الفصل التاسع :النتاج الأدبيّ في أرض الرسالة

الفصل التاسع
النتاج الأدبيّ في أرض الرسالة

من السهل أن نميّز قبل سنة 70 ب م الوسط المسيحيّ المتهوّد عن أرض الرسالة، ولكنّه تمييز اعتباطيّ. فمنذ البداية كانت الكنيسة رساليّة وشاملة بدعوتها، ولكنّ الموقف الذي اتّخذته الرسالة حيال المؤسّسة اليهوديّة الوطنيّة والدينيّة في فلسطين وفي الشتات، أظهر تدريجًا نوعين من الجماعات المحلّيّة: الأولى تنتظم في إطار العالم اليهوديّ وتنفتح على الوثنيّين "الخائفي الله" طبقًا للممارسة اليهودية (لو 7: 4- 5؛ أع 11: 1- 2؛ 16: 14؛ 18: 4- 7). ولكنّها تحترم القيود التي تفرضها الشريعة لتنظّم العلاقات بين المسيحيّين اليهود والمسيحيّين اللايهود (أع 15: 23- 29: نجد هنا صدىً لممارسة خاصّة بكنائس سورية وكيليكية). الثانية هي امتداد لموقف إسطفانُس والهلّينيّين المناهض للشريعة الضيّقة، تفتح الكنيسة على الوثنيّين دون أي قيد شرعيّ للاشتراك في التئام الجماعة (أع 11: 20- 26). إرتبط التيّار الأوّل بيعقوب أسقف أورشليم (أع 12: 17؛ 15: 13- 21 حيث الوثنيّون الذين اهتدوا إلى الله يُعتبرون سامعين للشريعة في اجتماعات الكنيس: أع 21: 17- 25). وانتشر التيّار الثاني انطلاقًا من أنطاكية في كلّ الشتات اليهوديّ. إلاّ أنّ رسالة برنابا وبولس لدى الوثنيّين ونظرتهما إلى الحرّيّة الإنجيليّة كانت بموضوع اعتراف في أورشليم لدى الذين هم في الكنيسة (غل 2: 6- 10).
لاشكّ في أنّ المسيحيّين المتهوّدين المحيطين بيعقوب قد صلَّبوا موقفه وحاولوا أن يفرضوا على الوثنيّين الختان وممارسة الشريعة (غل 2: 11- 13؛ أع 15: 1- 2، 5). بل نظّموا رسالات معاكسة لرسالة بولس وساروا على خطاه ينقضون ما عمله (غل 1: 6- 7؛ 5: 12؛ 2 كور 11: 4): امتلأت رسائل بولس من هذه التحذيرات من هؤلاء "الرسل العظام" (2 كور 11: 5)، من هؤلاء الرسل الكذبة والعمّال المخادعين (2 كور 11: 13)، من عمّال السوء والمختونين الكذبة الذين يشوّهون الجسد (غل 3: 2). ولكنّ سياسة بولس حيال المؤسّسة اليهوديّة ظلّت سياسة منفتحة: فالإنجيل في نظره يحمل الخلاص إلى كلّ من يؤمن، إلى اليهوديّ أوّلاً ثمّ إلى اليونانيّ (روم 1: 16؛ 2: 9- 10). وكان إعلانه للإنجيل في أيّ مدينة، يبدأ دومًا في قلب الجماعة اليهودية وفي المجمع. هناك تجذّرت الكنيسة ولم يتمّ الانقطاع إلاّ بمبادرة السلطات المحلّيّة (أع 17: 5- 9، 13- 14؛ 18: 6- 7؛ 19: 8- 9؛ 20: 3؛ 28: 25- 28؛ 1 تس 2: 14- 16). هو لم يبتعد عن كنائس الله في اليهوديّة التي في المسيح يسوع (1 تس 2: 12). بل يهنّئ الجماعات التي أسّسها لأنّها تتشّبه بتقوى هذه الجماعات. وهو من أجلها يقوم باللمّة وجمع التبرّعات (1 كور 16: 1؛ 2 كور 8- 9؛ روم 15: 26- 28؛ أع 24: 17) حسب الالتزامات التي اتّخذها على عاتقه حين كان في أورشليم (غل 2: 10). وهو يحتفظ بعادات هذه الجماعات حين لا تهدّد بالخطر الحرّيّة المسيحيّة تجاه الشريعة اليهوديّة (1 كور 11: 16؛ 14: 33- 34).
لا نستطيع القول إنّ هذا الموقف الجريء كان موقف كلّ المرسلين ولكنّه كان موقف برنابا (أع 11: 22 ي؛ 1 كور 9: 6) وأبلّوس (1 كور 16: 12) وآخرين غيرهما. ومن الممكن أن يكون "الإخوة" الذين التقاهم بولس ورفاقه حين وصولهم إلى إيطالية (أع 28: 13- 14) ورومة (أع 28: 14- 15) كانوا من المسيحيّين المتهوّدين الذين نظّموا نفوسهم على غرار كنائس اليهوديّة. في نظر بولس لم يكن في الكنائس لا يونانيّون ولا يهود (غل 3: 18؛ 1 كور 12: 13؛ كو 3: 11). ولكن كما كتب إلى مسيحيّي رومة الذين استعلم عنهم بواسطة برسكلّة وأكيلا (أع 18: 2؛ روم 13: 3 وهو نصّ أرسل من كورنتوس)، يبقى ممكنًا للمؤمنين أن يمارسوا فرائض الشريعة شرط أن لا يجعلوا من هذه الممارسة مسألة مبدئيّة (روم 14: 1- 6؛ 14: 21). وهذا الموقف المنوَّع يمنعنا من أن نَفْصِلَ فصلاً أساسيًّا بين مسيحيّة من أممية (أصل وثنيّ) ومسيحيّة متهوّدة. فالتقاليد التي تكوَّنت في إطار المسيحيّة المتهوّدة تجاوزت حدود فلسطين. وإذ نتفحّص الآن النِتاج الأدبيّ في أرض الرسالة، نفكّر قبل كلّ شيء بالكنائس التي انتشرت على خطى مار بولس أو تبنت قواعد حياة مماثلة للتي أعلنها. ومجموعة رسائله التي تتيح لنا أن نتأكّد من النصوص الموازية في سفر الأعمال تشكّل البناء الأهمّ. ولكنّنا نتساءل أيضاً عن وجود شهود جانبيّين في الرسائل أو في مجموعات إنجيليّة دوِّنت قبل سنة 70 ب م.

1- رسائل القدّيس بولس
كلّ تفحّص لرسائل القدّيس بولس يفرض علينا أن نأخذ بعين الاعتبار السوابق اليهوديّة لنفهم ما وراء بنيتها وشكل براهينها وطرائق لاهوتها.
بولس هو "من قبيلة بنيامين، عبرانيّ ابن عبرانيّ، وفي الشريعة فرّيسيّ" (فل 3: 5). هذه الإشارة العابرة تثبت المعطيات الواضحة في سفر الأعمال. ولد في طرسوس من أعمال كيليكية (أع 21- 39؛ 22: 3؛ رج 9: 1)، وتربَّى في أورشليم لدى قدمي جملائيل (أع 22: 3)، أي في وسط عبرانيّ حيث لتقليد الآباء اعتباره وحيث يُحتفل بالليتورجيّا اليهوديّة في العبرانيّة مع اللجوء الآراميّة، بقدر ما كان هذا اللجوء إلى اللغة المحكيّة ضروريًّا للترجوم والوعظ والصلاة. وبعد اهتداء بولس الذي فصله عن السلوك (هلكه) الفرّيسيّ، احتفظ بممارسات تأويليّة اكتسبها في الوسط الذي تربّى فيه. ومن الوجهة الاجتماعيّة كان بولس مواطنًا طرسوسيًّا (أع 21: 39) بل مواطنًا رومانيًّا منذ ولادته (أع 22: 25- 28؛ رج 16: 37؛ 25: 10- 20) ينتمي ظاهرًا إلى البورجوازيّة التي تتاجر بالخيام (أع 18: 3). حين أُوقف في أورشليم ظلّ ابن أخته هناك (أع 23: 16). لا شيء يبرهن أنّ بولس عاد إلى طرسوس قبل أن تَفْرِضَ عليه معارضةُ اليهود ترك اليهوديّة (أع 9: 30). فاليهود الهلّينيّون الذين يتدخّلون في الجدال مع إسطفانس ليسوا وثنيّين بل إنّهم يمارسون الشريعة ممارسة دقيقة (أع 6: 9- 12). ولم يكن بولس مختلفًا عنهم حين "اضطَهد كنيسة الله" (1 كور 15: 9؛ رج فل 3: 6؛ أع 8: 3؛ 9: 1- 4) ووافق على مقتل إسطفانُس (أع 7: 58، 8: 1). لن نتكلّم عن الاستعداد النفسانيّ قبل اهتدائه. ولكنّ كلّ شيء يدلّ على أنّه ممثّل نموذجيّ للوسط الفرّيسيّ المتجذّر في اليهوديّة والمنتشر في جماعات الشتات. ولكنّ أصله الطرسوسيّ أتاح له أن يكتسب منذ صباه اللغة اليونانيّة الضروريّة في الأوساط التجاريّة. نستنتج هذا من مشاركته في جدالات اليهود الهلّينيّين مع إسطفانُس (أع 6: 9- 10). أتقن لغتين فساعده هذا الوضع في رسالته. ولكنْ بين اهتدائه وبين أوّل رسالة كتبها مرّت 15 سنة أو 18 سنة كان فيها على اتّصال بالعالم اليهوديّ الهلّينيّ الذي طبع شخصيّتَه بطابعه.

1- ينابيع الرسائل البولسيّة
لا تعني كلمة "ينابيع" وثائق مكتوبة بل "وحدات صغيرة" فرزتها النظرية التكوينيّة والتاريخ التدويني منطلقة من شكل النصوص الأدبيّ ووظيفتها. ونحن نجد آثارًا واضحة لهذه الوحدات في رسائل بولس. كُتبت في مناسبات فارتبطت بمسائل ملموسة طرحت عليه بين سنة 50- 51 (أوّل إقامة في كورنتوس) وأسره في رومة (59/ 60- 62/ 63). وإذا أردنا أن نشرح مضمونها لن نعود إلى نهج لاهوتيّ قد يكون فكَّر فيه منذ اهتدائه. من الأفضل أن نفكر أوّلاً في أشكال عمليّة ارتداها عمله في الكنائس: إعلان الإنجيل لليهود وللوثنيّين، قراءة التوراة في الجماعة المسيحيّة، إعطاء التعليم إلى المؤمنين، الاحتفال الليتورجيّ الذي ترافقه الصلوات والأناشيد. كلُّ هذه العناصر التي تشكِّل ثوابت في نشاط بولس هي امتداد لِمَا نجده في العالم المسيحيّ المتهوّد. فليس من الضروريّ أن نستعيد بالتفصيل مسألة مكانها في حياة الرسول وفي حياة الكنائس التي أسسّها. ولكنّ بحثًا من هذا النوع يعرّفنا إلى النصوص المسيحيّة التي نُقلت إلى الكنائس البولسيّة، والتي أُنتجت لتلبّي حاجة هذه الكنائس، وحُفظت في إطارها. وهذا ما لم نستطع أن نفعله بالقدر ذاته بالنسبة إلى كنائس اليهوديّة القديمة، فالوسطاء بين هذه النصوص (كانت شفهية) وبيننا قليلة. وإن يكن خلق هذه النصوص امتدّ على 25 أو 30 سنة، فتطوَّرَ شكلُها ومضمونُها تطوّرًا موازيًا لفكر بولس، فنحن نقدر أن نجمعها في مقالات كبيرة حسب النهج الذي أخذنا به في دراسة النصوص القديمة في العالم المسيحيّ المتهوّد.

أوّلاً: بولس والتقليد السابق لبولس
إنّ تجذّر بولس الأوّل في مسيحيّة دمشق المتهوّدة (غل 1: 17؛ 2 كور 11: 32 ي؛ أع 9: 10- 25) والمطعَّمة بجماعة أورشليم واليهوديّة، واتصاله ببطرس (وبيعقوب) في أورشليم (غل 1: 18 ي؛ أع 9: 26- 29) وإقامته في كيليكية في وسط يهوديّ (غل 1: 20؛ أع 9: 30) ثمّ في كنيسة أنطاكية التي أسّسها المسيحيّون المتهوّدون والهلّينيّون (غل 11: 13؛ أع 11: 25- 26)، كلّ هذا كانت له نتائج أكيدة عليه: فلا أصالة اهتدائه الشخصيّ، ولا قراءته المسيحيّة للتوراة منعاه من الولوج في تقليد سابق له ومن الإفادة من عناصره. لهذا لجأنا إلى رسائله لنبحث عن أقدم أدب مسيحيّ. ولكنّ البحث عن التقليد السابق لبولس يبدو صعبًا حين نطلب أقوال يسوع أو أخبارًا تتعلّق بأعماله. فالهدف العمليّ للرسائل لا يدفع بولس إلى إيراد هذه العناصر التي سُلّمت إلى الكنائس منذ تأسيسها. ولكنّنا نجد مع ذلك بعض الآثار. مثلاً: يلجأ 1 تس 4: 15 إلى كلمة الربّ لتزيل شكًّا في موضوع الرجاء. ولكن 1 تس 5: 1- 2 يلمّح إلى نصوص يعرفها الجميع. وإن 1 كور 7: 10 يورد فريضة تقابل مر 10: 7- 9. غير أنّ 1 كور 7: 25 يدلّ على أنّ بولس لا يقدر أن يعود دومًا إلى تعليمات واضحة من يسوع. هذه الشهادات العرضيّة المقحمة في الرسائل، تفتح أمامنا منظورًا مهمًّا حول نقل التقليد الإنجيليّ. فبولس تشبَّه بالمرسلين المسيحيّين المتهوّدين، فترك في الكنائس تعليمات شفهيّة كما ترك نصوصًا مكتوبة: إِمّا نصوص التوراة التي كانت كرازته تفسيرًا لها، وإمّا نصوص تحدّد مضمون الإنجيل.

ثانيًا: إعلان الإنجيل
لقد أشرنا إلى ملخَّصات الإنجيل التي استُعملت في الكرازة، في إطار التقاليد السابقة لبولس. ونزيد عليها بعض المقاطع التي هي صدى لنشاط بولس حين سلّم "إنجيل الله" (1 تس 2: 8) أو "إنجيل المسيح" (غل 1: 7) أو "كلمة الحقّ" (كو 1: 5) التي "قُبلت بفرح الروح القدس" (1 تس 1: 6). كان يكفي للمؤمنين الذين من أصل يهوديّ أن يعترفوا بالإيمان بيسوع الربّ (روم 10: 9) الذي مات لأجل خطايانا وقام في اليوم الثالث "كما في الكتب" (1 كور 15: 3)، ولكن وجب على المؤمنين من أصل وثنيّ أن يقوموا باهتداء أكثر جذريّة. يَذكره بولس بسرعة في 1 تس 1: 9- 10 فيقدِّم لنا نقاط الكرازة التي كان يوجّهها إلى هذه الفئة من الناس: تركَ الأوثان، خدمةَ الله الحيّ، موتَ وقيامةَ يسوعَ ابنه الذي ننتظر مجيئَه ليخلّصَ مؤمنيه من الغضب الآتي. إنّ القسم الأوّل من هذه الرسمة يطابق الكرازة للوثنيّين كما عرضها لوقا في خطبة بولس في لسترة (أع 14: 15- 17)، أمّا نهايتها فهي تقابل خطبة بولس في ساحة أثينة (أع 17: 30- 31): إذًا يذكرُ بولسُ بدقّةٍ المواضيعَ الرئيسيّة للكرازة البولسيّة. قَلَبت طلباتِ اليهود والوثنيّين الطوعيّة، فكانت إعلانًا للمسيح (لقب مجيد أعطي للقائم من الموت) المصلوب (تذكير بمصيره على الأرض) (1 كور 1: 22- 23). على أساس هذه النصوص، نستطيع أن نفترض أنّ صيَغًا عابرة تتضمّن مواضيع عامّة ارتبطت بإعلان الإنجيل كما كان يقدّمه بولس أمام اليهود والوثنيّين. ولكن بما أنّ الرسائل تتوجّه إلى مهتدين فمن النافل أن نبحث طويلاً عن آثار هذا الفنّ الأدبيّ.

ثالثًا: تعليم المؤمنين
لا بدّ من أن نضع هنا مقاطع الكرازة المرتبطة ارتباطاً مباشرًا بالمعموديّة، لأنّ المعموديّة هي خاتمة البلوغ إلى الإيمان. ومن الواضح أنّ بولس يبشّر أكثر ممّا يعمّد، وهو يترك هذا العمل لمعاونيه الذين يرافقونه في رسالته (1 كور 1: 14- 17). ومع هذا نستخرج التلميحات العماديّة في الرسائل، وبالأخصّ حين تتردّد في مواضع عديدة وحسب رسمات متشابهة. حينئذ تكون النصوص صدى لكرازة ترافق المعموديّة "باسم المسيح"، وتكرارها يُعيد المعمَّدين إلى الخبرة الأساسيّة لحياتهم الجديدة التي أعطيت للذين تعمّدوا في المسيح (روم 6: 3) فلبسوا المسيح (غل 3: 7): إنّهم يشتركون في موت المسيح وقيامته (روم 6: 1- 11)، وينالون الروح (1 كور 12: 13)، ويؤلّفون جسدًا واحدًا رغم تنوّع أصلهم (غل 3: 27- 28؛ 1 كور 12: 13؛ كو 3: 11). ومن جهة ثانية، يقدّم بولس قاعدة حياة توجِّه سلوك المعلَّمين: هي القاعدة التعليميّة التي يخضع لها المؤمنون (روم 6: 17). ونحن نستطيع أن نُعيد بناءَ خطوطها الكبرى.
حين يأتي يومُ الربّ، يُمنع من الدخول إلى ملكوت الله كلُّ الذين يتشبَّهون بعوائد العالم الوثنيّ ويمارسون رذائله: وتشير لوائح الرذائل (1 كور 6: 9- 10؛ غل 5: 19- 21؛ رج أف 5: 5) إلى كرازة معروفة (ألا تعلمون؟ رج 1 كور 6: 9) تعود إلى المعموديّة (1 كور 6: 11). فالتحريض على الحرب ضدّ الخطيئة يرتبط بشرح الاختبار العماديّ (موضوع يتوسّع فيه روم 6: 12- 13). ويمكننا أن نُرجعَ إلى هذا الإطار التعليمَ عن الوصيّة التي تتضمّن الوصايا الأخرى، والتي تحدّد المواقف الواجب اتّخاذها تجاه القريب (غل 5: 14؛ روم 13: 8- 10؛ رج مر 12: 31 وما يقابله). فالتعليمات الخاصّة المعطاة لمختلف الفئات الاجتماعيّة حول واجبات حالتها يحد في هذه القرينة وضعًا يُنِيْرُ درَبنا. تعود 1 كور 7: 17- 24 ثماني مرّات إلى موضوع الحالة التي يكون المؤمن فيها حين جاءه نداء الله مع تطبيق على المختونين واللامختونين، على العبيد والأحرار. نحن هنا أمام قاعدة وُضعت في كلّ الكنائس (1 كور 7: 17). ونصّ كو 3: 18- 4: 1 الذي يعالج واجبات الرجال والنساء، والأولاد والأهل، والعبيد والأسياد، يرجع إلى تعليم يتوجَّه إلى معمَّدين جدد، شأنه شأن سائر النصوص الموازية: روم 13: 1- 7 يوجّه الفكر نحو واجبات المواطن، أف 5: 21- 6: 11 يتوسَّع في نصّ كو 3: 18- 4: 3؛ 1 بط 2: 11- 3: 7 يستعيد كلّ هذه المعطيات في توسيع إجمالي.
إنّ التذكير بالتعليمات العماديّة، كما نجده في الرسائل، يتكيّف كلّ مرّة مع وضع المؤمنين. ونحن نستطيع أن نميّز تدرّجًا في التعليم العقائديّ من رسالة إلى أخرى. ولكن يبدو من المنطقيّ أن نبحث في كلّ حالة عن صدى مباشر لكرازة ألقاها بولس في كنيسة كان فيها حين أرسل رسالته. تعكس 1 كور كرازتَه في أفسس سنة 55، وروم كرازته في كورنتوس في شتاء 56- 57. إذا كانت هذه النظرة صحيحة، فاستقبال المعمَّدين الجدد خلال الإقامة الأخيرة في كورنتوس قدّم لنا تهيئة خطابيّة لنقاط وعظة عاديّة نجد آثارها في روم 5- 8 و12: 1- 13: 14.

رابعًا: قراءة التوراة وشرحها
خدمة كلمة الله في الكنائس
يمكننا أن نفكّر أنّه بعد وقت محدَّد وفي سير عمل الكنائس العاديّ، تنظَّم الاستعداد للمعموديّة تنظيمًا دقيقًا (غل 6: 6)، ومارست الكنيسةُ الطقسَ خلال اجتماع الجماعة "في اليوم الأوّل من الأسبوع" (1 كور 16: 1- 2). خلال هذا الاجتماع، يحتلّ إعلانُ الكلمة المكانة الأولى في المسيحيّة المتهوّدة. لهذا حين يعدِّد بولس مواهبَ الروح (1 كور 12: 28)، يذكر في رأس اللائحة الوظائف الثلاث التي تكلّمنا عنها آنفًا: "أوّلاً الرسل، ثانيًا الأنبياء، ثالثًا المعلّمون". والذين يمسكون بهذه الوظائف لا يربتطون بالضرورة بجماعات خاصّة. هم يستطيعون أن يذهبوا من كنيسة إلى أخرى على مثال بولس ورفاقه، وعلى مثال أبلّوس (1 كور 3: 5- 6؛ 16: 12). وفي الجماعة تمارَسُ أيضاً المواهبُ الخاصّة التي يعدّدها الفصلُ ذاته (1 كور 12: 8- 10) ومنها: كلام المعرفة، وكلام الحكمة اللتان تُمنحان للجميع وترتبطان بخدمة الكلمة. وبجانب هؤلاء الأنبياء الذين يقومون بمهمّتهم (1 كور 12: 28)، هناك ممارسة النبوءة الموزَّعة توزيعًا واسعًا (1 كور 11: 4- 5). بإلهام الروح (1 كور 14: 37) يبني النبيّ ويعزّي ويشجعّ (1 كور 14: 3) ويعلِّم ويحرّض (1 كور 14: 31). وقد يكون لكلّ مؤمن نشيد وتعليم ووحي وخطبة في الألسنة وتفسير (1 كور 14: 26)، وإذا كان من الضروريّ أن تكون مراقبة (1 كور 14: 32) فلكي يتمّ كلّ شيء في نظام (1 كور 14: 40) بحيث تُبنى الكنيسة (1 كور 14: 26)
وستكون هذه المتطلّبة الأخيرة بغير جدوى، إذا تُركت الجماعة لعفويّة المبادرات الخاصّة. فالأنبياء لا يراقبون الواحدُ الآخر فحسب (1 كور 14: 32)، بل يوجد في الكنائس مسؤولون ينضمّ المؤمنونَ تحت لوائهم (1 كور 12: 28). ولكنّ 1 تس التي لا تجهل مواهب النبوءة (1 تس 5: 19) تذكر بوضوح الذين يرئسون الجماعة. إنّهم يتعبون من أجل الجماعة، يوبِّخون المؤمنين ويُتمّون عملاً (1 تس 5: 12- 13) هو امتداد لعمل الرسول المؤسّس. وتجعل روم التي تعكس بُنية كنيسة كورنتوس التي منها بُعثت، وظيفة الرئاسة بين مواهب الروح (روم 12: 8) مع النبوءة والخدمة والتعليم والتحريض، ونشاطات العطاء والرحمة (روم 12: 6- 8). ويمكن أن يتميّز الاهتمام بالنظام والوحدة في الجماعة عن خدمة الكلمة بكلِّ أشكالها. فهذه الخدمة تفترض كفاءات خاصّة، ليس فقط للتكلّم في حفل من الناس، بل لمعرفة وتفسير هذه الكلمة التي تلتقي فيها التوراة بإعلان الإنجيل.

صدى الكرازة البولسيّة
لا يحدِّثنا بولس مرّة واحدة عن قراءة التوراة في الجماعة، ولا عن طريقة التذكير بالإنجيل. فهذان العنصران الهامّان لا يطرحان سؤالاً على المؤمنين، ولكنّ الرسالة كلّها تفترضهما. والطريقة التي يعود فيها إلى التوراة تبقى مبهَمة لو لم تكن ثقافة قرّائه الكتابيّة في درجة متقدّمة. فقراءة وشرح التوراة قراءة مسيحيّة، وانتقالها من المجمع اليهوديّ إلى اجتماع الكنيسة، يشكِّل إحدى ركائز التعليم للمؤمنين. وتحليل الرسائل يساعد على اكتشاف وحدات صغيرة نرى فيها صدى لكرازة بولس الذي كان تلميذَ معلّمٍ يهوديٍّ وصار معلّمًا مسيحيًّا. مثلاً: في 1 تس 4: 1- 8 عن السلوك المسيحيّ في ما يتعلّق بعالم الجنس، مع عدّة تلميحات كتابيّة تفترض إيراد النصوص وشرحها. وفي 1 تس 4: 9- 12 حيث التلميح إلى الحبّ المتبادل يفترض رجوعًا إلى نصّ ورد في روم 13: 8- 10. ففي الحالتين نحن أمام سلوك (هلكه) مسيحيّ نجده في رسائل عديدة، فنستشفّ فيه مواضيع وعظ ثابتة وعاديّة (ق 1 تس 4: 4- 8 و1 كور 6: 19- 20 الذي يبدأ بالعبارة: أما تعلمون؟). ومواضيع الوعظ العماديّ تعود في إطار الجماعة المسيحيّة، لأنّ "الخلاص هو الآن أقرب إلينا ممّا كان يوم آمنّا" (روم 13: 11). وقد يكون من المدهش أن لا تحتفظَ الكنائس بهذه العناصر الأساسيّة للتعليم الرسوليّ (شفهيًّا أو خطّيًّا)، وتذكِّرَ بها المسيحيّين وتنقلَها إلى المهتدين الجدد.
ونكتشف في الرسائل رسمات كرازة تفترض قراءة النصوص الكتابيّة قراءة دقيقة. مثلاً: يقدّم 1 كور 5: 7- 8 رسمة عظة بولس في أفسس خلال الاحتفال بعيد الفصح سنة 57، بعد قراءة النصّ الذي تقرأه الليتورجيّا اليهوديّة: خر 12: 1- 20 (مع التلميح إلى 12: 6- 8، 15). ويفترض 1 كور 10: 1- 13 قراءة من سفرَيِ الخروج والعدد ترافقها تطبيقات مسيحيّة. وهذه التلميحات تبقى غير مفهومة إن لم يرافقها وعظ مفصَّل ودقيق. ونجد وعظة مماثلة عن مكان التجربة في حياة المؤمنين، في أماكن أخرى من العهد الجديد: في عب 3: 7- 4: 11 تلتصق العظة بالمزمور 95: 7- 11، وهي تفترض، خلف تجارب المسيح في متى (4: 1- 11) ولوقا (4: 1- 13) تفسير عدَّة نصوص من سفر التثنية ومن مز 91: 11- 12. ونصّ غل 3: 6- 18 حيث يحيط بالتوسيع البولسيّ تك 12: 3 (في آ 8 و16)، هو صدى عن عظة على تك 12: 1- 9 الذي يُقرأ في المجمع. ثمّ إنّ كل 4: 22- 31 هي رسمة لعظة عن تك 16 أو 21: 1- 21 مع أش 54: 1- 10، كما يُقرأ في الكنيس.
وتوسيع روم 4: 1- 24 الذي يقع بين إيرادين لسفر التكوين 15: 6 (آ 3 و22)، يُشبه عظة على تك 15 تُغذِّيها إيرادات كتابيّة على طريقة الرابّانيّين. نحن هنا أمام أَثَرٍ غير مباشر لعظة بولس في كورنتوس حول هذا النصّ الذي قُرىء في الجماعة. إنّ تحليلاً دقيقًا للرسالة إلى رومة (ف 9- 11) يتضمّن ملفًّا كتابيًّا غنيًّا جدًّا، يجعلنا نجد آثار عظات في كورنتوس حول النصوص المذكورة. وتكاثف الإيرادات التوراتيّة في هذه الفصول برهان قاطع على قراءة الكتاب المقدّس من أسفار موسى إلى الأنبياء والمزامير في كنيسة كورنتوس حيث كان بولس حين كَتب روم. وهناك مقاطع من الرسالة عينها مثل 12: 6- 21، و15: 8- 12 تطرح علينا سؤالاً مماثلاً. وفي 2 كور حيث ف 1- 9 تتضمّن رسائل متميّزة، بُنيت التوسيعات بناءً مُحْكَمًا فلا نحاول أن نفتّتها ونبعثرها. أمّا 2 كور 6: 14- 7: 1 فهي رسمة عظة على موضوع محدّد. ونتعرّف أيضاً في 2 كور 9: 6- 10 إلى مقطع خطابيّ له وحدته الخاصّة.
إنّ هذه الأمثلة تعطينا فكرة كافية عن الوعظ الذي قدّم الموادّ للرسائل. فالتعليمات التي قِيلت شفهيًّا سبقت وهيّأت التعليمات التي دوِّنت في الرسائل.

العشاء الإفخارستيّ
يومَ دوِّنت رسائلُ القدّيس بولس كان اليونانيّون (أي المؤمنون الذين من أصل وثنيّ) هم الأكثريّة، مع أنّ اليهود واليونانيّين كانوا يشاركون في اجتماعات الكنيسة على قدم المساواة (غل 3: 28؛ 1 كور 12: 13). فالعالم اليهوديّ الرسميّ أظهر عداء لإعلان الإنجيل، ولا سيّما وإنّ بولسَ يقدّمه للوثنيّين ولليهود (1 تس 2: 13- 16). وترتّبت الاجتماعات لتجعل المؤمنين يعون وحدتهم وأصالتهم تجاه العبادات الوثنيّة وتجاه العالم اليهوديّ نفسه. إلا أنّ قراءة التوراة وشرحها في وعظ إنجيليّ، والصلاة والنشيد المشترك، كلّ هذا استفاد من ليتورجيّة المجمع: إختار بولس ما اختار وأعاد تفسير النصوص على ضوء حياة المسيح وتعليمه
أمّا العناصر المسيحيّة الخاصّة التي تعطي معنى لما تبقّى من عناصر، فهي إعلان الإنجيل وعشاء الربّ، وكلاهما يرتبطان ارتباطاً وثيقًا كما بيّنا ذلك حين درسنا المسيحيّة المتهوّدة الأولى. من الصعب أن نرسم مسيرة الاجتماعات، ونحدّد مكانًا دقيقًا لكأس البركة والخبز المكسور (1 كور 10: 16) في إطار عشاء أخويّ يشكّل عنصرًا أساسيًّا للاجتماع. يتحدّث 1 كور 11: 20- 21 عن طعام المساء، عن العشاء (ديبنون في اليونانية). وهذا ما نفهمه، لأنّ الاجتماع المسيحيّ يتمّ بعد نهار من العمل. كانت تتوزّع القراءات والتعليمات، والنبوءة والصلاة (1 كور 11: 4 ي)، والأناشيد والتعاليم، والوحي والتكلّم بألسنة (1 كور 14: 29)، على مدى اجتماع يمتدّ طويلاً إلى الليل كما في أع 20: 7- 11.

الصلاة المشتركة
لا يحدّثنا بولس عن قواعد الصلاة المشتركة الخاضعة لإلزامات الخير العامّ (1 كور 12: 7) والوقار والنظام (1 كور 14: 40). فالمسائل الواجب حلّها لا تأتي من هذه الجهة، لأنّ التقليد الموضوع في كلّ كنيسة قد وَضع الأمور في نصابها. ولكنّ بولس يذكُر صلوات يتلفّظ بها الرجال والنساء بصوت جمهوريّ (1 كور 11: 4- 5)، وهي عادة تختلف عمّا يصنع في الكنيسة حيث تقف النساء على انفراد. ويعلن أنّ المؤمنين يقدرون أن يسمعوا أناشيد ملهمة (1 كور 14: 26؛ كو 3: 16). نحن هنا أمام مواهبيّين يعبّرون عن عاطفة دينيّة لا تَدخل في نظام. لم تصل إلينا الكلمة النبويّة كما لم تصل الصلوات التي ارتجلها المؤمنون في هذه الاجتماعات.

أناشيد وتسابيح
إنّ تلميح كو 3: 16 إلى مزامير وأناشيد وتسابيح يجعلنا نستشفّ اهتمامًا بالترتيل عرفته الليتورجيّا اليهوديّة والعبادات السرّيّة الوثنيّة. فيمكننا أن نفترض أنّ هناك أناشيدَ مسيحيّةً ألِّفت للاستعمال العامّ حتّى بعد أن انتقل الإنجيل من وسط يهوديّ بنوع خاصّ إلى وسط هلّينيّ تشرّب بالثقافة الوثنيّة. والعودة إلى المزامير والتراتيل المأخوذة من التوراة قدَّمت الصيغ الأولى للكنيسة في أوّل عهدها. وحين ذكرنا أعلاه وجود هذه المقطوعات المسيحيّة في كنائس اليهوديّة، لاحظنا ارتباط بولس بالمسيحيّة القديمة. يبقى علينا أن نتفحّص مسألة الأناشيد والتسابيح التي أوردها في المناسبات. وإذا لم تكن النصوص كثيرة في الرسائل، فهذا يعني أنّ الكنائس لم يكن بتصرّفها العديد متنها: المهمّ هو توسيع الفكرة لدى بولس، وقد يُدفع إلى استعمال هذا النشيد أو ذاك أو لا يُدفع. ونتردّد أيضاً في التعرّف إلى أصل هذه الأناشيد الدقيق. هل ألَّفها بولس أم وُضعت قبل بولس؟ الأمر لا يهمّ. وهناك بعض نصوص أُقحمت في مجموعة رسائل بولس وكانت متأخّرة. وقد يكون أنّ بولس حين أورد بعض النصوص كيّفها وقرينة رسائله، فحوَّر فيها وزاد عليها.
إنّ الدراسات المتقاربة تدعونا لأنّ نضع جانبًا النصوص التالية: المديحان للمسيح المحفوظان في فل 2: 6- 11 وكو 1: 15- 20، وقطعة من نشيد غنائيّ يرد في أف 5: 14 وقطعة وضعت في روم 16: 25- 27 (هي في مكان آخر في بعض المخطوطات أو حذفت في مخطوطات أخرى) لمجد الله، وبعض المقاطع القديمة التي احتفظت بها الرسائل المتأخّرة (1 تم 3: 16؛ 6: 15- 16؛ 2 تم 2: 11- 13). لا نستطيع أن نقول شيئًا عن زمان تأليف النصوص الثلاثة الأخيرة. أمّا المديحان الأوّلان فيُظهران لنا أسلوبَ الصلاة بين الرسالة إلى فيلبّي (وهي معاصرة للرسائل الكبرى) وبين الرسالة إلى كولسيّ (التي دوِّنت خلال أسر رومة). الخلفيّة التوراتيّة واضحة في فل 2: 6- 11. ولكنّ مسيرة المقطوعة تتبع خطّ الاعتراف بالإيمان الإنجيليّ، والهتاف ليسوع الربّ (فل 2: 11) يحوّل معنى النصوص الكتابيّة التي استعملها. ونصّ كو 1: 15- 20 أقرب إلى العالم اليونانيّ والاعتقادات الشرقيّة، ولكنّ هذا الشكل الجديد من التعبير هو في خدمة كرستولوجيا تُبرز ما نقرأه في الرسائل الكبرى. ثمّ إنّه من الممكن أن ترتبط هذه القطعة بليتورجيّا عماديّة، شأنها شأن مقاطع أخرى عديدة من الرسالة عينها. مهما يكن من أمر، فصيغة الإيمان والصلاة خرجت من قالب يهوديّ نكتشفه خاصّة في الأناشيدِ القديمة التي استعملها لوقا (1: 46- 55، 68- 79). هذهِ بعضُ محطّاتٍ في عمليّة خلق نصوص رافقت دخول الإنجيل في الأوساط الثقافيّة اليونانيّة.

2- الرسائل في نشاط بولس الرعائيّ
أوّلاً: وظيفة الرسائل
ليس من الضروريّ أن نناقش إذا كان ما كتبه بولس هو رسائل بسيطة كما عرف العالم اليونانيّ القديم، أو مقالات بشكل رسائل تُقرأ بطريقة احتفاليّة. لم يكتب بولس من أجل الدعاية، بل ليحلَّ المسائل الراعويّة العامّة في داخل الكنائس. وقد وُضعت رسائله لتُقرأ في اجتماع الجماعة (1 تس 5: 27)، أو لتُرسل إلى كنائس أخرى من أجل بنيان الجميع (كو 4: 16). وحتّى البطاقة المرسلة إلى فيلمون، والتي ترافق الرسالة إلى كولسيّ، فهي تتضمّن في العنوان أسماء فيلمون وأبفية (زوجته على ما يبدو) وأرخبّس الذي تسلّم مهمّة الخدمة (كو 4: 7) والكنيسة التي تجتمع عند فيلمون: نحن إذًا أمام نصّ عامّ، ولهذا حُفظ في الكنيسة. وإذا قابلنا رسائل بولس بما تركه لنا العالم اليهوديّ (2 مك 1: 1- 10)، نجد أصالة بولس ككاتب رسائل وارتباطَه ببعض توسيعات تتعلّق بنشاطه الشفهيّ في الجماعات الكنسيّة. أمّا المواضيع التي يتطرّق لها، فهي ترتبط بهموم خدمته وهي متنوّعة تنوّع الظروف التي كُتبت فيها هذه الرسائل.
لم يَكتب بولس بيده إلاّ جملاً قصيرة في نهاية رسائله (2 تس 3: 17 ي؛ 1 كور 16: 21- 42؛ غل 6: 11- 18؛ كو 4: 18). كان يملي مجمل الرسالة على سكرتير حُفظ اسمه (ترتيوس) في حالة خاصّة (روم 16: 2). وقد يكون بولس نفسه أقحم الاسم هنا بين آ 21 و23. يمكننا أن نجادل حول الزمن الضروريّ لإملاء الرسالة كمّيّة الورق الضروريّ، وعدد النسخات (نرسلها إلى الكنائس أو نحتفظ بها في الجماعة التي يقيم فيها بولس حين يكتب)، والحرّيّة التي يمنحها بولس لسكرتيره لكي يضع اللمسات الأخيرة لرسالته. قد تُلقي هذه الاعتبارات ضوءًا على بعض الخصائص وتحلّ بعض المشاكل. ولكنْ يجب أن نهتمّ بمجهود رئيسيّ يوجّه انتباهنا إلى نقطة أساسيّة: بما أنّ هذه هي وظيفة الرسائل، كيف تتيح لنا علاقتها بنشاط الرسول الراعويّ أن نكتشف نظام تأليفها وزمن إرسالها؟

ثانيًا: نظام الرسائل وأزمنتها
حين نَرسم نشاط بولس الرسوليّ نعود إلى مرجعين: رسائله نفسها، وخبر سفر الأعمال (ف 16- 28). هناك نقاط لا تزال عالقة سنشير إليها ونعطي رأينا.

بولس وتسالونيكي
أرسل بولس 1 تس من كورنتوس سنة 50- 51، بعد تأسيس الكنيسة المحلّيّة بزمان قليل (أع 18: 1- 18). ونحن نجد في هذه الرسالة لا صيَغًا سابقة لبولس وتعليمات محدودة عن كنيسة تسالونيكي وحسب، بل نجد أيضاً صدى لكرازة بولس الأولى في كورنتوس. ولكن تواجهنا صعوبات في 2 تس وبالأخصّ المقاطع الجليانيّة والموقف الجديد المتعلّق بالمجيء. على كلّ حال، دوّنت 2 تس بعد 1 تس ببضعة أشهر.
تشكِّل سَفرة بولس إلى أورشليم عبر أفسس وقيصرّية (أع 18: 19- 22) فجوة في الرسائل التالية. جاء بولس من أورشليم إلى أنطاكية، وعبَر منطقة غلاطية وفريجية. في ذلك الوقت جلب رفاقُه القدامى في الرسالة، اليهوديَّ أبلّوس إلى معرفة كاملة للإنجيل وحثّوه على الذهاب إلى كورنتوس في أخائية (أع 18: 23- 28؛ 1 كور 3: 5- 6). حينذاك وصل بولس إلى أفسس وأقام فيها سنتين وثلاثة أشهر، من 54 إلى 57 (أع 19: 1- 20: 1). في هذا المكان يبدو خبر لوقا ناقصاً، وهو أمر مؤسف لأنّ هناك مراسلة بين سنة 55 وشتاء 56- 57: الرسالتان إلى كورنتوس، الرسالة إلى فيلبّي، الرسالة إلى غلاطية.

الرسالة إلى غلاطية
لا تطرح هذه الرسالة مُشكلة على المستوى التأليفيّ، لأنّها تكوّن قطعة واحدة. ارتبطت بمرور بولس في غلاطية (أع 18: 23) فدوِّنت في نهاية إقامته في أفسس، وحين واجهته محاولة معاكسة قام بها بعض اليهود المتزمّتين. دوِّنت في الأشهر اللاحقة، أي حين أقام في مكدونية أو كورنتوس.

بداية المراسلة مع كورنتوس
في المراسلة مع كورنتوس هناك رسالة ضاعت، هذا ما لا شكّ فيه (1 كور 5: 9). والباقي يظهر أمامنا في رسالتين تكادان تكونان متساويتين طولاً. ولكنّ التحليل يكشف مقاطع متلاحقة. في الرسالة الأولى، نجد تنوّعًا في المواضيع وتوسيعًا جديدًا في 5: 1 و6: 1 و6: 12 و7: 1 (توسيع جديد سُمَّي رسالة أرسلت من كورنتوس)؛ 8: 1 (يفترض سؤالاً آخر طرحه الكورنثيّون)؛ 15: 1 (يفتح موضوع القيامة)؛ 16: 1 (يعطي تعليمات عمليّة ويتحدّث عن مشاريع مستقبليّة). لن نقسم 1 كور إلى رسائل مستقلّة، ولكنّنا نقول إن الرسالة كُتبت في أوقات متباعدة. ولقد وَصلت المعلومات إلى بولس بواسطة ثلاث طرق: التقرير غير الرسميّ الذي أرسله بيت خلوة (1 كور 1: 11). رسالة كتبوها إليه وطرحوا عليه فيها أسئلة (1 كور 7: 1). زيارة المسؤولين المحلّيّين في الكنيسة أي إستفاناس ورفاقه (1 كور 16: 15- 18). يمكننا إذًا أن نفكّر بتأليف امتدّ بعض الوقت. أوّلاً: ف 1- 6. ثانيًاً: 7: 1- 11: 1. ثالثًاً: 11: 2- 16: 24. ولكنّ هذه القسمة غير أكيدة. وفي أيّ حال، ذهب إستفاناس ورفاقه حاملين معهم أقلّه 11: 1- 16: 24 (ما عدا ف 15). أنهى بولس هذا الإملاء قبل عنصرة سنة 55 (1 كور 16: 8). أمّا المشاكل التي يعالجها، فتتطرّق إلى حياة جماعة كورنتوس الخاصّة. ولكنّ التوسيعات الخطابيّة والعقائديّة هي صدر لكرازته في أفسس. وهناك إشارات في الخاتمة تجعلنا نستشفّ معارضة لإعلان الإنجيل في مدينة أفسس (1 كور 15: 32؛ 16: 19)، وهي تلتقي مع خبر أع 19: 23- 20: 1. غير أنّ سفر الأعمال لا يتكلّم عن خطر الموت الذي تتحدّث عنه 2 كور 1: 8- 10 بطريقة واضحة.

بولس وأهل فيلبّي
لم يحقِّق بولس مشاريعه القديمة. وفرضيّة توقيف وأسر في أفسس، تستند إلى شهادتين مباشرتين تلتقيان: شهادة 2 كور 1: 8- 10 وشهادة فل 1: 14 التي دوِّنت في السجن ساعة واجه بولس إمكانيّة حكم بالإعدام (فل 1: 20- 24). والتقارب بين الرسالتين واضح في التلميحات المتوازية إلى المسيحيّين المهوّدين الذين يحذّر بولس قراَّءه منهم (2 كور 11: 13- 23؛ فل 3: 2- 6). نحن ظاهريًّا أمام الخصوم عينهم الذين التقيناهم في الرسالة إلى غلاطية: لقد لاحقوا بولس في مكدونية وأخائية. هذه الإشارات المتلاقية تجعلنا نحدّد المراسلة مع أهل فيلبّي في أفسس وقبل نهاية سنة 57. ولكنّ الرسالة الحاليّة تطرح مشكلة على مستوى التأليف. نجد فيها ثلاث مقطوعات مجموعة: بطاقة الشكر للعون الماليّ الذي وصل إليه في السجن (فل 4: 10- 23)، رسالة دوِّنت في إطار الموت الممكن (فل 1: 1- 3 أ+ 4: 4- 7)، رسالة ثالثة يهاجم فيها المسيحيّين المتهوّدين في فيلبّي (فل 3: 3: 1 ب- 4: 3+ 4: 8- 9). ولقد ضَمَّت جماعةُ فيلبّي هذه المقطوعات الثلاث في رسالة واحدة.

بقية مراسلة بولس مع كورنتوس
تطرح 2 كور مسائل تأليفيّة. إنّ 2 كور 6: 14- 7: 1 يفصل بين قسمَيِ التوسع، ثمّ تبقى أربع مقطوعات مبعثرة. نستطيع أن نميِّز بطاقتين تتحدّثان عن اللمَّة من أجل كنيسة أورشليم: البطاقة الأولى موجّهة إلى جماعة كورنتوس (2 كور 8)، والبطاقة الثانية إلى كلّ كنائس مقاطعة أخائية (2 كور 9). والتوسيع الذي يسبقهما (2 كور 1: 1- 6: 13+ 7: 2- 16) هو موحَّد رغم بعض الاستطرادات، وهو يأتي في نهاية أزمة خطيرة سنجد لها حلاًّ قريبًا. ولكنّه يشير إلى رسالة كُتبت في الحزن والدموع (2 كور 2: 3، 4، 9؛ 8: 8)، على أَثَرِ زيارة سريعة انفجرت فيها الأزمة (2 كور 12: 14؛ 13: 1- 2). وأسلوب 2 كور 10: 11- 13: 10 يوافق هذه الظروف. أمّا القطعة التي لا عنوان لها ولا خاتمة، فهي معاصرة للرسالة إلى غلاطية وفل 3: 1- 4: 3. أُرسلت من أفسس بعد الزيارة وقبل السجن، فضُمَّت إلى سائر الملفّ الكورنتيّ. إذًا، تجعل هذه القطعة بعد الذهاب من أفسس والمرور في ترواس (2 كور 2: 12) والانطلاق إلى مكدونية (2 كور 2: 13) والإقامة في فيلبّي من حيث أرسلت الرسالة الأخيرة (2 كور 1: 1- 7: 16، ما عدا 6: 14- 7: 1. وكلّ هذا ينتهي مع 13: 11- 13). هذه الفرضيّة متماسكة وإن لم يقبل بها كلّ الشرَّاح، ولكنّها تدلّ على تأليف معقَّد عرفته الرسائل البولسيّة في الجماعات المسيحيّة

الرسالة إلى أهل رومة
حين عاد بولس إلى كورنتوس قضى هناك شتاء 56- 57. في هذه المدينة اعتنى بتدوين رسالة أرسلها إلى أهل رومة، فجاءت صدى لكرازته في كورنتوس. ولكنّها تطرح مسألة تأليفيّة: قد تكون المجدلة (روم 16: 25- 27) من تأليف بولس، ولكنّ جامعي الرسالة أغفلوها أو وضعوها في أماكن متنوّعة (بعد 14: 23 او 15: 33). ثمّ إن وجود خاتمتين (15: 33 و16: 20) يجعل ف 16 في موقع خاصّ. وعدد الأشخاص الذين يسلِّم عليهم بولس يجعلنا نفكّر بأفسس لا برومة التي هي مدينة لم يكن بولس قد ذهب إليها بعد. نجد بين هؤلاء الأشخاص برسكلّة وأكيلا اللذين يقيمان في أفسس حسب 1 كور 16: 19؛ أع 18: 28- 26. وأبسط الفرضيّات هي أن نفكّر أنّ هناك نسختين للرسالة: نسخة أولى أرسلت إلى رومة لتهيِّئ السفرَ العتيد (روم 15: 22- 29)، ونسخة ثانية أرسلت إلى أفسس بواسطة فيبة مع بطاقة السلامات (رج روم 16: 1). أمّا الحفاظ على النسخة الطويلة فيدلّ على أنّنا أمام نصّ أفسس ولكنّنا نجد النسخة القصيرة في بعض المخطوطات، وقد جاءت من رومة أو كورنتوس. وهكذا نلاحظ أنّ الرسائل تتوجّه إلى جماعات عديدة من أجل تعليمها ورعايتها (كو 4: 16).

المراسلة مع كولسّي
يعلّمنا سفر الأعمال (ف 21- 28) أنّ الأحداث عاكست المشاريع التي عبَّر عنها بولس في روم 15: 23- 32. أوقف في أورشليم في عيد الفصح من سنة 57 أو 58، ثمّ أرسل أسيرًا إلى قيصريّة من سنة 57 إلى سنة 59 (أو 58- 60). بعدها ذهب إلى رومة كسجين في خريف 59 أو 60. هناك أقام سنتين (أع 28: 30) يتمتعّ ببعض الحرّيّة. من رومة كتب البطاقة وقدَّمها إلى فيلمون ذاك الذين هو "سجين المسيح يسوع" (فلم 1، 9). كان بولسُ قد صار شيخًا (فلم 9) أي في عمر الستّين، إذا أخذنا بقواعد العالم القديم. ذهبت الرسالة إلى كولسّي مع رسالة إلى أهل لاودكية (كو 4: 16؛ رج 2: 1)، وقد حملهما تيخيكس وهو من آسية (يذكره أع 20: 4) وأونسيمُس (كو 4: 7- 9).
إرتاب البعض في نسبة هذه الرسالة، بسبب المواضيع المطروحة واللغة القريبة من لغة الفلسفة اليونانيّة وديانتها (وهذا ما يحاربه بولس: كو 2: 8). ولكنّهم نَسُوا الظروف التي يكتب فيها بولس رسائله. ليست مقالات لاهوتيّة، بل أعمالٌ رعاويّة يحدّد موضوعَها ولغتَها المشاكلُ التي يواجهها الرسول. فبعد الإقامة الثانية في كورنتوس التي تركت أثرًا في شميلة الرسالة إلى رومة، اتّخذ عمل بولس الرعائيّ منحًى جديدًا سَبَبُهُ الأخطارُ التي تهدّد الإيمان في جماعات آسية (كو 2: 8، 16- 18، 21- 23). ولقد نبَّه بولسَ إلى هذا الخطر إبفراسُ (كو 1: 7- 9؛ في 23) رفيقُه في العمل في كولسّي. وتمتزج المواضيع الجديدة مع مقاطع تقليديّة (فل 3: 1- 4: 6). بعضهم قال إنّ الرسالة أرسلت من قيصرّية (بين 58 و60) حيث الاتّصالات سهلة، والآخر قال إنّها أرسلت من رومة خلال الأسر (بين 59 و61 أو 60 و62). ولقد احتفظت لنا كنائس آسية بهذه الرسالة.

الرسالة إلى أفسس
ترتبط أف بالرسالة إلى كولسّي ارتباطاً وثيقًا، ولكنّها تستعيد مواضيعَ وتعابيرَ وردت في الرسائل الكبرى. وهي تبدو بشكل خطبة مبنيّة بناءً مُحْكَمًا. ولكن كيف نفسّر الخاصّيّات التي فيها؟ هل بدَّل بولس أسلوبه؟ هل ترك الحرّيّة لتلميذ تشرَّب من فكره؟ أم أنّ تلميذًا عرف كو والرسائل الكبرى، فدوَّن شميلة لاهوتيّة بولسيّة ليحتفظ بتقليد الرسول في بلاد آسية؟

الرسائل الرعائيّة (1 تم، 2 تم، تي)
إذا قابلنا هذه الرسائل بمعطيات سائر الرسائل (بما فيها كو، فلم، أف) نجد تبديلاً في المناخ وفي التوجيه اللاهوتيّ داخل التقليد البولسيّ. سنعود إلى هذا فيما بعد. أمّا ذكر استشهاد بولس في رومة، فأمر أكيد في تقليد القرن الثاني. ولكن متى استشهد؟ لا نعرف.

نحو مجموعة بولسيّة
في زمان موت بولس، كان وضع النصوص الخارجة من يده واضحًا. لقد احتفظت الكنائس بهذا الإرث المكتوب الذي يسند عملها ويؤسّس تقليدها. فالرسالة إلى رومة حُفظت في رومة رغم اضطهاد نيرون (بعد تمّوز 64 يوم أحرقت رومة). وقد وُجد أرشيف بولسيّ في تسالونيكي وفيلبّي وكورنتوس وأفسس وغلاطية وكولسّي والكنائس المجاورة. وتضمّن أرشيف أفسس الرسالة إلى رومة. واتّخذت 2 كور وفل شكلهما في الجماعات التي احتفظت بهما. وأمّا ما تبقّى من رسائل فدلّ على العلاقات بين الكنائس التي أسّسها بولس، بين كورنتوس وتسالونيكي (1 تس، 2 تس)، بين أفسس وفيلبّي (أف) بين أفسس وكورنتوس (2 كور)، بين أفسس وغلاطية (غل)، بين أفسس وكولسّي (رج أع 18: 23؛ 19: 1). إذًا، يمكننا أن نفترض أن الرسائل تنقلَّت بين الكنائس من مركز هو أفسس.

ب- الكتيّبات الأخرى قبل سنة 70
1- مشاكل الأناجيل
أوّلاً: التوثيق الإنجيليّ
حين صوَّرنا تكوين التقاليد الإنجيليّة، رأينا أنّ إطار هذا العمل كان المسيحيّة المتهوّدة في أورشليم واليهوديّة والجليل وسورية. وشكَّل انتقال الوثائق بين الكنائس بواسطة المرسلين أمرًا عاديًّا. ولم يطرح انتشارُها في الكنائس التي تسيطر فيها أكثريّة وثنيّة، أيّة مشكلة خاصّة. ولكن قد تكون حدثت أعمالُ تأليفيّة لتكيِّف النصوصَ واستعمالَها العمليّ.

ثانيًا: إنجيل مرقس
متى ألّفت ونُشرت الأناجيل الإزائيّة الثلاثة؟ كان الرأي القديم يقول إنّها ألِّفت قبل سنة 70، ولكنّ هذا الرأي تجاوزه الزمن. ورأينا أنّ إنجيل متّى الآراميّ دوِّن في تاريخ قديم. ولكنّنا لا نملك النصّ. أمّا مشكلة إنجيل مرقس فهي مختلفة. كان مرقس مساعدًا لبولس (أع 13: 5) ورفيقَ عمل له (فلم 24؛ كو 4: 10). سمّاه بطرس ابنه (1 بط 5: 13)، وعدّته 2 تم 4: 11 "ثمينًا من أجل الخدمة". وقال التقليد الذي أورده بابياس إنّه كان ترجمان بطرس. إذًا كان مرقس مُهَيَّأً ليحتفظ بالمواد الإنجيليّة المفيدة للكرازة. الأولى وليجمعها في كتاب. أمّا علاقة كتيِّبه بتقليد بطرس فيشهد عليها كلّ التقليد القديم. وهذا ما يوافق معطيات النقد الداخليّ. يقول إيريناوس: إنّه جمع هذه الكرازة بعد موت بطرس. وقال إكلمنضوس الإسكندرانيّ: قبل موت بطرس. وإنّ الهدف العمليّ لكتيّبه يتيح لنا أن نفترض تأليفًا مرحليًّا ونشرات متعاقبة. إذا قبلنا بهذا المبدأ، كان تقليدا إيريناوس وإكلمنضوس صدى لوجهتين من الواقع. ومهما يكن من أمر، فمرقس هو شخص من الدرجة الثانية. فلماذا يختبئ وراءه شخص آخر يستعين بسلطته؟ إذًا، هو صاحب إنجيله. أَمّا قرّاؤه فهم مسيحيّون من أصل وثنيّ احتاجوا إلى شرح العوائد اليهوديّة (مر 7: 3- 4). هناك كلمات لاتينيّة في نصّه جعلت الشرّاح يقولون إنّه دوَّن إنجيله لجماعة تقيم في إيطالية. أمّا التقليد القديم الذي يربط الكتاب بكنيسة رومة المحلّيّة حيث جاء بطرس ومات سنة 64- 65، فهو يوافق المضمون موافقة تامة.
قد تكون زيدت بعض الأمور ولا سيّما في خبر الالام. لا نجد أيّ تلميح واضح إلى دمار أورشليم. ولكنّ 13: 14 ب (إفهم هذا أيّها القارئ) يشير إلى الحرب اليهوديّة التي بدأت. هذا يعني أنّنا بين سنة 67 وسنة. 7. أتاح موت نيرون (حزيران 68) لمسيحيّي رومة أن يلتقطوا أنفاسهم، فاستعادوا عملهم الرسوليّ في رومة خلال الحرب من أجل الإمبراطوريّة (نيسان 68- تموز 69) أو في أيّام فسباسيانس (68- 69). هل أُلّف إنجيل مرقس بطريقة نهائيّة في هذا الوقت؟ الأمر معقول جدًّا.

2- مشاكل الرسائل ورؤيا يوحنّا
أوّلاً: رسالة بطرس الأولى
هي رسالة قديمة مثل يع وعب. (يرتبطان بالمسيحيّة المتهوّدة) ورسائل مار بولس. هناك من ينسبها إلى بطرس (1 بط 1: 1) الذي أَلّفها سنة 64- 65. في ذلك الوقت كان بطرس في رومة (= بابل، 5: 13)، وكان اضطهاد نيرون قد بدأ (تلميح في 4: 12؛ رج 3: 14). أمّا الإشارة في 5: 12 فتجعلنا نفترض أنّ سلوانس (أوسيلا في أع 15: 22) دوَّنها. كان سلوانس رفيق بولس، ونحن نستطيع أن نتتبعّ خطاه في أعمال الرسل والرسائل البولسيّة منذ المرور الأوّل للرسول في مكدونية (أع 17: 14) وكورنتوس (1 تس 1: 1؛ أع 18: 5) حتّى مروره التالي خلال الرحلة الثالثة (2 كور 1: 19)، أي من سنة 50 إلى سنة 57. وفي الأخبار المدوّنة في صيغة المتكلّم الجمع (نحن) في سفر الأعمال، لا شيء يعارض أن يكون سلوانس بجانب بولس حين سافر إلى رومة وأقام فيها سجينًا (61- 63). هل بقي سلوانس بعد ذلك بجانب بطرس؟ الأمر معقول. ومهما يكن من أمر، فعطيات الرسالة تبيِّن أنّ اسم سلوانس ارتبط باسم بطرس في التقليد الرومانيّ كما ارتبط اسم مرقس باسم بطرس (1 بط 5: 13).
ولكنّ النظرة التكوينيّة تعود بنا إلى ما قبل النصّ. فالرسالة تستعيد وتكيِّف مقاطع عديدة نكتشف فنّها الأدبيّ ووظيفتها بالنسبة إلى الليتورجيّا الفصحيّة أو بالنسبة إلى الليتورجيّا العماديّة. نتعرّف إلى تسابيح (2: 22- 24؛ 3: 18- 22؛ 1: 3- 5 الذي هو مباركة نثريّة؛ 5: 5- 9 الذي هو تحريض) ومواضيع كرازة حيث التلميحات العماديّة كثيرة (1: 3- 9؛ 1: 13- 21؛ 1: 22- 2: 10)، ورسمات تحريض تقابل ما نقرأه عند بولس، وتتَبع طقسَ المعموديّة (2: 11- 7؛ 3: 1- 7؛ 3: 8- 12؛ 4: 1- 6)، وتعليمات جماعيّة تأخذ بعين الاعتبار المواهب التي نالتها الجماعة (4: 7- 11)، أو تشير إلى بنى الجماعة (5: 1- 11). هذان المقطعان الأخيران ينتهيان بخاتمة خطابيّة تجعلنا نستشفّ أنّنا أمام رسالتين لا رسالة واحدة. من هذا القبيل نستطيع أن نقول إنّ 4: 12- 5: 11 تشكِّل رسالة خاصّة ترتبط بالعنوان وتشهد على التقليد الرومانيّ المتكلّم عن بطرس بعد سنة 70. لهذا نستطيع أن نتكلّم عن الرسالة بعد سنة 70 مع العلم أنّ الوحدات الصغيرة تعود إلى زمن قديم.

ثانيًا: رؤيا يوحنّا
هناك مقاطع من الرؤيا تتعلّق بالزمن الذي كانت فيه رومة (= بابل) مسؤولةً عن دمار أورشليم. دخلت هذه المقاطع في تأليف كتاب سنعود إليه فيما بعد، لأنّه لم يدوَّن قبل سنة 70 ب م.

الفصل التاسع
النتاج الأدبيّ في أرض الرسالة

من السهل أن نميّز قبل سنة 70 ب م الوسط المسيحيّ المتهوّد عن أرض الرسالة، ولكنّه تمييز اعتباطيّ. فمنذ البداية كانت الكنيسة رساليّة وشاملة بدعوتها، ولكنّ الموقف الذي اتّخذته الرسالة حيال المؤسّسة اليهوديّة الوطنيّة والدينيّة في فلسطين وفي الشتات، أظهر تدريجًا نوعين من الجماعات المحلّيّة: الأولى تنتظم في إطار العالم اليهوديّ وتنفتح على الوثنيّين "الخائفي الله" طبقًا للممارسة اليهودية (لو 7: 4- 5؛ أع 11: 1- 2؛ 16: 14؛ 18: 4- 7). ولكنّها تحترم القيود التي تفرضها الشريعة لتنظّم العلاقات بين المسيحيّين اليهود والمسيحيّين اللايهود (أع 15: 23- 29: نجد هنا صدىً لممارسة خاصّة بكنائس سورية وكيليكية). الثانية هي امتداد لموقف إسطفانُس والهلّينيّين المناهض للشريعة الضيّقة، تفتح الكنيسة على الوثنيّين دون أي قيد شرعيّ للاشتراك في التئام الجماعة (أع 11: 20- 26). إرتبط التيّار الأوّل بيعقوب أسقف أورشليم (أع 12: 17؛ 15: 13- 21 حيث الوثنيّون الذين اهتدوا إلى الله يُعتبرون سامعين للشريعة في اجتماعات الكنيس: أع 21: 17- 25). وانتشر التيّار الثاني انطلاقًا من أنطاكية في كلّ الشتات اليهوديّ. إلاّ أنّ رسالة برنابا وبولس لدى الوثنيّين ونظرتهما إلى الحرّيّة الإنجيليّة كانت بموضوع اعتراف في أورشليم لدى الذين هم في الكنيسة (غل 2: 6- 10).
لاشكّ في أنّ المسيحيّين المتهوّدين المحيطين بيعقوب قد صلَّبوا موقفه وحاولوا أن يفرضوا على الوثنيّين الختان وممارسة الشريعة (غل 2: 11- 13؛ أع 15: 1- 2، 5). بل نظّموا رسالات معاكسة لرسالة بولس وساروا على خطاه ينقضون ما عمله (غل 1: 6- 7؛ 5: 12؛ 2 كور 11: 4): امتلأت رسائل بولس من هذه التحذيرات من هؤلاء "الرسل العظام" (2 كور 11: 5)، من هؤلاء الرسل الكذبة والعمّال المخادعين (2 كور 11: 13)، من عمّال السوء والمختونين الكذبة الذين يشوّهون الجسد (غل 3: 2). ولكنّ سياسة بولس حيال المؤسّسة اليهوديّة ظلّت سياسة منفتحة: فالإنجيل في نظره يحمل الخلاص إلى كلّ من يؤمن، إلى اليهوديّ أوّلاً ثمّ إلى اليونانيّ (روم 1: 16؛ 2: 9- 10). وكان إعلانه للإنجيل في أيّ مدينة، يبدأ دومًا في قلب الجماعة اليهودية وفي المجمع. هناك تجذّرت الكنيسة ولم يتمّ الانقطاع إلاّ بمبادرة السلطات المحلّيّة (أع 17: 5- 9، 13- 14؛ 18: 6- 7؛ 19: 8- 9؛ 20: 3؛ 28: 25- 28؛ 1 تس 2: 14- 16). هو لم يبتعد عن كنائس الله في اليهوديّة التي في المسيح يسوع (1 تس 2: 12). بل يهنّئ الجماعات التي أسّسها لأنّها تتشّبه بتقوى هذه الجماعات. وهو من أجلها يقوم باللمّة وجمع التبرّعات (1 كور 16: 1؛ 2 كور 8- 9؛ روم 15: 26- 28؛ أع 24: 17) حسب الالتزامات التي اتّخذها على عاتقه حين كان في أورشليم (غل 2: 10). وهو يحتفظ بعادات هذه الجماعات حين لا تهدّد بالخطر الحرّيّة المسيحيّة تجاه الشريعة اليهوديّة (1 كور 11: 16؛ 14: 33- 34).
لا نستطيع القول إنّ هذا الموقف الجريء كان موقف كلّ المرسلين ولكنّه كان موقف برنابا (أع 11: 22 ي؛ 1 كور 9: 6) وأبلّوس (1 كور 16: 12) وآخرين غيرهما. ومن الممكن أن يكون "الإخوة" الذين التقاهم بولس ورفاقه حين وصولهم إلى إيطالية (أع 28: 13- 14) ورومة (أع 28: 14- 15) كانوا من المسيحيّين المتهوّدين الذين نظّموا نفوسهم على غرار كنائس اليهوديّة. في نظر بولس لم يكن في الكنائس لا يونانيّون ولا يهود (غل 3: 18؛ 1 كور 12: 13؛ كو 3: 11). ولكن كما كتب إلى مسيحيّي رومة الذين استعلم عنهم بواسطة برسكلّة وأكيلا (أع 18: 2؛ روم 13: 3 وهو نصّ أرسل من كورنتوس)، يبقى ممكنًا للمؤمنين أن يمارسوا فرائض الشريعة شرط أن لا يجعلوا من هذه الممارسة مسألة مبدئيّة (روم 14: 1- 6؛ 14: 21). وهذا الموقف المنوَّع يمنعنا من أن نَفْصِلَ فصلاً أساسيًّا بين مسيحيّة من أممية (أصل وثنيّ) ومسيحيّة متهوّدة. فالتقاليد التي تكوَّنت في إطار المسيحيّة المتهوّدة تجاوزت حدود فلسطين. وإذ نتفحّص الآن النِتاج الأدبيّ في أرض الرسالة، نفكّر قبل كلّ شيء بالكنائس التي انتشرت على خطى مار بولس أو تبنت قواعد حياة مماثلة للتي أعلنها. ومجموعة رسائله التي تتيح لنا أن نتأكّد من النصوص الموازية في سفر الأعمال تشكّل البناء الأهمّ. ولكنّنا نتساءل أيضاً عن وجود شهود جانبيّين في الرسائل أو في مجموعات إنجيليّة دوِّنت قبل سنة 70 ب م.

1- رسائل القدّيس بولس
كلّ تفحّص لرسائل القدّيس بولس يفرض علينا أن نأخذ بعين الاعتبار السوابق اليهوديّة لنفهم ما وراء بنيتها وشكل براهينها وطرائق لاهوتها.
بولس هو "من قبيلة بنيامين، عبرانيّ ابن عبرانيّ، وفي الشريعة فرّيسيّ" (فل 3: 5). هذه الإشارة العابرة تثبت المعطيات الواضحة في سفر الأعمال. ولد في طرسوس من أعمال كيليكية (أع 21- 39؛ 22: 3؛ رج 9: 1)، وتربَّى في أورشليم لدى قدمي جملائيل (أع 22: 3)، أي في وسط عبرانيّ حيث لتقليد الآباء اعتباره وحيث يُحتفل بالليتورجيّا اليهوديّة في العبرانيّة مع اللجوء الآراميّة، بقدر ما كان هذا اللجوء إلى اللغة المحكيّة ضروريًّا للترجوم والوعظ والصلاة. وبعد اهتداء بولس الذي فصله عن السلوك (هلكه) الفرّيسيّ، احتفظ بممارسات تأويليّة اكتسبها في الوسط الذي تربّى فيه. ومن الوجهة الاجتماعيّة كان بولس مواطنًا طرسوسيًّا (أع 21: 39) بل مواطنًا رومانيًّا منذ ولادته (أع 22: 25- 28؛ رج 16: 37؛ 25: 10- 20) ينتمي ظاهرًا إلى البورجوازيّة التي تتاجر بالخيام (أع 18: 3). حين أُوقف في أورشليم ظلّ ابن أخته هناك (أع 23: 16). لا شيء يبرهن أنّ بولس عاد إلى طرسوس قبل أن تَفْرِضَ عليه معارضةُ اليهود ترك اليهوديّة (أع 9: 30). فاليهود الهلّينيّون الذين يتدخّلون في الجدال مع إسطفانس ليسوا وثنيّين بل إنّهم يمارسون الشريعة ممارسة دقيقة (أع 6: 9- 12). ولم يكن بولس مختلفًا عنهم حين "اضطَهد كنيسة الله" (1 كور 15: 9؛ رج فل 3: 6؛ أع 8: 3؛ 9: 1- 4) ووافق على مقتل إسطفانُس (أع 7: 58، 8: 1). لن نتكلّم عن الاستعداد النفسانيّ قبل اهتدائه. ولكنّ كلّ شيء يدلّ على أنّه ممثّل نموذجيّ للوسط الفرّيسيّ المتجذّر في اليهوديّة والمنتشر في جماعات الشتات. ولكنّ أصله الطرسوسيّ أتاح له أن يكتسب منذ صباه اللغة اليونانيّة الضروريّة في الأوساط التجاريّة. نستنتج هذا من مشاركته في جدالات اليهود الهلّينيّين مع إسطفانُس (أع 6: 9- 10). أتقن لغتين فساعده هذا الوضع في رسالته. ولكنْ بين اهتدائه وبين أوّل رسالة كتبها مرّت 15 سنة أو 18 سنة كان فيها على اتّصال بالعالم اليهوديّ الهلّينيّ الذي طبع شخصيّتَه بطابعه.

1- ينابيع الرسائل البولسيّة
لا تعني كلمة "ينابيع" وثائق مكتوبة بل "وحدات صغيرة" فرزتها النظرية التكوينيّة والتاريخ التدويني منطلقة من شكل النصوص الأدبيّ ووظيفتها. ونحن نجد آثارًا واضحة لهذه الوحدات في رسائل بولس. كُتبت في مناسبات فارتبطت بمسائل ملموسة طرحت عليه بين سنة 50- 51 (أوّل إقامة في كورنتوس) وأسره في رومة (59/ 60- 62/ 63). وإذا أردنا أن نشرح مضمونها لن نعود إلى نهج لاهوتيّ قد يكون فكَّر فيه منذ اهتدائه. من الأفضل أن نفكر أوّلاً في أشكال عمليّة ارتداها عمله في الكنائس: إعلان الإنجيل لليهود وللوثنيّين، قراءة التوراة في الجماعة المسيحيّة، إعطاء التعليم إلى المؤمنين، الاحتفال الليتورجيّ الذي ترافقه الصلوات والأناشيد. كلُّ هذه العناصر التي تشكِّل ثوابت في نشاط بولس هي امتداد لِمَا نجده في العالم المسيحيّ المتهوّد. فليس من الضروريّ أن نستعيد بالتفصيل مسألة مكانها في حياة الرسول وفي حياة الكنائس التي أسسّها. ولكنّ بحثًا من هذا النوع يعرّفنا إلى النصوص المسيحيّة التي نُقلت إلى الكنائس البولسيّة، والتي أُنتجت لتلبّي حاجة هذه الكنائس، وحُفظت في إطارها. وهذا ما لم نستطع أن نفعله بالقدر ذاته بالنسبة إلى كنائس اليهوديّة القديمة، فالوسطاء بين هذه النصوص (كانت شفهية) وبيننا قليلة. وإن يكن خلق هذه النصوص امتدّ على 25 أو 30 سنة، فتطوَّرَ شكلُها ومضمونُها تطوّرًا موازيًا لفكر بولس، فنحن نقدر أن نجمعها في مقالات كبيرة حسب النهج الذي أخذنا به في دراسة النصوص القديمة في العالم المسيحيّ المتهوّد.

أوّلاً: بولس والتقليد السابق لبولس
إنّ تجذّر بولس الأوّل في مسيحيّة دمشق المتهوّدة (غل 1: 17؛ 2 كور 11: 32 ي؛ أع 9: 10- 25) والمطعَّمة بجماعة أورشليم واليهوديّة، واتصاله ببطرس (وبيعقوب) في أورشليم (غل 1: 18 ي؛ أع 9: 26- 29) وإقامته في كيليكية في وسط يهوديّ (غل 1: 20؛ أع 9: 30) ثمّ في كنيسة أنطاكية التي أسّسها المسيحيّون المتهوّدون والهلّينيّون (غل 11: 13؛ أع 11: 25- 26)، كلّ هذا كانت له نتائج أكيدة عليه: فلا أصالة اهتدائه الشخصيّ، ولا قراءته المسيحيّة للتوراة منعاه من الولوج في تقليد سابق له ومن الإفادة من عناصره. لهذا لجأنا إلى رسائله لنبحث عن أقدم أدب مسيحيّ. ولكنّ البحث عن التقليد السابق لبولس يبدو صعبًا حين نطلب أقوال يسوع أو أخبارًا تتعلّق بأعماله. فالهدف العمليّ للرسائل لا يدفع بولس إلى إيراد هذه العناصر التي سُلّمت إلى الكنائس منذ تأسيسها. ولكنّنا نجد مع ذلك بعض الآثار. مثلاً: يلجأ 1 تس 4: 15 إلى كلمة الربّ لتزيل شكًّا في موضوع الرجاء. ولكن 1 تس 5: 1- 2 يلمّح إلى نصوص يعرفها الجميع. وإن 1 كور 7: 10 يورد فريضة تقابل مر 10: 7- 9. غير أنّ 1 كور 7: 25 يدلّ على أنّ بولس لا يقدر أن يعود دومًا إلى تعليمات واضحة من يسوع. هذه الشهادات العرضيّة المقحمة في الرسائل، تفتح أمامنا منظورًا مهمًّا حول نقل التقليد الإنجيليّ. فبولس تشبَّه بالمرسلين المسيحيّين المتهوّدين، فترك في الكنائس تعليمات شفهيّة كما ترك نصوصًا مكتوبة: إِمّا نصوص التوراة التي كانت كرازته تفسيرًا لها، وإمّا نصوص تحدّد مضمون الإنجيل.

ثانيًا: إعلان الإنجيل
لقد أشرنا إلى ملخَّصات الإنجيل التي استُعملت في الكرازة، في إطار التقاليد السابقة لبولس. ونزيد عليها بعض المقاطع التي هي صدى لنشاط بولس حين سلّم "إنجيل الله" (1 تس 2: 8) أو "إنجيل المسيح" (غل 1: 7) أو "كلمة الحقّ" (كو 1: 5) التي "قُبلت بفرح الروح القدس" (1 تس 1: 6). كان يكفي للمؤمنين الذين من أصل يهوديّ أن يعترفوا بالإيمان بيسوع الربّ (روم 10: 9) الذي مات لأجل خطايانا وقام في اليوم الثالث "كما في الكتب" (1 كور 15: 3)، ولكن وجب على المؤمنين من أصل وثنيّ أن يقوموا باهتداء أكثر جذريّة. يَذكره بولس بسرعة في 1 تس 1: 9- 10 فيقدِّم لنا نقاط الكرازة التي كان يوجّهها إلى هذه الفئة من الناس: تركَ الأوثان، خدمةَ الله الحيّ، موتَ وقيامةَ يسوعَ ابنه الذي ننتظر مجيئَه ليخلّصَ مؤمنيه من الغضب الآتي. إنّ القسم الأوّل من هذه الرسمة يطابق الكرازة للوثنيّين كما عرضها لوقا في خطبة بولس في لسترة (أع 14: 15- 17)، أمّا نهايتها فهي تقابل خطبة بولس في ساحة أثينة (أع 17: 30- 31): إذًا يذكرُ بولسُ بدقّةٍ المواضيعَ الرئيسيّة للكرازة البولسيّة. قَلَبت طلباتِ اليهود والوثنيّين الطوعيّة، فكانت إعلانًا للمسيح (لقب مجيد أعطي للقائم من الموت) المصلوب (تذكير بمصيره على الأرض) (1 كور 1: 22- 23). على أساس هذه النصوص، نستطيع أن نفترض أنّ صيَغًا عابرة تتضمّن مواضيع عامّة ارتبطت بإعلان الإنجيل كما كان يقدّمه بولس أمام اليهود والوثنيّين. ولكن بما أنّ الرسائل تتوجّه إلى مهتدين فمن النافل أن نبحث طويلاً عن آثار هذا الفنّ الأدبيّ.

ثالثًا: تعليم المؤمنين
لا بدّ من أن نضع هنا مقاطع الكرازة المرتبطة ارتباطاً مباشرًا بالمعموديّة، لأنّ المعموديّة هي خاتمة البلوغ إلى الإيمان. ومن الواضح أنّ بولس يبشّر أكثر ممّا يعمّد، وهو يترك هذا العمل لمعاونيه الذين يرافقونه في رسالته (1 كور 1: 14- 17). ومع هذا نستخرج التلميحات العماديّة في الرسائل، وبالأخصّ حين تتردّد في مواضع عديدة وحسب رسمات متشابهة. حينئذ تكون النصوص صدى لكرازة ترافق المعموديّة "باسم المسيح"، وتكرارها يُعيد المعمَّدين إلى الخبرة الأساسيّة لحياتهم الجديدة التي أعطيت للذين تعمّدوا في المسيح (روم 6: 3) فلبسوا المسيح (غل 3: 7): إنّهم يشتركون في موت المسيح وقيامته (روم 6: 1- 11)، وينالون الروح (1 كور 12: 13)، ويؤلّفون جسدًا واحدًا رغم تنوّع أصلهم (غل 3: 27- 28؛ 1 كور 12: 13؛ كو 3: 11). ومن جهة ثانية، يقدّم بولس قاعدة حياة توجِّه سلوك المعلَّمين: هي القاعدة التعليميّة التي يخضع لها المؤمنون (روم 6: 17). ونحن نستطيع أن نُعيد بناءَ خطوطها الكبرى.
حين يأتي يومُ الربّ، يُمنع من الدخول إلى ملكوت الله كلُّ الذين يتشبَّهون بعوائد العالم الوثنيّ ويمارسون رذائله: وتشير لوائح الرذائل (1 كور 6: 9- 10؛ غل 5: 19- 21؛ رج أف 5: 5) إلى كرازة معروفة (ألا تعلمون؟ رج 1 كور 6: 9) تعود إلى المعموديّة (1 كور 6: 11). فالتحريض على الحرب ضدّ الخطيئة يرتبط بشرح الاختبار العماديّ (موضوع يتوسّع فيه روم 6: 12- 13). ويمكننا أن نُرجعَ إلى هذا الإطار التعليمَ عن الوصيّة التي تتضمّن الوصايا الأخرى، والتي تحدّد المواقف الواجب اتّخاذها تجاه القريب (غل 5: 14؛ روم 13: 8- 10؛ رج مر 12: 31 وما يقابله). فالتعليمات الخاصّة المعطاة لمختلف الفئات الاجتماعيّة حول واجبات حالتها يحد في هذه القرينة وضعًا يُنِيْرُ درَبنا. تعود 1 كور 7: 17- 24 ثماني مرّات إلى موضوع الحالة التي يكون المؤمن فيها حين جاءه نداء الله مع تطبيق على المختونين واللامختونين، على العبيد والأحرار. نحن هنا أمام قاعدة وُضعت في كلّ الكنائس (1 كور 7: 17). ونصّ كو 3: 18- 4: 1 الذي يعالج واجبات الرجال والنساء، والأولاد والأهل، والعبيد والأسياد، يرجع إلى تعليم يتوجَّه إلى معمَّدين جدد، شأنه شأن سائر النصوص الموازية: روم 13: 1- 7 يوجّه الفكر نحو واجبات المواطن، أف 5: 21- 6: 11 يتوسَّع في نصّ كو 3: 18- 4: 3؛ 1 بط 2: 11- 3: 7 يستعيد كلّ هذه المعطيات في توسيع إجمالي.
إنّ التذكير بالتعليمات العماديّة، كما نجده في الرسائل، يتكيّف كلّ مرّة مع وضع المؤمنين. ونحن نستطيع أن نميّز تدرّجًا في التعليم العقائديّ من رسالة إلى أخرى. ولكن يبدو من المنطقيّ أن نبحث في كلّ حالة عن صدى مباشر لكرازة ألقاها بولس في كنيسة كان فيها حين أرسل رسالته. تعكس 1 كور كرازتَه في أفسس سنة 55، وروم كرازته في كورنتوس في شتاء 56- 57. إذا كانت هذه النظرة صحيحة، فاستقبال المعمَّدين الجدد خلال الإقامة الأخيرة في كورنتوس قدّم لنا تهيئة خطابيّة لنقاط وعظة عاديّة نجد آثارها في روم 5- 8 و12: 1- 13: 14.

رابعًا: قراءة التوراة وشرحها
خدمة كلمة الله في الكنائس
يمكننا أن نفكّر أنّه بعد وقت محدَّد وفي سير عمل الكنائس العاديّ، تنظَّم الاستعداد للمعموديّة تنظيمًا دقيقًا (غل 6: 6)، ومارست الكنيسةُ الطقسَ خلال اجتماع الجماعة "في اليوم الأوّل من الأسبوع" (1 كور 16: 1- 2). خلال هذا الاجتماع، يحتلّ إعلانُ الكلمة المكانة الأولى في المسيحيّة المتهوّدة. لهذا حين يعدِّد بولس مواهبَ الروح (1 كور 12: 28)، يذكر في رأس اللائحة الوظائف الثلاث التي تكلّمنا عنها آنفًا: "أوّلاً الرسل، ثانيًا الأنبياء، ثالثًا المعلّمون". والذين يمسكون بهذه الوظائف لا يربتطون بالضرورة بجماعات خاصّة. هم يستطيعون أن يذهبوا من كنيسة إلى أخرى على مثال بولس ورفاقه، وعلى مثال أبلّوس (1 كور 3: 5- 6؛ 16: 12). وفي الجماعة تمارَسُ أيضاً المواهبُ الخاصّة التي يعدّدها الفصلُ ذاته (1 كور 12: 8- 10) ومنها: كلام المعرفة، وكلام الحكمة اللتان تُمنحان للجميع وترتبطان بخدمة الكلمة. وبجانب هؤلاء الأنبياء الذين يقومون بمهمّتهم (1 كور 12: 28)، هناك ممارسة النبوءة الموزَّعة توزيعًا واسعًا (1 كور 11: 4- 5). بإلهام الروح (1 كور 14: 37) يبني النبيّ ويعزّي ويشجعّ (1 كور 14: 3) ويعلِّم ويحرّض (1 كور 14: 31). وقد يكون لكلّ مؤمن نشيد وتعليم ووحي وخطبة في الألسنة وتفسير (1 كور 14: 26)، وإذا كان من الضروريّ أن تكون مراقبة (1 كور 14: 32) فلكي يتمّ كلّ شيء في نظام (1 كور 14: 40) بحيث تُبنى الكنيسة (1 كور 14: 26)
وستكون هذه المتطلّبة الأخيرة بغير جدوى، إذا تُركت الجماعة لعفويّة المبادرات الخاصّة. فالأنبياء لا يراقبون الواحدُ الآخر فحسب (1 كور 14: 32)، بل يوجد في الكنائس مسؤولون ينضمّ المؤمنونَ تحت لوائهم (1 كور 12: 28). ولكنّ 1 تس التي لا تجهل مواهب النبوءة (1 تس 5: 19) تذكر بوضوح الذين يرئسون الجماعة. إنّهم يتعبون من أجل الجماعة، يوبِّخون المؤمنين ويُتمّون عملاً (1 تس 5: 12- 13) هو امتداد لعمل الرسول المؤسّس. وتجعل روم التي تعكس بُنية كنيسة كورنتوس التي منها بُعثت، وظيفة الرئاسة بين مواهب الروح (روم 12: 8) مع النبوءة والخدمة والتعليم والتحريض، ونشاطات العطاء والرحمة (روم 12: 6- 8). ويمكن أن يتميّز الاهتمام بالنظام والوحدة في الجماعة عن خدمة الكلمة بكلِّ أشكالها. فهذه الخدمة تفترض كفاءات خاصّة، ليس فقط للتكلّم في حفل من الناس، بل لمعرفة وتفسير هذه الكلمة التي تلتقي فيها التوراة بإعلان الإنجيل.

صدى الكرازة البولسيّة
لا يحدِّثنا بولس مرّة واحدة عن قراءة التوراة في الجماعة، ولا عن طريقة التذكير بالإنجيل. فهذان العنصران الهامّان لا يطرحان سؤالاً على المؤمنين، ولكنّ الرسالة كلّها تفترضهما. والطريقة التي يعود فيها إلى التوراة تبقى مبهَمة لو لم تكن ثقافة قرّائه الكتابيّة في درجة متقدّمة. فقراءة وشرح التوراة قراءة مسيحيّة، وانتقالها من المجمع اليهوديّ إلى اجتماع الكنيسة، يشكِّل إحدى ركائز التعليم للمؤمنين. وتحليل الرسائل يساعد على اكتشاف وحدات صغيرة نرى فيها صدى لكرازة بولس الذي كان تلميذَ معلّمٍ يهوديٍّ وصار معلّمًا مسيحيًّا. مثلاً: في 1 تس 4: 1- 8 عن السلوك المسيحيّ في ما يتعلّق بعالم الجنس، مع عدّة تلميحات كتابيّة تفترض إيراد النصوص وشرحها. وفي 1 تس 4: 9- 12 حيث التلميح إلى الحبّ المتبادل يفترض رجوعًا إلى نصّ ورد في روم 13: 8- 10. ففي الحالتين نحن أمام سلوك (هلكه) مسيحيّ نجده في رسائل عديدة، فنستشفّ فيه مواضيع وعظ ثابتة وعاديّة (ق 1 تس 4: 4- 8 و1 كور 6: 19- 20 الذي يبدأ بالعبارة: أما تعلمون؟). ومواضيع الوعظ العماديّ تعود في إطار الجماعة المسيحيّة، لأنّ "الخلاص هو الآن أقرب إلينا ممّا كان يوم آمنّا" (روم 13: 11). وقد يكون من المدهش أن لا تحتفظَ الكنائس بهذه العناصر الأساسيّة للتعليم الرسوليّ (شفهيًّا أو خطّيًّا)، وتذكِّرَ بها المسيحيّين وتنقلَها إلى المهتدين الجدد.
ونكتشف في الرسائل رسمات كرازة تفترض قراءة النصوص الكتابيّة قراءة دقيقة. مثلاً: يقدّم 1 كور 5: 7- 8 رسمة عظة بولس في أفسس خلال الاحتفال بعيد الفصح سنة 57، بعد قراءة النصّ الذي تقرأه الليتورجيّا اليهوديّة: خر 12: 1- 20 (مع التلميح إلى 12: 6- 8، 15). ويفترض 1 كور 10: 1- 13 قراءة من سفرَيِ الخروج والعدد ترافقها تطبيقات مسيحيّة. وهذه التلميحات تبقى غير مفهومة إن لم يرافقها وعظ مفصَّل ودقيق. ونجد وعظة مماثلة عن مكان التجربة في حياة المؤمنين، في أماكن أخرى من العهد الجديد: في عب 3: 7- 4: 11 تلتصق العظة بالمزمور 95: 7- 11، وهي تفترض، خلف تجارب المسيح في متى (4: 1- 11) ولوقا (4: 1- 13) تفسير عدَّة نصوص من سفر التثنية ومن مز 91: 11- 12. ونصّ غل 3: 6- 18 حيث يحيط بالتوسيع البولسيّ تك 12: 3 (في آ 8 و16)، هو صدى عن عظة على تك 12: 1- 9 الذي يُقرأ في المجمع. ثمّ إنّ كل 4: 22- 31 هي رسمة لعظة عن تك 16 أو 21: 1- 21 مع أش 54: 1- 10، كما يُقرأ في الكنيس.
وتوسيع روم 4: 1- 24 الذي يقع بين إيرادين لسفر التكوين 15: 6 (آ 3 و22)، يُشبه عظة على تك 15 تُغذِّيها إيرادات كتابيّة على طريقة الرابّانيّين. نحن هنا أمام أَثَرٍ غير مباشر لعظة بولس في كورنتوس حول هذا النصّ الذي قُرىء في الجماعة. إنّ تحليلاً دقيقًا للرسالة إلى رومة (ف 9- 11) يتضمّن ملفًّا كتابيًّا غنيًّا جدًّا، يجعلنا نجد آثار عظات في كورنتوس حول النصوص المذكورة. وتكاثف الإيرادات التوراتيّة في هذه الفصول برهان قاطع على قراءة الكتاب المقدّس من أسفار موسى إلى الأنبياء والمزامير في كنيسة كورنتوس حيث كان بولس حين كَتب روم. وهناك مقاطع من الرسالة عينها مثل 12: 6- 21، و15: 8- 12 تطرح علينا سؤالاً مماثلاً. وفي 2 كور حيث ف 1- 9 تتضمّن رسائل متميّزة، بُنيت التوسيعات بناءً مُحْكَمًا فلا نحاول أن نفتّتها ونبعثرها. أمّا 2 كور 6: 14- 7: 1 فهي رسمة عظة على موضوع محدّد. ونتعرّف أيضاً في 2 كور 9: 6- 10 إلى مقطع خطابيّ له وحدته الخاصّة.
إنّ هذه الأمثلة تعطينا فكرة كافية عن الوعظ الذي قدّم الموادّ للرسائل. فالتعليمات التي قِيلت شفهيًّا سبقت وهيّأت التعليمات التي دوِّنت في الرسائل.

العشاء الإفخارستيّ
يومَ دوِّنت رسائلُ القدّيس بولس كان اليونانيّون (أي المؤمنون الذين من أصل وثنيّ) هم الأكثريّة، مع أنّ اليهود واليونانيّين كانوا يشاركون في اجتماعات الكنيسة على قدم المساواة (غل 3: 28؛ 1 كور 12: 13). فالعالم اليهوديّ الرسميّ أظهر عداء لإعلان الإنجيل، ولا سيّما وإنّ بولسَ يقدّمه للوثنيّين ولليهود (1 تس 2: 13- 16). وترتّبت الاجتماعات لتجعل المؤمنين يعون وحدتهم وأصالتهم تجاه العبادات الوثنيّة وتجاه العالم اليهوديّ نفسه. إلا أنّ قراءة التوراة وشرحها في وعظ إنجيليّ، والصلاة والنشيد المشترك، كلّ هذا استفاد من ليتورجيّة المجمع: إختار بولس ما اختار وأعاد تفسير النصوص على ضوء حياة المسيح وتعليمه
أمّا العناصر المسيحيّة الخاصّة التي تعطي معنى لما تبقّى من عناصر، فهي إعلان الإنجيل وعشاء الربّ، وكلاهما يرتبطان ارتباطاً وثيقًا كما بيّنا ذلك حين درسنا المسيحيّة المتهوّدة الأولى. من الصعب أن نرسم مسيرة الاجتماعات، ونحدّد مكانًا دقيقًا لكأس البركة والخبز المكسور (1 كور 10: 16) في إطار عشاء أخويّ يشكّل عنصرًا أساسيًّا للاجتماع. يتحدّث 1 كور 11: 20- 21 عن طعام المساء، عن العشاء (ديبنون في اليونانية). وهذا ما نفهمه، لأنّ الاجتماع المسيحيّ يتمّ بعد نهار من العمل. كانت تتوزّع القراءات والتعليمات، والنبوءة والصلاة (1 كور 11: 4 ي)، والأناشيد والتعاليم، والوحي والتكلّم بألسنة (1 كور 14: 29)، على مدى اجتماع يمتدّ طويلاً إلى الليل كما في أع 20: 7- 11.

الصلاة المشتركة
لا يحدّثنا بولس عن قواعد الصلاة المشتركة الخاضعة لإلزامات الخير العامّ (1 كور 12: 7) والوقار والنظام (1 كور 14: 40). فالمسائل الواجب حلّها لا تأتي من هذه الجهة، لأنّ التقليد الموضوع في كلّ كنيسة قد وَضع الأمور في نصابها. ولكنّ بولس يذكُر صلوات يتلفّظ بها الرجال والنساء بصوت جمهوريّ (1 كور 11: 4- 5)، وهي عادة تختلف عمّا يصنع في الكنيسة حيث تقف النساء على انفراد. ويعلن أنّ المؤمنين يقدرون أن يسمعوا أناشيد ملهمة (1 كور 14: 26؛ كو 3: 16). نحن هنا أمام مواهبيّين يعبّرون عن عاطفة دينيّة لا تَدخل في نظام. لم تصل إلينا الكلمة النبويّة كما لم تصل الصلوات التي ارتجلها المؤمنون في هذه الاجتماعات.

أناشيد وتسابيح
إنّ تلميح كو 3: 16 إلى مزامير وأناشيد وتسابيح يجعلنا نستشفّ اهتمامًا بالترتيل عرفته الليتورجيّا اليهوديّة والعبادات السرّيّة الوثنيّة. فيمكننا أن نفترض أنّ هناك أناشيدَ مسيحيّةً ألِّفت للاستعمال العامّ حتّى بعد أن انتقل الإنجيل من وسط يهوديّ بنوع خاصّ إلى وسط هلّينيّ تشرّب بالثقافة الوثنيّة. والعودة إلى المزامير والتراتيل المأخوذة من التوراة قدَّمت الصيغ الأولى للكنيسة في أوّل عهدها. وحين ذكرنا أعلاه وجود هذه المقطوعات المسيحيّة في كنائس اليهوديّة، لاحظنا ارتباط بولس بالمسيحيّة القديمة. يبقى علينا أن نتفحّص مسألة الأناشيد والتسابيح التي أوردها في المناسبات. وإذا لم تكن النصوص كثيرة في الرسائل، فهذا يعني أنّ الكنائس لم يكن بتصرّفها العديد متنها: المهمّ هو توسيع الفكرة لدى بولس، وقد يُدفع إلى استعمال هذا النشيد أو ذاك أو لا يُدفع. ونتردّد أيضاً في التعرّف إلى أصل هذه الأناشيد الدقيق. هل ألَّفها بولس أم وُضعت قبل بولس؟ الأمر لا يهمّ. وهناك بعض نصوص أُقحمت في مجموعة رسائل بولس وكانت متأخّرة. وقد يكون أنّ بولس حين أورد بعض النصوص كيّفها وقرينة رسائله، فحوَّر فيها وزاد عليها.
إنّ الدراسات المتقاربة تدعونا لأنّ نضع جانبًا النصوص التالية: المديحان للمسيح المحفوظان في فل 2: 6- 11 وكو 1: 15- 20، وقطعة من نشيد غنائيّ يرد في أف 5: 14 وقطعة وضعت في روم 16: 25- 27 (هي في مكان آخر في بعض المخطوطات أو حذفت في مخطوطات أخرى) لمجد الله، وبعض المقاطع القديمة التي احتفظت بها الرسائل المتأخّرة (1 تم 3: 16؛ 6: 15- 16؛ 2 تم 2: 11- 13). لا نستطيع أن نقول شيئًا عن زمان تأليف النصوص الثلاثة الأخيرة. أمّا المديحان الأوّلان فيُظهران لنا أسلوبَ الصلاة بين الرسالة إلى فيلبّي (وهي معاصرة للرسائل الكبرى) وبين الرسالة إلى كولسيّ (التي دوِّنت خلال أسر رومة). الخلفيّة التوراتيّة واضحة في فل 2: 6- 11. ولكنّ مسيرة المقطوعة تتبع خطّ الاعتراف بالإيمان الإنجيليّ، والهتاف ليسوع الربّ (فل 2: 11) يحوّل معنى النصوص الكتابيّة التي استعملها. ونصّ كو 1: 15- 20 أقرب إلى العالم اليونانيّ والاعتقادات الشرقيّة، ولكنّ هذا الشكل الجديد من التعبير هو في خدمة كرستولوجيا تُبرز ما نقرأه في الرسائل الكبرى. ثمّ إنّه من الممكن أن ترتبط هذه القطعة بليتورجيّا عماديّة، شأنها شأن مقاطع أخرى عديدة من الرسالة عينها. مهما يكن من أمر، فصيغة الإيمان والصلاة خرجت من قالب يهوديّ نكتشفه خاصّة في الأناشيدِ القديمة التي استعملها لوقا (1: 46- 55، 68- 79). هذهِ بعضُ محطّاتٍ في عمليّة خلق نصوص رافقت دخول الإنجيل في الأوساط الثقافيّة اليونانيّة.

2- الرسائل في نشاط بولس الرعائيّ
أوّلاً: وظيفة الرسائل
ليس من الضروريّ أن نناقش إذا كان ما كتبه بولس هو رسائل بسيطة كما عرف العالم اليونانيّ القديم، أو مقالات بشكل رسائل تُقرأ بطريقة احتفاليّة. لم يكتب بولس من أجل الدعاية، بل ليحلَّ المسائل الراعويّة العامّة في داخل الكنائس. وقد وُضعت رسائله لتُقرأ في اجتماع الجماعة (1 تس 5: 27)، أو لتُرسل إلى كنائس أخرى من أجل بنيان الجميع (كو 4: 16). وحتّى البطاقة المرسلة إلى فيلمون، والتي ترافق الرسالة إلى كولسيّ، فهي تتضمّن في العنوان أسماء فيلمون وأبفية (زوجته على ما يبدو) وأرخبّس الذي تسلّم مهمّة الخدمة (كو 4: 7) والكنيسة التي تجتمع عند فيلمون: نحن إذًا أمام نصّ عامّ، ولهذا حُفظ في الكنيسة. وإذا قابلنا رسائل بولس بما تركه لنا العالم اليهوديّ (2 مك 1: 1- 10)، نجد أصالة بولس ككاتب رسائل وارتباطَه ببعض توسيعات تتعلّق بنشاطه الشفهيّ في الجماعات الكنسيّة. أمّا المواضيع التي يتطرّق لها، فهي ترتبط بهموم خدمته وهي متنوّعة تنوّع الظروف التي كُتبت فيها هذه الرسائل.
لم يَكتب بولس بيده إلاّ جملاً قصيرة في نهاية رسائله (2 تس 3: 17 ي؛ 1 كور 16: 21- 42؛ غل 6: 11- 18؛ كو 4: 18). كان يملي مجمل الرسالة على سكرتير حُفظ اسمه (ترتيوس) في حالة خاصّة (روم 16: 2). وقد يكون بولس نفسه أقحم الاسم هنا بين آ 21 و23. يمكننا أن نجادل حول الزمن الضروريّ لإملاء الرسالة كمّيّة الورق الضروريّ، وعدد النسخات (نرسلها إلى الكنائس أو نحتفظ بها في الجماعة التي يقيم فيها بولس حين يكتب)، والحرّيّة التي يمنحها بولس لسكرتيره لكي يضع اللمسات الأخيرة لرسالته. قد تُلقي هذه الاعتبارات ضوءًا على بعض الخصائص وتحلّ بعض المشاكل. ولكنْ يجب أن نهتمّ بمجهود رئيسيّ يوجّه انتباهنا إلى نقطة أساسيّة: بما أنّ هذه هي وظيفة الرسائل، كيف تتيح لنا علاقتها بنشاط الرسول الراعويّ أن نكتشف نظام تأليفها وزمن إرسالها؟

ثانيًا: نظام الرسائل وأزمنتها
حين نَرسم نشاط بولس الرسوليّ نعود إلى مرجعين: رسائله نفسها، وخبر سفر الأعمال (ف 16- 28). هناك نقاط لا تزال عالقة سنشير إليها ونعطي رأينا.

بولس وتسالونيكي
أرسل بولس 1 تس من كورنتوس سنة 50- 51، بعد تأسيس الكنيسة المحلّيّة بزمان قليل (أع 18: 1- 18). ونحن نجد في هذه الرسالة لا صيَغًا سابقة لبولس وتعليمات محدودة عن كنيسة تسالونيكي وحسب، بل نجد أيضاً صدى لكرازة بولس الأولى في كورنتوس. ولكن تواجهنا صعوبات في 2 تس وبالأخصّ المقاطع الجليانيّة والموقف الجديد المتعلّق بالمجيء. على كلّ حال، دوّنت 2 تس بعد 1 تس ببضعة أشهر.
تشكِّل سَفرة بولس إلى أورشليم عبر أفسس وقيصرّية (أع 18: 19- 22) فجوة في الرسائل التالية. جاء بولس من أورشليم إلى أنطاكية، وعبَر منطقة غلاطية وفريجية. في ذلك الوقت جلب رفاقُه القدامى في الرسالة، اليهوديَّ أبلّوس إلى معرفة كاملة للإنجيل وحثّوه على الذهاب إلى كورنتوس في أخائية (أع 18: 23- 28؛ 1 كور 3: 5- 6). حينذاك وصل بولس إلى أفسس وأقام فيها سنتين وثلاثة أشهر، من 54 إلى 57 (أع 19: 1- 20: 1). في هذا المكان يبدو خبر لوقا ناقصاً، وهو أمر مؤسف لأنّ هناك مراسلة بين سنة 55 وشتاء 56- 57: الرسالتان إلى كورنتوس، الرسالة إلى فيلبّي، الرسالة إلى غلاطية.

الرسالة إلى غلاطية
لا تطرح هذه الرسالة مُشكلة على المستوى التأليفيّ، لأنّها تكوّن قطعة واحدة. ارتبطت بمرور بولس في غلاطية (أع 18: 23) فدوِّنت في نهاية إقامته في أفسس، وحين واجهته محاولة معاكسة قام بها بعض اليهود المتزمّتين. دوِّنت في الأشهر اللاحقة، أي حين أقام في مكدونية أو كورنتوس.

بداية المراسلة مع كورنتوس
في المراسلة مع كورنتوس هناك رسالة ضاعت، هذا ما لا شكّ فيه (1 كور 5: 9). والباقي يظهر أمامنا في رسالتين تكادان تكونان متساويتين طولاً. ولكنّ التحليل يكشف مقاطع متلاحقة. في الرسالة الأولى، نجد تنوّعًا في المواضيع وتوسيعًا جديدًا في 5: 1 و6: 1 و6: 12 و7: 1 (توسيع جديد سُمَّي رسالة أرسلت من كورنتوس)؛ 8: 1 (يفترض سؤالاً آخر طرحه الكورنثيّون)؛ 15: 1 (يفتح موضوع القيامة)؛ 16: 1 (يعطي تعليمات عمليّة ويتحدّث عن مشاريع مستقبليّة). لن نقسم 1 كور إلى رسائل مستقلّة، ولكنّنا نقول إن الرسالة كُتبت في أوقات متباعدة. ولقد وَصلت المعلومات إلى بولس بواسطة ثلاث طرق: التقرير غير الرسميّ الذي أرسله بيت خلوة (1 كور 1: 11). رسالة كتبوها إليه وطرحوا عليه فيها أسئلة (1 كور 7: 1). زيارة المسؤولين المحلّيّين في الكنيسة أي إستفاناس ورفاقه (1 كور 16: 15- 18). يمكننا إذًا أن نفكّر بتأليف امتدّ بعض الوقت. أوّلاً: ف 1- 6. ثانيًاً: 7: 1- 11: 1. ثالثًاً: 11: 2- 16: 24. ولكنّ هذه القسمة غير أكيدة. وفي أيّ حال، ذهب إستفاناس ورفاقه حاملين معهم أقلّه 11: 1- 16: 24 (ما عدا ف 15). أنهى بولس هذا الإملاء قبل عنصرة سنة 55 (1 كور 16: 8). أمّا المشاكل التي يعالجها، فتتطرّق إلى حياة جماعة كورنتوس الخاصّة. ولكنّ التوسيعات الخطابيّة والعقائديّة هي صدر لكرازته في أفسس. وهناك إشارات في الخاتمة تجعلنا نستشفّ معارضة لإعلان الإنجيل في مدينة أفسس (1 كور 15: 32؛ 16: 19)، وهي تلتقي مع خبر أع 19: 23- 20: 1. غير أنّ سفر الأعمال لا يتكلّم عن خطر الموت الذي تتحدّث عنه 2 كور 1: 8- 10 بطريقة واضحة.

بولس وأهل فيلبّي
لم يحقِّق بولس مشاريعه القديمة. وفرضيّة توقيف وأسر في أفسس، تستند إلى شهادتين مباشرتين تلتقيان: شهادة 2 كور 1: 8- 10 وشهادة فل 1: 14 التي دوِّنت في السجن ساعة واجه بولس إمكانيّة حكم بالإعدام (فل 1: 20- 24). والتقارب بين الرسالتين واضح في التلميحات المتوازية إلى المسيحيّين المهوّدين الذين يحذّر بولس قراَّءه منهم (2 كور 11: 13- 23؛ فل 3: 2- 6). نحن ظاهريًّا أمام الخصوم عينهم الذين التقيناهم في الرسالة إلى غلاطية: لقد لاحقوا بولس في مكدونية وأخائية. هذه الإشارات المتلاقية تجعلنا نحدّد المراسلة مع أهل فيلبّي في أفسس وقبل نهاية سنة 57. ولكنّ الرسالة الحاليّة تطرح مشكلة على مستوى التأليف. نجد فيها ثلاث مقطوعات مجموعة: بطاقة الشكر للعون الماليّ الذي وصل إليه في السجن (فل 4: 10- 23)، رسالة دوِّنت في إطار الموت الممكن (فل 1: 1- 3 أ+ 4: 4- 7)، رسالة ثالثة يهاجم فيها المسيحيّين المتهوّدين في فيلبّي (فل 3: 3: 1 ب- 4: 3+ 4: 8- 9). ولقد ضَمَّت جماعةُ فيلبّي هذه المقطوعات الثلاث في رسالة واحدة.

بقية مراسلة بولس مع كورنتوس
تطرح 2 كور مسائل تأليفيّة. إنّ 2 كور 6: 14- 7: 1 يفصل بين قسمَيِ التوسع، ثمّ تبقى أربع مقطوعات مبعثرة. نستطيع أن نميِّز بطاقتين تتحدّثان عن اللمَّة من أجل كنيسة أورشليم: البطاقة الأولى موجّهة إلى جماعة كورنتوس (2 كور 8)، والبطاقة الثانية إلى كلّ كنائس مقاطعة أخائية (2 كور 9). والتوسيع الذي يسبقهما (2 كور 1: 1- 6: 13+ 7: 2- 16) هو موحَّد رغم بعض الاستطرادات، وهو يأتي في نهاية أزمة خطيرة سنجد لها حلاًّ قريبًا. ولكنّه يشير إلى رسالة كُتبت في الحزن والدموع (2 كور 2: 3، 4، 9؛ 8: 8)، على أَثَرِ زيارة سريعة انفجرت فيها الأزمة (2 كور 12: 14؛ 13: 1- 2). وأسلوب 2 كور 10: 11- 13: 10 يوافق هذه الظروف. أمّا القطعة التي لا عنوان لها ولا خاتمة، فهي معاصرة للرسالة إلى غلاطية وفل 3: 1- 4: 3. أُرسلت من أفسس بعد الزيارة وقبل السجن، فضُمَّت إلى سائر الملفّ الكورنتيّ. إذًا، تجعل هذه القطعة بعد الذهاب من أفسس والمرور في ترواس (2 كور 2: 12) والانطلاق إلى مكدونية (2 كور 2: 13) والإقامة في فيلبّي من حيث أرسلت الرسالة الأخيرة (2 كور 1: 1- 7: 16، ما عدا 6: 14- 7: 1. وكلّ هذا ينتهي مع 13: 11- 13). هذه الفرضيّة متماسكة وإن لم يقبل بها كلّ الشرَّاح، ولكنّها تدلّ على تأليف معقَّد عرفته الرسائل البولسيّة في الجماعات المسيحيّة

الرسالة إلى أهل رومة
حين عاد بولس إلى كورنتوس قضى هناك شتاء 56- 57. في هذه المدينة اعتنى بتدوين رسالة أرسلها إلى أهل رومة، فجاءت صدى لكرازته في كورنتوس. ولكنّها تطرح مسألة تأليفيّة: قد تكون المجدلة (روم 16: 25- 27) من تأليف بولس، ولكنّ جامعي الرسالة أغفلوها أو وضعوها في أماكن متنوّعة (بعد 14: 23 او 15: 33). ثمّ إن وجود خاتمتين (15: 33 و16: 20) يجعل ف 16 في موقع خاصّ. وعدد الأشخاص الذين يسلِّم عليهم بولس يجعلنا نفكّر بأفسس لا برومة التي هي مدينة لم يكن بولس قد ذهب إليها بعد. نجد بين هؤلاء الأشخاص برسكلّة وأكيلا اللذين يقيمان في أفسس حسب 1 كور 16: 19؛ أع 18: 28- 26. وأبسط الفرضيّات هي أن نفكّر أنّ هناك نسختين للرسالة: نسخة أولى أرسلت إلى رومة لتهيِّئ السفرَ العتيد (روم 15: 22- 29)، ونسخة ثانية أرسلت إلى أفسس بواسطة فيبة مع بطاقة السلامات (رج روم 16: 1). أمّا الحفاظ على النسخة الطويلة فيدلّ على أنّنا أمام نصّ أفسس ولكنّنا نجد النسخة القصيرة في بعض المخطوطات، وقد جاءت من رومة أو كورنتوس. وهكذا نلاحظ أنّ الرسائل تتوجّه إلى جماعات عديدة من أجل تعليمها ورعايتها (كو 4: 16).

المراسلة مع كولسّي
يعلّمنا سفر الأعمال (ف 21- 28) أنّ الأحداث عاكست المشاريع التي عبَّر عنها بولس في روم 15: 23- 32. أوقف في أورشليم في عيد الفصح من سنة 57 أو 58، ثمّ أرسل أسيرًا إلى قيصريّة من سنة 57 إلى سنة 59 (أو 58- 60). بعدها ذهب إلى رومة كسجين في خريف 59 أو 60. هناك أقام سنتين (أع 28: 30) يتمتعّ ببعض الحرّيّة. من رومة كتب البطاقة وقدَّمها إلى فيلمون ذاك الذين هو "سجين المسيح يسوع" (فلم 1، 9). كان بولسُ قد صار شيخًا (فلم 9) أي في عمر الستّين، إذا أخذنا بقواعد العالم القديم. ذهبت الرسالة إلى كولسّي مع رسالة إلى أهل لاودكية (كو 4: 16؛ رج 2: 1)، وقد حملهما تيخيكس وهو من آسية (يذكره أع 20: 4) وأونسيمُس (كو 4: 7- 9).
إرتاب البعض في نسبة هذه الرسالة، بسبب المواضيع المطروحة واللغة القريبة من لغة الفلسفة اليونانيّة وديانتها (وهذا ما يحاربه بولس: كو 2: 8). ولكنّهم نَسُوا الظروف التي يكتب فيها بولس رسائله. ليست مقالات لاهوتيّة، بل أعمالٌ رعاويّة يحدّد موضوعَها ولغتَها المشاكلُ التي يواجهها الرسول. فبعد الإقامة الثانية في كورنتوس التي تركت أثرًا في شميلة الرسالة إلى رومة، اتّخذ عمل بولس الرعائيّ منحًى جديدًا سَبَبُهُ الأخطارُ التي تهدّد الإيمان في جماعات آسية (كو 2: 8، 16- 18، 21- 23). ولقد نبَّه بولسَ إلى هذا الخطر إبفراسُ (كو 1: 7- 9؛ في 23) رفيقُه في العمل في كولسّي. وتمتزج المواضيع الجديدة مع مقاطع تقليديّة (فل 3: 1- 4: 6). بعضهم قال إنّ الرسالة أرسلت من قيصرّية (بين 58 و60) حيث الاتّصالات سهلة، والآخر قال إنّها أرسلت من رومة خلال الأسر (بين 59 و61 أو 60 و62). ولقد احتفظت لنا ك

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM