه الأرقام مدلول واحد: إنّ الزمن الذي تتحدّث عنه هو زمن محنة يسمح بها الله، ولكنّه يحدّد مداها. نحن أمام معترِضة زمنيّة لا أمام نهاية حبّ الله الذي يحمي أخصّاءه. قلنا سابقًا إنّ هذا الزمنَ هو زمنُ الاضطهاد والموت، وإنّه أيضاً زمنُ حمايةِ الله. وهكذا نقول أيضاً عن الرؤية الجديدة، وهذا ما يثبته مصيرُ المرأة ومصيرُ أبنائها.

هدف ف 12
هل هذا يعني أنّ ف 12 هو استعادة ف 11؛ نبدأ فنجيب نعم، ولكن نفهم أنّ موضوع الاضطهاد لا يحتلّ قلب الفصل.
إذا قرأنا ف 12 وجدنا أنّ الشخص الذي نتحدّث عنه كثيرًا في هذه الرؤية هو التنيّن الذي يرتبط به كلّ شيء: يراقب ولادة الولد، يفشل في محاولته، يلاحق المرأة، يقهره ميخائيل. ولمّا حُرم من ثمار بغضه ضدّ المرأة هاجم أبناءها. ونشيد آ 10 ي يحتفل بنتائج هذه الهزيمة.
إذًا هناك التنين الذي قُهر، وهناك انتصار قد تمّ في شخص الابن الذي هو المسيح. وهكذا نستطيع أن نلج إلى أسرار هذه الرؤية ونميّز تعليمها الأساسيّ: صوَّر ف 11 الزمن الحاضر كزمن للشاهدَين، وصوّر ف 12 الزمن عينه كزمنٍ قام فيه التنين المقهور بآخر هجماته على المسيحيّين. قُهر العدوّ، وهذا يعني أنّ النصر يخصّ الذين هاجمهم. وهذا سيكون موضوع النشيد.

ثانيًا- الخلفيّة الرمزيّة
ونتساءل: من أين جاءت هذه الصور؟ قال بعض الشرّاح: عاد الكاتب إلى عالم الأساطير الوثنيّة. ولكنّ هذا الرأي مرفوض لأنّنا نعرف عقليّة يوحنّا المتصلّبة في طرد كلّ ما هو وثنيّ. لهذا نعود إلى العهد القديم.
فموضوع المرأة التي تدلّ آلامُها على ولادة المسيح متأثّر بنصّ أش 66: 7- 9. يتنبّأ هذا النصّ عن ولادة شعب جديد تلده صهيون المرموز عنها بامرأة. وكلمات الترجمة اليونانيّة في نصّ أشعيا هي هي في نصّ الرؤيا. وفوق هذا يحدّد تقليد يهوديّ قديم (ترجوم أشعيا) أنّ هذا الولد هو الملك المسيح.
وهربُ المرأةِ إلى الصحراء حيث تُقاتُ بطريقة عجيبة، يَعرضه ف 12 بكلمات قريبة مَن الخروج ومعجزتَيْ المنّ والسلوى. وتحدّد آ 14 أنّ جناحَيِ النَسْرِ أعطيا للمرأة كما أعطيا لشعب الخروج. (خر 19: 4؛ تث 32: 11). وهناك زينة المرأة التي نجد ما يقابلها في التقاليد اليهوديّة. ويثير النصّ إلى هَوِيّة التنّين الحقيقيّة، حيّة البدايات: اله الشيطان وإبليس (12: 9)، وصورته بشكل حيّة تذكّرنا بالرمزيّة التي طبّقها الأنبياء على فرعون (أو مصر) (أش 51: 9؛ خر 29: 3؛ 32: 2) الذي كان عدوّ شعب الله في زمن الخروج الأول.
أجل، عاد يوحنّا إلى العهد القديم فاستقى كلماتِه وصُورَه كما استقى الإنباءَ النبويَّ لعملٍ إسكاتولوجيٍّ يُتِمُّ فيه اللهُ مخطّطَه الخلاصيَّ.

ثالثًا- الأشخاص
المرأة ترمز عادة إلى جماعة المؤمنين. تتكلّم النصوصُ النبويّةُ عن امرأة حبلى، عن أمّ لها أولاد عديدون (هم أعضاء الشعب).
أمّا هويّة الابن فليست واضحة: بما أنّه يُتِمّ النبوءة المسيحانيّة في مز 2: 9 (رج رؤ 12: 5) فهو المسيح.
ويكشف الرائي هويّة التنّين فيسمّيه إبليس والشيطان.
ولكن تبقى صعوبات عديدة. المرأة (أو الشعب المقدّس) تلد المسيح أي يسوع. ما تعوّدنا أن نتكلّم هكذا عن عيد الميلاد. وماذا نقول عن مصير الولد المسيح؟ إنّه يتلخّص في ولادة وفي ارتفاع إلى السماء. فهل نستطيع أن نقدّم هكذا حياة يسوع؟

رابعًا- الميلاد أو الفصح؟
نحن لسنا أمام مذود بيت لحم. ثمّ إنّ الصليب هو هنا. وننطلق من ملاحظة أولى: اعتادت الأناشيد التي في سفر الرؤيا أن تقدّم تفسيرًا أو تطبيقًا للقارئ. فكأنّي بها تقول: هذا ما تعنيه لكم الأمور يا مسيحيّي آسية الصغرى، وهذه هي النتائج التي تستخلصونها. الأناشيد دليل تفسير تساعدنا على أن نرفض تأويلاً أو أن نوحي بآخر، أو أن نشير إلى تأويل ثالث.
أمّا في ف 12 فالنشيد موسعَّ وتعليمه واضح: إنّه يحتفل بانتصار يحرزه الشهداء حين يموتون وهم متّحدون بربّهم المصلوب (12: 11). إذًا يجب أن يكون الخبر الذي ورد قد أعلن بصورة أو بأخرى موت المسيح كانتصار على الشيطان. فيمكننا إذًا أن نقرأ ف 12 على الشكل التالي: هكذا ينبئ يو 16: 19- 22 أنّ جماعة التلاميذ ستكون في وقت الصلب مثل امرأة تلد في الأوجاع. ولكنّها ستعرف يوم الفصح الفرح مثل المرأة التي تفرح بولادة ابنها. لا يمكن أن نتكلّم عن نصر على الشيطان (حتّى ولو توقّفنا عند أساسه الكرستولوجيّ) دون أن نذكر حالاً الدور الذي يُدعى البشر إلى أن يلعبوه.
لقد اشتركت أوّل جماعة مسيحيّة على الأرض، وبعدها كنيسة القرن الأوّل، ثمّ كنيسة كلّ زمن، في عمل الله الحاسم في يسوع المسيح بحيث نستطيع أن نقولَ إنّها أمّ المصلوب. ليست أمُّا طبيعيّة، بل حسب شرائع الإيمان التي تجعل الإنسان مشاركًا للمسيح الذي هو المنتصر الأكبر. لهذا يمارس ميخائيل في النصّ لا دورَ المنتصر بل دورَ المنفّذ. وتدخّله المسلّح يحقّق على الأرض شروطاً فرضها عمل سابق.

خامسًا- تعليم ف 12
ذكّرنا ف 11 أنّ المسيحيّين مدعوّون إلى الشهادة في الزمن الحاضر. إنّها دعوة خطرة والقيام بها يقود ظاهريًّا إلى الفشل والموت. ولكن يرى اللهُ فيها أمانة نعيشها بالاتّحاد مع يسوع، ويعطي الحياة الجديدة.
ويتابع ف 12 الموضوع ذاته فيشدّد على الأساس الكرستولوجيّ: يمكن أن يكون الوقت الحاضر وقت الاستشهاد. ولكنّ الموت الذي نتّحد فيه بالمخلّص هو نصر على الشيطان.
إذ يتلقّى المسيحيّون هجماتِ الشيطان، يعرفون أنهم جزء من شعب الله، من الكنيسة التي تلد الإنسان الجديد، ذلك القائم من الموت في قلب آلام المسيح وفي الأوجاع والأخطار التي هي امتداد لهذه الآلام. والوقت الذي فيه يقترب الشيطان من النصر النهائيّ، هو في الحقيقة الوقت الذي فيه ينتقل النصر إلى يد الضحيّة. نحن أمام وحي لانقلاب أساسيّ في سلّم القيم: لقد قرّر الله أنّ ما يسمّيه العالمُ وسلطانه نصرًا ليس النصرَ الحقيقيّ الذي ينكشف فقط في هزيمة المصلوب وموته. هنا يتدشّن نظام جديد، إنسان جديد، وحياة جديدة وأبديّة. حينئذ يسقط الشيطان حقًّا ولم يعد له مكان في السماء، أي لم يعد في مصافّ القيم السامية والأخيرة. لا يستطيع الشيطان من بعد أن يعطي معنى لحياة البشر. يقدر أن يؤذي حتى الموت، ولكن أذيّته لا تحمل بُعْدًا أبديًّا، عكس الانتصار والحياة التي منحها لنا الله في يسوع المسيح. والبرهانُ على ذلك هو أنّه لم يعد يقدر أن يتّهم البشر أمام الله (12: 10).

3) الكرستولوجيا
نجد في بداية سفر الرؤيا (1: 4- 6) عبارة تبدو كملخّص للكرستولوجيا في الكتاب: "عليكم النعمة والسلام... من يسوع المسيح الشاهد الأمين وبكر من قام من بين الأموات وملك ملوك الأرض: هو الذي أحبّنا وحرّرنا (أو غسلنا) بدمه من خطايانا، وجعل منّا ملكوتًا وكهنةً لله أبيه، فله المجد..."
نلاحظ أوّلاً ثلاثة ألقاب كرستولوجيّة: ملك ملوك الأرض، وهذا يرتبط بالسيادة. بكر الأموات، وهذا يرتبط بالقيامة. والشاهد الأمين يرتبط بالصلب. وفي 2: 13، الإنسان الذي دعي هو أيضاً الشاهد الأمين، قد قُتل أيضاً من أجل إيمانه.

أوّلاً: شاهد لله في العالم
يختم المسيح شهادتَه بدمه. وتقابَل هذه الذبيحة بنحر حمل الفصح (5: 6)، وتؤكّد فداء شاملاً (5: 9) بمغفرة الخطايا (1: 5؛ 7: 14).
إذن، ليس الصليب هزيمةً بل شهادةٌ في العالم لِنَصْرِ الله الذي ينجيّنا بحبّه.
ويمكن أن يدعى أناس إلى هذه الشهادة التي تقوم بأن تُعْلَنَ وسطَ عالَم معادٍ سيادةُ الله وحده، وتقود هذه الشهادة منطقيًّا إلى الاستشهاد: فشهيدا ف 11 (يرمزان إلى رسالة الكنيسة النبويّة) قُتلا مثل ربّهما. ولكنّ 12: 11 يؤكّد أنّ الشهود يؤوّنون في استشهادهم انتصار المسيح، يثبتون أنّهم تعلّموا من الله كيف يقيّمون الحياة والموت، النجاح والفشل، لا من العالم الذي يقدّم معنًى غشّاشًا.

ثانيًا: بكر المائتين
لقد قام المسيح. عرف الموت، ولكنّه حيّ الآن (1: 18؛ 2: 8). فالحمل المذبوح يقف أمام الله (5: 6). للمرّة الأولى تَراجعَ الموتُ وجاءت هزيمتُه بصورة فهائيّة: إنّ المسيحَ يُمسك بيديه مفاتيح الموت.
هذا يعني أنّه يعطي أخصّائه حياة لا يصل إليها الموت الطبيعي. إنّها حياة قائم من الموت لا يخاف شيئًا حتّى ولو كانت الدينونة الأخيرة التي يمكن أن تقود إلى الموت الثاني، إلى الموت الكلّيّ (2: 11؛ 20: 4، 5، 6).
منذ الآن يملكُ المسيحُ وهو يجلسُ مع اللهِ على عرشه (3: 21). إنّه يمارس سلطانًا على الأمم (2: 27-28) ويفوزُ بالغلبة (17: 14؛ 19: 11 ي). هذه الفكرة سنجدها في صورة الحمل الملكيّ المنتصر والغالب كما تبدو في كتب الرؤى اليهوديّة.
ولا يصل إلى هذه الحقيقة إلاّ المؤمن. أمّا الإنسان الطبيعيّ فيعتبر أنّ الشيطان ووكلاءه (الوحشان) يمارسون اليوم السلطان على العالم (ف 13).
وأنّ مُلكَ الله ومسيحِه واقعيّ بحيث إنّنا نقدر أن نتحقّق منه ونختبرَه منذ الآن: حين نقرّ بأنّه يحقّ لِله وحدَه بأن يملِكَ ويدينَ ويُحيِيَ، نَلِجُ في عالمٍ جديد حيث الإنسانُ الجديدُ يشاركُ في هذا السلطان الجديد الذي لا يشبه التسلّطَ الذي يميل إليه كلُّ سلطان بشريّ (1: 6؛ 2: 26؛ 3: 21؛ 5: 10؛ 12: 11). أمّا الآن، فالظواهر تعارض الواقع. لهذا تتحدّث عنه الرؤيا كواقع عابر ومحدود (ملك ألف سنة: 20: 1- 6).
المسيحيّون هم شهود لله في المسيح، أحياء بحياته، مشتركون في ملكه. إذًا، هم في العالم شعب كهنة يشهدون لحضور الله وعمله (1: 6؛ 5: 10؛ 20: 6). ونحن هنا أيضاً أمام وظيفة عابرة. فمخطّط الله يصل إلى التمام، إلى عالم يكون فيه الله والمسيح حاضرَين بحيث لا نحتاج بعد إلى هيكل (21: 22) ولا إلى كهنة.
ونلاحظ أخيرًا أنّ الألقاب المعطاة للمسيح في سفر الرؤيا هي ألقاب محفوظة تقليديًّا لله نفسه (الأوّل والآخر، الألفة والياء، البداية والنهاية، الحيّ، الربّ، ملك الملوك...) هذا يعني أنّ الله يكشف عن نفسه في يسوع المسيح.

ثالثًا: الروح
يتكلّم سفر الرؤيا مرارًا عن الأرواح السبعة (1: 4، 3، 1؛ 4: 5؛ 5: 6). يجب أن نفهم: الروح في ملئه. فالروح هي الوسيلة المميّزة للعلاقات بين الله والبشر. فهو يجعل الرائي يرى وهو يكشف له الأسرار (1: 10؛ 4: 2؛ 17: 3؛ 21: 10). إنّه روح نبويّ (22: 6). وهنا تختلف الرؤيا عن غيرها من الكتب. فالنُبوءة هي شهادة يسوع (19: 10). وهنا نميّز وجهتين في هذا الكلام. الأولى: أنّ الروح الذي يلهم الأنبياء يرتبط دومًا بشخص يسوع وعمله وصليبه. الوجهة الثانية: أن الروح يدفع المؤمنين إلى شهادة شبيهة بشهادة المسيح. لهذا نجد في الرسائل إلى الكنائس أنّ الروحَ يجعلُ يسوع نفسَه يتكلّم (2: 7، 11، 17، 29؛ 3: 6، 13، 22) ليدعوَ المسيحيّين إلى أمانة مجسّدة في العالم رغم ما يحيط بها من أخطار.

4- الدينونة
أوّلاً: إنباءات متعدّدة
حين نقرأ سفر الرؤيا نجد أنّ النصّ ينبئنا بالدينونة في كلّ رؤية. وهو يقول بأنّ هذه الدينونة قد تحقّقت أو هي في طريق التحقيق. وهذا يدعونا إلى الاستنتاج أنّ الرؤيا تتكلّم عن سلسلة دينونات تضرب أعداءَ الله وأعداءَ مؤمنيه في نظام محدّد سلفًا. ولكن إذا تمعّنّا في القراءة، اكتشفنا أنّ هذهِ الإشاراتِ التي تدلّ على دينوناتٍ مزعومةٍ ليست إلاّ مقدّمات مختلفة لمشهد واحد هو الدينونة الأخيرة.
هكذا نجد أنّ سفر الرؤيا يذكر ثلاث مرّات (14:16 ي؛ 14:17؛ 19: 11 ي) حرب المسيح الإسكاتولوجيّة ضدّ القوى المعادية. الأعداء هم هم. ونحن لسنا أمام ثلاث حروب متتالية، بل أمام ثلاثة تلميحات إلى الانقلابِ نفسه. هكذا أنبأ الكاتبُ بعقابٍ كواقع حاضر منذ 14: 8. ولكنَّ ف 18 يورد حدوثه كنتيجة حاضرة للنبؤات.

ثانيًا: الدينونة الأخيرة
ونلاحظ أيضاً أنّ الإنباءات بالدينونة ترتبط كلُّها بالمسيح: إنّه يقود المعركة الحاسمة التي تصل إلى سحق الأعداء مع رئيسهم. وإنّه في قلب الحدث الرئيسيّ الذي يدلّ على منعطف رئيسيّ في تاريخ الخلاص.
وهكذا يتجاوب الاحتفال الأوّل بآنيّة الدينونة (11: 18) مع اعتراف الإيمان الذي يقرّ بآنيّة ملكِ الله ومسيحه. ونجد التوازي عينه في ف 14: يرافق 144000 الحمل حيثما ذهب. هذه هي ساعة سقوط بابل. وكذلك في ف 15: ينشد المنتصرون نشيد الحمل ويحتفلون بظهور دينونات الله.
وأبرزَ تصويرُ ممارسةِ الدينونة (19: 11- 12) الطابع الإلهيّ للمسيح الديّان: إنّه يحمل صفاتٍ وأسماءَ خاصةً بالله (الأمين، الحقيقيّ، ملك الملوك، ربّ الأرباب). إنّه يُتمّ النبوءاتِ التي أنبأت أنّ الله يدين (أش 63: 1- 6). إنّه كلمة الله بالذات.
لهذا لن نجد إلاّ دينونة واحدة هي الدينونة الأخيرة والإسكاتولوجيّة التي يمارسها الله في يسوع المسيح. ولهذا تدلّ الرؤى التي تورد الدينونة على الوحدة العميقة: نحن أمام دينونة يقوم بها يسوع المسيح ويعلن يوحنّا أنها شجب للشيطان ولأخصّائه (يو 12: 31؛ 16: 11) وخلاص للذين يقبلون يسوع (يو 12: 47 ي).
والكتاب الذي هو أساس هذه الدينونة (20: 12) يسمَّى كتاب الحياة، كتاب الحمل المذبوح (13: 8): إنّه يتضمّن أسماء الناس الذين يأخذ يسوع مصيرهم على عاتقه.

الكشف عن الدينونة
هذا اللاهوت اليوحنّاويّ يفسّر أن تكون الدينونةُ (كالخلاص) موضوعَ كشفٍ إلهيّ لا واقعًا نتحقّق منه بالاختبار. هنا نعود إلى قراءة ف 16: فالكؤوس الستّ تثير كوارث لا بدّ من النظر إليها. نلاحظ أوّلاً توازنًا بين سباعيّة سلسلة الأبواق وإرادةً للتشديد على القرابة بين هذه الآفات وضربات مصر. هذا يعني أنّنا أمام علامات تقليديّة عن غضبِ الله ودينونتِه العاملة في الكون. فكما في سفر الخروج، الله هو في الوقت ذاته الديّانُ والمخلّص: إذ يُخرج شعبه من أرض العبوديّة يَضرب الظالمين.
إذن، لن نكتشف الإله الديّان ولا نتميّز علامات الدينونة في العالم قبل أن نكتشف علاماتِ الخلاص. لهذا تشدّد الرؤيا (خاصّة ف 16) على النداء إلى التوبة الذي يدوّي في آياتِ الدينونة وفي تقسية قلوب "سكّان الأرض". فمن رفض الخلاص وجد في التاريخ مصيرًا أعمى تتوزّعه كوارثُ لا يفهمها.

آنيّة الدينونة
الدينونة هي كالخلاص، موضوع وحي وموضوع إيمان. ولكنَّ هذا لا يعني أنّ واقعه يُبعدنا إلى مستقبل غير ثابت. ولكي نقتنع من هذا القول نعود إلى المقاطع التي تنبئ بتتمّة الدينونة: فحين يَخْضَعُ المسيحيّون لدعوتهم النبويّةِ ويكونون في هذا العالم شهودًا أمناء للمسيح الذي مات وقام، يستطيعون حينئذ أن يعلنوا آنيّة الدينونة (11: 18).
وحين يدلّ المنتصرون على الوحش على أنّ هناك في هذا العالم أناسًا يعتبرون أنّ خلاص الله في يسوع المسيح هو الواقع النهائيّ الذي يتعدّى بأهمّيّته كلّ واقع، يقدرون أن ينشدوا نشيد المفديّين، نشيد موسى والحمل. فيعلنون الدينونة ويتيحون للكؤوس السبع بأن تبيّن علاماتها. وبكلام آخر، حين يقرّ البشر بالله كمخلّص لهم، يصبحون على هذه الأرض شهودًا أحياء للدينونة: يبيّنون حقيقة متطلّبات الله ويتبعونها، ويرفضون ما يرفضه الله ويشجبه.
تبرز كلّ هذه الوجهات في إطار الإعلانات الليتورجيّة، وهذا أمر طبيعيّ: فالعبادة هي الموضع المفضّل الذي فيه يؤوَّن الوحي، لأنّ الليتورجيّا تحتفل بالله كالمخلّص والملك، وبالتالي كالديّان.

الدينونة الآتية
إنّ الدينونة هي موضوع الوحي وهي تدعو المؤمنين لكي يتحقّقوا من حقيقتها في حياتهم الملموسة. لهذا تُعرض كحدث من الماضي أو الحاضر. الله يخلِّص أيضاً وهو لا يزال يدين، فيتوب أناسٌ ويعيشون من الخلاص. وأناسٌ آخرون يرفضون أيَّ ارتداد. إذن، نستطيع أن نواصل الكلام عن الدينونة في المستقبل (14: 9- 10). ويتواصل تاريخ الخلاص. ولكنّ سفر الرؤيا يعلن أنّ الله لا يترك هذه الحالة تدوم إلى ما لا نهاية. فكرازة الدينونة لا تُحصر في نداء بسيط إلى التوبة. فهناك أساس كرستولوجيّ للدينونة: تمّت الغلبة على الشرّ، وهذا الانتصار يعلن حالةً لن يعود فيها من وجود للشرّ، ولن يخاف فيها الإنسان عداوةَ الشيطان. فحياة الشهود الحاضرة هي نبوءة عن الحياة الأبديّة وعلامة للملكوت وتذوّق مسَبق لما يؤول إليه تاريخ الخلاص.

5- ف 20 أو كشف عن الزمن
أوّلاً: تفاسير ف 20
هناك نموذجان لتأويل هذا الفصل. النموذج الأوّل يعتبر أنّ الله وعد بالألفِ سنة وهي ستأتي. سيحقّق الله يومًا على الأرض شروط سعادة كاملة. نستطيع أن نأخذ هذِهِ الشروطَ بحرفيّتها (1000 سنة من الخيرات الملموسة) أو بطريقة روحيّة (سيبيّن الله سيادته على الأرض خلال فترة من الزمن). ولكنّ أساس التفسير هو هو. وتقول اختلافة لهذا التفسير: نحن أمام فترة آتية بالنسبة إلى الرائي وحده الذي يتنبّأ بمجيء زمن سلام للكنيسة بعد زمن الاضطهاد. في هذا المجال نستطيع أن نعتبر أنّ النبوءة تمّت في قسم منها.
ويستند النموذج الثاني إلى الاعتبار أنّ الألف سنة هي الفترة التي دشّنها مجيء المسيح. إنّها الفترة الحاضرة. ولكن يقول قائل: إنّ الشيطان لم يُربط، فكيف نقول إنّ الألف سنة هي الفترة الحاضرة. نجيب: ما يقوله سفر الرؤيا يعود إلى نطاق الإيمان لا إلى نطاق الملاحظة الخارجيّة.

ثانيًا: نهاية الشيطان
التأكيد الأساسيّ في هذا الفصل هو نهاية الشيطان. حين نعرف أنّ هذا هو هدف النصّ، نفهم أن مصير الشيطان يذكّرنا بمصير التنّين والوحش الأوّل وبابل- رومة: فالمراحل التي تدلّ على تاريخ رؤساء الحزب الشيطانيّ تتوازى لا بفعل الصدفة وتتلخّص في الرسمة التالية: سلطان، هزيمة، نهوض، نهاية.
إنّ التنّين هو قويّ بحيث يكنس نجوم السماء. طُرد إلى الأرض فاضطهدَ المرأة وأولادها، ولكنّ وقته صار قصيرًا. والوحشُ لم يعد موجودا، ثمّ عاد، ولكنّه سيذهب في النهاية إلى الهلاك. والشيطان طغى الأمم، رُبط ثمّ فُكّ رباطُه، وفي النهاية زال. وتبرز هذه الموازاة حين نلاحظ أنّ الوقت الرئيسيّ الذي فيه يبدأ التطوّر (أعني الهزيمة) يرتبط بعمل المسيح: قُيّد الشيطان ساعة كان يسوع يملك. طُرد التنين حين تدخّل المسيح في العالم.
ونجد أيضاً هذا التحديد الكرستولوجيّ حين نبحث عن نتائجِ هذا النظرِ بالنسبة إلى المسيحيّين. ففي الفترة المشار إليها (1260 يومًا = 42 شهرًا = 3 سنوات ونصف) سيهدَّد المؤمنون بل سيُقتلون مثل معلّمهم. ولكنّهم يعودون مثله إلى الحياة. مثله سينتصرون ويملكون. كلّ هذا يفهمنا أنّ الألف سنة هي ملاحظة لاهوتيّة أكثر منها زمنيّة على مثال سائر الأزمنة المذكورة.
وباختصار الكلام، يمكننا القول إنّ تاريخ الظهورات الشيطانيّة في العالم وُضع في قالب واحد مطبوع بالواقع الكرستولوجيّ. يجب أن لا نأخذ هذه العروض المتتالية على أنّها تصاوير متعاقبة بل ككشوف تلقي ضوءًا على وجهات العالم المتنوّعة بالنور الوحيد الذي ينير الناس في كلّ زمان ومكان. وهذا النور هو انتصار يسوع المسيح.
هذا لا يعني أنّ ف 12، 13، 17، 20 تتكرّر. ففي ف 20 نقرأ أنّ إبليس قُيِّد لألفِ سنةٍ، وأنّ المؤمنين يدينون ويعيشون ويملكون مع المسيح. هذه هي القيامة الأولى.

ثالثًا: الدينونة، المُلك والقيامة
من يدين؟ هم الشهداء (قُطعت رؤوسهم من أجل شهادة يسوع كلمة الله) والمعترفون (الذين لم يعبدوا الوحش ولم يقبلوا وجه). كان ف 19 قد قدّم لنا المسيح الديّان يرافقه أخصّاؤه. وها نحن نجدهم يشاركونه في الدينونة.
ونستخلصُ الشيءَ عينه بالنسبة إلى المُلك: إنّ المؤمنين يشاركون المسيح في سيادته. يعني التأكيد مستقبل الوعد في 5: 10 و 2: 26 ولكنّه يعني حاضر الحياة المسيحيّة في 1: 5، بل حاضر حياة يوحنّا، صاحبِ سفر الرؤيا في 1: 9.
لا تُوَجَّهُ هاتانِ الميزتانِ للألف سنةٍ التفسيرَ نحوَ تتمّةٍ في المستقبل. وهكذا نقول أيضاً عن القيامة. تكلّم الشرّاحُ منذ القرن الثاني عن قيامتين: قيامةِ المؤمنين، ثمّ قيامةٍ ثانيةٍ هي القيامة العامّة. ولكنّ سفر الرؤيا لا يتكلّم أبدًا عن قيامة ثانية. ومن جهة ثانية، فهو يؤكّد أنّ المؤمنين يقدرون منذ الآن أن ينالوا خلاصهم الأبديّ ويحيَوا هذه الحياة التي وُعد بها مواطنو ملكوت الله. وحين يقدّم النصّ هؤلاء الناس الذين عادوا من الموت إلى الحياة فهو لا يقول "عادوا إلى الحياة"، بل "حيُوا" أو " نالوا الحياة" (20: 4). يجب أن نفهم: عاشوا الحياة التي هي أقوى من الموت والحياة التي هي أبعد من الدينونة، الحياة الحقيقيّة التي يتحدّث عنها الإنجيل الرابع: يستطيع الموتى أن يسمعوا في المسيح الصوت الذي يُحيي (يو 5: 25). إذًا، نحن أمام أناسٍ يقدرون أن يسمعوا يسوع ويمكنهم أن يموتوا. رج يو 11: 25 ي: "من عاش ومات فيّ لن يموت أبدًا".
هذه هي الحياة التي يعطيها اللهُ لأخصّائه: يجعل منهم قائمين من الموت. وهكذا يتكلّم يوحنّا عن قيامة واحدة.

رابعًا: وقُيِّد الشيطان ألفَ سنةٍ
هناك تأكيدان: الأوّل: قُيِّد الشيطان، وهذا ما يقوله تعليم المثل الإنجيليّ (مت 12: 29) عن الرجل القويّ (إبليس) الذي قيَّده يسوع وانتزع منه ملكه (أي البشر). فمجيء المسيح يعني بالنسبة إلى الشيطان هزيمةً كبيرة. بعد هذا لا يُطغي الأمم كما كان يفعل منذ تدخّله الاوّل في بستان السقوط (12: 9). ضعفت قوّته وسقط سلطانه فما عاد يملك، وطُرد من السماء.
والتأكيد الثاني: ألف سنة. ويتحدّث بعض الناس عن تفسير مستقبليّ، ولكنّهم يخطئون. إنّ الألف سنةٍ تحتلّ في سيرة قوى الشيطان المكان الذي احتلّته 1260 يومًا أو 42 شهرًا أو ثلاث سنوات ونصف السنة، أي وقتًا قصيرًا (12: 12) يتركه انتصار المسيح للعدوّ المقهور. إذًا، نحن أمام ملاحظاتٍ ذاتِ بعدٍ رمزيٍّ لا زمنيّ. وسنأخذ مثلاً: تعطي نبوءةُ أش 65: 22 للمملكةِ المسيحانيّة زمنًا يشبه الحِقْبَةَ السابقة. مثلاً: إنّ الإقامة في الفردوس دامت أقلّ من ألفِ سنةٍ . فالله نبَّه آدم أنه سيموت يوم يأكل من الثمرة المحرّمة (تك 2: 17). ولكنّ يوم الربّ يساوي ألفَ سنةٍ (مز 90: 4). وفي الواقع مات آدم وهو أبن 930 سنة (5: 5)، أي قبل نهاية يوم الفردوس. وحين نعلن أنّ الشيطان لا يقدر أن يملك على الأمم ألفَ سنةٍ ، فهذا يعني في لغة تقليديّة مصوّرة، أنّه قد أعيدت شروطُ القرب والثقة التي كانت تنظّم علاقاتِ اللهِ بالإنسان في الفردوس قبل السقطة. وهذا ما يؤكّده سفرُ الرؤيا: فهزيمة الحيّة الأصليّة (12: 9) تمنعها من إغواء الأمم كما فعلت مع الإنسان الأوّل (12: 9؛ 20: 3). وقُدِّمت ثمرةُ شجرة الحياة إلى الذين انتصروا على الشيطان مع المسيح (2: 27؛ 22: 14، 19). ويستطيع هؤلاء المؤمنون منذ الآن أن يدخلوا في جنّة الله ويحيَوا حياة القيامة دون أن يخافوا الموت المباشر أو الأخير.

خامسًا: هدف ف 20
لا يكتفي ف 20 بتكرار ما قالته الفصول السابقة عن هزيمة القوى الشيطانيّة. فإذا أردنا أن نفهمه نقابل تعليمه الأساسيّ مع تأكيدات ف 11، 12، 13، 17. ففي ف 11 تدلّ 42 شهرًا أو 1260 على الزمن الحاضر: إنّه زمن الشهادة ليسوع وسط عالم وثنيّ يهدّد المؤمنين. لقد سلِّم الشهود إلى خصومهم، ولكنّ القدرة الإلهيّة حمتهم. ولكنّ هذا الالتباس أُزيل بتدخّل الله الذي أقامهم فكشف المعنى الحقيقيّ لحياتهم. حينئذ دَوَى في السماء نشيدٌ يعلنُ مُلْكَ الله والمسيح. ويستعمل ف 12 الرمزَ العدديّ نفسَه ليدلّ على الزمن الحاضر الذي دشّنه موت وقيامة المسيح المنتصر على الشيطان. غُلب العدوّ الأصليّ، فلن يستطيع أن يؤثّر على مخطّط خلاص الله. فانحصر عمله بالاضطهاد. ولكنّ الله لا يتخلّى عن أخصّائه، بل يعدّهم بين المنتصرين حتّى ولو أجبروا على الموت مثل ربّهم.
ونجد في ف 13 الرمزيّة عينها تصوّر الزمن الحاضر الذي تسوده تهديدات الوحشين الشيطانيَّيْنِ واضطهاداتهم. ويبدو أنّ المملكةَ تمارسُ سلطانًا لا حدود له بحيث تؤثّر على إمكانيّة العيش حياة مسيحيّة في هذا المجتمع. ولكنّ المؤمنين يعرفون أن يميّزوا الطابع الظاهر للسلطان البشريّ. ويتحدّث ف 17 عن الزمن الحاضر وما فيه من علامات تدلّ على الدينونة التي ستتمّ.
وأخيرًا في ف 20 تدلّ الألف سنةٍ على الزمن الحاضر كزمن يربط فيه المسيح الشيطان ويمنعه من ممارسة عمله المدمّر. ويملك المؤمنون مع المسيح ويكون انتصارهم مشاركة في دينونة العالم. إنّه شعب كهنوتيّ لإلهٍ لا يحتاج بعد إلى وسطاء. وبعد الألفِ سنةٍ يُطْلَقُ الشيطانُ ثمّ يَفْنَىْ: ليس الزمن الحاضر النهايةَ الأخيرة لتاريخ الخلاص. فالله وحده يبيّن، في تدخّل يتعدّى الإطار الزمنيّ المحدّد، أنّ مخطّطه يعني عالمًا لن يكون فيه مكان للشيطان.

سادسًا: وحي الرؤيا
نجد في قلب الكاتب يقينًا: إنّ الله الذي هو فوق الزمان والمكان جاء يخلّصُنا في يسوع المسيح. منذ الآن تبدَّل كلّ شيء. فعمل يسوع في الماضي هو الشرط الوحيد الذي يفتح الحاضر على أبديّة الله. وهكذا نستطيع القول إنّ المسيحيّين، وإنْ مضطهَدين، يملكون في السماء مع المسيح فيعبّرون عن واقع الخلاص. ونزيد: هذا المُلك هو المستقبل الموعود به الذي يدلّ على أنّ الله وحده يحقّق مجيئه.
ولهذا يجب أن نواصل استعمال كلماتٍ تَجَاوَزَها الوحيُ: الآن وبعد الآن، سابقًا وليس بعد، هنا وهناك، الأرض والسماء. إنّها محاولات بشريّة عكشة تعبّر عن وحي لا تستطيع كلمات البشر أن تحيط به. فالحاضر يحمل الأبدية، والأرض زارتها السماء، والحياة هي مَثَل عن الحياة الأبدية. والنصر الذي يعتدُّ به عظماء هذا العالم ليس إلا ظاهرًا. فالسلطان الحقيقيّ هو بين يدَيِ الله. لقد انقلب كلّ شيء فصار عالم القيم الإنسانيّة موضوعَ وحيٍ يكشف معاييره الجديدة.
لا تستطيع لغة البشر أن تعبّر إلاّ عمّا يكتنهه المنطق البشريّ. وإذ أراد الرائي أن يحدّثنا عن معجزة الإنجيل لجأ إلى مقولتي الزمان والمكان، واستعملهما بحرّيّة مبيّنًا أنّهما ليستا إطارًا يسيطر على عمل الله.
يسكن الماضي في الحاضر. ويدل الحاضر على وجود شحنة من الأبديّة فيه. نستطيع أن نعيش على الأرض وأن نكون أيضاً بين رفاق الحمل في السماء أمام عرش الله.

6- سفر الرؤيا وشعائر العبادة

أوّلاً: أهمّية العبادة
نلاحظ أوّلاً تلميحًا (1: 3) إلى قراءة ليتورجيّة وإلى سامعين للأقوال النبويّة. فالعبادة في المجمع كانت تتضمّن قراءة الشريعة والأنبياء. واستلهمت المسيحيّةُ الأولى هذا النموذجَ وزادت عليه قراءاتٍ من أسفار مسيحيّة (كو 4: 16؛ 1 تس 5: 27). وهكذا يبدو سفرُ الرؤيا كتابًا مُعَدًّا للعبادة.
إنّه يتكلّم عن الصلوات وشعائر العبادة، عن كؤوس ومبخرة ومذابح. والأبواق هي في التقليد اليهوديّ أدوات عباديّة. ومشاهد السجود عديدة، ونسمع إعلاناتٍ وأناشيدَ دينيّة.
ونلاحظُ وقفتين ليتورجيّتين خلال التوسعّ الجليانيّ: ففي سلسلة الختوم تتوالى الختوم الستّةُ بتواتر منتظم. ولكن قبل أن يُفتح الختم السابع، يتوقّف الخبر ليقدّم شعبَ المختارين المنشغلَ في تقديم عبادته لله والاحتفالِ بخلاصٍ حقّقه له. هذا يعني أنّ علاماتِ النهاية لا تتمّ قبل أن تُسْمِعَ عبادةُ الكنيسة في هذا العالم صوتَ البشر الذين يريدون أن يعيشوا منذ الآن من الخيرات الأبديّة التي يهبها الله.
ونجد ظاهرةً مماثلة في ف 16: قبل أن تُصبّ الكأسُ الرابعة فتطلق الكوارث التي هي علامة الدينونة، يُسمع حوار بين الملاك والمذبح ليشكر الله على عدالته في دينونته. وتنال سلسلة الكؤوس مدلولها الحقيقيّ: فالضربات لا تدلّ على قساوة قدر أعمى ولا على انتقام إله مُغْاظٍ، بل على تدخّلِ مخلّصٍ يحرّرُ أخصّاءه ويقاتل أعداءه، كما فعل في مصر.

ثانيًا: آثار ليتورجيّة في ف 4- 5
ف 4- 5
يشكّل هذان الفصلان بداية صُلب سفر الرؤيا ويقدّمان مشهد سجود سماويّ. يصوّر يوحنّا هذه العبادةَ بكثير من التفاصيل، وتتوالى الهتافات الاحتفاليّة والأعمال. يمكننا أن نعجب بجمال هذه الرؤية وننسحر بهذه الليتورجيّا التي تستلهم ليتورجيّا واقعيّةً عرفها المسيحيّون الذين يتوجّه إليهم سفر الرؤيا.
نجد نشيد الله الخالق مبنيًّا على رؤية حزقيال (رأى اللهَ الجالسَ على الكائنات الحيّة) وعلى نشيد قدوس في أش 6: 3. ثمّ نجد مديحًا للشريعة. يقدّم ف 5 الكتاب الختوم الذي يقدر الحمل وحده أن يفتحه. إذًا، نحن أمام تلميح إلى الشريعة (هنا العهد القديم) التي يعطي المسيح وحده مدلولها الحقيقيّ. ونجد أخيرًا نشيدًا للإله الفادي. هذا هو موضوع النشيد الجديد في قلب الرؤيا (5: 9- 10).

ليتورجيّا إفخارستيّة
نستطيع أن نقابل نهاية سفر الرؤيا (22: 17- 21) مع نصّين مسيحيّين قديمين ونستنتجَ من هذه المقابلة أنّ رؤية الشهود الثلاثة تعود إلى حوار ليتورجيّ مأخوذ من ليتورجيّا إفخارستيّة عرفها المسيحيّون في الأجيال الأولى.
نقرأ في 22: 20: تعال أيّها الربّ (ماراناتا) الذي نجده في 1 كور 16: 22 وفي مؤلَّف يعود إلى نهاية القرن الأوّل. إنّه الديداكيه (أو تعليم) الرسل الاثني عشر.
إليك الحوار الليتورجيّ في الديداكيه: تمنّيات، دعوة وتحذير، (إن كان أحدٌ مقدّسًا فليأت، وإلا فليتب). ماراناتا. آمين.
وفي 1 كور 16 22- 23: دعوة وتحذير (من يحبُّ الربَّ فليأت). من لا يحبّ الربّ فليكن محرومًا. ماراناتا. تمنٍّ : لتكن نعمة الربّ يسوع.
وفي سفر الرؤيا: دعوة: من كان عطشانًا فليأتِ. تحذير: من لا يأخذ بالشروط الموضوعة لا يشارك في شجرة الحياة (رمز إفخارستيّ). آمين. تعال أيّها الرب (ماراناتا). تمنٍّ : فلتكن نعمة ربّنا يسوع معكم أجمعين.
في قلب هذه النصوص نجد "ماراناتا" التي تترجم "تعال أيّها الربّ" أو "الربُّ أتى"، وفي كلتا الحالتين نحن أمام حضور المسيح. فالربّ الذي نقدر أن نلتقيَ به هو المخلّص الذي يدعو: تعال. وهو يقدّم خيراته، والإفخارستيّا هي العلامة الملموسة. ولكنّه أيضاً الإلهُ العادلُ والقدّوسُ، إنّه الديّان الذي لا يتحمّل الشرّ. لا نستطيع أن نقترب منه دون أن نعطيَه. وإلاّ اختفى عنّا وما اتّحدنا به، فيبقى علينا أن نواجهَ الشرَّ وحدَنا.
بدأ سفر الرؤيا بالليتورجيّا وانتهى بتلميح إلى ليتورجيّا إفخارستيّة. فالكتاب يريد أن يعلن مجيء المسيح الأخير. ولكنّنا لا نتكلّم عن المجيء المستقبليّ إلاّ لندلّ على أنّ البشر لا يميّزون في حياتهم نتائج مجيء يسوع الأخيرة. ولكن يوجد مكان على الأرض ويوجد ظرف في حياة البشر يُعلن فيه عملُ الخلاص ويتحقّق: إنّه العبادة. ففي العبادة يتّخذ الناس الموقفَ اللائق بهم: موقفَ الساجدين الذين يُقِرّونَ أنّ لِله السلطةَ بأن يخلقَ كلّ شيء، ويعيد خلقَ كلّ شيء في يسوع، بما في ذلك حياتهم. إنّ الليتورجيّا هي التي تربط الناسَ بالأبديّة، بالسماء، بالله. وإنّها تجعلهم يختبرون هذه المعجزة. لا في انخطاف يبعدهم عن العالم، بل في نعمة تساعدهم على الأمانة التي يفرضها الإله القدّوس.

7- مَنْ كَتَبَ سفرَ الرؤيا؟
اسمه يوحنّا (1: 1، 4، 9؛ 22: 8). إنّه شاهد يسوع المسيح (1: 2) ونبيّ (1: 1؛ 22: 9). وتبيّن 1: 2- 3 أنّ الشهادةَ والنبوءةَ هما أمر واحد (رج ف 11). وهذا يفترض نظرةً خاصّةً إلى النبوءة: فالنبيّ ليس أوّلاً من ينبئ بالمستقبل، بل من يكشف معنى مجيءِ يسوعَ في هذا العالم. وهذا الكشفُ يأخذ طابع الشهادة المجسّدة.
المسيحيّ هو شاهدٌ للمسيح المصلوب، وقد يُدعى إلى أن يتبع معلِّمَه في طرق تمرّ في الاضطهاد: نُفِيَ يوحنّا إلى جزيرة بَطْمُسَ بسبب الإنجيل (1: 9)، وسار شهودٌ آخرون على طريق الاستشهاد (2: 13).
ماذا يقول التقليد؟ يقول يوستينوسُ إنّ يوحنّا بنَ زبدى هو الذي كتبَ الإنجيلَ الرابعَ وسفرَ الرؤيا. ويعلن أبوكريفون يوحنّا (كتاب غنوصيّ من القرن الثاني) أنّ رؤ 1: 19 هي من تأليف يوحنّا الرسول. أمّا غايوس (كاهن رومانيّ في نهاية القرن الثاني) فقال إنّ قرنتيس الهرطوقيّ المتأثّر بالأفكار اليهوديّة هو الذي دوّن سفر الرؤيا. وقابل ديونيسيوسُ الإسكندرانيّ لغةَ الإنجيل الرابع وسفر الرؤيا وأفكارهما، وأعلن أنّنا أمام كاتبين مختلفين. وتبعه في ذلك أوسابيوسُ القيصريّ. ولكنّ هذه التحفّظات تبقى قليلة. وكاتب سفر الرؤيا هو يوحنّا الرسول نفسه. ومع ذلك سيخاف الشرق المسيحيّ من كتابٍ أَحَسَّ بِغَرَابته فما أدخله بين أسفاره القانونيّة حتّى القرن الخامس.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM