الفصل الثاني عشر :رسالة القدّيس يعقوب

الفصل الثاني عشر
رسالة القدّيس يعقوب

مقدّمة
لم تُعرف رسالة يعقوب ولم تشتهر كما عُرفت واشتهرت رسائل القديس بولس والقدّيس بطرس والقدّيس يوحنّا. ولهذا لم يكن لها هذا البريق اللامع، فاستنكف بعضهم عن تفسيرها، لأنّها مطبوعة بالطابع اليهوديّ، ولأنّها لا تَذْكُرُ اسْمَ يسوع إلاّ مرّتين.
هي في الواقع لا تحمل من الرسالة إلاّ اسمها. ثمّ إنّنا نجهل كاتبها الذي يسميّ نفسه يعقوب. وهي أقرب إلى تعاليم يشوع بن سيراخ منه إلى تعاليم الإنجيل. ومع هذا فهذا المسؤول المسيحيّ يعيش إيمانه بيسوع المسيح ويعبّر بقوة عن هذا الإيمان. أمّا تعليمه فهو قريب من تعليم عظة الجبل كما وردت في إنجيل متّى (ف 5- 7). ومها يكن من أمر فقرَّاؤه يعيشون أوضاعًا قريبة من أوضاعنا: انقسام بين المسيحيّين. محن متنوعة. احتقار الفقراء وسعي وراء الغنى، شعائر عبادة لا ترافقها ممارسة حقيقيّة لوصيّة المحبّة.
إلى هذه الرسالة سوف نتعرّف فنستعدّ لقراءتها والولوج في معانيها فتكون لنا هي أيضاً نورًا لخطانا وسراجًا في سبيلنا.

أ- كاتب الرسالة
1- الرأي التقليديّ
إسمه يعقوب. هذا ما نقرأ في 1: 1: "من يعقوب عبد الله ويسوع المسيح". هل نحن أمام اسم حقيقيّ أم اسم مستعار؟ أمَا نُسب سفر الحكمة إلى سليمان وكذلك الأمثال والجامعة؟ ولقد وصلت إلينا كتب منسوبة إلى بطرس ويعقوب ويوحنّا وغيرهما نسمّيها كتبًا منحولة. ولقد رأى أحدهم في هذه الرسالة كتابًا يوجّهه يعقوب أبو الإثني عشر إلى أبنائه أي إلى القبائل المشتّتة. في الواقع نحن أمام اسم مستعار. وهو كاتب مغمور أراد أن يعطيَ كتابه بعضاً من الثقة فربطه باسم يعقوب كما فعل غيره حين كتب 2 بط. ولكن يبقى أن نتساءل: مَن هو يعقوب هذا؟ هل هو يعقوب أخو الربّ أو أحد المسيحيّين الهلّينيّين الذي عاد بعد سنة 70 إلى نصّ من نصوص يعقوب أخي الربّ؟
كاتب يع هو شخص من أصل يهوديّ، وهذا واضح من معرفته لتعاليم وعبارات العهد القديم كما وردت في السبعينيّة. ولنتذكّر طريقته في الكلام: "المشتّتين من الأسباط الإثني عشر" (1: 1)، إبراهيم أبونا (2: 21)، الولادة كمثل باكورة الخلائق (1: 18)، شريعة الحرّيّة الكاملة (1: 25)، الشريعة الملكيّة (2: 8)، الاسم الحسن الذي به دعي عليكم (2: 7)، حكمتم على البارّ وقتلتموه (5: 6). وهناك تفاصيل تشير إلى أنّ موطنه فلسطين بالذات.
كاتب يع شخص مسيحيّ رغم ما قال بعضهم إنّ الرسالة دوّنها كاتب يهوديّ فجاء من زاد اسم يسوع عليها (1: 1؛ 2: 1). ولكنّ الرسالة كلّها مشبعة بروح مسيحيّة، وهذا واضح من التقارب بينها وبين عظة الجبل وتعاليم الإنجيل ورسائل بولس وبطرس. ثمّ إنّ الأعمال التي يتكلّم عنها يعقوب (2: 14- 26) تدلّ على أعمال المحبّة لا على ممارسات الشريعة الموسويّة.
كاتب يع معلّم الجماعة المسيحيّة التي يوجّه إليها كتابه. يسمّي نفسه معلّمًا ويمنع قُرَّاءه أن يتلقّبوا بهذا الاسم. فالمعِلّم هو "رابّي" المخصَّص في التعليم الدينيّ (يو 1: 38؛ 20: 16) والذي طلبه كثيرون بحثًا عن الكرامة لا عن الخدمة (مت 23: 7 ي). ولكنّ هذا اللقب الآتي من عالم المتهوّدين لم يعد يستعمل في نهاية القرن الأوّل المسيحيّ.
ولا يكتفي الكاتب أن يتكلّم كخادم موكّل على التعليم فينقل إلى قرّائه تعاليم الحكمة على مثال الحكماء في العهد القديم، بل هو يرسل كلامه كرئيس حقيقيّ. فهو يأمرهم بسلطان ولا يحسّ بالحاجة لأن يبرّر طريقته في الكلام. ويكفي هنا أن نتذكّر الأفعال في صيغة الأمر، وهي تتحدّث عنه معلّمًا ومشجّعًا ومحذّرًا (2: 5، 3: 1 ي) وموبّخًا (4: 1ي) ومهدّدًا (5: 1ي) وموجّهًا (5: 13- 16).
إنّ كاتب يع هو يعقوب أخو الربّ ورئيس كنيسة أورشليم. هذا ما قاله آباء الكنيسة منذ القرن الثاني: إكلمنضوس الإسكندراني، أوريجانس، إبيفانيوس. يسمّونه البارّ ويميّزونه عن يعقوب بن حلفى. ماذا يقول العهد الجديد عن يعقوب أخي الربّ وابن مريم زوجة كلاوبّا (مر 15: 4)؟ إنّه بكر أربعة إخوة عاشوا في الناصرة (مر 6: 3؛ يهو 1). وهناك من يقول إنّه يعقوب بن حلفى بالذات (وكلاوبا وحلفى اسم واحد يُكتب بطريقتين مختلفتين). هنا نفهم أن يكون من مصافّ الاثني عشر الذين آمنوا بيسوع. بينما لم يؤمن به إخوته (مر 3: 20 ي؛ يو 7: 3 ي). وهنا نفهم لماذا لقّبه بولس بالرسول (غل 1: 19) وأنعم عليه يسوع بظهور خاصّ بعد قيامته (1 كور 7:15).
كانت له في كنيسة أورشليم سلطة واسعة (غل 1: 19؛ أع 12: 17) سيحفظها حتّى سنة استشهاده سنة 62 أو 66. مارس الشرائع الموسويّة ممارسة دقيقة لا اعتقادًا بضرورتها بل إهتمامًا بإخوته فلا يشكّكهم (أع 15: 20 ي). ففي سنة 48- 49 وأمام جماعة أورشليم سيتبع بطرس وبولس فيعفي من الختان الوثنيّين المرتدّين (أع 15: 13 ي) ويعلن جهارًا اتّفاقه مع بولس (غل 2: 9 ي). في سنة 58 استقبل بفرح بولس العائد من رسالته في الأرض الوثنيّة، وابتهج بنجاحه الرسوليّ، وأعطاه بعض النصائح ليهدِّئَ عواطف المتهوّدين في أورشليم.

2- اعتراضات على الرأي التقليديّ
الأوّل: لا يتكلّم صاحب الرسالة مطلقًا عن فرائض الشريعة الموسويّة. هو لا يهتمّ إلا بالفرائض الأخلاقيّة (1: 27، 2: 8 ي). ولا يتعرف إلاّ إلى شريعة الحرّيّة (1: 25؛ 2: 12). لكنّ يعقوب أخا الربّ كان متعلّقًا بممارسات شريعة موسى.
الثاني: لا نجد في يع إلاّ القليل القليل عن حياة يسوع وأعماله، عن آلامه وقيامته. ثمّ هو يكتفي بأن يعطيَنا أمثلة.
من العهد القديم ليحدّثنا عن المحبّة (2: 21 ي) والصبر (5: 7 ي) والصلاة (5: 17 ي)، فلا يقدّم لنا مِثلَ بطرس (1 بط 2: 21 ي) مثال يسوع وهو القريب من يسوع.
الثالث: لو كان يعقوب كاتب هذه الرسالة لما انتظرت زمن أوريجانس لتُعرف في الكنيسة.
الرابع: كيف يكون يعقوب أخو الربّ الذي توفّي سنة 62- 66 كاتب رسالة قريبة من رسالة برنابا وراعي هرماس ورسالة إكلمنضوس الرومانيّ التي كتبت في نهاية القرن الأوّل أو بداية الثاني؟
الخامس: كيف استطاع يعقوب ذلك الآراميّ الأصل وابن أبوين أمّييّن أن يدوّن رسالة تفوق بأسلوبها اليونانيّ أفضل أسفار العهد الجديد؟
من أجل كلّ هذا نقول إنّ كاتب يع مسيحيٌّ من الجيل الثاني المسيحيّ. دوّنها بروح يعقوب أخي الربّ وقد عرف تعليمه التقليديّ.

ب- أين كتبت يع ومتى ولمن؟
أصحاب الرأي التقليديّ الذين يعتبرون أنّ يعقوب أو سكرتيره كتب يع يقولون إنّها كُتبت في أورشليم بين السنة 35 والسنة 49. ويعلّلون رأيهم بطابع المسيحيّة القديم: فالجماعة ما زالت في بدايتها (2: 2؛ 3: 1؛ 5: 14). والصورة عن يسوع المسيح تكاد تكون مرسومة (1: 1؛ 2: 1؛ 6:5)، وانتظار مجيء الربّ قريب (13:2؛ 5: 7- 11)، والتعليم سابق لرسائل مار بولس (2: 14 ي)، ثمّ إنّ يع تجهل التبشير في العالم الوثنيّ والأزمة التي نتجت عن هذا التبشير (أع 15: 1 ي)، ولكنّ بعض أصحاب الرأي التقليديّ يعتبرون أنّ يع كتبت قبل استشهاد يعقوب بقليل أي في سنة 62- 66.
أمّا أصحاب الرأي الجديد فيظنّون أنّ يع دوّنت في أواخر القرن الأوّل في عالم متهوّد يمتدّ من سورية إلى فلسطين وربّما إلى مصر. أمّا الإشارة إلى مصر فتدلّ عليها أولى الشهادات التي جاءتنا من الإسكندريّة عن رسالة تأخَّرَ العالم المسيحيّ في التعرّف إليها.
في العنوان والتحيّة يتوجّه يعقوب إلى الأسباط الإثني عشر الذين في الشتات (1: 1). نحن بادئ ذي بدء أمام اليهود العائشين خارج فلسطين وفي العالم الرومانيّ. فإسرائيل القديم يعتبر أنّه من نسل الأسباط الخارجة من أبناء يعقوب الإثني عشر ويرى أنّ أبناءه يعيشون بأكثرّيتهم خارج حدود فلسطين. أمّا في الواقع وبما أنّنا أمام سفر مسيحيّ فالعبارة في 1: 1 تدلّ على قرّاء مسيحيّين. غير أنّنا نتساءل: هل العبارة تصيب فقط المتهوّدين، أي الذين ارتدّوا من العالم اليهوديّ وعاشوا بعيدًا عن فلسطين، أم تدلّ بالأحرى على كلّ المسيحيّين، على كلّ أعضاء الكنيسة الذين يشكلّون إسرائيل الجديد وشعب الله الجديد؟ يبدو أنّ الرأي الثاني هو الأصحّ ولاسيّما وإنّ كتاباتٍ قريبة من يع (رسالة برنابا، راعي هرماس) تتوجّه بالأخصّ إلى مسيحيّين جاؤوا من العالم الوثنيّ.

ج- بنية الرسالة ومضمونها
يسلّم جميع النقّاد أنّ يع مؤلفة من سلسلة من التحريضات الأخلاقيّة، منها القصيرة ومنها الطويلة. ويحاول بعضهم أن يجدوا لها تصميمًا منطلقين من 1: 9 أو 1: 26. ويظنّ البعض الآخر أنّنا أمام مدراش على هو 10: 2 يتوسعّ في مواضيع مز 12: 2- 6 فتكون مقابلة بين مز 12: 2 ويع 1 (موضوع الإيمان)، وبين مز 3:12 ويع 2 (موضوع الأعمال)، وبين مز 12: 4 ويع 3 (موضوع اللسان)، ومز 12: 5 ويع 4 (موضوع العدوة مع الله)، ومز 12: 6 ويع 5 (موضوع ظلم الفقراء). ولكنّ معظم النقّاد يَعْدِلون عن البحث عن وحدة في تصميم يع فينشئون مخطّطاً كهذا أو يشبهه.
1: 1: العنوان والتحيّة.
1: 2- 4: الفرح وسط المحن.
1: 5- 8: الصلاة لطلب الحكمة من الله.
1: 9- 11: كيف نقيِّم الفقر والغنى؟
1: 12: السعادة بعد المحنة التي تغلّبنا عيها.
1: 13- 15: أصل الخطيئة في التجربة.
1: 16- 18: صلاح الله.
1: 19- 21: واجباتنا نحو كلمة الله.
1: 22- 25: نسمع هذه الكلمة ونعيش بموجبها.
1: 26- 27: الديانة الحقّة.
2: 1- 13: لا محاباة في التعامل مع الناس.
2: 14- 26: الإيمان من دون الأعمال لا يُنَجِّي.
3: 1- 12: المعلّمون وضبط اللسان.
3: 13- 18: الحكمة الحقّة.
4: 1- 10: لا تطلبوا الملذّات، تجنّبوا حبّ العالم وتوبوا.
4: 11- 12: لا نميمة ولا افتراء.
4: 13- 17: لا تكونوا تجّارًا معتدّين بنفوسكم.
5: 1- 6: هجوم على الأغنياء الأشرار.
5: 7- 11: الصبر.
5: 12: تجنّب القَسَم.
5: 13- 18: صلّوا في كلّ الظروف.
5: 19- 20: خلّصوا المؤمنين الضالين.
كان بالإمكان أن نجمع بين هذه المواضيع، تلك التي تتطرّق إلى المحن (1: 2- 4، 12؛ 5: 7- 11)، وإلى الحكمة (1: 5- 8؛ 3: 13- 18) وإلى العمل بكلمة الله (1: 19- 25؛ 2: 14-26)، وإلى النِظرة الحقيقيّة إلى الفقر والغنى (9:1- 11؛ 2: 1- 13؛ 4: 1- 10؛ 5: 1- 11) وإلى ضبط اللسان (1: 19- 21؛ 3: 1- 12؛ 4: 11- 12) والصلاة (1: 5- 8؛ 13:5- 18).
إن لم نجد تصميمًا حقيقيًّا في يع فهذا لا يعني أنّنا لا نجد وحدة متكاملة. فهناك حقيقة ثابتة هي ضرورة الكمال، وتجنّب كلّ رياء وجعل حياتنا العمليّة موافقة لإيماننا الدينيّ، والثقة بالله لا بإغراءات هذا العالم.
ونشير هنا إلى اللغة اليونانيّة النقيّة المطعّمة ببعض العبارات الساميّة المستوحاة من الترجمة السبعينيّة، كما نشير إلى أنّنا لسنا أمام رسالة بكلّ معنى الكلمة (رغم ما نقرأ في 1: 1)، بل أمام تعليم أخلاقيّ كما في الأسفار الحكميّة التي عرفتها التوراة (الأمثال، ابن سيراخ) أو الآداب اليهوديّة (أخنوخ، رسالة أرستيس، وصيّات الآباء الإثني عشر) أو كتب التعليم المسيحيّ في بداية الكنيسة (رسالة برنابا، راعي هرماس).
وهنا نجد تقاربًا بين يع وكتب الرواقيّين من جهة، وأسفار العهد القديم والعهد الجديد من جهة ثانية، لا مجال إلى ذكره الآن.

د- رسالة يعقوب في الكنيسة
نجد تلميحًا أوّليًّا إلى يع في نصوص نجع حماديّ التي اكتشفت في مصر سنة 1945 وتضمّنت فيما تضمّنت نصّين لرؤيا يعقوب (سفر منحول) ورسالة ليعقوب هي غير التي نقرأها في الأسفار القانونيّة.
أمّا أوّل شهادة عن يعقوب فهي شهادة أوريجانس (+ 254) المعلّم في الإسكندريّة (حتى سنة 231). نسب إلى يعقوب الرسول هذه الرسالة وأورد بعضاً من نصوصها (2: 26؛ 4: 4، 10) معتبرًا إيّاها كلام الله، وأعلن أنّ الجماعات المسيحيّة تأخذ بها وإن لم تتبع كلُّها تعليمَها. ويورد أوسابيوس شهادة سابقة لشهادة أوريجانس من إكلمنضوس الإسكندرانيّ. كانت كنيسة الإسكندرية تعتَبر يع رسالة قانونيّة وقد فسّرها ديونيسيوس (+ 265) وديديمس (+ 398) وكيرلّس (+ 444) وأوردوا مقاطع منها وجعلوها بين أسفارهم القانونيّة (أثناسيوس، رسالة العيد رقم 39).
هذا في الإسكندرية، أمّا في فلسطين فسيتحدّث أوسابيوس في تاريخه الكنسيّ عن يعقوب البارّ وأسقف أورشليم وأخ الربّ والشهيد. وينهي عرضه فيقول: "هذا ما يتعلّق بيعقوب الذي منه أولى الرسائل الكاثوليكيّة.. يجب أن نعرف أنّ هذه الرسائل تُقرأ جهارًا مع غيرها في عدد كبير من الكنائس". ثمّ يميّز الأسفار التي تأخذ بها كلّ الكنائس من التي هي موضوع جدال مثل رسالة يعقوب. وفي مكان آخر يتحدّث عن يع على أنّها أحد الأسفار المقدّسة. ويمكننا أن نورد شهادة كيرلّس الأورشليميّ (+ 386) وغريغوريوس النازيانزيّ (+ 390) وإبيفانيوس (+ 403) ويوحنّا فم الذهب (+ 398). ونضمّ إلى هذه الشهادات نصوصَ الكتاب المقدّس التي تحتوي يع وهي مخطوطة الإسكندريّة اليونانيّة ومخطوطة سيناء اليونانيّة والترجمة السريانيّة البسيطة والترجمات القبطيّة.
لا نجد ذكرًا لرسالة يعقوب في قانون موراتوري ولا عند إيريناوس، وسننتظر القرن الرابع لتدخل يع في عداد الأسفار المقدّسة لدى الكنائس اللاتينيّة. وذلك بتأثير من أثناسيوس الإسكندريّ وإيرونيموس وهيلاريوس. بعد هذا تضمّنت اللوائح في رومة (382) وهيبّونه وقرطاجة (393، 397، 409) رسالة يعقوب.. وفي 5 نيسان 1546 سيعلن المجمع التريدنتينيّ بصورة رسميّة قانونيّة رسالةِ يعقوب.

هـ- التعليم الدينيّ في رسالة يعقوب
هناك نقاط دينيّة عديدة تتطرّق إليها يع

1- التعليم الأخلاقيّ
أراد الكاتب قبل كلّ شيء أن يقدّم تعليمًا أخلاقيًّا. فجاءت توصياته المستوحاة من العهد القديم في أسفاره الحكميّة على مواضيع دون أخرى ذكرناها في مضمون الرسالة. غير أن أبعادها أسمى من تلك التي نجدها في أسفار العهد القديم. فهي لا تعتمد على النظرة إلى فائدة دنيويّة بل إلى يقين أساسيّ وهو أنّنا نتمّ إرادة الله ونتقرّب منه (1: 30؛ 2: 5 ي؛ 4: 5 ي) فننالُ منه خيراتٍ روحيّةً في هذه الدنيا وفي الأخرى (1: 2- 4، 12، 2: 5، 13، 36؛ 5: 7- 20).
والتعليم الاجتماعيّ الذي نجده في يع يرتبط أيضاً بالتقاليد المسيحيّة. فكاتبها يعود إلى كرامة الفقراء على خطى الأناجيل ورسائل القدّيس بولس (مت 5: 3؛ 11: 5؛ 1 كور 1: 26- 31). فهؤلاء الفقراء قد حصلوا على وعد يَتِمُّ لهم في نهاية الأزمنة بعد أن يكونوا احتملوا محنهم (1: 9، 12؛ 2: 5 ي؛ راجع مت 5: 10- 12؛ 1: 7 ي؛ 2 كور 4: 7 ي؛ روم 8: 17 ي). ولهم الحقّ أن يتّخذوا الوسائل ليحسّنوا وضعهم الحاضر (2: 5-7؛ 13:4 ي؛ 5: 4 ي). أمّا الأغنياء فهو لا يحكم عليهم ولا يحرمهم من مغفرة الله، بل يدعوهم إلى التأمّل في زوال خيراتهم (1: 10 ي). فيجب عليهم أن لا يحتقروا الفقراء أو يعاملوهم معاملة سيئة (2: 6 ي)، ولا أن يستغلّوهم (5: 1- 6). وما نلاحظه هو أنّ الكاتب لا يدعو إلى العنف ضدّ الأغنياء، بل يدعو الفقراء إلى الصبر إلى يوم مجيء الربّ (7:5 ي؛ اج مت 38:5- 42؛ 1 كور 6: 7 ي؛ روم 12: 14 ي).

2- مسائل لاهوتيّة
لا تتطرّق يع إلى مسائلَ لاهوتيّةٍ إلاّ لمامًا، وذلك لكي تبرّر الموقف الأخلاقيّ الذي تقدّمه. فالله هو إله العهد القديم وكما يوحي به العهد الجديد (1: 17 ي؛ 2: 5، 13، 23). يسوع هو المسيح والمخلّص والربّ الممجّد (1: 1؛ 2: 1) الذي يُدعى اسمُه على المؤمنين وعلى المرضى (2: 7؛ رج أع 2: 21؛ يع 5: 14؛ رج أع 3: 7). وهناك مقاطع ترجعنا إلى ممارسات عباديّة واحتفالات عماديّة. نورد بعض الأمثلة على ذلك: في 2: 2 يشير الكاتب إلى المكان الذي يجتمع فيه المسيحيّون للصلاة والإستماع إلى الوعظ. ويشير أيضاً إلى الجسد والأعضاء، إلى البركة واللعنة (3: 10) إلى الكلمة التي تلدنا لنكون باكورة للربّ (1: 18) إلى العبادة والديانة الحقّة (1: 26 ي) إلى المعلّمين والشيوخ (3: 1ي؛ 5: 14)، إلى الأناشيد والصلوات والاعتراف المتبادل (13:5- 16).
ويشدّد الكاتب على بعض المواضيع بصورة خاصّة: موضوع الحكمة أو الطريقة التي بها نتصرّف حسب نظر الله وإلهاماته العلويّة (1: 5- 8؛ 3: 13- 17). موضوع الخطيئة التي تشمل جميع البشر (3: 2). يتطرّق الكاتب إلى أصلها الحقيقيّ (1: 13- 15؛ 4: 17)، وخطورتها وإمكانيّة الحلّ منها (5: 15 ي). ويشير إلى موضوع الصلاة فيتوقف عند صفاتها السلبيّة والإيجابيّة، عند ظروفها وفوائدها (5:1- 8؛ 3:4؛ 13:5- 20).
ويتأمّل الكاتب في موضوع الإيمان بطريقة جزئيّة. فهو لا يذكّر قراءه المعمَّدين (18:1 ي) بما يجب أن يعرفوه عن أصل هذه الفضيلة المجّانيّة (رج روم 3: 22- 28). بل يلمّح بطريقة مختصرة إلى طابع الالتزام الواثق (1: 6، إيمان لا يداخله ريب، 5: 1) وإلى غرضها الذي هو ربّنا يسوع المسيح (2: 1) والله الواحد (2: 19)، ثمّ يغفل ما عليه يشدّد القدّيس بولس عنيت به النتائج المباشرة لهذا الالتزام: خلاص من الخطيئة، مشاركة في حياة الله (رج روم 5: 12- 21). ولا يقول كلمة عن سبب وجود هذه النتائج: إرادة الله الخلاصيّة الشاملة التي تتحقّق في مجيء المسيح وذبيحته (رج روم 3: 21 ي؛ 5: 1ي؛ 3: 1ي) فيكتفي بأن يذكّرنا بأنّ الإيمان المسيحيّ ليس التصاقًا عقليًّا (1: 19). فإذا أردناه خلاصيًّا فرض علينا أن يوجّه كلّ أعمالنا كما وجّه أعمال إبراهيم وراحاب (2: 14- 26). في هذا المجال تلتقي يع مع تعليم القدّيس بولس الذي يطلب من المسيحيّين المبرّرين بعمل المسيح أن يمارسوا بدورهم الأعمال التي يتطلّبها إيمانهم الجديد (كل 5: 6، 16 ي؛ 1 كور 13: 1ي؛ روم 12: 1ي؛ رج أف 2: 10). نحن لا نعارض هنا يعقوب ببولس، ولا نتساءل مَنْ أثّر على الآخر مع أنّ يع كُتبت بعد رسائل القدّيس بولس. فما كان على يعقوب أن يقدّم ردّة فعل على تعليم سابق، بل أن يحارب تراخيًا أخلاقيًّا ستعرفه الغنوصيّة في القرن الثاني المسيحيّ.

3- مسحة المرضى
ويعود يعقوب في نهاية رسالته إلى موضوع الصلاة ويقدّم توصية خاصّة (5: 14- 15). يطلب من المسيحيّ المريض الذي وهن جسدُه فما عاد يقدر أن يخرج من بيته، أن يدعوَ شيوخ الكنيسة ليصلّوا عليه ويمسحوه بالزيت باسم الربّ. ويحدّد أنّ هذِهِ الصلاةَ التي ينعشها الإيمان الواثق (رج 1: 5- 8) تخلّص المريض وتعافيه وتحصل له على غفران الخطايا التي يمكن أن يكون اقترفها (5: 15).
نجد في هذه التوصيةِ أكثرَ من رجوع إلى ممارسة موهبة مسيحيّة تحدّث عنها القدّيس بولس (1 كور 12: 9) هي موهبة الشفاء، وأكثر من تلميح إلى عادة زيارة المرضى التي أوصى بها ابن سيراخ (7: 35) أو يسوع (مت 25: 35 ي) أو بولس (روم 12: 15) أو يعقوب (1: 27). فالنصيحة المعطاة تصيب المريض نفسه وتميّزه عن المتألّمين العاديّين (5: 13). فهو من يدعو زوّاره الذين ليسوا أهلاً وأصدقاء وجيرانًا ولا طبيبًا أو شافيًا، بل شيوخ الجماعة المسيحيّة في المكان الذي يقيم فيه. ففي زمن كتابة الرسالة كان لهؤلاء الشيوخ سلطات دينيّة واسعة تتميّز عن تلك التي لشيوخ الجماعة الوثنيّة أو اليهوديّة. وعمل الزائرين المدعوّين هو عمل ليتورجيّ لا عمل علاجيّ: صلاة الإيمان، مسحة باسم الربّ ترتبط بصلاة الإيمان. وافتراض المريض الذي اقترف بعض الخطايا أو لم يقترف يشدّد على الصفة الروحيّة للنتيجة المترقّبة ويُبعد الفكرة اليهوديّة التي تربط بين الخطيئة والمرض.
وهذا ما يدفعنا إلى أن نفكر أنّ 5: 14- 15 تشهد على تقليد جاءنا من يسوع والرسل. فهؤلاء نالوا من المسيح خلال رسالتهم الجليليّة السلطان على شفاء المرضى بعد مسحهم بالزيت (مر 6: 13)، وسلّموا هذا السلطان إلى خلفائهم (رج مر 16: 18 التي كتبت فيما بعد). في هذا الإطار فهم المجمع التريدنتينيّ هذه المسألة، وسيشدّد المجمع الفاتيكانيّ الثاني على أنّ هذا السرّ، سرّ مسحة المرضى، لا يُعطى فقط للمرضى، بل عندما يبدأ المؤمن بالدخول في خطر الموت نتيجة ضعف جسديّ أو بسبب الشيخوخة.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM