الفصل السابع نصوص العهد الجديد في حياة الجماعة

الفصل السابع
نصوص العهد الجديد في حياة الجماعة

حين ندرس العهد الجديد نكتشف قطبين: قطب يتعلّق بالنصوص وآخر بالتاريخ.
بالنسبة إلى القطب الأوّل، يجد القارئ نفسه أمام مجموعة من النصوص لا بدَّ من التعامل معها مطبِّقًا عليها كلَّ وسائل التحليل التي في حوزته. وهذا ليس بالأمر الجديد. فالمفسّرون في أيّام آباء الكنيسة لجأوا هم أيضاً إلى كلّ التقنيّات التي استعملها عصرهم ليُبرزوا خصائصَ هذه النصوص، إمّا عن طريق البلاغة، وإمّا عن طريق الاستعارة. غير أنّ وسائل حضارتنا لم تَعُد هي هي. فالنقد الأدبيّ والتحليل البنيويّ سارا على خطى البلاغة القديمة في طريقين مختلفين. وحلّت تفسيرة الرموز التي تتّجه نحوها علوم بشرية عديدة، ويهتمّ بها الفكر الفلسفيّ، محلّ الاستعارة القديمة. ولكنّ المطلوب هو أن نستخرج من النصوص معانيَ جديدةً يجد فيها القارئ فائدة له.
وبالنسبة إلى القطب الثاني، نعرف أنّ هذه النصوص تُرجعنا عبر اللغة إلى أبعد من ذاتها. إنّها تعود إلى محيط محدّد وتتجذّر في أخبار تاريخيّة وقد تكوّنت بفضل كتَّاب انخرطوا في هذا التاريخ. وتُوصل إلينا هذه النصوصُ صدى حقبة منظّمة تهمّنا بالدرجة الأولى: فبفضلها يتمّ الاتّصال بين الكنيسة الأولى وكنيسة اليوم. وهذا البعد الثاني، أي البعد التاريخيّ، يحدّد قيمة هذه النصوص بحيث إذا أهملناه، خسرت قسمًا كبيرًا من اهتمامنا بها: لماذا نتعلّق بهذه النصوص ولا نتعلّق بأساطير الهند وأخبار الصين؟ وإنّ بُعدها التاريخيّ لا يُلقي فقط ضوءًا على بنيتها الأدبيّة فيعرّفنا بتجذّرها الحضاريّ، بل يتيح لنا أن نفهم وظيفتها (أو دورها) في الجماعات المسيحيّة الأولى، وهي الوظيفة التي نجدها في الكنيسة الحاليّة عبر التبدّلات السوسيولوجيّة والحضاريّة التي تفصل زمان الرسل عن الزمان الحاضر.
لهذا سنتطرّق بصورة عامّة إلى هاتين الوجهتين للنصوص المجموعة في العهد الجديد: الوجهة الأدبيّة والوجهة التاريخيّة.

أ- الأدب الوظيفيّ في الكنيسة الأولى
لا يحتفظ العهد الجديد بكلّ أدب الكنيسة الأولى، بل بمجموعة من الكتابات الاتّفاقيّة، أي التي كتبت في مناسبة خاصّة. وهنا سنوضح ثلاث نقاط. أوّلاً: نحدِّد مدلول الكنيسة من زاوية السوسيولوجيا الدينيّة بحيث إنّ المهمّات والنشاطات المرتبطة بأبحاثها تجعلنا نستشفّ وظيفة النصوص التي ألِّفت فيها منذ البدء. وإذ نتفحّص ثانيًا سير هذه النصوص نحدّد "أمكِنة الإنتاج" التي فيها رأت النور. ونتفحّص أخيرًا، والكنيسة نمت في مدى حضاريّ منوّع، تأثير هذه البيئة على نتاجها الأدبيّ.

1- الكنيسة وأدبها الوظيفيّ
أوّلاً: الوظائف المتعدّدة للنصوص الأدبيّة
تنطبق كلمة "وظيفيّ" على كلّ أدبٍ مهـما كان نوعه. ففي مجتمع محدّد، يقوم كلّ نصّ، شفهيًّا كان أو خطّيًّا، شعبيًّا كان أو علميًّا، بوظيفةٍ معيّنة ويحتلّ مكانةً في قلب حياة الجماعة. إنّه يقدّم وسيلة تسلية أو يعبّر عن المُثُل المشتركة في شكل فنّيّ. هذا ما نقول عن الشعر الغنائيّ والمسرح والقصّة في حضارتنا. ولا ينطبق هذا المبدأ فقط على الآثار الأدبيّة، بل وعلى نصوص عمليّة مثل الشرائع والفرائض والعقود والجردات. من هذا القبيل تبدو العلاقة بين وظيفة النصّ وشكله قاعدة أساسيّة لتأليفه، مع الأخذ بعين الاعتبار الشروط الحضاريّة التي يخضع لها.
ويمكننا أن نتّخذ مثلاً واضحًا في تكوين العهد القديم. إنّ اندماج المجتمع السياسيّ والمجتمع الدينيّ في تطوّر حضاريّ نقل الناس من مدنيّة شفهيّة (التقاليد التي تكوّنت في البنتاتوكس: الكهنوتيّ، الاشتراعيّ...) إلى مدنيّة كتابيّة متقدّمة (التاريخ الاشتراعيّ وأنبياء المنفى). وهذا الاندماج سيطر على تأليف الأدب الوطنيّ. ولكن تمّت عمليّة فرز انطلاقًا من معايير دينيّة تنبع من إيمان يتثبّت يومًا بعد يوم. ولم يُحفَظ جزء من هذا الأدب القديم في العالم اليهوديّ الذي بعد الجلاء إلاّ من أجل استعماله العمليّ في الحياة الدينيّة التي عرفتها الأمّة المتشتّتة. وكان هذا الشرطَ الأساسيّ لبقائه في وقت خسرت الأمّةُ كلَّ استقلال سياسيّ. وبعد هذه الفترة لعبت القاعدة نفسُها دورَها في تأليف الكتب المجموعة في التوراة اليهودية. وفي هذا المجال أيضاً كانت عمليّة اختيار. لا ندخل في تفاصيل تكوين "القانون" الكتابيّ، ولكنّنا نقدّم قاعدة أكيدة، وهي أنّ المجموعة الأخيرة لا تتضمّن إلاّ نصوصاً "وظيفيّة" (منذ ألّفت أو منذ استعملت) تهدف إلى لعب دور في حياة الجماعة الدينيّة.
ونقول الشيء عينه عن العهد الجديد. فالجماعات المسيحيّة الأولى التي محورت وجودها الجماعيّ حول شكل من الحياة الدينيّة الأصليّة أنتجت نصوصاً كانت ضروريّة لتعبِّر عن هذه الحياة وتنظّمها وتحافظ على الروح المسيحيّة فيها ولتتذكّر أصولها وتاريخها... إذًا نحن أمام أدب وظيفيّ. فإذا حلّلناه اكتشفنا كلّ وجهات الاختبار الكنسيّ. وإن أردنا أن تكون نصوص العهد الجديد معبِّرة، لن نكتفي بأن نفهرس الأفكار ونقيمِّ العاطفة الدينيّة التي تعبّر عنها، بل سنكتشف البُعدَ الدينيّ المرتبط ارتباطاً وثيقًا بالبيئة الحضاريّة.

ثانيًا: الكنيسة والإنجيل
ونتوقّف أيضاً عند مفهومين: الكنيسة والإنجيل. ففي كلّ أسفار العهد الجديد تحدّد المجموعات المسيحيّة نفسَها "كنيسة". إنّهم يشيرون بهذا الاسم إلى أصالتهم. كان إسرائيل يحدّد نفسه في العالم اليهوديّ المعاصر "شعب" الله. أمّا الجماعات المعَدَّة لسماع كلام الله وتفسيره وللتعبير عن إيمانها بالصلاة، فقد سمّيت "سيناغوغي" (أو مجمع، كنيس). دلّت هذه اللفظة أوّلاً على الاجتماعات في أماكن الصلاة (أع 16: 13)، ثمّ طُبِّقت على هذه الأمكنة. أمّا العهد الجديد فلا يستعمل إلاّ مرّة واحدة لفظة "سيناغوني" ليدل على الجماعة المسيحيّة (يع 2: 2) ومرّة واحدة مشتقّة منها (عب 10: 25): لا تنقطعوا عن الاجتماع كما اعتاد بعضهم أن يفعل. إنّ الجماعة المسيحيّة تلتئم في كنيسة (إكلاسيا: 1 كور 11: 18). دلّت هذه اللفظة (إكلاسيا أي كنيسة) في التوراة اليونانيّة على الدعوة المقدّسة لشعب إسرائيل ليلتئم في جماعة عباديّة في إطار البرّيّة (تث 4: 10: تذكّروا يوم حضرتم أمام الربّ في جبل حوريب. قال الربّ لي: إجمع كلّ الشعب حتّى اسْمِعَهُمْ كلامي). واستعاد العهد الجديد هذه اللفظة مرّة واحدة (أع 7: 38). وحين استعملت هذه اللفظة لاجتماع المؤمنين المسيحيّين دلّت على الجماعة التي يدعوها (هذا هو معنى الفعل اليونانيّ) الله حول المسيح الممجَّد لتسمع كلمته وتشارك في خلاصه وتحتفل بتذكاره وتنتظر مجيئه.
الكنيسة هي مجموعة سوسيولوجيّة مكوّنة من مؤمنين موزّعين في هذا المكان أو ذاك وسط العالم اليهوديّ أو العالم الوثنيّ وهي أيضاً مجمل هذه المجموعات التي وعت وحدتها وعيًا عميقًا. ولكن قبل هذا، فالكنيسة هي جماعة ملموسة يعي فيها المؤمنون دعوتهم المشتركة ويرتبطون بالإيمان بكلّ الذين سمعوا النداء عينه. لا شكّ في أنّ "الكنيسة التي في كورنتوس" (1 كور 1: 2) أو تسالونيكي أو غلاطية لا يقتصر وجودها على هذه الاجتماعات العباديّة. إنّها تحيط بكل حياة المؤمنين الذين يعيشون في الجماعات المحلّيّة. ولكنّ "الاجتماعاتِ في كنيسة" هي المكان الأفضل الذي فيه يعبّرون اجتماعيًّا عن وجودهم. ففي هذه الاجتماعات نبحث عن المحيط الحياتيّ الذي فيه تكوّن قسم كبير من الأدب المسيحيّ الأوّل، والذي لأجله دوِّنت الأسفار المقدّسة.
تقودنا هذه الملاحظة السوسيولوجيّة إلى التساؤل عن العنصر الذي ميَّز حياة المجموعات المسيحيّة الخاصّة عن العالم اليهوديّ وتيّارات العالم الوثنيّ. في العالم الوثنيّ كانت العبادة التقليديّة المرتبطة بحياة المدينة أو الدولة متلاصقة مع العبادات الجديدة الآتية من الشرق. أمّا العالم اليهوديّ الذي احتفظ بعبادة ذبائحيّة في هيكل أورشليم، فقد عرفت جماعاته اجتماعات في المجمع أو الكنيس وكانت كلمة الله محور هذه الاجتماعات. انتقلت هذه الكلمة بطريقة حيّة في التقليد الشفهيّ ثمّ اتّخذت شكلاً مكتوبًا. كانوا يقرأون أسفار الشريعة ويُرفقونها بقراءة الأنبياء وسائر الكتب. ثمّ يفسِّرون كلّ هذا في عظة تبيّن آنيّتها. وكانوا يَتْلُون الصلوات فتكون كلمة الإنسان جوابًا على كلمة الله.
تَطَعَّمَتِ المسيحيّة على العالم اليهوديّ، فاتّخذت منه مجموعة الأسفار التي ستسمّى التوراة، ولكنّها حدّدت قراءتها بمبدأ تفسير جديد وغريب عن التيّارات اليهوديّة المتنوّعة. لقد صارت كلماتُ يسوعَ وشخصُ يسوعَ كلمةَ الله الجديدة والأخيرة التي وصلت إلينا في نهاية الأزمنة. فمن هنا تستقي الكتب المقدّسة والتاريخ السابق معناها النهائيّ. وإعلان هذا الجديد يشكِّل الإنجيل الذي هو موضوع الإيمان وقلب الكرازة المسيحيّة. وإذا أردنا أن نفهم أصالة الكنيسة بالنسبة إلى التيّارات الوثنيّة وبالنسبة إلى العالم اليهودي وجب علينا أن نعود إلى هذا الإنجيل الذي يغطّي بطريقته مُجمل النشاطات والأعمال العباديّة التي تتمّ في الكنيسة.
تدلّ كلمة إنجيل (إوانجليون أو البشرى أو الخبر السارّ) على الكرازة الأساسيّة التي تؤسّس الجماعات (1 كور 15: 3 ي). ترد هذه اللفظة مرارًا في الرسائل البولسيّة (الاسم: 50 مرّة والفعل 20 مرّة تقريبًا) وهي تقدّم لنا عنوان الكتيِّب الذي دوّنه مرقس (مر 1: 1). وتظهر في فم يسوع في إنجيل مرقس (مر 1: 1). ونجد فعل "أنجل" أو بشر 15 مرّة، واسم إنجيل مرّتين في سفر أعمال الرسل. وترد كلمة إنجيل أيضاً في سائر الرسائل (عب 4: 2؛ ابط 1: 12، 25...) وحتّى في سفر الرؤيا (10: 7؛ 14: 16). هذه الأرقام تلفت انتباهنا إلى المعطى الذي يمنح معنى جديدًا لموضوع الكلمة الحاملة الخلاص، هذه الكلمة التي صارت جسدًا في يسوع الناصريّ (يو 1: 14؛ 1 يو 1: 1).
يحدّد الإنجيلُ إيمان الكنيسة ويعلن مضمونه. ويُرينا التقليد القديم في 1 كور 15: 3 ي المراجع الهامّة التي ينتظم حولها هذا المضمون: "مات المسيح من أجل خطايانا كما في الكتب... وقام في اليوم الثالث كما في الكتب". يعود بنا الإنجيل إلى تاريخ يسوع الناصريّ الذي انتهى بموت تسجّل في الزمن، يعود إلى آنيّة يسوع كمسيح مجيد يؤمّن للمؤمنين مغفرة خطاياهم، يعود إلى الكتب (أي أسفار العهد القديم) ككتاب وحي الله ومواعيده. ورث الوجودُ المسيحيّ الوجودَ اليهوديّ، ولكنّه تركّز بدوره على رجاء يضمّ كلّ المستقبل حتّى رجوع الربّ (1 كور 11: 26). وهكذا، فكلّ إعلان للإنجيل يتضمّن مجمل تدبير الخلاص وإن لم يقله صراحة. أمّا الأدب المسيحيّ فيتوسّع انطلاقًا من هذا الأساس الذي يعطي معنى للنتاج الأدبيّ المتنوّع. كلّ الأنواع ترتبط بالإنجيل، وهذا ما يؤكّد أصالتها.

2- أماكن إنتاج النصوص
حين نتكلّم عن نصوص الأدب المسيحيّ الأوّل، لا نفكّر فقط بما كُتب ونُسخ ونُشر وانتشر في الشعب، بل نفكّر أيضاً في مقاطع شفهيّة حُفظت في الذاكرة وتكيفَّت وحاجات جماعة خاصّة أو جماعات متعدّدة. ففي محيط تلعب الذاكرة دورًا هامًّا، لا تكون الحدود بين الفئتين واضحة حتّى وإن سبَّب الانتقالُ إلى التأليف المكتوب تحوّلاتٌ في النصوص على مستوى الصرف والنحو. إلاّ أنّ العهد الجديد يقدِّم لنا مثلاً معبّرًا عن الانتقال من الشفهيّ إلى الخطّيّ. من هذا القبيل نجد شيئًا مماثلاً في العالم اليهوديّ المعاصر. فكثير من الموادّ التي جُمعت في المشناة (جمعت التقاليد الشفهيّة التي لم تدخل في التوراة) والتلمود (يضمّ المشناة وشرحها مع "البرايوت" أو الأمور البرّانيّة) وجدَت تعبيرًا لها قبل أن تُحفظ في إطار التقليد الشفهيّ. ولقد ارتبطت بدايةُ المسيحيّة بالنظام اليهوديّ. لهذا، فما قلناه عن المشناة والتلمود يساعدنا على تفهّم ولادة الأدب المسيحيّ.
غير أنّه يجب أن نميّز أماكن مختلفة لإنتاج النصوص وحسب نشاطات الكنيسة التي وُجّهت إليها. في البداية، تكوّنت مجموعة مسيحيّة في إطار الحياة اليهوديّة: أعلنت إنجيلَ يسوع المسيح ابن الله الذي يشكّل موضوع إيمانها الخاصّ، وفسّرته وأسندته ودافعت عنه. فكانت أماكنُ الحياة اليهودية المراكزَ المميّزة لهذا الإعلان المستند إلى التوراة: اجتماعات الكنيس بقدر ما تتيح للوعّاظ المسيحيّين أن يقدّموا مداخلة، المجادلات العامّة في جوار أماكن الصلاة أو في رواق الهيكل في أورشليم. ولقد احتفظ لنا سفر الأعمال بذكريات محدّدة: جعلَنا نحضر كرازة إنجيليّة في أروقة الهيكل (أع 3: 11؛ 5: 12، 21؛ 21: 30- 22: 40) أو في المجامع (9: 20؛ 13: 14- 42؛ 14: 1...) أو في أماكن عامّة أخرى (2: 4- 40)، وأمام المحاكم اليهوديّة التي مثل أمامَها بعضُ الوعَّاظ المسيحيّين (4: 1- 12؛ 5: 27- 33؛ 6: 12- 7: 54، 22: 30- 23: 10). لا نحسب أنّ ما يرويه لوقا هو نصّ تاريخيّ بمفهوم الكلمة العصريّ. نحن أمام خبر بناه لوقا واختار موادَّه من البدايات المسيحيّة ليُعطيَنا تعليمًا لاهوتيًا.
ونجد فئة ثانية من النصوص في إطار مسيحيّ وفي داخل الكنيسة الأولى المؤسَّسة في أورشليم. فمنذ البداية كان للمؤمنين اجتماعات خاصّة فيلتقون في ما بينهم لا في أماكن العبادة بل في بيوتهم (أع 2: 46). قال لوقا (أع 2: 42): "كانوا مواظبين على تعليم الرسل والمشاركة الأخويّة وكسر الخبز والصلوات". أمّا كسر الخبز فلا يعني فقط الوليمة الأخوية التي عرفتها مجموعات يهوديّة أو وثنيّة. ففي منظور الإيمان بالمسيح، كسر الخبز هو الوليمة التي يشارك فيها المؤمنون في مائدة المسيح القائم من بين الأموات، وهذا ما سيوضحه القدّيس لوقا فيما بعد (لو 24: 30، 35). أمّا الملاحظة القصيرة التي قرأناها في سفر الأعمال فتجعلنا نستشفّ نشاطاً متعدّد الوجوه يدفع الكنيسة إلى خلق النصّ ولا سيّما على مستوى التعليم والصلوات. وسنرى فيما بعد الأصل الأوّل لوحدات صغيرة حُفظت حاليًّا في مجموعات أوسع.
ونفكر أخيرًا في البعثة التي تنظّمت لتعلن الإنجيل لجماهير عديدة من اليهود والسامريّين (أع 8: 5- 25) والوثنيّين. وهذا ما فرض تكيّفًا للإمكانات العمليّة التي يقدّمها كلّ بلد. هنا يحتفظ لنا سفر الأعمال بذكريات حسّيّة: تمّت الكرازة في البيوت (أع 10: 17- 47: بيت كورنيليوس؛ 16: 29- 33: بيت سجّان فيلبّي؛ 18: 7- 11 بيت يوستس)، في الساحات العامّة (أع 14: 11- 18: في لسترة؛ 17: 19- 34: ساحة أثينة)، في مدرسة الفلسفة على مثال مدرّسي البلاغة في العالم اليونانيّ (أع 19: 9- 10: مدرسة تيرانس في أفسس). ولجأت هذه الكرازة طوعًا إلى كلّ الأساليب الناجعة في إطار الحضارة التي حلّت فيها: يجادلون مع اليهود انطلاقًا من الأسفار المقدّسة، ومع الوثنيّين انطلاقًا من الفلسفة الشعبيّة. يفكرّون في مشاكل السلوك العملي (هلكه في العالم اليهوديّ) أو في مسائل الحكمة الخُلُقيّة. وحين تتكّون مجموعة محلّيّة من الموظّفين تتنظّم "الاجتماعات في كنيسة" على مثال جماعة أورشليم مع تعليم يُعطى للمهتدين فيثبِّتُهم ويُنيرُ إيمانهم، مع الصلوات المشتركة، مع الاحتفال بعشاء الربّ.
تلك هي الأطر العامّة التي ظهر فيها الأدب "الوظيفيّ" الأوّل في الكنيسة، بعد أن تكيَّف وأهداف عمله التبشيريّ، وتنوّع حسب الظروف.

3- تأثير البيئة الحضاريّة
أوّلاً: مسألة اللغات في البدايات المسيحيّة
حين وُلدت المسيحيّة تكوَّنت في نقطة التقاء بين حضارتين: حضارة الشرق السامي بشكله اليهوديّ مع اللغتين الآراميّة والعبرانيّة، وحضارة حملتها اللغة اليونانيّة في كلّ العالم الهلّينيّ في الشرق والغرب. ولكن تحت هذا الطلاء اليونانيّ، ظلَّت اللغات المحلّيّة حيّة، ولا سيّما في الأوساط الشعبيّة: يلمح أع 14: 11 إلى اللغة الليقونيّة. وعدَّد خبرُ العنصرة سلسلةً من اللغات الوطنيّة (أع 2: 6- 11). وفي الواقع، وُجد في تلك الحقبة أدبٌ في اللغة الآراميّة والفينيقيّة واللاتينيّة والفارسيّة... ولكنّ اليونانيّة كانت لغة التبادل والحضارة الدوليّة. تبنّاها اليهود الإسكندرانيّون منذ القرن الثالث ق م في اجتماعات صلاتهم وفي أدبهم. وما عتمّت هذه العادة أنِ امتدّت إلى كلّ الجماعات المشتّتة، ما خلا البلدان الواقعة شرقيّ سورية والتي سيطرت فيها الآراميّة. أمّا عند يهود فلسطين وعند السامريّين فاحتفظت العبرانيّة بالمركز الرسميّ في عبادة الهيكل واجتماعات الكنيس. ولكنّ استعمالَ الآراميّة في الطبقات الشعبيّة أوجبَ ضرورة الترجوم والوعظ في اللغة العامّة، وتأرجح النتاج الأدبيّ المرتبط بسير عمل المؤسّسات الدينيّة بين هاتين اللغتين المتقاربتين. من هذا القبيل، نجد ما يقابل هذا الوضع في فينيقية وسورية وبلاد الرافدين، حتّى وإن لم تحتفظ لنا المخطوطات بالنصوص المقابلة للترجوم. لم يبق لنا إلاّ بضع كتابات.
تكلّمت الكنيسة منذ بدايتها لغتين، وذلك في أورشليم عينها حيث وُلدت. فقد كان لليهود المتكلّمين باليونانيّة مجامعُهم الخاصّة في المدينة المقدّسة (أع 6: 1، 8- 10). هناك من ينطلق من كلمة "عبرانيّ" في الوثائق القديمة (أع 6: 1، 21، 40؛ يو 19: 20؛ فل 3: 5) فيستنتج أنّ اللغة العبرّية استُعملت استعمالاً عامًّا، بل رسميًّا، في جماعات فلسطين المسيحيّة. ولكنّهم نَسُوا أنّه في نصوص مثل يو 5: 2 (يسمّونها بالعبريّة، 19: 13، 17) تنطبق اللفظة بوضوح على الآراميّة. كذا نقول عن صلاة يسوع على الصليب. نقرأها عند مرقس (15: 33) في الآراميّة، وفي متّى (27: 46) في آراميّة ممزوجة بالعبريّة. هذا يعني أنّ "عبرانيّ" يتميّز عن "يونانيّ" ليدلّ على لسان ساميّ يضمّ العبرانيّة والآراميّة في نظام واحد. لا شكّ في أنّ الوضع اللغويّ في اليهوديّة والجليل يبدو معقّدًا، ولكنّ المعقول هو أنّ الآراميّة سيطرت على العبرانيّة في الطبقات الشعبيّة ولا سيّما في الجليل. ومهما يكن من أمر، فثنائيّة اللغة في الجماعة المسيحيّة الأولى لم تطرح مشكلة على الكنيسة كما لم تطرح على العالم اليهوديّ. فمنذ القرن الثالث ق م قرأ اليهود التوراة في العبريّة مستعينين بالآراميّة، وقرأوها أيضاً في شكلها اليونانيّ. وكان ذاك وضع الإنجيل أيضاً.

ثانيًا: تأثير المحيط اليهوديّ
ما هي التأثيرات الحضاريّة التي خضعت لها الكنائس المحلّيّة لتخلق النصوص الأدبيّة التي تحتاج إليها؟ كان تأثير هيكل أورشليم محدَّدًا. لأنّ حياة المجموعات المسيحيّة لم تتمحور حول العبادة الذبائحيّة وطقوس التطهير وغيرها. لم يستعمل المسيحيّون إلاّ عبارات الصلاة والأناشيد وقد أخذت بقدر كبير من التوراة. واعتبر بعضُهم أنّ تأثير جماعة قمران كان حاسمًا. ولكنّ هذا الاعتبارَ خاطئٌ. فقد عاش القمرانيّون منفردين عن العالم اليهوديّ فشكّلوا جماعة من "الأطهار الأنقياء". أمّا يسوع وتلاميذه وأعضاء الكنيسة الأولى فتجاوزوا الحواجز وامتزجوا بالعشّارين والخطأة المعروفين (مر 2: 15- 16؛ أع 9: 43)، وظلّوا على اتّصال بالذين يمارسون الشريعة ممارسة دقيقة (لو 7: 36؛ 11: 37؛ 14: 1؛ أع 2: 46؛ 5: 12- 13؛ 6: 7؛ 21: 20). أمّا النصوص المسيحيّة الموازية لقمران فنجدها خاصّة في الأسفار المتأخّرة (2 كور 6: 14- 18 الرسالة إلى أفسس، رسالة يوحنّا الثانية) لا في التقاليد الأولى. ثمّ إنّ التقليد الجليانيّ الظاهر في قمران وفي غير مكان قدّم بعض التعابير لتكوين الإيمان المسيحيّ.
ولكن قدِّم نمطان اختباريّان نموذجيّان يتكيّفان مع "الاجتماعات في كنيسة". كانت اجتماعات الكنيس وما يرتبط بها أو يدور حولها: الصلوات، الترجوم، رسمات كرازة حول الكتاب المقدّس... ومن جهة ثانية وُجدت اجتماعات لأهل الورع والتقوى مثل الإسيانيّين والمعمدانيّين وبعض الفرّيسيّين الذين سينظّمون نفوسهم بعد سنة 70 في حلقات رابّانيّة. عملت هذه المجموعات في أرض فلسطين كما في الشتات، وتركت أدبًا ينبع من التوراة: صلواتٍ وأناشيدَ، أخبارًا تقويّة، تفاسيرَ التوراة، قواعدَ في الحياة العمليّة... انضمّ بعض الأعضاء في هذه المجموعات إلى الكنائس المحلّيّة في فلسطين وفي الشتات فتركوا أثرًا لا بأس به.

ثالثًا: العلاقات بالحضارة الوثنيّة
وجابهت الكنائسُ المحيطات الوثنيّة حين نشر الوعّاظ الإنجيل دون أن يجبروا المؤمنين على أن يبدأوا ويكونوا يهودًا ويخضعوا للشريعة قبل أن يصيروا مسيحيّين. يَعتبر بعضُ الشرّاح أنّ الوعّاظ الذين أسّسوا الكنائس المحلّيّة دخلوا في حركة تلفيقيّة فاستقوا من الديانات اليونانيّة والشرقيّة عوائدهم وأساطيرهم وشعائر عبادتهم ليعبّروا عن المعتقدات الجديدة. ولكنّ الوضع هو أكثر تعقيدًا. من جهة، كان اعتناق الإيمان يقود إلى تبدّل جذريّ في المعتقدات والحياة، وهذا ما يشكّل الارتداد (1 تس 1: 9؛ أع 14: 15): إنّ الأمانة للتعليم الإنجيليّ في تقليد الكنيسة فرض هذا الانفصال الذي اعتبر التلفيق أكبر محنة تعترضه. ومن جهة ثانية، حين تحرّر المسؤولون في الكنائس ممّا يشكّل التقليد اليهوديّ من ثقل، تكيّفوا وظروف الزمان والمكان فاستعانوا، بعد أن قاموا بالتصفيات الضروريّة، بالحضارة اليونانيّة حتّى في النطاق الفلسفيّ والدينيّ.
إذن، قد يكون الأساس الدينيّ العميق الذي تَهَلْيَنَ في جماعات الشتات ثمّ تحوّل ليتكيّف والإيمان المسيحيّ، قد يكون اغتنى من جديد بعناصر غريبة عن العالم اليهوديّ. هذه المسألة لا تعني المعتقدات والطقوس الأساسيّة المرتبطة بالإيمان، بل التعبير الحضاريّ الذي يتغيّر عادة. لن نستطيع أن نعطي حكمًا قاطعًا إلاّ إذا حلّلنا حالاتٍ خاصّةً من خطبٍ لاهوتيّةٍ وقواعدَ أخلاقيّةٍ وأناشيدَ وأمور ليتورجيّةٍ. ولكن يبقى من الأكيد أنّ التوراة التي ورثها المسيحيّون من العالم اليهوديّ شكّلت لهم النصّ الأساسيّ للثقافة الدينيّة. أمّا الاتّصالات مع العالم الهلّينيّ التي تشهد عليه نقاط محدودة في رسائل القدّيس بولس الأولى، فهي تطرح أسئلة دقيقة في كتب متأخّرة تدافع عن التقليد الصحيح بوجه التسرّبات الوثنيّة والتشوّهات الهرطوقيّة. ولكنّنا صرنا في ردّة فعل واعية بوجه التلفيق الدينيّ.

ب- التوسّع التاريخيّ في الكنيسة الأولى
ارتبط تكوين العهد الجديد الأدبي ارتباطاً وثيقًا بالمراحل الكبرى التي مرّ فيها توسّع الكنيسة الأولى. من هذا القبيل نميّز قطاعين كان لهما اختبارات مختلفة جدًّا: قطاع الجماعات المسيحيّة المتهوّدة، قطاع الكنائس التي ولدت في الأمم الوثنيّة.
1- الكنائس المسيحيّة المتهوّدة
نلاحظ في القطاع المسيحيّ المتهوّد انقطاعين تاريخيّين. الأوّل هو دمار أورشليم (70 ب م) الذي أصاب المسيحيّين المتهوّدين كما أصاب سائر اليهود. الثاني هو طرد هؤلاء المسيحيّين من حياة المجمع. تمَّ هذا بصورة رسميّة يوم أدخل المعلّمون الرسميّون في صلاة البركات الثماني عشرة لعنة ضدّ الهراطقة والناصريّين (بين سنة 80 و95). إنّه لمهمّ أن نعرف الأماكن التي انغرست فيها مثل هذه الجماعات، ولكن يصعب علينا أن نتتبعّ أثر الرسالة لدى المختونين والتي كان على رأسها الرسول بطرس (رج غل 2: 7- 8) يوم كان يعقوب "أخو الربّ" رئيس الجماعة المحلّيّة في أورشليم.
يقدّم لنا سفر الأعمال والرسائل عددًا من المعطيات حتّى سنة 70. وأوّل معطى هو امتداد كنيسة أورشليم إلى الهلّينيّين. فإذا عُدنا إلى سفر الأعمال (6: 1- 8: 40) نرى هذه المجموعة قد تحلّت بأصالة جعلتها تواجه سريعًا سلطات العالم اليهوديّ المحلّيّ: وتبع موتَ إسطفانُسَ (أع 6: 8- 7: 6) اضطهادٌ دفع سائر الأعضاء إلى التشتّت في اليهودية والسامرة (أع 8: 1) وفينيقية وقبرص، بل حتّى أنطاكية في سورية (أع 11: 19). وكانت نتيجة هذا التفجير إشعاعٌ رسوليّ لم يكن ينتظره أحد. أمّا انتشار الكنائس فتمّ في نطاقين لغويّين مختلفين، نطاق ساميّ ونطاق هلّينيّ. ففي النطاق الساميّ تبرز كنائس اليهوديّة (غل 1: 21) والجليل (أع 9: 31) حيث لعبت ظهورات المسيح القائم دورًا رئيسيًّا. انطلقت هذه الكنائس من الجليل، فانتشرت في دمشق وسورية الجنوبيّة حيث وجد بولس مسيحيّين قبل نشاطه الرسوليّ الأوّل المرتبط باهتدائه (أع 9: 1؛ 10: 22؛ 2 كور 11: 32 ي). ووصلت المسيحيّة إلى بلاد الأنباط (أو العرب) حيث أقام بولس بعض الوقت قبل أن يعود إلى دمشق (غل 1: 7). وبعد هذه الإقامة الثانية في دمشق هرب بولس من مطاردة الملك حارث له (2 كور 11: 32). أمّا انتشار الإنجيل في فينيقية وقبرص وسورية الشماليّة، فقد كان سببه مسيحيّون هلّينيّون. وفي هذه المناطق نجد أوّل جماعة مختلطة قُبِلَ فيها الوثنيّون الأصل في الكنيسة دون أن ينضمّوا قبل ذلك إلى العالم اليهوديّ (أع 10: 36). ولكن حين نصل إلى الشاطئ نكون عند الفلسطيّين أو اليونانيّين.
وإذا خرجنا من فلسطين نفترض أنّ الكنائس المؤسَّسة في المدن الهلّينيّة كانت ذات ثقافة يونانيّة، شأنها شأن العالم اليهودي في الشتات. ولكنّنا لا نقدر أن ننسى الشتات الشرقيّ المقيم في مقاطعات سيطرت عليها اللغة الآراميّة: سوريّة الداخليّة، حدياب، بابل، وسائر الأماكن المرتبطة بالمملكة الفراتيّة. من هذا القبيل كانت المسيحيّة آراميّة. ولكنّه كان في المدن الهامّة جاليات تتكلّم اليونانيّة. هذا يعني أنّ بعض الكنائس عرفت اللغتين معًا. هذا هو الواقع في الإسكندريّة ورومة حيث كانت الجالية اليهوديّة كبيرة. ولكنّنا لا نجد في العهد الجديد إلاّ بعض التلميحات إلى كنيسة رومة (أع 28: 14- 15). إنّ لوقا لا يحدّد أصلها ولا أصل جماعة بوطيولي (أع 28: 13- 14). ولا يقول العهد الجديد شيئًا عن جماعة الإسكندريّة. تبقى لنا التقاليد التي احتفظ بها أوسابيوس القيصريّ والتي لا يمكن الاعتماد عليها. ولكنّه ينقل إلينا تقليدًا ثابتًا عن موت يعقوب في أورشليم سنة 62 (ينقل نصوص فلافيوس يوسيفوس وهجاسيب)، وبه نعرف أن مسيحيّي أورشليم لجأوا إلى بلاد الديكابوليس (أو المدن العشر) ذات السكان الوثنيّين في بداية الحرب اليهوديّة (سنة 67). ويُبرز أخيرًا دور أعضاء عائلة يسوع حتّى حكم ترايانس (98- 117).
بعد سنة 70، بقيت كنائس مسيحيّة متهوّدة في الجليل وديكابوليس وسورية الجنوبيّة (دمشق) والشماليّة (أنطاكية) وفي حدياب ومصر. سيترك بعض منهم فلسطين ويهاجر إلى آسية الصغرى (أفسس) حيث انغرس تقليد يوحنّا. وإنّ الهزّة التي زعزعت المركز الوطنيّ في اليهوديّة لم تضع حدًّا للنظام اليهوديّ الشرعيّ الذي أعطى التوراة قيمة رسميّة في العالم الرومانيّ بالنسبة إلى أعضاء الأمّة كلّهم. ولكنّ هذا النظام جعل المسيحيّين المتهوّدين في موقع حرج وسط الجماعات التي كانت أكثريّة أعضائها من الوثنيّين، وهذا رغم الإجراءات العمليّة التي اتّخذتها كنائس سورية وكيليكية والتي نجد أثرًا لها في أعمال الرسل (15: 19- 20، 28- 29؛ رج 21: 25). ولما حرَمت اليهوديّةُ الرسميّة المسيحيّين المتهوّدين (نجد صدى عن هذا الحرم في يو 9: 22- 34؛ 16: 2) صار وضعُهم القانونيّ خطرًا أمام الإدارة الرومانيّة نفسها لأنّهم خسروا في الوقت عينه حمايتهم "الوطنيّة".
مما يكن من أمر، هناك قسم كبير من مواد أوليّةٍ استعملها الأدب المسيحيّ اللاحق عائدًا إلى العالم المسيحيّ المتهوّد والقديم. وقد ألّفت بعض أسفار العهد الجديد لكنائس من هذا النمط حتّى نهاية القرن الأوّل. ولكنّنا نتجاوز الحقبة الخلاقة في الكنيسة الأولى حيث نبحث عن أثر لها في كتابات متأخّرة أو شهادات من المرتبة الثانية. وسيبقى لنا لاهوت مسيحيّ متهوّد حتّى القرن الثالث (راعي هرماس، صعود أشعيا، وعدد من الأسفار المنحولة والمنسوبة إلى شخصيّات من العهد القديم). وسيجد إيرونيموس في نهاية القرن الرابع جماعات مسيحيّة متهوّدة في سورية: لها إنجيلها الخاصّ وهي تحتفظ بلاهوت قديم وأسلوب حياة متأخّرة. إنّها ستزول نهائيًّا كتيّار مستقلّ حوالي القرن السادس. ولكن منذ القرن الثاني تطوّرت بعض المجموعات فصارت شيعًا مثل الظاهريّين (أنكروا واقع آلام المسيح وموته) والأبيونيّين (يقولون: المسيح هو نبيّ كبير، لا ابن الله) الذين تركوا بعض الآثار في الآداب المنحولة.
وعلى حدود العالم اليهوديّ، نشير إلى وجود جماعات محلّيّة في السامرة (أع 8: 4- 25) يلمّح إليها الإنجيل الرابع (يو 4: 35- 42). ولكنّنا لا نستطيع أن نحدّد في هذا الإطار إلاّ تقاليد مبعثرة (لو 9: 51 ي؛ 17: 11- 16)، يتعلّق بعضها بأصل تيّار تلفيقيّ يرتبط بالسامريّ سمعان الساحر (أع 8: 9- 13، 18- 23) الذي جعله بعض الكتّابُ الكنسيّين أبًا للغنوصيّة.

2- كنائس الأمم الوثنيّة
أوّلاً: أمكنتها
يقدّم لنا سفر الأعمال دخول الإنجيل إلى الأوساط الوثنيّة بطريقة مقتضبة جدًّا. فبعد موت إسطفانُس ذهب فيلبّس من السامرة إلى أزوت (= أشدود) في بلاد الفلسطيّين، ثمّ إلى قيصريّة، تلك المدينة الهلّينيّة (أع 8: 40). ولكن كانت هناك جماعات يهوديّة. ثمّ يسبِّق لوقا فيحدّثنا عن اهتداء كورنيليوس الضابط الرومانيّ المقيم في قيصريّة (أع 10: 1 ي). وهكذا تغطّي سلطة بطرس دخول الوثنيّين إلى الكنيسة دون اندماجهم بالأمّة اليهوديّة (أع 11: 3). في الواقع، لم يكن هذا بالأمر الجديد وقد ارتدّ وثنيّون إلى الكنيسة في أنطاكية سورية (أع 11: 20- 21) بعد موت إسطفانس واهتداء شاول الطرسوسيّ ببضع سنوات (حوالي 35- 37). وينطلق لوقا من أنطاكية، هذا المركز الدينيّ الجديد، فيتتبعّ أثَرَ تبشيرِ الأمم غير اليهوديّة.
أوّلاً: مع بعثة برنابا وشاول في قبرص (أع 13: 4- 12)، في بمفيلية وبسيدية وليكونية (أع 13: 13- 14: 26). ثانيًا: مع أسفار بولس ورفاقه إلى سورية وكيليكية وفي مختلف مقاطعات آسية الصغرى، في مكدونية واليونان (أع 15: 36- 20: 38). ثالثًا: سفر بولس كأسير إلى مالطة وإيطالية ورومة حيث سيكون التبشير محدودًا (27: 1- 28: 31). هنا نعاين تحوّلاً جذريًّا في انضمام المؤمنين إلى الدين الجديد. لم يؤمِنْ بالإنجيل إلاّ عددٌ ضئيل من يهود الشتات اليونانيّ، أمّا غير الحدود فدخلوا بكثرة وشكّلوا الأكثريّة في الجماعات المسيحيّة. ويفسّر لوقا هذا الواقع كعلامة لتصلّب اليهود. وهذا التصلّب ينقل خلاص الله من الأمّة اليهوديّة إلى الأمم الغريبة (أع 13: 46- 48؛ 18: 6؛ 28: 25- 28). هذه النظرة تدلّ على نتيجة رسالة بولس لدى غير المختونين (غل 2: 7- 9)، وتعكس الوضع الذي كُتبت فيه رسائل بولس الكبرى.
تتكوّن أمكنة التبشير التي جال فيها بولس وفريقه الرسوليّ من المدن الواقعة على الطرق الرئيسيّة أو في المرافىء الكبرى ولا سيّمَا في آسية الصغرى واليونان وحتّى إليريكون (روم 15: 19). تَذْكُرُ تي 1: 5 جزيرةَ كريت و2 تم 4: 10 منطقةَ دلماطية (يوغوسلافيا الحاليّة)، وهذا ما يدّل على وجود كنائس ترتبط بالتقليد البولسيّ يوم دوِّنت الرسائل الرعائيّة. ولكنّ الوثائق لا تعطينا معلوماتٍ عن سائر مناطق الإمبراطوريّة الرومانيّة. فالرسائل إلى الكنائس السبع (رؤ 1- 3) تقودنا إلى مقاطعة آسية الرومانيّة. وتذكر رسالة بطرس الأولى في العنوان مقاطعات عديدة من آسية الصغرى (1 بط 5: 3) وفي الخاتمة كنيسة رومة (1 بط 5: 13: يسمّيها كنيسة بابل). وتدلّنا الرسالة إلى العبرانيّين أنّ أفق الكاتب يصل به من إيطالية (عب 13: 24) إلى مؤمنين من أصل يهودي يقيمون ربّما في سورية. هل نفَّذ بولس مشروعَ سفره إلى إسبانية (روم 15: 23)؟ لا نستطيع أن نجيب عن هذا السؤال رغم ما تقوله رسالة إكلمنضوس الأولى التي قد تكون عادت إلى نصّ الرسالة إلى أهل رومة. ولكن ما هو أكيد هو أن توقيف بولس قلب مشاريعه المستقبليّة. وإذا استندنا إلى أع 2: 9- 11 يمكننا أن نفترض أنّ الإيمان انتشر في أيّام لوقا في الشرق فوصل إلى المملكة الفراتيّة (بلاد الرافدَين، عيلام، ماداي)، وفي الغرب فوصل إلى مصر والقيروان ورومة. وستثبت وثائق القرن الثاني هذا الكلام.

ثانيًا: الطبقات الاجتماعيّة المبشَّرة
إلى أيّ الطبقات الاجتماعيّة وصل الإنجيل في نصف قرن تلا تأسيس الكنيسة؟ من الخطأ أن نعتبر أنّ المسيحيّة في ولادتها تألّفت من الطبقات الفقيرة وحدها (سمّاها الأرستقراطيّون في رومة "ديانة العبيد"). في الواقع، وإذا عدنا إلى إشارات اتّفاقيّة في أعمال الرسل والرسائل، عبد أنّ الكنيسة انفتحت على كلّ الطبقات الاجتماعيّة. نقرأ في كور 1: 26 أنّه كان في كنيسة كورنتوس، قليل من الحكماء بحسب الجسد (يلمّح بولس إلى المستوى الثقافيّ) وقليل من الأقوياء وقليل من الوجهاء. هذا يعني أنّه وُجد بعض من الحكماء والأقوياء والوجهاء. وفي 1 كور 7: 21- 22 نجد العبيد قرب الأحرار. مهما يكن من أمر، ففي الجماعات الكنسيّة يمتزج اليهود المختونون بالوثنيّين اللامختونين، والعبيدُ بالأحرار، والرجالُ بالنساء، واليونانيّون بالبرابرة. هذا ما تقوله غل 3: 28: "لا فرق الآن بين يهوديّ وغير يهوديّ، بين عبد وحرّ، بين رجل وامرأة. فأنتم كلّكم واحد في المسيح يسوع". وتقول 1 كور 12: 13: "فنحن كلّنا، يهودًا كنّا أم غير يهود، عبيدًا أم أحرارًا، تعمّدنا بروح واحد لنكون جسدًا واحدًا". وتقول كو 3: 11: "فلا يبقى هناك يهوديّ أو غير يهوديّ، ولا مختون أو غير مختون، ولا أعجميّ أو بربريّ، ولا عبد أو حرّ، بل المسيح الذي هو كلّ شيء". لسنا هنا فقط أمام امتزاج الشعوب، بل أمام تحوّل في عقليّة المشاركين في الجماعة المسيحيّة وفي انقطاع عن الأعراف الاجتماعيّة والمواقف السيكولوجيّة المعروفة في ذلك العصر.
ونشير أيضاً إلى الوجهة الاقتصادية لهذا الوضع. كانت التقوى اليهودية تشدّد على أهمّيّة الصدقة لتبرز التضامن الملموس بين كلّ أعضاء شعب إسرائيل. وفي أيّام القدّيس بولس جُمعت اللمّة من أجل الفقراء في كنيسة أورشليم الأمّ (1 كور 16: 1- 2؛ غل 2: 10)، فدفعت المؤمنين إلى السخاء (2 كور 8: 7) لتكون العدالة العمليّة بين الأغنياء والفقراء (2 كور 8: 13). ولكن إذا أردنا أن نجمع مبالغ كبيرة (2 كور 8: 20) في جماعات يتواجد فيها البؤساء والميسورون (1 كور 11: 22) وجب أن يكون لمتوسّط المؤمنين من الموارد ما يكفيهم ويفيض عنهم.
في الكنائس، وبالأخصّ في الاجتماعات "في أوّل يوم من الأسبوع" (1 كور 16: 2)، انتظمت أخوّة حقيقيّة بين أناس أتَوا من كلّ الآفاقَ الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة والاقتصاديّة والدينيّة (يهود وغير يهود). إذا نظرنا إلى هذا الوضع من الخارج، بدا لنا غريبًا. ولكن إن نظرنا إليه من الداخل، دلَّنا على مشاركة الجميع في البشريّة الجديدة التي خُلقت مرّة ثانية في المسيح: كلّ الحواجز بين البشر هي نتائج الخطيئة في البشريّة القديمة، ولكنّ المسيح مات ليزيل هذه الحواجز (كو 3: 9- 10). هذا لا يبدّل شيئًا في الأوضاع القانونيّة الخاصّة بالرجال والنساء. فالكنائس تشكّل أقلّيّة ضئيلة داخل الإمبراطوريّة، ولا سلطة لها في هذا الميدان. ثمّ إنّ ما يهمّ السلطة الحاكمة هو أن يكون المسيحيّون مواطنين صادقين (روم 13: 1- 7؛ 1 تم 2: 1- 2؛ تي 3: 1؛ 1 بط 2: 13- 15). من هذا القبيل، بدت التعليمات المعطاة للمؤمنين (أكانوا من أصل يهوديّ أم من أصل وثنيّ) امتدادًا لما قالته التوراة لليهود منذ زمن الفرس. ولقد كان لهذه الأقوال صدى يوم كانت اليهوديّة مقاطعة ثائرة، ويوم لم تكن حرب العبيد بعيدة في الزمن (توفي سبارتاكوس سنة 71 ق م). وهكذا يتأكّد التمايز بين جماعة كنسيّة زالت منها كلّ الحواجز وعالم مدنيّ تشهد الكنيسة أمامه عن الجديد الذي يحمله الإنجيل. وإذا توقّفنا عند النظم المدنيّة يبقى في الكنيسة عبيد وأسياد (كو 3: 22- 4: 1؛ أف 6: 5- 9؛ تي 2: 9- 10؛ 1 بط 2: 18). ولكنّ نمط العلاقة تبدّل. فعلى فيلمون، هذا الملاك الكبير، أن يستقبل أونيسموس العبد الهارب "مثل أخ حبيب" (فلم 16). كم نحن بعيدون عن التشريع المتعلّق بهذا الوضع الاجتماعيّ.
وفيلمون هذا يتمتعّ بوضع اقتصاديّ مريح ليستقبل كنيسة كولسيّ (فلم 1- 2). ومثله فعل نمفاس بالنسبة إلى كنيسة لاودكية (كو 4: 15) وغايوس بالنسبة إلى كورنتوس (روم 16: 23) وبرسكلّة وأكيلا بالنسبة إلى أفسس (1 كور 16: 19؛ روم 16: 3- 5). هنا يكمّل سفرُ الأعمال ما نجده من تلميح في الرسائل البولسيّة. فبرسكلة وأكيلا يعملان في صناعة الخيم ويملكان تجارة دوليّة تسمح لهما بأن ينتقلا من رومة إلى كورنتوس ثمّ إلى أفسس (أع 18: 1- 3، 18، 26). إنّهما من التجّار البورجوازيّين الذين من أصل يهوديّ. وفي فيلبّي تستقبل ليدية، تاجرة الأرجوان، في بيتها الكنيسة التي تأسّست حديثًا (أع 16: 14- 15). ونحن نعرف أنّ إراستس هو أمين صندوق كورنتوس (روم 16: 23)، إنّ إستفاناس، أوّلَ مهتدٍ، صار مسيحيًّا مع كلّ بيته (1 كور 1: 16؛ 16: 15) وهذ يفترض وضعًا اجتماعيًّا متينًا. وفي أيّام الرسائل الرعائيّة سيُجبر المسيحيّون الأغنياء على أن يشاركوا الغير في خيراتهم ليكون لهم كنز في السماء (1 تم 6: 17- 19؛ مت 6: 20). ويبدو أنّ عائلة تيموثاوس انتمت إلى الطبقة الاجتماعيّة عينها (أع 16: 1- 3). فأمّه وجدّته اللتان من لسترة (2 تم 1: 5) كانتا من الطبقة العالية كأولئك اللواتي عارضن القدّيس بولس حين بشر في أنطاكية بسيدية (أع 13: 5). ولهذا فصورة المسيحيّات التي نجدها في هذه الرسائل تدلّ على أنّهنّ نساء شريفات (تي 2: 3- 5). هل نستنتج أنّ الكنيسة الأولى جمعت عددًا كبيرًا من المؤمنين المتوسّطي الحال؟ مثل هذا الاستنتاج يتجاوز حدود وثائقنا. ولكن يجب التشديد على التمازج الذي تمّ. فالكنائس المحلّيّة كانت مجموعات منفتحة على الطبقات العليا كما على عالم العبيد. من هذا القبيل تشبَّه الرسل بيسوع نفسه: فتطويبة الفقراء (لو 6: 20؛ مت 5: 3) والتنديد بالشرّ الذي يسبّبه الغنى (لو 6: 24؛ 18: 18- 23) لم يمنعاه من أن يجنّد لاوي- متّى (مر 2: 13- 15)، وأن يلبّي دعوة زكّا (لو 19: 1- 9)، وأن يقبل المساعدة من نساء غنيّات يتبعنه (لو 8: 2- 3) ومنهنّ زوجة وكيل هيرودس. وسيأتي وقت يدخل فيه أشراف رومة إلى الكنيسة. أما أمَر دوميسيانس بقتل ابن عمّه فلافيوس كلامنس وبنفي فلافيا دوميتيلا في جزيرة بنداتوريا لأنهما اعتنقا المسيحيّة؟

ثالثًا: وضع الكنائس في الإمبراطوريّة الرومانيّة
هذا هو الإطار الذي فيه نضع تأليف الكتابات التي لم توجَّه إلى المسيحيّين المتهوّدين. لقد دوِّنت بين سنة 51 (زمن تأليف 1 تس) وسنة 120 (إذا عدنا مع 2 بط إلى هناك). في هذا الوقت انطبعت حياة الكنائس الهلّينيّة ببعض الأحداث الهامّة. لم يكن للحرب اليهوديّة إلاّ تأثير بسيط عليهم، ولكن كانت لهم مضائق أخطر من هذه الحرب. ففي سنة 64 وفي سنة 67 كان اضطهاد نيرون الذي يتحدّث عنه تاقيتس. انحصر الاضطهاد في رومة ولكنّه كلّف الكنيسة حياة بطرس وبولس (كما يقول أغناطيوس الأنطاكيّ في الرسالة إلى رومة، وإيريناوس وغيرهما). ولمّا تبدّلت السلالة الملكيّة خلال الحرب اليهوديّة، حمل هذا التبدّل للكنائس سلامًا استفادت منه لتتقوّى وتتنظّم وتشعّ انطلاقًا من المدينة إلى الأرياف. وكانت هزّة عنيفة في نهاية عهد دوميسيانس (سنة 95). يتحدّث سفر الرؤيا عن هذا الاضطهاد بسبب الإنجيل. تمّت القطيعة بين المسيحيّين والعالم اليهوديّ فصار وضع المسيحيّين القانونيّ خطرًا. لم يعودوا يستطيعون أن يلتجئوا إلى امتياز الديانة المسموح بها، أي الديانة اليهوديّة، فصاروا معرَّضين للملاحقة والقتل.
وزال جيل الرسل. مات يعقوب، أخو يوحنّا، سنة 44 (أع 12: 3) وقُتل بطرس وبولس خلال اضطهاد نيرون. ومات سائر الرسل في أزمنة نجهلها. وقُتل يعقوب أخو الربّ في أورشليم سنة 62. ويروي التقليد أنّ يوحنّا نُفي إلى بطمس خلال اضطهاد دوميسيانس وأنّه عاش حتّى زمن ترايانس (98- 117). وزال تلاميذ الرسل المباشرون كما زال الشيوخ الذين حدّثهم بابياس. وفي ذلك الوقت أخذت الهرطقة تتسرّب إلى بعض الكنائس، ونحن نجد آثارها في آخر كتابات العهد الجديد (رؤ 2: 6، 14- 16، 20- 23؛ 1 يو؛ 2 يو؛ 1 تم؛ 2 تم؛ 2 بط؛ أع 20: 29- 31). ولكن ما زالت المسيحيّة تتوسّع ولاسيّما في آسية الصغرى بحيث إنّ حاكم بيتينية أجبر على التدخّل ضدّ المؤمنين الذين تكاثر عددهم في مقاطعته. بعد هذا سيُقبض على أغناطيوس رئيس جماعة أنطاكية ويُقتاد إلى رومة.
في هذا التوسّع بحياة الكنائس والآداب المسيحيّة نتوقّف عند ثلاث مجموعات من النصوص: النتاج الأدبيّ عند المسيحيّين المتهوّدين، النتاج الأدبيّ في أرض الرسالة، الكتب المدوَّنة في الشتات المسيحيّ بعد سنة 70 ب م.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM