الفصل الثامن النتاج الأدبيّ عند المسيحيّين المتهوّدين

الفصل الثامن
النتاج الأدبيّ عند المسيحيّين المتهوّدين

بما أنّ الكنيسةُ ولدت في محيط مسيحيّ متهوّد، سنبدأ هنا بدرس تكوين الآداب الأولى. ونطرح ثلاثة أسئلة. الأوّل: كيف نقدر أن نقوم باستقصاء لنستشفّ الأوساط التي تكوّنت فيها النصوص. الثاني: هل نقدر أن نعزل هذه النصوص وننظّمها بحسب الدور الذي لعبته في الجماعات؟ الثالث: هل وجدت منذ ذلك الوقت مجموعات مكتوبة أو أسفار باقية في العهد الجديد؟

أ- إستقصاء حول الآداب المسيحيّة الأولى
1- من الكتب إلى التقاليد القديمة
لقد حان الوقت لنطبّق الإجراءات المنهجيّة التي ألمحنا إليها سابقًا. فإن قرأنا وثائقَ العهد الجديد بطريقة سطحيّة نجد نفوسنا أمام مؤلِّفين أعطَوا كتبهم شكلها الحاليّ. ولكنّنا نكتشف في النسيج عينه آثارَ موادَّ سابقةٍ دخلت في التوسّعات، لهذا سنحاول أن نقوم بدراسة الطبقات في النصوص. ولكن كلّ الكتب لا تسمح لنا بهذا العمل، ولا سيّما الشخصيّ منها والمرتبط بظروف خاصّة. فمسائل النظرة التكوينيّة والنظرة التأليفيّة لا تنطبق على الرسالة إلى فيلمون ما عدا ما يتعلّق بالصيغة. وكذلك نقول عن رسالة يوحنّا الثالثة المهتمّة بحياة الكنائس، فهي لا تجعلنا نستشفّ أيّة وثائق سابقة. إنّما نحن في أغلب الأحيان أمام أدب كنسيّ حيث التحليل يشير إلى تاريخ سابق للنصّ. بعض المرّات نجد التكرار والتنافر في التأليف والاختلاف في استعمال المفردات... كلّ هذا يساعدنا على اكتشاف عدّة طبقات تأليفيّة. مثلاً: إنّ تأليف الإنجيل الرابع وبالأحرى الأناجيل الإزائيّة قد مرَّ في مراحل عديدة نربطها بأزمنة ومحيطات محدّدة. ثمّ إنّ الانتباه إلى المراجع التي استعملها الكاتب يُبرز تقاليد قديمة مجذّرة في التقليد الشفهيّ قبل أن يصبح مكتوبًا بيد الكاتب أو في مراجعه المباشرة. مثلاً، نتساءل: أين أخذ لوقا الموادّ التي استعملها في سفر الأعمال ليصوّر الجماعة المسيحيّة الأولى في فلسطين وإلى أيّ حدّ عكست هذه الموادّ حياتها الخاصة أو أظهرت نصوصًا متداولة؟ ومرّات أخرى نميِّز في مجموعاتٍ كبيرة مقاطعَ مكتوبة سابقًا لها فنّها الأدبيّ الخاصّ، ونستطيع أن نعزلها (مثلاً: الأناشيد في رسائل مار بولس).
وهكذا فنقد الأشكال الأدبيّة والتاريخ التأليفيّ وتاريخ التقاليد، كلّ هذا يتيح لنا أن نستخرج من الأناجيل وأعمال الرسل والرسائل والرؤيا وثائق من الدرجة الأولى. ولكن تبدأ الصعوبة عندما نريد أن نحدّد المحيط الأصليّ لهذه الوثائق ونكتشف قِدَمها. وبما أنّ الاستقصاء هنا ينحصر في المحيط المسيحيّ المتهوّد، لا بدّ من علاقة ممكنة بين هذا المحيط والمقاطع المدروسة من جهة المضمون والأشكال الأدبيّة والمشاكل المعالَجة. ويجب أن يكون هناك إشارات إيجابيّة توجّهنا في هذا الطريق. مثلاً: ليس لحادثة ضريبة الهيكل (مت 17: 24- 27) أيّة أهمّيّة خارجًا عن المحيط المسيحيّ المتهوّد الذي كان يطرح هذه الأسئلة ولكنّه ما عاد يطرحها بعد سنة 70 ودمار الهيكل. وتتعقّد المسألة في الأدب الرسائليّ الموجَّه إلى كنائس يسيطر فيها العنصر الغير اليهوديّ. هل نبحث عن أثر لتقاليد مسيحيّة متهوّدة في رسائل مار بولس؛ لا شكّ في ذلك. فبولس دخل في تقليد تقدّمه فأخذ صيغًا سبقته وعاد إلى الأناجيل كما كانت تتذكّرها الجماعات الأولى.

2- الوظائف الجماعيّة الخلاّقة للنصوص
إذا كانت نصوص هذا الأدب الوظيفيّ لعبت دورًا محدّدًا في المحيط الحيّ الذي أُنتجت فيه، فلأنّ هذا المحيط ترابط مع وظائف جماعيّة جعلته أكثر من كتلة عديمة الشكل مسلَّمة لنزوات أعضائها. فالاستقصاء عن بُنى الكنيسة الأولى يرافق الاستقصاء عن التاريخ الأدبيّ. لا شكّ في أنّ هناك حواجز: أين نجد شهادات قاطعة عن تنظيم الكنائس الأولى في المحيط المسيحيّ المتهوّد؟ إنّ سفر الأعمال يقدِّم تطوّرًا قديمًا، ولكن إلى أيّ حدّ اهتمّ لوقا بأن يقدّم لنا معلومات دقيقة من الوجهة الماديّة، أو إلى أيّ حدّ أراد أن يبيّن وحدة التقليد المسيحيّ وتواصله عارضاً نموذجًا لكنائس عصره؟ الهدفان يتمازجان، وهكذا يتأرجح الشرّاح بين الآراء المختلفة. وهم يتحفّظون أيضاً في حكمهم على المعطيات التي تقدّمها الرسائل الرعاويّة، لأنّ بعضهم يشكّ بنسبتها إلى القدّيس بولس. تبقى سائر رسائل مار بولس والرسائل الكاثوليكيّة بقدر ما كتبت قبل سنة 70. ولكنّ تحديد الوظائف الجماعيّة في مختلف الكنائس يبقى غامضاً وليس موحَّدًا، لأن هذه الوظائف مأخوذة في بعض المرّات من عالم الألقاب اليونانيّة (ذكر الأساقفة في فل 1: 1). حين نقابل النصوص بعضها ببعض نقدر أن نصل إلى حلّ معقول يطبَّق على المحيط المسيحيّ المتهوّد السابق لسنة 70.

أوّلاً: رسل وأنبياء ومعلّمون
يشهد التقاطع بين الأعمال والرسائل البولسيّة على وجود ثلاث وظائف مستقلّة عن الاثني عشر (1 كور 15: 5) ومرتبطة بأصل مسيحيّ متهوّد: الرسل والأنبياء والمعلّمون (1 كور 12: 28). يبيّن بولس في هذه الوظائف أولى مواهب الروح الثلاثة. ولقد كان الرسول على اتّصال متوالٍ مع كنائس مسيحيّة متهوّدة: في دمشق (2 كور 11: 32؛ أع 9: 10- 20)، ثمّ في أورشليم حيث التقى كيفا (بطرس) ويعقوب (غل 1: 8- 20) القريب من جماعة الرسل (1 كور 15: 7)، ثمّ في أنطاكية حيث أقام مدّة طويلة (غل 1: 21؛ 2: 1، 11؛ أع 11: 25 ي؛ 14: 26 ي) وأخيرًا في أورشليم من أجل "المجمع" الرسوليّ حيث وُجد يعقوب وكيفا ويوحنّا (غل 2: 1- 10؛ أع 15: 1ي). لاشكّ في أنّ جماعة أنطاكية التي أسّسها مسيحيّون متهوّدون تهلينوا، قد أدخلت تجديدًا فانفتحت على مؤمنين من أصل غير يهوديّ. ولكن هذا لم يمنعها من أن تحافظ على تنظيم عمليّ يشبه ما نجده في كنيسة أورشليم الأمّ وفي كنائس اليهوديّة. وإنّ لوقا يشدّد على هذه الاستمراريّة في أع 11: 22- 24. وهو يذكر بوضوح في أع 13: 1 الأنبياء والمعلّمين الموجودين في أنطاكية. وإن لم يتكلّم عن الرسل، فلأنّه يحتفظ بهذا الاسم للاثني عشر.

مجموعة الاثني عشر
يرجعون إلى يسوع نفسه. وظيفتهم الأساسية أن يبيّنوا أنّ الكنيسة هي إسرائيل الجديد (لو 22: 30= مت 19: 28؛ رؤ 21: 12- 14). أمّا دور بطرس كرئيس لهم فيشهد عليه التقليد القديم في 1 كور 15: 5 وفي سلسلة من النصوص الإنجيليّة (مت 10: 1- 4؛ مر 3: 3- 8؛ لو 6: 12- 16؛ 22: 31 ي؛ مت 16: 17- 19؛ يو 6: 67- 69؛ 21: 15- 17) وفي أخبار سفر الأعمال (ف 1- 15). ولكن تُذكَر المجموعة مرّة أخيرة في أع 6: 2. قد يلمّح إليها أع 8: 1 و11: 1 حين يتكلّم عن الرسل، ولا يعود يذكرها وقت موت يعقوب أخي يوحنّا (أع 12: 1- 19) بينما بطرس هو في المقام الأوّل ويعقوب أخو الرب يَرْئِسُ جماعة العبرانيّين أي المسيحيّين المتهوّدين المحلّيّين. ويمكننا أن نطرح مبدأ على أساس أع 1: 21- 22: إنّ هذه المجموعة لعبت دورًا أساسيًّا في تنظيم الكرازة الإنجيليّة الأولى. وإذا جمعنا مر 16: 7؛ مت 28: 16- 20 ويو 21 وقابلناه مع الأخبار الواردة في أع 1- 12 نفهم أنّ الجليل ظلّت موضع تمركز أقام فيه بعض أعضاء المجموعة. ولكنّ أعياد الحجّ أعادتهم إلى أورشليم. وفي أيّ حال، حدث اضطهاد سنة 44 في أيّام الفطير (أع 2-: 4). ولكن منذ البداية كان للاثني عشر شركاء في وظيفتهم كشهود.

النبيّ
يقدّم لتنظيم الكنائس خدمة الكلمة التي كوَّنت التقليد اليهوديّ. وظهرت هذه الخدمة بكلّ قوّتها بعد عطيّة الروح لكنيسة المسيح (أع 2: 17- 19). أمّا لقب "معلّم" فيستعيد لقبًا يهوديًّا. كان المعلّم (أو الرابي) يشرح التوراة فصار المعلّم المسيحيّ يشرح الإنجيل. فوظيفة النبيّ ووظيفة المعلّم تساعدان على تكوين النصوص.
وفي زمن قريب من البداية نجد كنيسة أورشليم تمتدّ إلى مؤمنين يتكلّمون اليونانيّة. وإذْ أرادت الجماعة الأمّ أن تؤمّن إطارًا لهؤلاء "الهلّينيّين" اختارت جماعة السبعة الذين لا يعطيهم لوقا لقبًا خاصًّا (أع 6: 1- 6). كانت المسألة المطروحة هي مسألة خدمة الموائد حيث أهملت أرامل المجموعة الهلّينيّة (أع 6: 1) في اجتماعات اتّخذ الطعام المشترك مكانة هامّة. ولكنّنا لا نستطيع أن ننطلق من أعمال 6: 2 لنحصر السبعة في أعمال مادّية. فبعد هذا سنرى إسطفانُسس وفيلبّس يمارسان نشاط الوعَّاظ بخطابات (أع 7: 1- 53) تفترض وعظات ومجادلات سابقة مع اليهود الهلّينيّين (أع 6: 9- 10) وتعليم (أع 8: 6) وشرح الأسفار المقدّسة (أع 8: 30- 35). كلّ هذا يدلّ على أنّ السبعة شاركوا في خدمة الكلمة لدى اليهود المتكلّمين اليونانيّة (وبالنسبة إلى فيلبّس لدى السامريّين وبعض المهتدين إلى الديانة اليهوديّة).
وسيُدعى فيلبّس فيما بعد "إنجيليّ" (أع 21: 8: أو مبشّر). سنجد هذا اللقب في نصوص متأخّرة مثل الرسالة إلى أفسس (4: 11) والرسائل الرعائيّة (2 تم 4: 5)، وهو يدلّ على أنّ إحدى المهمّات الرئيسيّة للكنيسة الأولى صارت وظيفة متخصّصة. ويعود هذا اللقب إلى عالم مسيحيّ متهوّد يتجذّر في السبعينيّة (أش 40: 9؛ 52: 7؛ 61: 1، وهي نصوص يعود إليها العهد الجديد ليبرِّر بالتوراة مفهوم الإنجيل). وُجدت كلمة "الإنجيليّ" في إحدى الكتابات في رودس فدلّت على من يعلن جواب الالهة. ظهرت باكرًا في كنائس فلسطين قبل أن يستعملها سفر الأعمال والمجموعة البولسيّة. إذا عدنا إلى أع 21: 8 نرى الإنجيليّ فيلبّس يقيم في قيصريّة فلسطين، وهي مدينة يونانيّة جاءها الإنجيل من اليهوديّة: من الأكيد أنّ بنية الكنيسة المحلّيّة فقيها تشبه بنية سائر الجماعات المسيحيّة المتهوّدة في المنطقة. بما أنّ المقطع ينتمي إلى المقاطع المكتوبة بصيغة المتكلّم الجمع (نحن، وهذا يعني أنّ لوقا كان برفقة بولس) فهو يعكسه حالة وُجدت سنة 58. كان لفيلبّس أربع بنات "يتنبّأن" (أع 21: 19) دون أن يحملن لقب "نبيّة" (المعروف في خر 15: 20؛ قض 4: 4؛ 2 مل 22: 14؛ أش 8: 3؛ رج رؤ 2: 20). نحن هنا أمام عطيّة من الروح خاصّة كما في 1 كور 11: 4- 5؛ 14: 3- 5، 22، 24- 25، 32. ولكنّ لوقا يتكلّم في الموضع نفسه عن أغابوس الذي نزل من اليهوديّة (أع 21: 10؛ رج 11: 27- 28). وهذا يدلّ على الخدمة عينها للكلمة كما في 1 كور 12: 28- 29؛ أع 13: 1. وبمختصر الكلام يجب أن نبرز أهمّيّة الرسل والأنبياء والمعلّمين والإنجيليّين لأنّنا سنجد فيما بينهم أوّل من كوَّن وألَّف النصوص المسيحيّة.

ثانيًا: الشيوخ أو الكهنة (أو القسوس)
ماذا نقول عن الشيوخ أو الكهنة؟ لا يظهر هذا اللقب عند مار بولس قبل الرسائل الرعائيّة. كان الشيوخ يدبّرون الجماعات المحلّيّة في العالم اليهوديّ، وكان شيوخ في الجماعات المسيحيّة. يشير لوقا إلى وجودهم في أورشليم (أع 11: 30؛ 15: 6، 22- 23) وفي كنيستي ليكونية وبسيدية اللتين وصل إليهما الإنجيل من أنطاكية سورية (أع 14: 23)، وفي أفسس (أع 20: 17) حيث أقيم القسوس "مراقبين" (أو أساقفة) ليرعَوا كنيسة الله (أع 20: 28). يجمع لوقا فيهم في هذا الموضع وظيفتي الأسقف والراعي. لا نعرف أصل لقب أسقف (إبّسكوبوس) الذي نجده في فل 1: 1. أمّا لقب راعي فنجده في أف 4: 11؛ 1 بط 5: 2- 3 (رج 1 بط 2: 25 حيث يسمّى المسيح راعي نفوسكم وحارسها أي أسقفها)، وهو يعود على ما يبدو إلى العالم المسيحيّ المتهوّد. من الممكن أن يكون لوقا اقترف مغالطة تاريخيّة حين ذكر القسوس في جماعة أفسس ليدلّ على التواصل في البنية بين الكنائس البولسيّة والكنائس التي في أيّامه. ولكن ليس الأمر كذلك بالنسبة إلى الكنائس التي تأسّست برعاية أنطاكية (أع 14: 23) لأنّ اللقب مسيحيّ متهوّد وهو قديم.
ويمكننا أن نتساءل عن الوظيفة الأولى لهؤلاء القسوس، وهي تتميّز عن وظيفة الأنبياء والمعلّمين. فإذا عدنا إلى النموذج اليهوديّ نفهمها مهمّة (أو مسؤوليّة) متعلّقة بالإدارة العمليّة لجماعة محلّيّة (وهذا ما نستشّفه في أع 11: 30). أمّا الأنبياء والمعلّمون فكانوا قبل كلّ شيء خدّام الكلمة، وكانوا يستطيعون، على غرار الرسل، أن ينتقلوا من كنيسة إلى كنيسة ليمارسوا وظيفتهم (أع 13: 2- 4). ولكن لا نحصر عمل الشيوخ في المسائل المادية. فإذا عدنا إلى أع 15: 22 نرى بقرب الرسل القسوس وعلى رأسهم يعقوب (أع 15: 13؛ غل 1: 19؛ 1 كور 15: 7). إنّه يرئس اجتماع الكنيسة المحلّيّة وقد انضمّ إليه بولس وبرنابا. فالمجموعة كلّها هي التي تقرّر الأمور الهامّة. ثمّ إنّ مجلس الكهنة يسهر على خير الجماعة المشترك، على النظام في الاجتماعات، على حفظ التقليد الذي سلّمه المؤسّسون. هو لا يلعب دورًا مباشرًا في خدمة الكلمة، ولكنّ مهمّة المراقبة قد تدفعه إلى أن يلعب مثل هذا الدور حين تهدّد الكنائسَ "الذئابُ الخاطفة" (أع 20: 29- 31). وإنّ لوقا يقدم شهادة غير مباشرة عن تطوّر وظيفتهم. في نطاق المؤسّسة كما في تكوين النصوص الأدبيّة، كان دورُ الكهنة دورَ المحافظ لا دور الخلاّق، ولكن أبن يبدأ الواحد وأين ينتهي الآخر؟
هذه هي خلفيّة اللوحة التي وضعت عليها النصوص التي تكوّنت في الجماعات المسيحيّة المتهوّدة. أمّا أين أُلِّفت هذه النصوص؟ هناك الكرازة في المجامع أو في الأمكنة المختلفة، وهناك الاجتماعات الكنسيّة.

ب- محاولة ترتيب النصوص الأولى
لن نستطيع أن نجد لائحة كاملة بأوّل نصوص المسيحيّة المتهوّدة، وقد بقيت تفاصيل عديدة غير واضحة. وإذا عدنا إلى النظريّة التكوينية اكتشفنا ترتيبًا تتّخذ فيه مكانَها النصوصُ المعتبرة قديمة. ونميّز: إعلان الإنجيل، شرح الكتاب المقدّس، الدفاع والجدال، تعليم المؤمنين في الجماعات، تنظيم الأعمال الليتورجيّة، الصلاة والأناشيد.

1- إعلان الإنجيل
يتميّز الإنجيل كفنّ أدبيّ بعلاقته المثلّثة إلى حدث المسيح الذي مات ثمّ قام، إلى الكتب التي تمّت، إلى الآنيّة المسيحيّة. قبل أن تصبح الأناجيل كتيّبات كانت شَميلات تعطينا فكرة عن إعلانها أمام السامعين اليهود، إمّا في اجتماعات المجمع وإمّا في مناسبات أخرى.

أوّلاً: التقاليد السابقة للقدّيس بولس
تقدّم لنا النظريّة التكوينيّة عن رسائل مار بولس أقدم الموادّ. ففي 1 كور 15: 3- 8 يبدو الإنجيل (1 كور 15: 1) كتقليد تسلّمه بولس ويسلّمه (1 كور 15: 3) طبق تعبير استعمله العالم اليهوديّ ليدلّ على تقليد الرابّانيّين. فيمكننا أن نميّز طبقتين في هذا النصّ: إعلان سر مضاعف يشكّل مضمونه الإنجيل، ثمّ لائحة الشهود الرسميّين عن المسيح القائم مع اسم بولس نفسه. ليس من شكّ في أنّ القسمين يعودان إلى أصل فلسطينيّ. وليس من الضروريّ أن ننتظر إقامة بولس في أنطاكية لنحدّد الوقت الذي فيه تسلّم هذه التقاليد. قد تكون له فكرة عنها عندما كان "يضطهد كنيسة الله" (1 كور 15: 9). ثمّ لا يمكننا أن نتخيّل إقامته في دمشق وبلاد العرب دون أن يكون عرف تقاليد الكنيسة المحلّيّة التي ولدت قبله (كما يقول أع 9: 10- 20). في أيّ حالة، فالإقامة في أورشليم حيث يعيش كيفا ويعقوب (غل 1: 18- 19) كانت مناسبة مؤاتية لتسلّم رسمة "النؤمن" ولائحة الشهود التي تذكر في من تذكر كيفا ويعقوب (1 كور 15: 5، 7). كلّ شيء مركَّز على موت المسيح وقيامته. ولكن لا نستنتج أنّ إعلان الإنجيل لم يكن يهتمّ بحياة المسيح وكرازته كما عرفها كلّ اليهود في المحيط الفلسطينيّ. غير أنّ بولس لا يحتفظ في 1 كور 15 إلاّ بما يتعلّق بموته وقيامته، لأنّه أمام مشكلة القيامة في جماعة كورنتوس.
وإذا أردنا أن نكمّل هذا المعطى نقرِّب منه صيغة مسيحيّة متهوّدة مستعملة في روم 1: 1- 4 نجد فيها: إعلان يسوع كابن الله، والوعد الذي أعلنه الأنبياء عن مجيئه، وميلاده من نسل داود (يتضمّن كرامته المسيحانيّة ومجمل حياته التي انتهت بالموت)، وقيامته من بين الأموات التي جعلته "ابن الله بالقدرة" وحامل الروح. لا نرى بنوّة يسوع الداوديّة في أيّ مكان من مؤلّفات بولس. فالحديث عن يسوع ابن داود يعود إلى نصّ أُثبت قبل بولس.

ثانيًا: معطيات سفر الأعمال
ونجد الرسمة الإنجيليّة القديمة عينها في نصوص يقدّم فيها لوقا إعلان الإنجيل في وسط يهوديّ في أوّل أيّام الكنيسة، إمّا في أورشليم (أع 2: 22- 36؛ 3: 12- 26؛ 4: 8- 12؛ 5: 30- 32)، وإمّا أمام سامعين "خائفي الله" في قيصرّية (أع 10: 34- 43)، وإمّا في مجمع من مجامع الشتات (أع 13: 16- 41). ليست هذه النصوص تاريخيّة بالمعنى الحديث للكلمة، حتى ولو حصل لوقا على ملخّص للمضمون العامّ. ولكنّه يقدّم نصّاً قديمًا انطلاقًا من توثيق جدّيّ يرجع إلى محيط مسيحيّ متهوّد في فلسطين أو في أورشليم، وإلى معلومات استقاها من تقليد أنطاكية. يمكننا إذًا أن نقول إنّ الإعلان الأوّل للإنجيل شهد عن يسوع "مبتدئًا بمعموديّة يوحنّا حتّى اليوم الذي فيه رُفع" (أع 1: 22). ولقد وصلت هذه الشهادة إلى اليهود على يد الذين عاشوا هناك مع يسوع (أع 1: 21) "وأكلوا وشربوا معه بعد قيامته من بين الأموات" (أع 10: 41). وفيما يخصّ تقاليد حياته العلنيّة، فيمكن لكلّ واحد أن يتحقّق من مضمون الشهادة، أقلّه بالنسبة إلى الأحداث التي عرفها الناس (أع 10: 37). ولكن حين يقدّم لوقا إعلان الإنجيل لوثنيّ يخاف الله يحس بالحاجة إلى أن يحدّد هذه الرسمة العامّة مفصّلاً وجهات أساسيّة من رسالة يسوع وبالأخصّ كرازته ومعجزاته (أع 10: 36- 43).
وهكذا لا يتألّف إعلان الإنجيل من مقاطع ونبذ لا رابط بينها. يمكننا أن نفكّر أنّها تجمّعت سريعًا حول قطبين: من جهة قطب الحياة العلنيّة انطلاقًا من المعموديّة حتّى الموت على الصليب الذي كان شكًّا ليهود، مع الكلمات التي تتحدّث عن تعليمه والمعجزات التي تدلّ على أنّ "الله كان معه" (أع 10: 38؛ رج 2: 22). من جهة ثانية تعداد الظهورات للشهود مع الأمور التي حدّدت رسالتهم (رج أع 1: 2). ولكن لا نَنْسَ قوّة التكيّف في التقليد الشفهي لَنقْلِ كلّ هذه الموادّ.

2- تفسير الكتب تفسيرًا مسيحيًّا
الرجوع إلى الكتب أمر أساسيّ في إعلان الإنجيل، لأنّ حياة يسوع وكرازته وموته وقيامته لا تقدّم معناها إلاّ إذا قابلناها بالنصوص التي شكّلت لها وعدًا، وهيّأت تتمّتها، ورسمت واقعها تحت ستر الرموز الشفّافة أو الغامضة. نبعد هنا فكرة "النبوءة التي تحقّقت"، وهي عبارة استعملها المدافعون في عصر الآباء، وصلّبها المدافعون في العصور الحديثة فعادوا إلى نظرة اليهود القائلة بالمماثلة مع الكتب: إنّ فاعليّة كلمة الله تعبّر في الأحداث عن مخطّط خلاص رُسمت مسبقًا قسماتُه الأساسيّة. وأعطت القراءة اليهوديّة فهمًا أوّليًّا، وسارت الكرازة المسيحيّة في الخطّ عينه فقادتها إلى ملئها مبيّنة أنّ المسيح هو مفتاح الكتب.

أوّلاً: لائحة الكتب المقدّسة
تسلّمت الكنيسة الأولى توراتها من العالم اليهوديّ. إذن، من المهمّ أن نعرف لائحة الكتب التي تضمّنتها مجموعة النصوص المقدّسة. وأيّة سلطة يتحلّى بها كلّ كتاب، وكيف تنتظّم قراءتها في إطار ليتورجيّة الاجتماعات داخل المجمع. ولكنّ هذه أمور يصعب تقديمها بوضوح.
ماذا كانوا يقرأون في المجمع من التوراة؟ هذا ما لا نعرفه بتأكيد. ولكن ما هو معقول هو أنّه تحدّدت قراءات للأعياد الكبرى (خر 12 لعيد الفصح؛ خر 19- 20 لعيد العنصرة). ولكنّنا لا نعلم إن كان هناك قراءة متواصلة للتوراة أو لمقاطع مختارة، وإن كانت هناك دورة سبتية تدوم سنة أو ثلاث سنوات، وإن وجدت حرّيّة اختيار المقاطع التي ضُمَّت إلى نصّ شريعة موسى. لن نغامر هنا ونقدّم نظريّات غير ثابتة.
أمّا بالنسبة إلى المجموعة البيبليّة، فالشيء الوحيد الواضح هو انقسامها إلى ثلاثة أقسام. وهذا ما تشهد به مقدمة ابن سيراخ وإنجيل القدّيس لوقا (24: 44). لنعرفْ أنّ لوقا هو معاصر لمعلّمي يمنية الذين حدّدوا لائحة من 22 (أو 24 كتابًا) ورذلوا سائر الكتب من القراءة الرسميّة في إطار الكنيس (بين سنة 80 و95). أمّا بالنسبة إلى المسيحيّة المتهوّدة السابقة لسنة 70 فنكتفي بالإفتراضات. في أورشليم: من المغالاة أن نقول إنّ الصادوقيّين لم يقبلوا من التوراة إلاّ أسفار موسى الخمسة، ولكنّهم كانوا يميّزونها ويمنحون سائر الكتب سلطة نسبيّة. ومن المشكوك فيه أن لا يكونوا اعتبروا سفر دانيال أيّ اعتبار، فاختلفوا بذلك عن الفرّيسيّين والإسيانيّين. في فلسطين: من المعقول أنّ سفري طوبيّا وابن سيراخ قد استعملا كسائر الكتب المقدّسة، وإن رذلا فيما بعد من اللائحة القانونيّة. فقد وُجدت نسخات عديدة من طوبيّا في قمران ومن ابن سيراخ حتّى في مجمع مصعدة. أمّا حزقيال ونشيد الأناشيد فوَجدا معارضة لدخولهما إلى اللائحة لدى بعض المعلّمين في يمنية. أمّا في العالم اليهوديّ المتكلّم باليونانيّة الذي كان مركزه الرئيسيّ في الإسكندريّة والذي كان له مجامعٍ في أورشليم، فقد اعتبر اعتبارًا كبيرًا بعض الكتب المتأخّرة (ترجمت إلى اليونانيّة أم ألِّفت في اليونانيّة) مثل باروك ويهوديت وأستير اليونانيّ وسفر المكابيّين الأوّل والثاني. وإن لم يكن الأمر هكذا فكيف قبلت بها المسيحيّة الأولى واستعملتها في زمن العهد الجديد. مثلاً: عرف بولس والرسالة إلى العبرانيّين سفر الحكمة. وفي العالم اليهوديّ الهلّينيّ كان للترجمة السبعينيّة سلطة مساوية للنصّ العبريّ، فعاد إليها المسيحيّون واعتبروها كتابًا مقدّسًا. لا ننسى أنّه كانت نسخات عديدة. مثلاً: دانيال في السبعينيّة وفي الترجمة المنسوبة إلى تيودوسيون.
كان للأسفار الخمسة سلطة مسيطرة لدى اليهود، ولكنّها لم تكسف سلطة الأنبياء والمزامير، غير أنّ الجماعة كانت تُحِلُّ في المقام الثاني سائر الكتب مثل طوبيّا وأستير وغيرهما.
وأتبع المسيحيّون المتهوّدون استعمال الأمكنة التي فيها أقامت جماعاتهم. استعملوا المجامع في الشتات أكثر منه في فلسطين. غير أنّ الاجتماعات خارج المجمع احتاجت إلى نصّ التوراة. ولكنّ ثمن الكتاب غال جدًّا والعبادة المجمعيّة الفلسطينيّة تفرض استعمال الرقّ لا البرديّ (حصر استعمال البرديّ في البيوت). أمّا في العالم اليهوديّ الهلّينيّ فسمح باستعمال البرديّ أيضاً. وبما أنّ اجتماع المسيحيّين كان في البيوت، تكاثرت النصوص واستعملتها الكنيسة ابتداء من نهاية القرن الأوّل (تلميح في 2 تم 4: 13). وهكذا كان للجماعات المسيحيّة، كما للمجامع، أسفار الشريعة ودرج المزامير والكتب النبويّة وسائر الكتب، ولكن لا شيء يؤكّد أنّ كلّ كنيسة امتلكت مجموعة النصوص التي تغطّي التوراة كلّها في اليونانيّة أو في العبريّة. ومن الممكن أن يكون المسيحيّون استعاضوا عن الكتاب الكامل بمجموعات مختارة كتلك التي وجدنا منها مقاطع في قمران: مجموعة أناشيد وصلوات، مجموعة قراءات ليتورجيّة، مقاطع مختارة لحاجات عمليّة. والوعّاظ الذين كانوا يتنقلون لم يكونوا يحملون التوراة كلّها في حقائبهم بل يكتفون ببعض أوراق تتضمّن نصوصاً مختارة.

ثانيًا: أهداف وأساليب الرجوع إلى التوراة
من المدراش اليهوديّ إلى المدراش المسيحيّ
كان العالم اليهودي يعود الى التوراة ليلبّيَ حاجاتٍ متعدّدةً: "الهلكة" تعلن قواعد السلوك فتبرّر نفسها بأساليبَ تأويليّةٍ دقيقةٍ "والهاغادة" تجد في التوراة أساسًا لتثير التقوى والرجاء فتضّخم النصوص مستعينة بتوسّعات متنوعّة. واعتمد التقليد الجليانيّ على التوراة ليربط بها أحلامه المستقبليّة. وتزاد إلى القراءة البسيطة كلّ وسائل البحث (درش. رج في العربيّة درس) التي أعطت اسمها للمدراش. ووُجد في قمران أسلوبُ تفسير عمليّ (بشر في العبريّة) يحاول أن يكشف الأسرار كما نفسّر الأحلام أو الطلاسم. وقد ورثت المسيحيّة المتهوّدة كلّ هذه الأساليب وكيّفتها حسب أهدافها الخاصّة. وزادت عليها في المحيط الهلّينيّ الاستعارة بقدر ما دخلت في استعمال المجمع دون أن تلغي الأساليب التقليديّة. وفي الواقع نجد اتّصالاً بين بعض الوعّاظ المسيحيّين المتهوّدين وبين الثقافة الإسكندرانيّة (وضع أبلّوس في أع 18: 24- 26). ولقد مارس القدّيس بولس الاستعارة في غل 4: 21- 31. واستعملت الرسالة إلى العبرانيّين مقولات الفلسفة الإسكندرانيّة وإن ظلّت جدليّتها قريبة من جدليّة الرابّانيّين (هذا إذا كانت دوِّنت قبل سنة 70).
هل نستطيع أن نجد في العهد الجديد أثرًا لأوّل مدراشٍ مسيحيّ؟ نحن لا نعرف تاريخ المدارش التي نكتشفها في الأسفار التي بين أيدينا. ولكنَ يرتفع الحجاب حين نجد التأويل المسيحيّ لهذا المقطع أو ذاك في أسفار عديدة. حينئذ يكون لتطبيقها على إعلان الإنجيل سوابق في كلمات يسوع نفسه.
وإليك بعض الأمثال: نجد مز 110: 1 في تقليد الإزائيّين (مت 52: 41- 46؛ مر 12: 35- 37؛ لو 20: 41- 44؛ رج مر 15: 62؛ 16: 19)، في بعض التلميحات في الرسائل البولسيّة (1 كور 15: 25؛ روم 8: 34؛ كو 3: 1؛ أف 1: 20)، في خطبات سفر الأعمال (أع 2: 33 ي؛ 5: 31؛ 7: 56)، في الرسالة إلى العبرانيّين (1: 3، 13؛ 8: 1؛ 10: 12؛ 12: 2)، في رسالة بطرس الأولى (3: 22). ومز 118: 22- 23 يترك أثرًا في الإزائيين (مر 11: 9؛ 12: 10)، في الأعمال (4: 11؛ رج 2: 32؛ 5: 31)، وفي الرسالة إلى العبرانيّين (13: 6)، وفي رسالة بطرس الأولى (2: 7)، وفي إنجيل يوحنّا (12: 13). نحن هنا أمام نَصَّين طُبِّقًا باكرًا على تمجيد المسيح القائم من الموت. ولعبت نبوءةُ عبد الله المتألّم (أش 52: 13- 53: 12) دورًا مماثلاً لتفسير الالام. هناك تلميحات واضحة في بعض كلمات يسوع (مر 10: 45؛ مت 26: 28؛ لو 22: 37). وهناك آثار في الرسائل البولسيّة (روم 4: 25؛ 10: 16؛ 15: 21) وفي سفر الأعمال (8: 32 ي؛ رج 3: 13، 26؛ 4: 27، 30)، في رسالة بطرس الأولى (2: 22- 25) والرسالة إلى العبرانيّين (9: 28) وسفر الرؤيا (5: 6- 12، 13: 8، 14: 5) وفي إنجيل متّى (8: 17) وإنجيل يوحنّا (12: 38). وإذ تفرض النصوص المسيح الممجّد تعود إلى دا 7: 13- 14، في الإزائيّين (مر 13: 26، 14: 62)، في الأعمال (1: 11؛ 7: 56)، في سفر الرؤيا (1: 7- 13؛ 14: 14). وهناك تلميحات أيضاً في مت 28: 18. ويمكننا أن نعدّد هذه "الأمكنة اللاهوتيّة" فهي تشير إلى قراءة التوراة كما مارسها المسيحيّون متوسّعين في أساليب عرفها العالم اليهوديّ.

أهداف المدراش المسيحيّ
لم تكن أهداف المدراش المسيحيّ أهداف المدراش اليهوديّ المعاصر. فلم تتمثّل "الهلكة" (أو السلوك) في شكلها القانونيّ الضيّق، ولكن بطريقة واسعة. وإليك بعض الأمثلة: نقرأ القاعدة الموجودة في تث 19: 15 في مت 18: 16؛ 2 كور 13: 1؛ 1 تم 5: 19 (بطريقة مباشرة). وتوردها عب 10: 28 كمثل ويو 8: 16- 18 في منظور كرستولوجيّ. فانقطاع يسوع عن النظرة القانونيّة لعلماء الشريعة، جعل مسائل التأوّيل السلوكيّة بعيدة عن إعلان الإنجيل. وهذا ما نفهمه حين نقرأ أخبار المجادلات بين يسوع والمعلّمين اليهود.
سئل يسوع عن الطلاق (مر 10: 1- 12) بطريقة تذكّرنا بفتاوى الرابّانيّين (مت 19: 3) فعاد إلى سفر التكوين يقرأه مباشرة ليؤسّس برهانه (مر 10: 8- 9 يورد تك 1: 27 و2: 24) ويرفض قاعدة قانونيّة مأخوذة من سفر التثنية (14: 1). وُسئل عن أعظم الوصايا فعاد إلى فعل الإيمان عند اليهود (تث 6: 4- 5) وزاد عليه وصيّة (لا 18:19) موجودة في شريعة موسى ولا تتضمّن شيئًا قانونيًّا (مر 12: 28- 30 مع التوسّع في لو 10: 29- 37). من الوجهة اليهودية، ترتبط هذه القراءة بالتفسير (بِشِر) لا بالمدراش. إلاّ أنّ مر 2: 52 ي يقدّم برهانًا قياسيًّا يَدخل في أشكال مدراش الرابّانيّين.
في الواقع يقلب الإنجيل في فم يسوع وفي التعليم الرسوليّ موقف "الهلكة" و"الهاغادة" في تقليد المعلّمين اليهود. فطريقة عيش المؤمنين تتضمّن قواعد متطلّبة. إنّها "طريق" (أع 9: 2؛ 18: 26، كلمة يهوديّة)، إذًا ممارسة وسلوك. في هذا المعنى يتكلّم بولس عن "شريعة المسيح" (غل 6: 2؛ رج 1 كور 9: 21) المؤسَّسة على وصيّة محبّة القريب (غل 5: 14). بها تصل الشريعة إلى ملئها (روم 13: 8- 10؛ مت 5: 17) أي إلى نهاية ديناميّتها الداخليّة. ولكنّ البشرى المعلنةَ، والدخولَ إلى ملكوت الله وانتظاره، والتعرّفَ إلى يسوع كمسيح إسرائيل، والإيمانَ بالمعنى الفدائيّ لموته وقيامته، كلَّ هذا يعود بنا إلى نطاق "الهاغادة". وكلّ الحياة تُبنى بالنظر إلى هذه العناصر التي تكوّن الإنجيل. "والهلكة" المسيحيّة تخضع بالضرورة للإنجيل.
إذن، لا بدّ من اكتشاف هذه العناصر قبل كلّ شيء في نصوص التوراة. فقد حدث موت وقيامة يسوع "حسب الكتب" (1 كور 15: 3- 4). وهذا مبدأ نقدر أن نعمّمه ونطبقه على إرساله إلى الأرض، على وقائع حياته، على أقواله وما فيها من جديد (مت 9: 13 و12: 7 حيث يوضع نصّ هو 6: 6 في فم يسوع نفسه). فينتج تحوّل في التأويل الإخباريّ مؤسّسٌ على مبدأ تتمّة الكتب. وتبيِّن التفسيرة المسيحيّة هذه التتمّة فتعود إلى أساليب عمليّة تذكرنا بالتفسير (بِشِر) القمرانيّ. تتجنّب الأمور الدقيقة والتطبيقات المصطَنعة والمركَّزة على صراعات تاريخيّة اختبرتها مجموعة منعزلة على نفسها.
هذا ما نجده عند لوقا. ففي اللوحات الاصطلاحيّة في أع 1: 15 تغرز التأويلات المقحمة في النصوص جذورَها في ممارسة تأويليّة عرفها المسيحيّون المتهوّدون في أورشليم واليهوديّة وأنطاكية. ونجد أسلوب القراءة عينه في الرسائل وفي سفر الرؤيا: نحن هنا أمام تقليد مسيحيّ أساسيّ.

التيّار الجليانيّ
يجب أن ننظر إلى العلاقات بين بداية المسيحيّة وعالم الجليان اليهوديّ في هذه الروح الجديدة. فيسوع تكلَّم وتصرَّف كنبيّ حين فتح المستقبل أمام الذين يؤمنون بالإنجيل، فكان من الطبيعيّ أن تحتلّ منظورات الدينونة والخلاص مكانًا خاصًّا في تعليمه، وذلك مهما كان رأينا بالنسبة إلى الطابع القديم لأقواله الخاصّة. وبما أنّه اتّصل باهتمامات الحلقات الجليانيّة فقد استطاع أن يستعيد أساليبها الأدبيّة. ولكن حين فتح موتُه وقيامته المستقبلَ على "زمن تجديد كلّ شيء" (أع 3: 21)، وجب عليه أن يستعمل اللغة الجليانيّة ليترجم هذا الرجاء. كانت هذه اللغة مكيَّفة والوسط الحضاريّ للعالم اليهوديّ الفلسطينيّ، فاتّخذت صُوَرها وصَيغها من الكتاب المقدّس. إن تأوين هذه الصيغ ولَّد في هذا المنظور نتاجًا جديدًا هو امتداد لوجهة من كرازة يسوع، ونقل مضمون هذه الكرازة مع التفاسير الضروريّة بحيث نتساءل عن امتداد النصوص الأصليّة وما زيد عليها فيما بعد. فخطبة مر 13: 5- 32 (وسّعها مت 24: 4- 44، وردّدها لوقا 21: 8- 36 و17: 7) هي مثَل معبِّر: استُعيدت كلماتُ يسوع النبويّة ووُضعت في رؤيا مسيحيّة صغيرة. دوِّنت في مرقس قبل سنة 70 وفي متّى ولوقا بعد هذا التاريخ.
هل نوسّع هذا المبدأ على نصوص أخرى فنجعل الفنّ الجليانيّ "أمّ اللاهوت المسيحيّ" كما قال أحد الشرّاح؟ هل نقول بأنّ بعض كلمات المسيح القائم الموجَّهة إلى كنيسته بواسطة الأنبياء قد نُقلت فيما بعد إلى الزمن الذي عاش فيه على الأرض؟ لا شكّ أنّ في الامر مبالغة: إنّ بولس يميّز بوضوح أقوال الربّ (1 كور 7: 12) حتّى في النطاق الجليانيّ (1 تس 4: 15) من أقوال الأنبياء (1 كور 14: 3- 5- 24). بالإضافة إلى ذلك، يجب أن نضمّ إلى الأنبياء المعلّمين الذين منحتهم معرفةُ الكتب كفاءةً لاهوتيّة خاصّة ليفهموا كيف نُسجت رباطاتٌ بين إعلان الإنجيل والنصوص التَوراتيّة. ولكن مع هذا، نُقِرّ بأنّه كان للفنّ الجليانيّ مكانة عاديّة في أوّل لاهوت مسيحيّ حين تكلّم عن المسيح الممجّد، أو حين ترجم الرجاء المؤسّس على قيامته. ورؤية إسطفانُس للسماء في أع 7: 56 هي مثَل معبِّر وقديم. ونلاحظ أنّ الوحي الذي حصل عليه الرائي ينصبُّ في قالب مفبرك سابقًا وقد قدّمه دا 7: 14 ومز 110: 1 (رج مر 14: 62).

ثالثًا: مبدأ التفسير الأساسيّ
لن نحلِّل هنا بالتفصيل الأساليب العمليّة المستعملة في التأويل، بل نذكر مبادئه الأساسيّة. ففي العالم اليهوديّ المعاصر خضعت العمليّة لشرطين اثنين. الأوّل: تماسك نتائجها مع مجمل الكتاب المركَّز على أسفار الشريعة. الثاني: خضوعها لتقليد تفسيريّ معروف خاصّة في تيّار الفئات الدينيّة الكبرى مثل الصادوقيّين والفرّيسيّين والإسيانيّين وامتدادهم في عالم الشتات اليونانيّ. لقد فجَّر يسوع هذا الإطار، بحيث دخل في صراع مع كلّ الأحزاب في بعض النقاط الحرجة. مثلاً على مستوى السلوك (هلكه): آحلّ سلطة كلمته ومثل تصرّفاته محلَّ "تقليد الشيوخ" فأعطى بسلطانه تعليمًا جديدًا (مر 1: 27). وعلى مستوى الأخبار (هاغادة أو النداء إلى التقوى والرجاء): عرض تعليمًا أصيلاً عرفه موافقًا لديناميّة الكتاب العميقة، ولكنّه لم يبرهن عنه إطلاقًا من الكتاب. كلّ هذه التجديدات فتحت البطريق لأزمة قادته في النهاية إلى الموت.
وكان باستطاعة التاريخ أن يتوقّف هنا. ولكنّ خبرة الظهورات أثارت من جديد قضيّة يسوع عند تلاميذه. وفي الوقت عينه صارت سلطة أقواله وأعماله التي اندمجت بسلطته الجديدة كربّ الكنيسة، المبدأ الوحيد للتفسير الإنجيليّ للتوراة. هذا هو محور التبديل الذي نلاحظه في التأويلات المسيحيّة منذ العهد الرسوليّ. قال أوريجانس: "بما أنّ المخلّص جاء وحقَّق تجسُّد الإنجيل، فهو بالإنجيل جعل كلّ التوراة إنجيلاً. وهذه الجدليّة هي في خلفيّة النصوص الجديدة حيث نقرأ التوراة بطريقة جديدة. ولكنّنا نلاحظ أنّها تفترض رجوعًا واعيًا إلى ما قاله يسوع وعمله" (أع 1: 1).

3- الدفاع والجدال
إنّ إعلان الإنجيل "حسب الكتب" جعل الكنيسة الأولى في صراع مع السلطات اليهوديّة، مع أنّ الإيمان الجديد ضمّ إليه أتباعًا جاؤوا حتّى من صفوف الكهنة (أع 6: 7) والفرّيسيّين (أع 15: 5). وهذا الوضع دفع الكنيسة إلى إنتاج نصوص نستطيع أن نتتبع آثارها.

أوّلاً: البرهان المسيحيّ
نجد أوّلاً نصوصاً ترتبط بما نقدر أن نُسَمِّيَهُ "البرهان المسيحيّ" الموجَّه إلى اليهود. والبرهان لا يعني حجَّة قاهرة تلغي الحرّيّة في قرار الإيمان، بل شكلَ عرض يبيّن توافق الإنجيل مع المواعيد التي تتضمّنها التوراة، ويدعو الإيمان إلى أن يمضي في طريقه إلى النهاية. ليس من حدود واضحة بين طريقة هذا العرض وتكوين الفكر اللاهوتيّ الذي يتوسّع فيه مضمون الإنجيل. فالقراءة تخضع في الحالتين لتأويل كرستولوجيّ دقيق. ولكنّ التفكير اللاهوتيّ يتوجّه إلى المؤمنين. أمّا الخطبة الدفاعيّة فتهدف إلى وضع معالم في طريق الإيمان. ومع أنّ لوقا أعطى الشكل النهائيّ للموادّ المستعملة في أع 1- 15 إلاّ أنّنا نستطيع أن نكوِّن فكرة عن هذا الدفاع الأوّل (الذي يحاول الإقناع).
نستطيع أن نستخرج من خطبات أع 2: 22- 36، 38- 39؛ 13:3- 24؛ 4: 11- 12؛ 10: 36- 43؛ 13: 17- 39 ملفًّا من النصوص المستعملة لهذه الغاية: المزامير 2؛ 16؛ 89؛ 110؛ 118. تث 18: 15- 19. وإيرادات عديدة من أشعيا. والقراءة المسيحية تفترض القراءة اليهوديّة التي سبقتها. هل استعان الوعّاظ بمجموعة "شهادات" ليعلنوا الإنجيل ويدافعوا عنه؟ الأمر ممكن. فقد وُجد في قمران مجموعة من هذا النوع تضمّ الإيرادات التالية: خر 20: 21 (= تث 5: 28- 29+ 18:18- 19 في النسخة السامريّة)؛ عد 24: 15- 17؛ تث 33: 8- 11، مزمور منحول ومنسوب إلى يشوع. كلّ هذا يدلّ على أنّنا أمام فنّ أدبيّ سابق للمسيحيّة. ويقدّم لنا الأدبُ الرابّانيّ أمثلة قريبة مع تداخل النصوص التي يستدعي الواحد الآخر. يمكننا أن نفكّر في إيرادات على موضوع الحجر في 1 بط 2: 4- 8 (إش 28: 6+ أش 8: 14. ثم إن مز 118: 22 هو موضوع إيرادات كثيرة). نستطيع أن ننطلق من العهد الجديد إلى كتَّاب القرن الثاني مثل رسالة برنابا والقدّيس يوستينوس فنجد نصوصًا عديدة.
ثانيًا: الحرب على شكّ اليهود
نجد تنديدًا بشكّ اليهود الذين لا يؤمنون ولا يصدِّقون أقوال يسوع الخاصّة. ويعطينا سفر الأعمال بعض الأمثلة النموذجيّة. فخطبة أنطاكية بسّيدية تنتهي بإيراد خطير من حب 1: 5 (أع 13: 40 ي)، وإيراد أش 6: 9- 10 نجده في الإزائيّين (مر 4: 12) وفي نهاية سفر الأعمال (28: 26 ي: خطبة تختتم رسالة بولس) وإنجيل يوحنّا (12: 40): يبيّن التقليد الإزائيّ أنّ استعمال هذا النصّ يعود إلى الجماعة الأولى في فلسطين. وهكذا نقول عن أش 29: 13 الذي نجده في مر 7: 6 ي ومت 15: 8 ي. وخطبة إسطفانُس الطويلة (أع 7: 2- 53) هي دفاع برجوعها إلى التاريخ المقدّس مع تفسير نمطيّ لإبراهيم ويوسف وموسى، وهي حرب برجوعها الأخير إلى النصوص النبويّة. ورغم يد لوقا الظاهرة في النصّ، فعرض رئيس "الهلّينيّين" وعداؤه للهيكل (أع 7: 40- 50) يتعارض مع موقف المسيحيّين "العبرانيّين" (أع 2: 46؛ 3: 1؛ 5: 12- 13، 42؛ 21: 20- 26). وهذا ما يجعلنا نفترض أنّ لوقا استعان بملفّ يعود إلى الهلّينيّين بعد تشتّتهم في اليهوديّة (أع 8: 1) وأنطاكية (أع 11: 19). وإنّ قدَم هذه الحرب واستمرارها يجعلاننا نطرح سؤالاً بالنسبة إلى روم 9- 11: أما يعود بولس في هذا الموضع إلى ملفّ آخر وُجد قبله فتوسّع فيه ليدخله في تفكيره عن مصير إسرائيل؟ إن كان الأمر صحيحًا، فهذا ما يجعله على اتّصال بالمسيحيّين المتهوّدين. ولكنّنا نتردّد بعض الشيء، لأنّ بولس استعمل أيضاً التوراة بكثرة في روم 1: 17- 4: 25 و6:9- 11: 36، وهذا ما يجعلنا أمام تفكير خاصّ بالقدّيس بولس.

4- تعليم المؤمنين
وننتقل من أروقة الهيكل وأمكنة الصلاة وسائر الأماكن العامّة إلى اجتماعات الكنيسة. نترك الجدال لنتوقّف عند التعليم. ففي نصوص الأعمال والرسائل البولسيّة نجد لائحة ألفاظ تصوّر لنا "خدمة الكلمة" (أع 6: 4؛ لو 1: 2) يقوم بها الأشخاص الذين ذكرناهم سابقًا.
إذا وضعنا جانبًا إعلان الإنجيل تتجمّع الألفاظ حول وظيفتين أساسيّتين: وظيفة النبيّ ووظيفة المعلّم. فقراءة التوراة مناسبة للنبوءة والتعليم. وهناك تقاطع بين الاثنين: إذا عدنا إلى 1 كور 14: 31 نرى أنّ نتيجة النبوءة هي تعليم المؤمنين وتحريضهم. ومنذ البداية يذكر لوقا أنّ المؤمنين كانوا مواظبين على تعليم الرسل (أع 2: 42)، ويبيّن كيف أنّ المشاركين في الجماعة "يعلنون بثقة كلمة الله" (أع 4: 31) بحماس يُشبه حماس العنصرة. فإذا تطلّعنا إلى تعليم المؤمنين، نشير إلى بعض النشاط النبويّ وإلى كلّ العمل التعليميّ. وقد امتدّ هذا التعليم كشرح للإنجيل وقالب اللاهوت المسيحيّ، حول عناصر ثلاثة: الشهادة بقيامة يسوع، تذكّر أعماله خلال حياته على الأرض، تسليم كلماته.
أوّلاً: شهادة القيامة كتقليد رسوليّ
ليس من السهل أن نضع الحدود بين النصوص المتعلّقة بقيامة يسوع في إعلان الإنجيل والمؤسّسة للإيمان وبين استعادة هذا الإعلان كتعليم مسيحيّ. كلّ ما يمكننا أن نفعل هو أن نميّز الصيغَ العامّة من الأخبار الموسّعة. فالصيغ تستعيد عبارات الكرازة داخل فعل الإيمان الذي استعملته الجماعة المسيحيّة خاصّة في ليتورجيّة العماد. أمّا الأخبار الموسَّعة فنجدها في الأناجيل.
إذا وضعنا جانبًا 1 كور 15: 3- 7 الذي حلّلْناه سابقًا، نجد آثار صيغٍ متنوّعة تعرض السرّ في وجهات مختلفة: انتُزع يسوع من الموت (أقامه الله: أع 2: 24، 33؛ 3: 15، 26؛ 4: 10؛ 5: 30، 10: 26؛ 30:13 ي؛ 1 تس 1: 10؛ روم 10: 9)، المسيح قام (1 تس 4: 14؛ 1 كور 15: 4؛ مر 16: 6؛ مت 28: 6- 7؛ لو 24: 5- 6، 34 مع فعل استيقظ أو قام وأقام)، أو رُفع (أع 2: 23؛ 5: 31؛ يو 3: 14؛ 8: 28؛ 12: 32- 34؛ عب 1: 3؛ 26:7؛ فل 2: 9...)، أو مُجِّد (أع 3: 13؛ يو 1: 31؛ 16: 14؛ 17: 1- 5)، أو جلس عن يمين الله (أع 2: 35 ي؛ 7: 31؛ 7: 55 ي؛ روم 8: 34؛ كو 1: 1؛ أف 1: 20؛ عب 1: 3، 13؛ 8: 1؛ 10: 12؛ 12: 2؛ 1 بط 3: 22؛ رؤ 5: 1)، أو أنّه يحيا (روم 6: 10؛ رؤ 1: 18...). لسنا ندري متى وُضعت هذه النصوص ولكنّنا نعرف أنّها تكوَّنت في جماعة فلسطين.
وتقليد خبر القبر الفارغ والظهورات هو أحد العناصر العائمة في العهد الجديد: فكأنّه بقي في المرحلة الشفهيّة حتّى زمن تدوين الإنجيل. ولكن يجب أن نشير إلى وجود ربة للظهور للاثني عشر (أو الأحد عشر) وإرسالهم. ولكنّ التفاصيل الملموسة تختلف من شاهد إلى آخر (مت 28: 16- 20؛ لو 24: 36- 49= أع 1: 4- 8؛ يو 20: 19- 23؛ مر 16: 14- 18). فالتقليد القديم كان أغنى من النصوص التي بين أيدينا: هناك الظهور لبطرس (1 كور 15: 5؛ لو 24: 34) ولخمسماية أخ (1 كور 15: 3). فما وصلَنا من عناصر يقدّم سمات عامّة، لا معطيات في ظروف معيّنة. ولا يمكن أن نحسب أيّة كلمة وُضعت في فم المسيح القائم من الموت على مستوى أقوال يسوع خلال رسالته العلنيّة. فهذا طبيعيّ، لأنّنا أمام اختبار يتعدّى التاريخ حصل لشهود ما زالوا عائشين في التاريخ. ولكن يمكننا أن نتساءل: أما تكون بعض الأخبار المُقحمة في مسيرة الحياة العلنية قد ارتبطت أصلاً بظهورات المسيح القائم من الموت؟ الأمر ممكن بالنسبة إلى السير على المياه (مر 6: 47- 50) والصيد العجيب (لو 5: 4- 10؛ رج يو 21: 1 ي) واعتراف بطرس (مت 16: 16- 19).

ثانيًا: أول الربّ
تعود التقاليد المتعلّقة بأعمال الربّ إلى أخبار "شهود عِيانٍ" (لو 1: 2). ولكنّ هذه العودة إلى التذكّرات الأولى لا تؤثّر بالمسائل التي يطرحها ترتيب الأخبار عينها، والنوايا التعليميّة التي حدّدتها، ووظيفة النصوص في الكنيسة الرسوليّة. هذا هو عالم المدرسة التكوينيّة. فهي من خلال المراجع المكتوبة تُعيدنا إلى "أدب وظيفيّ" عرفَته المسيحيّة المتهّودة في أورشليم، في سائر فلسطين، وبدرجةٍ أدنى في الشتات. أمّا التفاصيل فسنجد بعضها عندما ندرس الأناجيل الإزائيّة وإنجيل يوحنّا.
وتتنوّع هذه الأخبار عندما تقدّم لنا شخص يسوع. بعضها يورد أعمالاً تكشف سرّه، أكانت عجائبه أم موته على الصليب، أكان ظهوره في العماد أم تجلّيه. إنّها ولا شكّ تفسّر الأحداث المرويّة. وبعضها الآخر يورد أعمالاً نموذجيّة يستقي منها المسيحيّون نورًا يوجِّه حياتهم: مثلاً هل ندفع ضريبة الهيكل (مت 17: 24- 27)؟ كيف نواجه التجربة (مت 4: 1- 11= لو 4: 1- 13)؟ بعضها يشير إلى هدف واحد. مثلاً: نداء التلاميذ (مر 1: 16- 20)، شفاء الأبرص (مر 0: 40- 45)، وبعضها الآخر إلى أهداف عديدة. مثلاً: خبر معموديّة يسوع، خبر تكثير الخبز. بعضهم اعتبر أنّ الكرازة المسيحيّة نظّمت النصّ: مثلا لتجربة يسوع حسب متّى ولوقا خلفيّة هي قراءة مسيحيّة لسفر التثنية ف 6 و8. وهناك نصّ يمتدّ طويلاً فيربط أحداثًا متمايزة هو خبر الالام الذي يتعلّق بأحد قطبَيِ الإنجيل: "مات المسيح من أجل خطايانا كما في الكتب" (1 كور 15: 3). ولكنّنا نستطيع أيضاً أن نبحث في هذا النصّ عن إعلان موت الربّ المرتبط بالاحتفال بعشائه (1 كور 11: 26)، إلاّ إذا كان الاحتفال السنويّ بالفصح (1 كور 5: 7- 8) قد دعا المؤمنين لتجديد ذكرى هذا الموت. نترك الآن جانبًا مسألة التجميع التأليفيّ فنطرح نقطتين في دراسة هذا الأدب القديم.

تاريخ الأخبار
متى تكوَّن كلّ خبر في التقليد الشفهيّ قبل أن يدوَّن؟ هذا ما لا نستطيع الجواب عليه إجمالاً، والقضيّة قضيّة حالات خاصّة. منذ البداية كانت الكنيسة محيطًا مؤاتيًا للاحتفاظ بتقليد إخباريّ مرتبط بتذكّرات شهود عِيان. من جهة اهتمّ الإيمان بهذا الأمر بقدر ما يشكّل شخص يسوع موضوعه. ومن جهة ثانية تركّزت الجماعات المؤسّسة على هؤلاء الشهود العِيان بواسطة خدّام يسهرون على الكلمة. ولكن يجب أن نقرّ مع ذلك أنّ تثبيت هذه التذكّرات تثبيتًا أدبيًّا استغرق عشرات السنين. فاتّخذ لوقا الموادّ المنظّمة في حدث تلميذَيِ عمّاوس (لو 24: 13- 35) ومتّى في حدث حراسة القبر (مت 27: 62- 66؛ 28: 2- 4، 11- 15). وهذا ما يجعل المسافة تمتدّ إلى خمسين سنة بين تكوين النصّ ونقله.

توسّع التقاليد
في هذه الظروف نأخذ في عين الاعتبار التوسّع ألذي يصيب كلّ خلق أدبيّ في إطار التقليد الشفهيّ خلال فترة من الزمن طويلة. فالاحتفاظ بالتذكّرات الأصليّة يتمّ بالليونة المعروفة في هذه الظروف. في بعض الأحوال تعطينا مقابلة النصوص المتوازية فكرة واضحة. مثلاً: موت يهوذا (مت 27: 3- 10؛ أع 1: 18- 19). ولكن حين ننظر إلى مضمون الأخبار يواجهنا خطران لا بدّ من تجنّبهما. الأوّل: لا نتخيَّل أنّنا أمام تكرار ميكانيكيّ للشهادات الأولى مع بعض الاختلافات الطفيفة. فقد كان هناك خلق أدبيّ لعب فيه كلّ خدَّام الكلمة (أي وعّاظ الإنجيل) دورًا فاعلاً. الثاني: لن نتكلّم عن الجماعة الخلاقة التي أعطتنا هذه الأخبار وكأنّها انتجت بحريّة غير مضبوطة مقاطع اخترعت تفاصيلها دون أي تجذّر في تقليد متين. من الأفضل أن نتكلّم عن جماعة "مكوِّنة" تمّ فيها إنتاج النصوص على يد أناس مسؤولين عن الإنجيل وتحت مراقبة كنيسة متعلّقة بتقليدها. ولقد تكيّف هذا العمل والحاجات العمليّة لمجموعات وجب أن نعطيَها تعليمًا يُسند الإيمان ويعمّقه ويعبِّر عنه.
وجُعلت الذاكرةُ والعقل والمحيّلة في خدمة هذه العمليّة، بعد أن تغذّت من ينبوعين: تذكّرات جاءت من يسوع، الكتب التي تلقي ضوءًا على حياة يسوع. وكان استعمال الفنون الأدبيّة وجهة هامّة. ارتبط الكاتب برسمات عامّة، ولكنّه ظلّ منفتحًا على تكيّفات عديدة. إلى أيّ حدّ امتدّت إمكانيّات الاختراع في عرض الأحداث الإنجيليّة؟ يبدو الجواب على هذا السؤال دقيقًا. تلاءم تثبيتُ النصوص وتحوّلات عديدة في تفاصيلها وتلخيصات أو توسيعات فرضتها ضرورة التربية الإنجيليّة في وسط شعبيّ لا في وسط علميّ. فهل بنى الإنجيليّ نصوصاً ليقدّم تعليمًا؟ قد يكون مر 11: 12- 14 (التينة اليابسة) تحويلاً لمثل قديم (لو 13: 6- 9). هل أدخل في بعض التقاليد سمات فولكلوريّة (الإستار في فم السمكة: مت 17: 27) أو عناصر أسطوريّة (غرق الخنازير في بلاد الجراسيّين: مر 5: 11- 14)؟ نحن هنا على حدود التاريخ الإنجيليّ. فإن كنّا لا نستطيع أن نبعد مثل هذه الإمكانيّة، فيجب أن نقدّرَ كلّ حالة على حِدَةٍ ولا نقدّم تعميمات، لأنّ تعلّق الكنائس بالتقليد الآتي من يسوع يوازن في هذه النقطة ليونة التكيّف المتروكة للرواة.

ثالثًا: أقوال الربّ
احتفظ الناس في ذاكرتهم بأقوال الربّ ونقلوها منذ أيّام حياته العلنيّة. إنّها ممارسة شائعة في العالم اليهوديّ الفلسطينيّ حيث يجمع التلاميذ أمثلة المعلّمين الذين قاسموهم حياتهم. ولقد اتَّخذ هذا التقليد المقدّس عن يسوع قيمةً متزايدة حين جعلت منه القيامة الربّ الممجَّد: فَتَذكُّرُ أقوالهِ دخلَ في التعليم المعطى للمؤمنين، مع العلم أنّ منظورَ القيامة دعاهم إلى قراءة تفسيريّة. جاءت مجموعة أقوال وأمثال يسوع المحفوظة في الإزائيين من هذا الينبوع الأوّل. ولكنَّ الإنجيليّين احتفظوا بالموادّ بطريقة متنوّعة: مرّة انقطعت الأقوال عن كلّ قرينة تاريخيّة، ومرّة احتفظت الأخبار التي تحيط بها بتذكّر ملموس لقرينتها الأولى، ومرّة أُقحمت الأقوال في قرائن (أو أخبار) اصطلاحيّة. فالقضيّة هي قضيّة حالات خاصّة.
هنا نطرح سؤالين. الأوّل: تدلّ اللمسات الأدبيّة وإعادة التأليف على أنّ التقليد الآتي من يسوع والمعامل باحترام كقاعدة إيمان وحياة، اتّخذ شكله بفضل الوعّاظ الذين يعلّمون الجماعات. فالتعلّق بتقاليد يسوع هو أمانة حياة لا تختلط بالتكرار الميكانيكيّ البسيط. ولكن إلى أيّ حدّ ذهب الخَلق الأدبيّ؟ لا قاعدة تعطينا جوابًا يصلح في كلّ النصوص. ولكنّنا نقدر أن نتقبّل إجمالاً شهادةَ الجماعة الإنجيليّة كأنّها أتت من يسوع دون أن ننسى وضع كثير من التفاصيل.
الثاني: هل نقول إنّ الأنبياء المسيحيّين لعبوا دورًا هامًّا في هذا المجال كما لو كانت الكلمات التي تلفّظوا بها باسم المسيح القائم من الموت (مثلاً: صِيغ الحقّ المقدّس: مت 5: 18؛ 6: 16 ي؛ 16: 28...) قد ضمّت إلى مجموعات أقوال يسوع؟ قد يكون الأمر ممكنًا، ولكن لا بدّ من الحذر. فبدلاً من التفكير بخلق نُسب فيما بعد إلى يسوع الناصريّ، من المفضّل أن نتطلعّ إلى عمل الأنبياء والحكماء والكتبة (مت 23: 34) الذين كيّفوا التقليد الذي تسلّموه وحاجات السلوك العمليّة واللاهوت المسيحيّ.
أمّا نقل الموادِّ وتركيبُها في الإنجيل الرابع فقد تمّ بطريقة مختلفة. فتقديمها في خطبة موحاة لا يُنسب إلى المراحل الأولى للتقليد اليوحنّاويّ. فتجذّر النصوص في فلسطين ما قبل سنة 70 أمر لا جدال فيه، ولكن هذا لا يتيح لنا بأن نذهب أبعد من الجماعة المسيحيّة الأولى. من الممكن أن تكون بعض أقوال يسوع قديمة كما هي الحال عند الإزائيّين. فلا بدّ من درس كلّ حالة بمفردها. ثمّ إنّ تذكّر كلمات الربّ امتزج بقراءة التوراة وتفسيرها فكان تفاعلٌ ساعد على تثبيت النصوص الإنجيليّة تثبيتًا نهائيًّا (مثلاً: أنظر كيف أُقحم أش 5: 2 في مر 12: 1 ومت 21: 33، وهو أمر يجهله لو 20: 10). مهما يكن من أمر، فحين ننظر إلى أقوال يسوع ونتذكّر وقائع حياته، يجب أن نتجنّب فكرة التكرار الميكانيكيّ: فمنذ بداية الكنيسة قام المسؤولون عن الكلمة بعمل بناء وخلاق.

5- النصوص الليتورجيّة
أوّلاً: إعلان الكلمة وشرحها
إذا عدنا إلى سفر الأعمال نجد أنّ المسيحيّين المتهوّدين في أورشليم ظلّوا أمناء للعبادة في الهيكل حتّى بداية الحرب اليهوديّة. إذن، ظلّ مسيحيّو اليهوديّة والجليل يشاركون في أعياد الحجّ، رغم أنّ عيدي الفصح والعنصرة اتّخذا معنى جديدًا في حياتهم. نلاحظ أنّ لوقا يشدّد على التواصلات التقليدية، أكثر منه على التصدّعات. ولكن تبقى بعض الأسئلة عالقة: كان المسيحيّون يرون في موت المسيح ذبيحة العهد الجديد (1 كور 11: 25)، فهل كانوا يشاركون في الذبائح اليهوديّة؟ لا نستطيع الجواب، ولكن يبقى أنّ جماعاتهم كانت مطبوعة بتواترات الليتورجيّة اليهوديّة: إكرام السبت، ساعات الصلاة، الاحتفالات السنويّة... وإنّ مشاركتهم في اجتماع المجمع في أورشليم وفلسطين وبلدان الشتات طبعهم كما طبعتهم ليتورجيّة الهيكل. ستبقى الحال على هذا المنوال إلى أن تتدخّل السلطة المحلّيّة كما حدث منذ أيّام القدّيس بولس (أع 17: 5- 9، 13؛ 18: 6- 8؛ 19: 9). وهكذا تأثّرت الصلاة المسيحيّة في أشكالها العمليّة باختبار المجمع: قراءة التوراة وتفسيرها، إنشاد المزامير والصلوات... ولكن كانت تتمّ في البيوت اجتماعات خاصّة تكوّنت فيها ليتورجيّا مسيحيّة خاصّة "في الكنيسة". هذا ما يتعلّق بإعلان الكلمة وشرحها. يبقى أن ننظر إلى الطقوس الليتورجيّة الكبرى والنصوص التي جُهِّزت لهذه الطقوس.

ثانيًا: المعموديّة "باسم يسوع" وعطيّة الروح
نترجم تعلّقنا بالإنجيل المطبوع بالتوبة (أع 2: 38؛ 3: 19؛ 5: 31؛ 26: 20) والإيمان بالمسيح يسوع (أع 10: 43؛ 13: 39...) بقبول المعموديّة الذي يدلّ على اثنين: مغفرة الخطايا وعطيّة الروح القدس (أع 2: 38؛ 10: 43...). تستعيد الشعيرة طقس معموديّة يوحنّا ولكنّها تحوّل معناه: لم تعد معموديّة ماء كعلامة للتوبة، بل معموديّة في الروح القدس وموهبة إسكاتولوجيّة (أع 1: 5). لم يُبرز تقليدُ سفر الأعمال أيَّ مكان مميّز: فالمعموديّة تعطى حيث يوجد ماء (أع 8: 36؛ 16: 13- 15) أو في البيوت الخاصّة (أع 16: 33؛ رج 10: 48). وحين وُجدت جماعات كنسيّة تلتئم في البيوت، صار الانضمام إلى الجماعة يتمّ في هذه المناسبة، وهذا يفترض وجود مياه في الجوار. واحتفظ لنا لوقا بصيغة قديمة ترتبط بالطقس: يعمَّد المؤمنون "باسم يسوع" (أع 2: 38؛ 8: 16؛ 10: 48؛ 19: 5) أي بالدعاء بهذا الاسم (أع 2: 21؛ 22: 16؛ 1 كور 1: 13- 15؛ 6: 11).
وهناك آثار طقسيّة أخرى نكتشفها بصعوبة، وقد أثّرت على كل أخبار المعموديّة التي يتضمّنها سفر الأعمال. فالاعتراف بالإيمان المسيحيّ يجد هنا أصله الأكيد. وقد احتفظ القدّيس بولس ببعض الآثار: "يسوع هو ربّ" (روم 10: 9؛ رج 1 كور 12: 3؛ فل 2: 11). "يسوع مات وقام" (1 تس 4: 14). "المسيح يسوع... مات وقام وهو عن يمين الله يشفع لنا" (روم 8: 34). "أُسلم لأجل ذنوبنا، وأقيم لأجل تبريرنا" (روم 4: 25). "الله أقامه من بين الأموات" (روم 10: 9). كلّ هذه الصيغ تجد مكانها في إطار المعموديّة.
وفي المحيط الفلسطينيّ المتكلّم بالآراميّة، نستطيع أن نربط بهذا الإطار صيغةَ الصلاة البَنويّة التي احتفظ بها بولس في نصوص مليئة بالتلميحات العماديّة: "أبّا، أيّها الآب" (غل 4: 6؛ روم 8: 15). لن نجد فيها فقط صدى مباشرًا لصلاة يسوع في جتسيماني (مر 14: 26)، بل بداية الصلاة الربّية في نسختها اللوقاويّة (لو 11: 2- 4). لهذا نستنتج أنّ طقس التدرّج المسيحيّ تضمّن تلاوة هذه الصلاة.
وتتيح نظريّة الإنجيل التكوينيّة أن تربط بهذا الإطار تقاليدَ عديدة ترتبط بالموضوع نفسه، ولاسيّما التذكير بعماد يوحنّا وخبر عماد يسوع. بما أنّ المعموديّة المسيحيّة ترث معموديّة يوحنّا كطقس توبة (مر 1: 4)، نفهم لماذا بقيت كلمات المعمدان التي احتفظت بآنيتها في الاستعداد للطقس (مر 1: 4- 12؛ لو 3: 7- 18؛ يو 1: 19- 18). ثمّ إنّ خبر معموديّة يسوع لا يحمل فقط طابعًا كرستولوجيًّا. إنّه يبيّن مضمون الاختبار العماديّ الذي فيه يشترك المؤمنون في خبرة يسوع، لأنّهم ينالون الروح ويصيرون أبناء الله. والشكل الجليانيّ يوحي بتأليف قديم من أصل فلسطينيّ. ويمكننا أن نبحث عن آثار للتهيئة للمعموديّة في مجموعة الأقوال المتعلّقة بالتوبة. ولكنّ يو 3: 1- 9 يفترض لاهوتًا مبنيًّا بناءً محكمًا بحيث لا نستطيع أن نسمِّيَه صيغة قديمة. أمّا الوعد بالروح الذي لم يتوسّع فيه التقليد الإزائيّ (مت 10: 19 ي، لو 11: 12 ي؛ مر 13: 11= لو 21: 14 ي)، فلم يرتبط بالتدرّج المسيحيّ، بل بالشهادة التي نحملها أمام المضطهِدين (يو 14: 16- 17، 26- 27): فانطلاقًا من "المعموديّة في الروح القدس" فَهِمَ المؤمنون الطقس الموروث من يوحنّا في هذا المنظور الجديد.

ثالثًا: عشاء الربّ
ويتضمَّن اجتماعُ الكنيسة عشاءً مشتركًا يشير إليه لوقا وبولس (أع 2: 46؛ 1 كور 11: 21 ي). وقد ربط فيلون الإسكندرانيّ بين الطعام وقراءة التوراة عند الزهّاد اليهود. وهذه الموازاة لا تفرض تبعيّة، ولكنّها تدلّ على وجود رسمة مشتركة تفسِّر العلاقة بين خدمة الكلمة والعشاء الإفخارستيّ. وقمّة هذا العشاء احتفال طقسيّ من نوع جديد: تكرّر الجماعة خبرة الشهود الأوائل (أع 10: 41؛ لو 24: 30، 41- 43). فتتّكئ إلى مائدة الربّ القائم لتشترك في جسده ودمه (1 كور 10: 16). يتكلّم بولس في هذا المجال عن "عشاء الربّ" (1 كور 11: 20)، ولوقا عن "كسر الخبز" (أع 2: 42؛ 20: 7- 11؛ لو 24: 30؛ 1 كور 10: 30). فالعبادة الأولى تشدّد على جديد طقس يتّخذ شكل العشاء اليهوديّ، ولكنّه يتقبّل معناه من حضور الربّ القائم نفسه. والعبادة الثانية تشير إلى هذا العمل بالذات. يرتبط بولس بالمسيحيّة المتهوّدة حين يشير إلى الخبز المكسور، وإلى البركة التي تُتلى على كأس الخمر (1 كور 10: 26).
كيف كان يظهر عمليًّا حضور الربّ الذي يتعشّى مع أحبّائه (رؤ 3: 20)؟ هناك تقليد ثابت يعود إلى الربّ نفسه. تسلّمه بولس، وسلّمه وفسّره حين تحدّث عن العشاء الأخير الذي اتّخذه يسوع مع أخصّائه "في الليلة التي أسلم فيها" (1 كور 11: 23- 25). ولم يكن يكتفي هذا الخبر العشائيّ، هذا الطعام الفصحيّ الذي تحرّر من كلّ ما لا يتعلّق بعشاء الربّ في التقليد الإزائيّ، لم يكن يكتفي بأن يقدّم لنا نموذجًا ننسخه. حين ذكّرنا النصّ بِهُوِيَّة الربّ الذي يستقبل المؤمنين إلى مائدته ويسوع الناصريّ الذي يرئس هذا العشاء ويوضح معنى موته، فقد هُيّئَ كخبر يقرأ وقت كسر الخبز ليذكّرنا بمدلول هذا العمل الطقسيّ. وحين يقوم رئيس الجماعة المسيحيّة بهذه القراءة، كان يختفي وراء المسيح الميّت والقائم. وإذ وجّهتنا صيغة النصّ التكوينيّة نحو فهم الخبر، أرتنا علاقة الخبر بالاحتفال الإفخارستيّ، سواء عند بولس الذي يفصل النصّ عن كلّ قرينة فصحيّة واسعة، وسواء عند الإزائيّين الذين يجعلون النصّ قطعة رئيسيّة في الالام التي دشّنها مر 14: 1 ومت 26: 1 ولو 22: 1. وإنّ التنوّع بين النسخات الأرج (1 كور 11: 23- 25 ولو 22: 15- 19؛ مت 26: 26- 29؛ مر 14: 22- 25) لا يمسّ هذه النقطة الجوهريّة. فالرسمة الأساسيّة للخبر تنتمي إلى الطبقة الأدبيّة الأولى للتقليد المسيحيّ المتهوّد، وهي تعود إلى الزمن الذي يلي تأسيسها مباشرة. وهكذا نفهم الدور القاعديّ للرسمة بالنسبة إلى عشاء الربّ وكسر الخبز.
اتّخذ نوعان من الموادّ الإنجيليّة شكلاً في مدار هذا النصّ. فالأولى هي أخبار العشاءات التي أخذها يسوع خلال رسالته ولاسيّما حين تكثير الخبز (مت 14: 13- 21؛ مر 6: 30- 44؛ لو 9: 10- 17؛ يو 6: 1- 14؛ مر 8: 1- 9؛ مت 15: 32- 39). غير أنّ تقليد يوحنّا عن عرس قانا (يو 2: 1- 11) يفترض بناء معقَّدًا لتذكّر قديم. والأخرى هي أقوال (أمثال وخطب) يحتلّ فيها موضوع الطعام مكانة هامّة. ولكنّ النفحة الإفخارستيّة لم تدخل فيها إلاّ في وقت ثان. مثلاً: مت 22: 1- 14 يتوسّع في نص لو 14: 16- 24 الذي يرتبط مباشرة بقرينة قديمة وباختبار العشاء الأخويّ بين المسيحيّين. أمّا الكرازة الإفخارستيّة في يو 6: 24- 59 والتي تبدو كتعليم في المجمع (6: 59) فخلفيّتها نقاش بين اليهود والمسيحيّين. وهي تجعل المسيح القائم يتكلّم فيكشف معنى الطقس الإفخارستيّ (خاصّة في 6: 53- 58). فنحن لا نستطيع أن ندرك تجذّره في التقليد القديم إلاّ عبر التدوينات المتأخّرة للتقليد اليوحنّاويّ.

رابعًا: الإرسال
وأخيرًا كان تنظيمُ الرسالة المسيحيّة المرتبطة بانتشار الكنيسة في فلسطين وفي الشتات (أع 8: 1؛ 11: 19) عملَ الرسلِ والأنبياء والمعلّمين كما قلنا سابقًا. ولم يكن انطلاقهم في الرسالة أمرًا فرديًّا ومستقلاّ عن كنيستهم الأصليّة. يتكلّم لوقا عن بعثات تحقيق (أع 8: 14؛ 11: 22؛ 15: 22- 30)، فتتدخّل الجماعة بصورة علنيّة. أمّا بالنسبة إلى برنابا وبولس، فالإرسال تمّ خلال احتفال عباديّ (ليتورجيّا: أع 13: 2): نلاحظ فيه وضع الأيدي (أع 13: 3) الذي سيصير فيما بعد حركة السيامة من أجل الخدمة الكهنوتيّة وغيرها (رج 1 تم 4: 14؛ 5: 22؛ 2 تم 1: 6). وهذه الحركة المسيحيّة المتهوّدة استعملت باكرًا في الكنيسة.
أمّا تنظيم الرسالة العمليّ فيشير فيه بولس إلى قاعدة أعطاها الربّ من أجل الذين يُعلنون الإنجيل (1 كور 9: 14؛ رج مت 10: 10؛ لو 10: 7). وهذا التلميح يدلّ على أنّ خطبة الإرسال التي نجدها عند الإزائيّين قد اتّخذت شكلها الأدبيّ الأخير بالنظر إلى إيفاد المرسلين المسيحيّين (مر 6: 7- 12؛ مت 10: 1 ي؛ لو 9: 1- 6؛ 10: 1- 16 حيث يتميّز التلامذة 72 عن الرسل الأثني عشر فيذكّروننا بالمرسلين). ومن المنطقيّ أن نستنتج أنّ مجموعات الأقوال المتعلّقة بهذا الموضوع، تكوّنت لتُقرَأ في الجماعات حين ينطلق المرسلون، إمّا على مستوى الإنجيليّين، وإمّا على مستوى منابعهم. ويمكننا أن نضمّ إلى كلّ هذا بعض أقوال يسوع وجّهها إلى تلامذه وحدهم مثل لو 12: 1- 12 الذي يجد ما يوازيه في لو 21: 12- 19؛ مر 13: 9- 13؛ مت 10: 17- 32؛ يو 15: 18- 16: 4. فلوعد الروح علاقة بالصعوبات التي تجابه المرسلين (مر 13: 11؛ مت 10: 20؛ لو 12: 12؛ 21: 15؛ يو 15: 18- 27). ولكنّ يوحنّا يستعيد هذه التعليمات بالنظر إلى طرد المسيحيّين المتهوّدين على يد العالم اليهوديّ الرسميّ بين سنة 80 وسنة 95 (رج يو 16: 2).

6- صلوات وأناشيد
إذا عدنا إلى الرسائل وإلى سفر الرؤيا، يمكننا أن نكتشف موادَّ ليتورجيّةً قديمة صارت كنز الكنائس المشترك: مثلاً: هلّلويا، آمين، ماراناتا (1 كور 16: 22؛ تعال أيّها الربّ: رؤ 22: 20). ويكننا أن نضمّ إليها هتافاتٍ وصيغًا وأناشيدَ نقرأها في بعض الرسائل (1 تم 1: 17؛ 3: 16؛ 1 بط 2: 22- 24) وفي سفر الرؤيا (4: 8، 11؛ 5: 13 ي؛ 7: 12؛ 19: 1- 2، 5- 7). والتحيّات التي تبدأ الرسائل أو تنهيها هي كلمات تفتح الاجتماعات الليتورجيّة (1 تس 4: 28؛ 2 تس 1: 2؛ 3: 18؛ فل 1: 3- 25؛ 4: 23؛ غل 6: 18؛ 1 كور 1: 3؛ 16: 23؛ 2 كور 1: 2؛ 13: 13؛ روم 1: 7؛ 7: 25؛ 11: 36؛ 16: 27؛ 1 تم 6: 15- 16؛ عب 13: 25). أمّا المجدلة في روم 16: 25- 27 فهي متأخّرة. والصلاة التي أُقحمت في سفر الأعمال (4: 24- 30) قد ألّفها لوقا فجاءت تفسيرًا (بشع للمزمور 2: 1- 2. وهذا ما يدلّ على أنّ سفر المزامير المقروء في المجمع يقدّم لصلاة الكنيسة موادّ أساسيّة يعاد تفسيرها. وقد تكونُ الكنيسة قرأت المزامير على ضوء شخصيّة يسوع المسيح.
واحتفظ لنا لوقا بمزمورين مسيحيّين قديمين جدًّا يعودان إلى جماعة فلسطين: إنّ نشيد مريم (لو 1: 46- 55) الذي يرتبط بالقرينة الإخباريّة بشيء بسيط (لو 1: 48)، هو مجموعة من العبارات التَوراتيّة التي تعبّر عن شكر الجماعة في وقت استعان لاهوت الخلاص بعبارات بدائيّة مستقاة من العالم اليهوديّ. نسبه لوقا إلى مريم فأشركها في صلاة الكنيسة بعد القيامة (أع 1: 14). أمّا أسلوب نشيد زكريّا فيختلف عن أسلوب نشيد مريم (لو 1: 68- 79). يربط بإطار ميلاد يوحنّا المعمدان مباركةً تستلهم كلماتها من التوراة، ويقترب لاهوتها من لاهوت نشيد مريم. أمّا الصيغة في لو 2: 14 (المجد لله في العلى...) فهي ليتورجيّة الجماعة التي نُقلت على مستوى الملائكة. ونحن نرى الشيء عينه في سفر الرؤيا حيث تتجاوب السماء والأرض.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM