الفصل السادس :الفكر اليهوديّ

الفصل السادس
الفكر اليهوديّ

تمثّل الديانة اليهوديّة التي ولدت بعد كارثة سنة 70 انتصارًا للتيّار الفرّيسيّ. ولكن لم يكن الأمر هكذا في النصف الأوّل من القرن الأوّل.
هناك السامريّون الذين يعتبرون نفوسهم الحاملين الشرعيّين للإيمان الإسرائيليّ، بينما يمثّل اليهود انشقاقًا وُلد مع تأسيس معبد شيلو. أمّا اليهود فيعتبرون السامرّيين غرباء جاء بهم ملك أشور من كوتا (2 مل 17: 24). ولهذا سمَّوهم "كوتيم" أي الآتين من كوتا. برز الخلاف بين السامريّين واليهود بمناسبة إعادة بناء الهيكل (عز 4: 1- 5)، ثمّ على أيّام عزرا ونحميا. وكانت مرحلة مهمّة يوم بنى السامريّون هيكل جرزيم حوالي السنة 330. أمّا الانفصال التامّ فكان سنة 129- 128 يوم هدم يوحنّا هركانس هيكل جرزيم. حينئذ انعزل السامريّون واكتفَوا بأسفار موسى الخمسة دون الأنبياء وسائر الكتب.
وهناك الفرّيسيّون الناذرون نفوسهم للشريعة والذين انضمّوا إلى متتيا وأتباعه. إستندوا إلى طبقة الكهنة وإلى التنظيم المعمول به في المجامع فكان تأثيرهم عظيمًا. كان عددهم يزيد على ستّة آلاف، وكان المتعاطفون معهم أكثر بكثير. إنفصلوا عن شعب الأرض فما كانوا يعاشرون إلاّ المحافظين بدقّة على الشرائع المتعلّقة بالعشور والطهارة. وضعوا على نفوسهم أن يتعلّموا الشريعة، لأنّ الجاهل لا يمكن أن يكونَ تقيًّا. وكان هدفهم أن يجعلوا من كلِّ إسرائيل شعبًا مقدّسًا. أمّا نقاط تعليمهم الهامّة فهي: انفتاح شامل، مساواة بين كلّ البشر، تشديد على قيمة الفرد، اعتقاد بالثواب والعقاب بعد الموت، بالخلود الشخصيّ، بوجود الملائكة وبالقيامة.
وهناك الصادوقيّون الذين خرجوا من طبقة الكهنة فشكّلوا حزبًا أرستوقراطيًّا. إرتبطوا بخدمة الهيكل وتقاليده فانفصلوا عن الشعب واكتفوا بالسلطة التي تمنحها لهم وظيفتهم. كانوا حزبًا دينيًّا يتألّف من الأشرات والأغنياء فشاركوا في السياسة الوطنيّة اليهوديّة منذ يوحنّا هركانس إلى أرسطوبولس الثاني (67- 63 ق م). حاولوا التعامل مع الرومانيّين وتجنّب الصراعات العنيفة بين المحتلّ والطبقات الشعبيّة. ولكنّ الذي أشعل ثورة سنة 66 ب م كان صادوقيًّا، هو أليعازر ابن رئيس الكهنة حنانيّا. رفض تقديم الذبيحة على نيّة الإمبراطور الرومانيّ. اشتهر الصادوقيّون بتعلّقهم بالمعنى الحرفيّ للكتاب، برفض التقاليد الشفهيّة. وقالوا: الكهنة هم المفسّرون الوحيدون للشريعة. كان الصادوقيّون ينكرون خلود النفس، والثواب والعقاب، والقيامة، وكانوا يكتفون بالقول بالشيول الذي هو مسكن الأبرار والأشرار بعد الموت.

أ- الأسيانيّون وجماعة قمران
1- معطيات تاريخية
أوّلاً: جماعة قمران
منذ سنة 1947 عَرَّفتنا مغاور قمران إلى مخطوطات قديمة تخصّ جماعة دينيّة تسمّي نفسها تارةً "الجماعة" وطورًا "العهد الجديد" وتسمّى أيضاً "الكنيسة" لأنّها ستضمّ في المستقبل كلّ أبناء إسرائيل. أمّا الأعضاء فتسمَّوا بأسماء مختلفة: المختارون، القدّيسون، المساكين، (أبيونيم)، أبناء صادوق، أبناء النور، الآتون إلى دمشق، المرتدّون عن الخطيئة.
وكانت هذه الجماعة الدينيّة متسلسلة: فالكهنة يمسكون بكلّ السلطات ولا شيء يُعمل بدون مراقبتهم حتّى في الأمور العاديّة. يأتمر بأمرهم اللاويّون والرؤساء العوامّ ثمّ الأعضاء، ويطيعونهم طاعة دقيقة. كلّ الخيرات مشتركة بينهم، وكلّ يعيش في الفقر ويرتبط بالجماعة. يمارسون شريعة موسى بكلّ صرامة: يحافظون على السبت حتّى النهاية فلا يساعدون من سقط في الماء. يشدّدون كثيرًا على الطهارة حسب الشريعة ويتجنّبون باعتناءٍ كلَّ اتّصال برجل نجس أو شيء نجس. يلجأون بتواتر إلى التوضّؤ، ليتطهّروا من كلّ نجاسة لحقت بهم صدفة. يعظون دومًا على حبّ القريب الذي هو فقط عضو الجماعة. يعلّقون أهمّيّة قصوى على الروزنامة البيبليّة القديمة المبنيّة على النظام الشمسي (12 شهرًا، كلّ شهر 30 يومًا، ويوم فاصل بين فصل وآخر، السنة من 52 أسبوعًا= 364 يومًا)، بعد أن بدّلها التأثير الهلّيني بروزنامة قمرية (أشهُرٌ من 29 أو 30 يومًا). ولكنّهم يحوّلون بعض ترتيبات في الشريعة: لا يسمحون بالطلاق ولا بتعدّد الزوجات، يمتنعون عن المشاركة في العبادة الرسميّة في الهيكل ما لم تتمّ حسب طقوس الجماعة وروزنامتها.
يملأ النهارَ كلَّه الشغلُ اليدويّ، ودراسةُ الشريعة والأنبياء وسائر كتب التوراة ومؤلَّفات معلّمي الجماعة ثلث الليل. وبفضل هذا النظام تلبث النفوس في روح صلاة عميقة، وهمّها أن تقدّم لله إكرامها وعبادتها. يسبق الطعام ويتبعه تبريكات خاصّة. لا شكّ في أنّ كثيرًا من هذه الأمور موجودة في العالم اليهوديّ، ولكنّ وجودها مجتمعة تعطي هذه الجماعة وجهًا نقدر أن نقابله ببعض الرهبانيّات.
كان الانتساب إلى الجماعة يسبقه طلب وابتداء يدومان سنتين يشارك خلالهما الطالب في حياة الجماعة مشاركة تدريجيّة. وفي النهاية كان يسلِّمها التصرّف بكلّ أملاكه. أمّا العضو العاصي فكان يُطرد لفترة معيّنة أو طردًا تامًا. وكان جدول محدّد يعاقب بصرامة اقلّ إهمال (مثلاً: الكذب، يبعد ستّة أشهر عن حمّام التطهير ويحرم من ربع الأكل. الانتقام أو الحقد: ستّة أشهر، الكلام البذيء: ثلاثة أشهر، الضحك الغبيّ: شهران، النقد: سنة واحدة.)

ثانيًا: هوِيّة هذه الجماعة
قال بعضهم: تُشْبِهُ الصادوقيّين أو الفرّيسيّين أو الغيورين أو المسيحيّين المُتَهوِّدِين. ولكنّ معظم العلماء يقولون إنّ جماعة قمران هم الأسيانيّون. فموقع قمران يطابق المكان الذي يتحدّث عنه بلينوس المؤرّخ. كشفت الحفريّات الأركيولوجيّة مبانىَ تتكيّف وحياة جماعة رهبانيّة. وما يذكره فيلون ويوسيفوس من سمات خاصّة بالأسيانيّين نجده في مخطوطات قمران. ولكن لا نطلب تماثلاً كاملاً. فالحركة الأسيانيّة ضمّت ميولاً متكاملة وتطوّرت على مدى تاريخها، فما استطاع أن يعرفها مراقب من الخارج (فيلون، يوسيفوس) كما يعرفها أعضاؤها ومحرّكوها.
ولكن تبقى بعض الصعوبات وبالأخصّ في ما يتعلّق بالزواج. ففيلون وبلينوس ويوسيفوس يؤكّدون أنّ الأسيانيّين مارسوا العفّة التامّة في الزواج، ما عدا فئة قليلة يشير إليها يوسيفوس. أمّا مخطوطات قمران فتتحدّث عن زواج آحادي، وتتضمّن المدافن جثث النساء. كيف نجيب على هذا الاعتراض؟ نظريًّا، سُمح بالزواج ومارسه أعضاء الجماعة في البداية. ولكن عمليًّا، فالورع الدينيّ ووسواس النجاسة حسب الشريعة أنميا عادة العفّة المطلقة، وهذا ما أدهش الكتّاب القدماء. ولقد عرفت الكنيسة الأولى تطوّرًا مماثلاً بالنسبة إلى البتوليّة: نذرت النفوس السخيّة طوعًا حياتها في عفّة كاملة ومن أجل أسباب مختلفة.

ثالثًا: الخطوط الكبرى لتاريخ الجماعة
يربط العلماء تأسيس هذه الجماعة بالثورة المكابيّة: إنّ الرغبة في طهارة دينيّة كاملة دفعت المؤمنين إلى مقاومة ناشري الحضارة الهلّينيّة مقاومة مسلّحة، وإلى ولادة حياة روحيّة جديدة تعتمد على ممارسة الشريعة ممارسة دقيقة.
حظيت الجماعة منذ بدايتها بوجود شخصيّة دينيّة رفيعة تسمّيها النصوص: "معلّم الِبرّ". فهو الملهِم وهو المشرِّع الأكبر. غير أنّنا لا نعرف متى مارس نشاطه. واجه بسمّو مثاله كهنةً أردياء ومتسلّطين في السلالة الحشمونيّة. وكانت صراعات عنيفة أُمسك فيها معلّم البرّ وعذِّب وأُرسل إلى المنفى. فالتجأ مع إخوته في عزلة قمران على الشاطئ الشماليّ الغربيّ للبحر الميت. ألدّ خصومه هو الذي سمّي "الكاهن الكافر". ولكنّنا لم نستطع إلى الآن أن نكشف هُوِيَّتَهُ.
وهناك وثائقُ تتحدّث عن "ذهاب إلى دمشق" لهذا نتساءل: أما أُجبر الأسيانيّون المضطهَدون على الذهاب إلى منفى بعيد، إلى أرض دمشق؟ ولكن قد يكون لهذه العبارة معنى رمزيّ: ينطلق الكاتب من 1 مل 19: 13- 15؛ عا 5: 27؛ زك 9: 1 ليدلَّ في أسلوب خفيّ على منطقة قمران نفسها.
ولما كانت الثورة اليهوديّة سنة 66- 70، إحتلّ الرومان أريحا في 21 حزيران سنة 68، وما عتّموا أن هاجموا مباني قمران ودمّروها، ونحن لا نزال نشاهد آثار الدمار بواسطة السلاح إلى اليوم. ولكن قبل أن يتشتّت أعضاء الجمعيّة أو يُذبحوا، فقد أخفوا في المغاور القريبة مكتبتَهم الثمينة. ظلّ بعض الأشخاص العزَّل يواصلون العمل بالمثال الأسيانيّ. ولكنّ الحركة الأسيانيّة ككلّ ماتت بعد هذه الكارثة. ولقد امتلكت مجموعة اليهود القارئين (لا يقبلون إلاّ بسلطة أسفار الشريعة) بعض كتبهم وحافظت على بعض ممارساتهم. ولكنّ حركة القارئين هي غير حركة الأسيانيّين.

2- نصوص قمران
قدَّم العلماءُ لائحة بما عُرف من وثائق قمران، لاسيّمّا الوثائق الآراميّة. ولكن ما تزال نصوص ومجموعات غير منشورة إلى الآن. أمّا المخطوطات البيبليّة فتقدّم مراجع هامّة للنقد الكتابيّ في العهد القديم. نجد أوّلاً: 57 عمودًا من صموئيل تقدّم نصًّا يختلف عن النصّ الماسوريّ ويقترب من نصّ السبعينيّة. ثانيًا: مخطوط كامل لأشعيا يختلف ألفَيْ إختلاف عن النصّ الماسوريّ. ثالثًا: مخطوط آخر لأشعيا قريب من النصّ الماسوريّ ولكن لم يبق منه إلاّ 12 عامودًا و11 جزءًا. رابعًا: كتاب المزامير، وسنتحدّث عنه فيما بعد. خامسًا: مئة مخطوط مجزّأة تتضمّن نصوصاً من كلّ أسفار العهد القديم (ما عدا أستير) بما فيها بعض الأسفار القانونيّة الثانية (طوبيّا في العبريّة والآراميّة، ابن سيراخ في العبريّة، رسالة إرميا في اليونانيّة. لم نجد شيئًا من سفرَيِ المكابيّين وسفر الحكمة). حيث تتوافق هذه المخطوطات مع النصّ الماسوريّ، فهذا يعني أنّ النصّ ثبت في بداية المسيحيّة، وحيث تتوافق مع السبعينيّة اليونانيّة أو البسيطة السريانيّة أو الترجوم الآراميّ فهذا يعني أنّ النقل تمَّ عن نصّ عبريّ يختلف عن النصّ الماسوريّ. ووُجدت أيضاً مخطوطات تضمّ أسفارًا منحولة مثل أخنوخ واليوبيلات ووصيّة لاوي ونصوص أخرى. أمّا نحن فنقرأ المؤلَّفات الخاصّة بجماعة قمران. ألّفها أعضاء مؤثِّرون في الجماعة، فعبّرت عن اتّجاهات عميقة.

أوّلاً: قانون الجماعة ووثائق ملحقة
نعرف نصّ ثلاثة قوانين: قانون الجماعة، قانون الحرب، وثيقة دمشق (التي عرفت أيضاً في خزانة القاهرة).
أمّا قانون الجماعة أو كتاب النظام فقد وصل إلينا كلّه تقريبًا. في المقدّمة (1: 1- 15) نجد الهدف: طلب الله مُمارسة الخير والحقّ حسب ما يأمر به موسى والأنبياء. نلزم نفوسنا بهذه الطريق "بالدخول في العهد" (1: 16- 2: 25) وهو رتبة مستوحاة من تث 28: 30. إنّ الله يطهّر قلوب "الداخلين في العهد"، أمّا الآخرون فيلبثون في خطاياهم (2: 25- 3: 12). ويسود مخطّط الله على العالم (3: 13- 4: 26)، تعليم الروحيّين ألذي يقسم البشريّة قسمين: أبناء الظلمة وأبناء النور. ثمّ تأتي جملة فرائض تنسّق حياة الجماعة وتنظيمها الداخليّ (5: 1- 6: 23)، من نظام حقّ التصدّر إلى أزمنة الابتداء إلى برنامج الأيّام، ونظام صارم يدلّ على العقوبات التي يتحمّلها العضو بسبب أخطائه (6: 24- 7: 25؛ 8: 16- 9: 2). هناك توسّعات تبيّن دور الجماعة في تقديس أعضائها، وتعرض الرجاء الأخير (8: 1- 16، 9: 3- 11). أمّا المثال الذي تَنشده فيشدّد على بعض وجهات الشريعة: الروزنامة المقدّسة (مثل أخنوخ واليوبيلات)، الطهارة بحسب الشريعة، الهرب من الفاسدين (9: 12- 10: 1). وأخيرًا تنشد قصيدةٌ طويلة (10: 1- 11: 22) مجدَ الله. فكلّ دقائق الإنسان وكلّ حركاته هي مناسبة لتمجيد الله. وشقاء الإنسان يبيِّن حكمةَ الله وقدرتَه ورحمتَه.
نجد في هذا القانون الفرائض القانونيّة والتعليمات اللاهوتيّة والقواعد الليتورجيّة والتأمّلات الشعريّة. غير أنّ الكتاب يدلّ على وحدة في الإلهام: إحساس بالله العظيم، رغبة في أن نجاوب حبَّه ونعلن مجده. ونتيجة هذا هو بغض الخاطئين (يقولون إنّ الله نفسه يبغضهم)، والهرب من كلّ من لا ينتمي إلى الجماعة ولو كان يهوديًّا.
هناك ملحقانٍ لهذا القانون: "قانون لكلّ جماعة إسرائيل" من أجل الآتي من الأيّام لا من أجل الحاضر، و"مجموعة التبريكات".

ثانيًا: قانون الحرب
إنّ "قانون حرب أبناء النور ضدّ أبناء الظلمة" موجود في مخطوط احتفظ بالقسم الفوقيّ لتسعة عشر عامودًا. يتحدّث الكاتب عن حرب إفناء تضع حدًّا لتسلّط بليعال فتلزمنا بصراع نهائيّ ضدّ الشر والأشرار. فخلال أربعين سنة (نطرح منها السنوات السبتيّة) يُفني أبناءُ النور، بمعاونة الله وجيوش الملائكة، كلَّ الكفّار أكانوا يهودًا أم وثنيّين. كلّ شيء قد هُيئ لهذه المعركة: الأبواق، الأعلام، الأسلحة، المناورات، الخطب الحماسيّة وأناشيد النصر... ويرافق حبُّ الله الصادق بغضاً للكفّار لا يلين. ينسى الكتاب النصوص البيبليّة التي تشير إلى إرتداد الخاطئين أو إلى الخلاص الممنوح للوثنيّين. كم نحن بعيدون عن الإنجيل. ونجد في الخطب معانيَ لاهوتيّةً ثمينة: ثقة بقدرة الله، انتظار معجزات جديدة، لعنة بليعال والشياطين، الإعجاب بمعجزات الله وملائكته، تحريض على البطولة.

ثالثًا: وثيقة دمشق
عُرف هذا المؤلَّف منذ سنوات لأنّ العلماء اكتشفوا له مخطوطين في خزانة جماعة القارئين في القاهرة. أمّا الأجزاء التي وجدت في قمران فهي تدلّ على جذوره. أمّا اسمها (وثيقة دمشق) فعائد إلى التلميح عن هرب الجماعة إلى دمشق. الوثيقة قريبة من "قانون الجماعة" وهي تستعيد فنّه الأدبيّ لتشدّد على ترتيباته. فبعد اعتبارات حول سقوطات إسرائيل المتكرّرة عبر تاريخه (1: 1- 6: 2)، تحتفل الوثيقة "بالعهد الجديد" المعقود بين الله والمرتدّين الآتين من أرض دمشق (6: 2- 8: 21؛ 19: 20)، وتقدّم قواعد دقيقة لهؤلاء المرتدّين (9: 1- 16: 19). تفاسير الكتاب الرمزيّة كثيرة. "والعهد الجديد" ليس عهدًا ثانيًا يلي العهد القديم (كما في عب 8: 6، 13) بل "عهد رجوع إلى شريعة موسى". ولكن تبقى عبارة غامضة: ما معنى "المجيء إلى أرض دمشق"؟ هل تدلّ على قمران أو تشير إلى منفى أبعد؟ لم يتّفق الشرّاح على جواب.

رابعًا: درج التسابيح (هودايوت)
نجد تسابيح في قانون الجماعة وقانون الحرب وفي مجموعة هودايوت. يسلّم الشاعر إلى الله، في تأمّلات شعريّة جميلة، عواطفهَ العميقة وتشكّياته وقلقَهُ وأَمله وثقته وحبِّه البنويّ. نحن أمام نفس شريفة ودينيّة تعبِّر عمّا في داخلها. أيكون مؤلِّف التسابيح معلّم البرّ؟ الأمر معقول جدًّا. فالكاتب يملك إحساسًا بعظمة الله وقداسته ورحمته. وبالمقابل يحسّ بشقائه البشريّ. وهكذا يتوصّل إلى تأمّل في عمل الله من أجل البشر أو بالأحرى من أجل المختارين يساعدنا على استباق توسّعات القدّيس بولس. فعَبر هذه الأناشيد نجد أغنى صورة لكنوز الأسيانيّين الروحيّة.

خامسًا: نصوص ليتورجيّة أخرى
هناك أجزاء لنصوص ليتورجيّة موجودة في مغاور قمران. منها "أقوال المنائر" التي تتضمّن تذكيرًا بإحسانات الله إلى إسرائيل وتوسّلاً من أجل الخلاص. ثمّ "قانون الأناشيد لمحرقة السبت" الموجود في أربعة مخطوطات قمرانيّة ومخطوط من مصعده. في جزء أوّل يتدخّل أمراء الملائكة السبعة الذين يقفون على قِمّة المراتب السماويّة ليباركوا أعضاء الجماعة. ويصوّر الجزء الثاني ليتورجيّة سماويّة يتّخذ مواضيعها من حز 1- 2 ويقدّمها كنموذج للإكرام الذي نقدّمه لله على الأرض. بما أنّ أهل قمران امتنعوا من الذهاب إلى الهيكل، وبما أنّ لا شيء يبرهن على أنّهم قدّموا محرقات في قمران، فقد أُعِدَّت هذه الليتورجيًّا في حال إعادة العبادة الشرعيّة كما كانوا يرجون ويتوقّعون.
أمّا "درج المزامير" فهو يتضمّن جزءًا من المزامير 93- 150 في ترتيب يختلف عمّا في سفر المزامير. وهو يضمّ أيضاً مقاطع مختلفة: نشيد من أجل الخلاص، نشيد ابن سيراخ (سي 51: 13- 30)، مناجاة لصهيون، تسبحة للخالق، المزمور 151 (نجده في نهاية السبعينيّة)، مزموران آخران معروفان في العالم السرّيانيّ. وتتضمّن المجموعة أيضاً تعداد تآليف داود يدلّ على علاقة وثيقة بالروزنامة الليتورجيّة المحدّدة حسب نموذج سفر اليوبيلات.
وهناك درج آخر للمزامير يضمّ إلى مز 91 تآليف مجزّأة.

سادسًا: بشاريم أو تفاسير
إستعمل دانيال كلمة "بِشِرْ أو تفسير" ليدَّل على تفسير الأحلام أو كتابة سرّيّة. ومارس دانيال أيضاً تفسير الكتب المقدّسة حسب أسلوب مماثل (دا 9 فسر إر 25: 11- 12). وتعمَّم هذا الأسلوب في قمران وفي عدد من المؤلفات. يقتطع الكاتب النصّ (النبويّ أو المزموريّ) جملة جملة فيفسرّها بطريقة منظّمة. فبعد كلّ إيراد يبدأ التطبيق بعبارة موحّدة: يقوم التفسير. من هنا الاسم المعطى لهذه التفاسير. لسنا أمام تفسير حرفيّ بل أمام تطبيق الكتاب المقدّس على تاريخ الجماعة. يتحدّثون عن تلميحات غامضة وعن محن قاساها معلّم البرّ الذي اضطهده الكاهن الكافر. ولكن هذا الكاهن سيعاقبه الله فيسلّمه إلى غزاة أشرار هم "الكتيم". كاد النصّ يكون ثمينًا من أجل تاريخ الجماعة لو توضّحت لنا الأمور وعرفنا هُوِيَّةَ الأشخاص. إلاّ أنّ سرّ هذه التلميحات ظلَّ غامضاً.
"بشر حبقوق". إنّه يفسّر الفصلين الأوّلين في أحد عشر عامودًا. ونملك أيضاً "بشر أشعيا" وخمسة مخطوطات تفسّر أشعيا ومخطوطين يشرحان هوشع و"بشر ناحوم"، وتفاسير عديدة للمزامير أهمّها تفسير مز 37: 7- 40، ومز 45: 1 ي. كلّ هذا يدلّ على نشاط كبير في تفسير الكتاب المقدّس لإنارة الخبرة التاريخيّة لمجموعة تعيش في انتظار التحرّر من بليعال.
تذكر هذه التفاسير اسم ملكين سوريّين: أنطيوخس إبيفانيوس (175- 164 ق م)، ديمتريوس الثاني (96- 88)، خصم إسكندر يناي الحشمونيّ. وسنجد ما يقابل هذا "البشر" أو التفسير في العهد الجديد (مثلاً: أع 4: 25- 28؛ 8: 32- 35). وهناك وثيقة تطبِّق على محرّر عتيد اسمه ملكيصادق نصوصاً بيبليّة تشير إلى السنة اليوبيليّة (رج تك 14؛ مز 110: 4). وهناك وثيقتان أخريان تقابلان بين ملكيصادق (ملكي هو البرّ) وملكيراشع (ملكي هو الكفر).

سابعًا: التوسّعات الإخباريّة (هاغادة)
تحدَّثْنا عن أخنوخ الأوّل وسفر اليوبيلات ووصيَّات الآباء. ويبقى أن نتحدّث عن "أبّو كريف التكوين". كتاب آراميّ نُسخ في بداية العهد المسيحيّ، ولكن يمكن أن يكون أُلّف قبل هذا التاريخ. نجد خبرًا يروي فيه لامك مولد نوح العجيب، وخبرًا يروي فيه نوح الطوفان، وتقسيمًا جغرافيًّا للشعوب، وخبرًا يروي فيه إبراهيم ما نقرأه في تك 11: 13، ثمّ خبرًا في صيغة الغائب يشتمل على تك 14- 15 وبتقارب ممّا نقرأ في الترجوم. أمّا النهاية فضاعت. خبرا نوح ولامك قريبان من نصوص أخنوخ، وخبر أخنوخ قريب من نصوص اليوبيلات.
"دورة دانيال". كُتبت "صلاة الملك نبوكد نصّر" في الآراميّة فجاءت موازية لما نقرأ في دا 4: 1 ي. وهناك ثلاثة نصوص ترتبط بدانيال فتعود إلى الماضي وتتبع الخطوط الكبرى للتاريخ المقدّس وتستعمل نظريّة الممالك الأربع (رج دا 2: 1 ي؛ 7: 1 ي) وتنتهي بمعركة التحرير. يبدو أنّ النصّ يعود إلى سنة 100 ق م.

ثامنًا: التراجيم (جمع ترجوم)
رغم استعمال العبرانيّة في قمران، فقد وجدت نصوص آراميّة. فهناك أجزاء من "ترجوم اللاويّين" وهو شرح حرفيّ. و"ترجوم أيّوب" في أجزاء من 38 عامودًا. نحن أمام ترجمة حرفيّة مع بعض الحواشي التفسيريّة. ولكنّ النهاية (أي 42) هي أقصر ممّا نجد في النصّ الماسوريّ وتختلف عمّا نقرأ في السبعينيِّة.

تاسعًا: كتب أخرى
ونجد فنونًا أدبيّة أخرى لا نعرف كيف نرتّبها لأنّها وصلت إلينا في أجزاء منقطّعة. ففي مجموعة "الشهادات" نجد مزمورًا منحولاً ليشوع، ونشيدًا يصوّر، بلسان زانية، شيعةً تعارض جماعة قمران. تستعيد "أقوال موسى" أهمّ نقاط الشريعة التي يجب حفظها. ويهتمّ "كتاب الأسرار" بأسرار المستقبل كما تفعل أسفار الرؤى. ويرتبط بالفنّ الرؤيويّ "تصويرُ أورشليم الجديدة" (مخطوطات عديدة): يعود الكاتب إلى حز 40- 42 فيصوّر مدينة مثاليّة حيث كلّ شيء (حتّى قياس الطول والعرض) له قيمةٌ رمزيّة. نحن قريبون ممّا نقرأ في رؤ 21. وهناك نصوص أخرى تقدّم لنا سلسلة من دراسة لبروج السماء تعود بنا إلى عم الفراسة والفلك.

عاشرًا: درج النحاس
وجد في المغارة الثالثة درجان من نحاس يشكّلان وثيقة واحدة. فالنصّ المحفور بالإزميل على أوراق من نحاس يعدّد مخابئ ستّين كنزًا تمثّل كمّيّة كبيرة من الذهب والفضّة والبخور. هل نحن أمام كنوز حقيقيّة أم كنوز خياليّة؟ وهل يعود الدرج إلى أصل قرانيّ؟ قد تمثّل هذه الكمّيّات التقدّمات المدفوعة للخزانة اليهوديّة بين ثورة سنة 70 وثورة سنة 135.
وفوق مكتشفات قمران التي تعني فترة تنطلق من سنة 150 ق م إلى سنة 68 ب م، هناك مغاور أخرى قدّمت لنا وثائق أخرى. في مصعدة وجد مخطوط ابن سيراخ ومخطوط عن "الليتورجيّا الملائكيّة". في مغاور مربّعة وجد أرشيف يعود إلى مقاتلي الثورة الثانية (132- 135 ب م) وقد كُتب في العبرّية والآراميّة واليونانيّة واللاتينيّة، كما وُجد درجٌ يونانيّ يتضمِّن نصّ الأنبياء الاثني عشر. وفي مغاور خربة مرد وجدت أجزاء من العهد القديم والعهد الجديد نسخت في القرن السادس ب م.

3- فكر قمران
الميزة الرئيسيّة لجماعة قمران هي الأمانة: أمانة لله بمشيئته، أمانة للعهد المجدّد في كلّ نقاوته. أمانة لشريعة موسى نحافظ عليها بدون مساومة، أمانة لتعليم الأنبياء نفهمه فهمًا صحيحًا، أمانة لعظماء الكهنة الشرعيّين في بيت صادوق، أمانة للروزنامة الشمسيّة التقليديّة. من هذا القبيل يبدو فكر قمران في أساسه فكر العهد القديم مع تشديد على حضور الله وإحساس بمجده. أهل قمران يمارسون الشريعة اليهوديّة ولا يقبلون بفتاوى وتهرّبات المعلّمين. ولكنّهم في المقابل يشدّدون على بغض الله للخطأة ويتطلّعون إلى يوم يستأصلونهم كلّهم عن بكرة أبيهم. ويضخمّون أهمّيّة الطهارة الطقسيّة ويفرضون على كلّ واحد ما يُفرض على رئيس الكهنة المحتفل في يوم التكفير (كييور). ويعتبرون أنّ الاحتفالات الليتورجيّة التي يقوم بها أحبار غير شرعيّين حسب روزنامة قمر0يّة وغير تقليديّة هي احتفالات باطلة وشرّيرة، ولهذا فهم لا يذهبون إلى الهيكل. إنّهم ينتظرون بفارغ الصبر التحرير العسكريّ الذي يُفني أبناء الظلمة. ولكنّهم يحتفظون للممسوح الخارج من داود دورًا تابعًا لدور الممسوح الخارج من هارون. وهذا التحرّر الذي يريح الأرض من كلّ الوثنيين ومن كلّ اليهود المتجاوزين العهد، يحمل رجوعًا إلى حياة الفردوس. ويتوسّعون في التعليم عن الملائكة ويشدّدون على تأثير الملائكة والشياطين على قلب الإنسان، وفي مسيرة الأحداث التاريخيّة. ويتجاوزون أيضاً مواقف العهد القديم فيتحدّثون عن مشاركة في الخيرات وعن منع للطلاقِ وتعدّدِ الزوجات. مثل هذه الحياة القشفة استحقّت إعجاب بلينوس الاكبر ويوسيفوس المؤرّخ لأنّها كانت نابعة من تقوى صادقة وجريئة. إنّ الحياة الروحيّة في قمران هي أجمل ما في العالم اليهوديّ من غنى.
العلاقات بين قمران والعهد الجديد حقيقيّة، ولكن يجب أن لا نضخّمها. فالأسيانيّة تيّار يهوديّ كسائر التيّارات ولكنّه بعيد عن الإنجيل في ما يخصّ الطهارة بحسب الشريعة وشموليّة الخلاص. ولكن هناك اتّصالات مباشرة في ما يتعلّق بممارسات عمليّة: العزلة في البرّيّة، العفّة، طلب الفقر، المشاركة في الخيرات. وهناك عبارات في العهد القديم قد ترتبط بعالم لهران: سرّ، مصير، بليعال، أبناء النور... ولكنّ العهد الجديد سيصحّح عقليّة بإمكانها أن تقود الناس إلى روح حرب دينيّة أو إلى روح قانونيّة لا إنسانية.

ب- العالم اليهوديّ اليونانيّ: معطيات تاريخيّة
1- الجماعات اليهوديّة في الشتات
أوّلاً: أصل الشتات وانتشاره
لن نعود إلى أصل الشتات اليهوديّ. إنّه تَحَقَّقَ منذ سي بابل، وتوسّع وتَنَظَّمَ شيئًا فشيئًا في أيّام حكم الفرس. ولمّا جاء الإسكندر، دخلت الجماعات اليهوديّة المحلّيّة في العالم الهلّينيّ دون أن تخسر أصالتها اليهوديّة. ولكن ستظهر الاختلافات على المستوى اللغويّ: ففي الشتات الشرقيّ (بابل، إيران) ساد استعمال الآراميّة، وفي الشتات الغربيّ (مصر، سورية وحوض البحر المتوسّط) صارت اليونانيّة اللغة المشتركة. أمّا فلسطين فكانت نقطة التقاء: كان الشعب يتكلّم العبريّة والآراميّة، ولكنّ الحضارة اليونانيّة تركت أثرًا كبيرًا في العقول.
لن نتحدّث هنا عمّا نشر من آداب يونانيّة في فلسطين، بل نقصر نظرنا على الشتات الغربيّ ولغته اليونانيّة.
منذ عهد بطليموس الأوّل (323- 283) كان في مصر مستوطنات عسكريّة من أصل يهوديّ. وازدهر عدد السكان اليهود في العصور التالية وامتدّ في الريف حيث كوَّن اليهود ضِيَعًا، وفي الإسكندريّة حيث شغلوا أحياءً بكاملها. فالنظام القائم أمَّن لعائلات الجنود قطعة أرض فنحهم أساس حياتهم المادّيّة. وانضمّ إلى هذه المجموعة المكوَّنة حشد من التجّار والموظّفين العاملين لدى الملك. ما كان عدد يهود مصر؟ يتكلّم فيلون عن مليون نسمة وهذا يعني ثمن سكّان البلاد. لاشكّ في أنّ الرقم مبالغ فيه. ومن مصر انطلق اليهود إلى القيروان ثمّ إلى صقلّية وإيطالية. ومقابل هذا، والمواصلات سهلة بين فلسطين وسورية، عبر البحر أو عبر الأرض، تأسّست جماعات يهوديّة في دمشق وأنطاكية، في كلّ آسية الصغرى، في جزر البحر الأيونيّ، في مكدونية وفي اليونان. فاللائحة التي نقرأها في 1 مك 15: 22- 24 تلمّح إلى أماكنِ سكنِ اليهود في القرن الثاني ق م. والتي نقرأها في أع 2: 9- 14 تزيد على معلوماتنا عن الشتات الشرقيّ.
هل نستطيع على هذا الأساس أن نخمّن عدد السكّان اليهود في الإمبراطوريّة الرومانيّة؟ اختلفت الآراء. كان سكّان فلسطين بين 500000 ومليون إذا حسبنا معهم غير اليهود. وقال ابن العبريّ إنّ عدد اليهود في العالم هو 7000000. مهـا يكرر من أمر فنحن لا ننكر أنّ عدد اليهود كان كبيرًا جدًّا. اهتمّ اليهود بالقيم العائليّة وبالزواج الخصب يوم عرف العالم اليونانيّ تناقصاً في الولادات حاولت أن تجد له السلطات دواء. ثمّ إنّه في الزواجات المختلطة، كان أولاد الأمّ اليهوديّة ينضمّون شرعًا إلى شعب إسرائيل شرط أن يكونوا خُتنوا، وتربَّوا حسب الشريعة. ومقابل هذا، كانت الأمّ الغريبة تتبع ديانة زوجها. ثمّ إنّ امتيازات اليهود في الممالك الهلّينيّة ثمّ في الإمبراطوريّة الرومانيّة جعلت الكثير من الفينيقيّين والسوريّين ينضمّون إليهم. وإذا وضعنا جانبًا مصر حيث كثرت الجماعات اليهوديّة الريفيّة، فأكثر الجماعات أقامت في المدن وظلّت علاقاتها متينة بأورشليم والهيكل ولاسيّما خلال أيّام الحجّ.
ثانيًا: الوضع القانونيّ وتنظيم اليهود
إذا أردنا أن نفهم وضع اليهود القانونيّ نتوقّف عند أمرين. الأوّل هو أنّ الدول عرفت رسميًّا شريعة إسرائيل. ففي أيّام عزرا الذي أوفدته السلطات الفارسيّة ليثبّت هذه الشريعة، صارت الشريعة أساس وضع يجعل من اليهود شعبًا محميًّا يتمتّع باستقلال داخليّ على المستويات العباديّة والثقافيّة واللغويّة والقانونيّة والاجتماعيّة. فلم يبق للدولة إلاّ الأمور السياسيّة. وهكذا انضمّت الأمّة اليهوديّة إلى الإمبراطوريّة واستندت إلى الدولة. كان رئيس الكهنة قائدَها الدينيّ والمحافظَ على حقّها وكافلَ صدقها وولائها. انتقل هذا الوضع من عهد الفرس إلى عهد الإسكندر وخلفائه، بل إلى البطالسة والسلوقيّين، ما عدا في أيّام أنطيوخس إبيفانيوس الذي فشل في محاولته، فدفع المكابيّين إلى تكوين دولة يهوديّة. وظلّ الوضع كذلك في أيّام الفراتيّين والرومانيّين مع بعض التعديلات الطفيفة التي لم تمسّ الجوهر.
إهتمّ العالم الهلّينيّ المعروف بطابعه الدوليّ، باحترام حرّيّات الأفراد والمدن. ولهذا حافظ على استقلال اليهود. ولكن اختلف وضع الشتات عن وضع فلسطين. فقد كان اليهود في المدن غرباء يحصلون على حقّ الإقامة. ولكنّ استقلالهم التشريعيّ أتاح لهم أن يكوِّنوا جماعات تدافع عن حقوقهم، وأن يديروا شؤونهم في ما سمّي "بوليتوما" محاذية للنظم المحلّيّة في المدينة الواحدة. يتحدّث سترابون (نقله فلافيوس يوسيفوس) عن أتنارخِس أو قائد جماعة الإسكندريّة. ولكنّ الإمبراطور أوغسطس أحلّ محلّ الأتنارخِس غاروسيا أو مجلس شيوخ يدير شؤون اليهود: يتألّف من رئيس المجلس ورئيس المجمع ومستشارين وسكرتير. كان لهذه "البلديّة" الحرّة محكمتها الدينيّة والمدنيّة. تلك كانت الحال في الإسكندريّة وفي سائر مدن الإمبراطوريّة الرومانيّة (أع 9: 1- 2؛ 18: 12 - 15). وهذا ما يفسّر لقاء الوعّاظ المسيحيّين بالسكّان اليهود والسكان اليونانيّين على التوالي.
كان اليهود يكوّنون مجموعات متراصّة حول مجامعهم حيث يجتمعون للصلاة وقراءة الشريعة، وكانوا يتّصلون بالوثنيّين من أجل حاجات الحياة اليوميّة. كان لأماكن الصلاة هذه وضع رسميّ في الشرع الرومانيّ. ففي مصر كانت المجامع تعتبر موضع ملجأ شأنها شأن الهياكل الوثنية. وإذا لم يكن هناك من مجمع، كان المؤمنون يجتمعون في الهواء الطلق (أع 16: 13). كان رئيس المجمع عالمًا بالكتب وكان يرئس الخدمة العباديّة. وكان يعاونه شيوخ يقيمون خارج فلسطين وقارئ يترجم نصوص التوراة. كانت السلطة تحمي شعائر العبادة، وسائر الممارسات، وهكذا انحلّت مشكلة حفظ السبت لدى اليهود العاملين في الجيش. وترتّبت حياة اليهود حسب السبوت والأعياد فسارت على هامش حياة المدن الوثنيّة التابعة لروزنامة أخرى والمتجاهلة للعادات اليهودية. ولمّا أدخل مجلس الشيوخ الرومانيّ عبادة الإمبراطور كعلامة للولاء السياسيّ، جاء الشرع يعفي اليهود من هذه الممارسة. ثمّ إنّ ضريبة النصف شاقل كانت تذهب كلّ سنة إلى أورشليم.

2- العلاقات مع العالم الهلّينيّ
أوّلاً: العالم اليهوديّ المُتَهَلْيِن
رافقت هَلينةَ الشرق سيطرةُ اللغة اليونانيّة على سائر اللغات المحلّيّة ولاسيّما في المرافئ والمدن، وكوّنت تلفيقًا دينيًّا وجدت فيه كلّ التقاليد العباديّة مكانها فتكيّفت مع العالم الحديث. ودخلت الحضارة الهلّينيّة إلى فلسطين فسبّبت أزمة المكابيّين الخطيرة. أمّا في الشتات فكانت الأمور مختلفة. وهذا ظاهر بطريقة خاصّة في مصر. نسيت الجماعات المحلّيّة اللغة العبريّة فأحسّت بالحاجة إلى ترجمة رسميّة تفرض نفسها على السلطات الإداريّة وفي عبادة المجمع. فلبَّت ترجمة التوراة في إيّام بطليموس الثاني (285- 246) هذه الحاجة. وكانت النتيجةُ تَناضُحًا بين الحضارة الهلّينيّة التي تحملها اللغة اليونانيّة وبين التقليد اليهوديّ الذي حافظ على كلّ أصالته.
وانطلقت التوراة اليونانيّة من الإسكندريّة وانتشرت في كلّ الشتات. وهكذا بدأت هلينة العالم اليهوديّ مع احترامٍ لجوهر الإيمان وتجنّبِ كلّ تلفيق دينيّ، ولكن مع اكتناز قِيمَ حَملتها الحضارةُ الهلّينيّة. وهكذا ترك الشتات آثارًا من الفنّ اليونانيّ. نحن نجد كتابات على المدافن تحدّثنا عن مصير الموتى على الطريقة اليونانيّة ورموزًا هلّينيّة في تزيين هذه الآثار. وكانت الإسكندريّة مركِزًا فكريًّا مؤاتيًا للقاء بين الفكر اليهوديّ والفكر الشعبيّ المشتّت في عالم قدّمت فيه مصر للفكر اليونانيّ مواضيعَ روحيّةً أخذ بها سريعًا. سنرى أنّ هذا اللقاء ولّد أدبًا يهوديًّا في اللغة اليونانيّة. فاكتشف اليهود في الأفلاطونيّة المتوسّطة والرواقيّة نظرات عن الله والإنسان والكون سيكيّفونها مع نظراتهم النابعة من التوراة. وانفتح المتعلّمون على هذه الآفاق الجديدة فنتج غنى للفكر اليهوديّ في إطار الفلسفة والأخلاقيّات والروحانيّات. كما نتجت طريقة جديدة لقراءة النصوص البيبليّة وتفسيرها لاجئة إلى الرمزيّة كما فعل الرواقيّون والبيتاغوريّون بنصوص اليونان الكلاسيكيّة. ولن يكون فيلون وحده في القرن الأوّل المسيحيّ، بل سيمثّل قمّة فكريّة في العالم اليهوديّ المُتَهَلْيِن.
ولكنّنا نخطئ إن عارضنا ما وُجد في الإسكندريّة بما وُجد في فلسطين، وكأنّه لم يكن اتّصال بين الاثنين. فالعالم الدوديّ احتفظ بتماسكه أينما كان. من جهة، فالأحزاب الدينيّة التي تشكّل خميرة الجموع اليهوديّة في يهودا والجليل إمتدّت إلى الشتات. فإذا عدنا إلى أع 22: 3 نرى أنّ القدّيس بولس ولد في طرسوس بكيليكية قبل أن ينشأ في أورشليم (في أع 9: 30 نرى بولس يعود إلى طرسوس بعد اهتدائه). ولكنّ يسمّي نفسه عبرانيًّا (عبرانيّ اللغة) ابن عبرانيّ، أمّا في الشريعة ففرّيسيّ (فل 3: 5). نستشفّ هنا إشعاع الحركة الفرّيسيّة أبعد من أرض يهودا. ثمّ إنّ فيلون يربط الزهّاد اليهود الخبيرين بالمداواة والبائسين قرب بحيرة مريوتيس بالحركة الإسيانيّة التي وصل تأثيرها إلى مصر. ومقابل هذا، كان ليهود الشتات مجامع خاصّة بهم في أورشليم كما تشهد بذلك تلميحات أم 6: 9 إلى اليهود الهلّينيّين من قيريني والإسكندريّة وكيليكية وآسية. ولكن قد يكون هؤلاء الهلّينيّون أكثر تشدّدًا من الفلسطينيّين في ما يخصّ التقليد (أع 9: 29). فمهما يكن من أمر فسيجد أوّل رسل الإنجيل في جماعات الشتات نقطة انطلاق لكرازتهم (أع 11: 19؛ 14:13؛ 1:14؛ 16: 12- 13؛ 17: 1- 2، 10، 16؛ 18: 4؛ 19: 8). وسيجدون معارضة موازية لمعارضة السلطات اليهوديّة في يهودا. وستتّخذ كرازتهم منحىً مختلفًا حين يتوجّهون إلى مستمعين هلّينيّين. فالأمثلة عديدة في الرسالة إلى العبرانيّين وفي رسائل مار بولس وفي التلميحات إلى أبلّوس الإسكندرانيّ (أع 18: 24- 28؛ رج 1 كور 1: 10- 4: 21).

ثانيًا: تعاطف وتعارض
اهتمّ يهود فلسطين بالتبشير والدعوة إلى دينهم. واهتمّ أكثر منهم يهود الشتات لأنّ الجماعات المحلّيّة استطاعت أن تنمو بفضل اهتداء الأفراد بل العائلات. وُجد عند هؤلاء اليهود إشعاعُ عبادة روحيّة لا تتضمّن اجتماعاتها أيّة ذبيحة ولا تقبل بأيّة صورة لله، ونظرة سامية إلى الله تلتقي بأفضل ما وصل إليه الفكر الفلسفيّ، وأخلاقيّة أسمى من أخلاقيّة العالم الوثنيّ ومبنيّة على قواعد سلوكيّة محدّدة. كلّ هذا اجتذب رجالاً ونساء غرقوا في حضارة تعيش أصعب أزماتها. وكانت المجامع وأماكن الصلاة مفتوحة. وكان باستطاعة الوثنيّين الذين يؤمنون بالله الواحد أن يشاركوا في اجتماعات الصلاة (أع 17: 4). واكتفى كثير من الناس بهذه المرحلة الأولى من مراحل الاهتداء فجعلتهم من خائفي الله. فمن ذهب أبعد من ذلك فقبل بكلّ ممارسات الشريعة وبالختان، دخل في الأمّة اليهوديّة وتضامن معها في كلّ شيء.
وبالمقابل، ظهرت حركات عداء ضدّ اليهود في الجموع الوثنيّة. فأهل الهجاء اللاتينيّ كانوا يهزأون بالختان والسبت والامتناع عن الأطعمة. وكان الناس يتّهمون هذا الشعب الفريد من نوعه بالإلحاد، لأنّه لا يعبد الالهة التي يعبدها الجميع، ولا يقدّم ذبائح في عبادته داخل المجمع. ثمّ إنّ الطابع الوطنيّ للديانة اليهوديّة ساهم في جعلها مشبوهة: يمكن أن ينقلب هذا التضامن المغلق على الدولة أو الإدارة المحلّيّة. فمنذ القرن الثالث ق. م. جمع الكاهن المصريّ مناطون أساطير عن الشعب اليهودي فدلّ بها على عدائه لهذا الشعب. وفي بداية القرن الأوّل ق م بَرَّر بوسيدونيوس الأفاميّ حصار أورشليم على يد أنطيوخس السابع في زمن يوحنّا هركانس بِكُرْهِ الملك الشرعيّ لشعب يُبغض سائر الشعوب. وتلتقي تهكّمات هوراسيوس وبرسيس وبترونيوس ومارسيال ويوفنال بأقوال شيشرون وتاقيتس الساخرة وانتقادات أبيون وقلسيوس وبورفيريوس. فلا نعجب إن هلك في الإسكندريّة (38 ب م) 50000 يهوديّ كما قال يوسيفوس، وهذا حدث بسبب الحاكم فلاكوس والوطنيّين المحلّيّين. وراحت بعثة الى رومة يقودها فيلون (40- 41) ويساندها أغريبّا الثاني فلم تنجح ما دام كاليغولا حيًّا. ولم تعد الحالة إلى السلام إلاّ بعد رسالة كلوديوس إلى أهل الإسكندريّة (42 ب م). ونشير أيضاً إلى أنّ بعض اليهود هلكوا في قيصريّة وأنطاكية وسائر مدن المملكة سنة 42.
نأخذ هذا المناخ السيكولوجيّ بعين الاعتبار لنفهم بعض وجهات الرسالة المسيحيّة. استقبلها اليهود الهلّينيّون استقبالاً متحفّظاً قبل أن يناصبوها العداء. واحترس منها الوثنيّون المثقّفون والجموع المتعلّقة بتقاليدها الدينيّة، فحسبتها خرافة بغيضة ومرتبطة بالعالم اليهوديّ الذي ولدت فيه. ولكن لا ننسى أنّ تمازج الأفكار والتيّارات الدينيّة في العالم اليونانيّ والرومانيّ رافقه أيضاً قلقٌ وَجد فيه الخميرُ الإنجيليّ أرضاً مستعدّة لاقتباله.

ج- العالم اليهوديّ اليونانيّ: الأدب
دخل العالم اليهوديّ الإسكندرانيّ في إطار الحضارة الهلّينيّة فبدأ عملُ ترجمة هامّ جدًّا. تُرجمت الصلواتُ العاديّة (مثلاً: إسمع. شماع) والنصوص البيبليّة الضروريّة للقراءة في المجمع، وتُرجمت الشريعة أوّلاً بسبب طابعها الرسميّ. ثمّ تُرجمت الأسفار النبويّة والمزامير لتُقرأ أو تُنشد في الليتورجيّا. ثمّ تُرجمت سائرُ الكتب. وأسطورة الاثنين وسبعين شيخًا التي أوردها فيلون ورسالة أرستيس لا تهتمّ بسائر الكتب القانونيّة بل تقتصر على الشريعة والأنبياء والمزامير. ولكن سيُعطى اسمُ السبعينيّة الى كلّ الترجمة اليونانيّة القديمة. نلاحظ أنّنا أمام نقل تفسيريّ ومختصر (أيّوب) أو مضخَّم (أشعيا) أو مكتوب من جديد (أستير). ثمّ دوِّنت أسفار جديدة في اليونانيّة مثل سفر الحكمة، وسفر المكابيّين الثاني ونهاية سفر باروك. ولكن لا يمكننا القول إنّه وجد قانونان (أو لائحتان رسميّتان) مختلفان في فلسطين وفي الإسكندريّة. فهنا وهناك ظلّت اللائحة الرسميّة مفتوحة أمام أسفار جديدة، ولكن لم تحظَ كلّ الأسفار بالثقة نفسها ولم تُستعمَل الاستعمال عينه. إستقبل العالَم اليهوديّ الإسكندرانيّ كتبًا منحولة نسخها أو نقلها من عالم فلسطين.
وتأثر الكتّاب اليهود بمحيطهم الثقافيّ فأخذوا بطرق تعبيره الأدبيّ. وهكذا خرجت آثار عديدة من عالم الإغفال الذي ميّز المؤلّفات الفلسطينيّة القانونيّة. وإنّ وفرة وتنوّع هذا الأدب الذي وصلنا منه مقاطع وأجزاء، لا تتيح لنا أن نقسمه إلى كتب منحولة، ونميّزه عن سائر الكتب التي دوّنها كتّاب معروفون أو مجهولون. من المفضّل أن نتفحّص الميادين المتنوّعة التي توزّعت عليها المؤلَّفات آخذين بعين الاعتبار ذوق العصر. من هذا القبيل عبد حدودًا بين التاريخ والقصّة على غرار ما في العالم الهلّينيّ. فالمؤرّخون يتقبّلون كلّ الأخبار الأسطوريّة القديمة، والروائيّون يقتربون من الأخلاقيّين الذين يهتمّون ببناء الجماعة. والدفاعيّون يكتبون أخبارًا تقويّة كما يكتبون مقالات نقديّة وهجائيّة.

1- تقليد المؤرّخين
أوّلاً: سفر عزرا الثالث
سفر عزرا الثالث هو تقميش تاريخيّ مؤسَّس على 2 أخ 35: 1- 36: 21 ونح 7: 72 ب- 8: 12 وعز 1: 1- 10: 44. كلّ هذا يدور حول الرجوع من المنفى ويمجِّد شخص عزرا وعمله. أُعيد تنظيم فصول عزرا وأُقحم مقطع إخباريّ (هاغادة) في أسطورة زربابل: خلال وليمة لدى الملك داريوس، برهن الأمير اليهوديّ الشابّ، وكان على حقّ، أنّ الحقيقة (بمعناها البيبليّ) هي أقوى شيء في العالم. وهذا ما يعطي الكتاب طابعه الدعائيّ. متى دوِّن هذا الكتاب وأين دوّن؟ بعضهم يرى تقاربًا بينه وبين سبعينيّة دانيال وأستير فيعتبر أنّه دوِّن في القرن الثاني ق م، والبعض يقول إنّه دوِّن في اليونانيّة، والبعض الآخر إنّه نُقل عن لغة ساميّة. إنّ هذا المؤلَّف الدفاعيّ يعظّم عمل عزرا ويثبّت سلطة النظم اليهوديّة ويشدّد على قيمتها.

ثانيًا: مؤرّخون يهود هلّينيّون
كما أنّ الكاهن بروسيوس جمع "كلداياته" على أيّام أنطيوخس الأوّل (285- 261)، والكاهن المصريّ مناتون دوّن "مصريّاته" على أيّام بطليموس الثاني (285- 246)، كذلك روى الكتّاب اليهود (أو السامريّون) تاريخ أمّتهم منذ البداية لينشدوا أفضالها في المجتمع الهلّينيّ. كان الإسكندر بوليهستور مقمّشًا يونانيًّا من القرن الأوّل، فجمع مقاطع سيستعملها يوسيفوس المؤرّخ وأوسابيوس القيصريّ في "التهيئة الإنجيليّة". وهكذا يكون مؤلَّف بوليهستور عن اليهود ينبوعًا أساسيًّا لنتعرّف إلى تعظيم الشعب اليهوديّ عبر تاريخه القديم في العالم الإسكندرانيّ. وكان ديمتريوس قد دوَّن في أيّام بطليموس الرابع (222- 205) كتابًا عن "ملوك يهودا" (يشير إلى هذا العنوان إكلمنضوس الإسكندرانيّ)، ولكنّ المقاطع المحفوظة تعني تاريخ الآباء وموسى وتضخِّم التقاليد الكتابيّة بواسطة الأساطير. وآلف أوبوليمس (حوالي سنة 158) كتابًا "عن اليهود" يهتمّ بأمر التواريخ ويشدّد على الوجهة الدفاعيّة جاعلاً موسى مخترع الأبجديّة ومعلّم الفينيقيّين. وأجزاء أرتابان التي كُتبت "عن اليهود" بعد سنة 220، هي دفاعيّة أيضاً: فيها يصبح موسى أساس الحضارة المصريّة ومعلّم أورفيوس. وهناك مقاطع منسوبة إلى أرستيس وكليوداموس (= ملكاس) وكاتب مُغْفَلٍ . فهذا الأخير يعرف تقاليد منحولة جُمِعَتْ من "سفر أخنوخ" و"كتاب الجبابرة"، ويبيّن أنّ إبراهيم علَّم الفلكيّات للفينيقيّين ولكهنة هليوبوليس. اتّصل بالعالم الأسيانيّ والجماعة السامريّة ودوّن كتابه في سورية لا في مصر.
أمّا كتاب "اليهود" المنسوب إلى هكاتيس الأبديريّ فلا يعود إلى هذا الكاتب اليونانيّ المعاصر للبطالسة الأُوَلِ. فأوسابيوس لا يعرفه إلاّ بواسطة يوسيفوس. إنّ هذا الكتاب يعظِّم العالم اليهوديّ ويفسِّر، في إطار دفاعيّ، أصل الجماعة اليهوديّة في الإسكندريّة. قد يكون كُتب في نهاية القرن الثالث. ولم يكن نقولاوس الدمشقيّ صديق هيرودس الكبير يهوديًّا. دوَّن "تاريخ الكون" الذي أخذ منه يوسيفوس بعض المقاطع التي تدلّ على ما كان يعرفه رجل مثقّف في زمانه عن اليهود.

ثالثًا: فلافيوس يوسيفوس
ولد هذا الكاهن الفرّيسيّ سنة 37- 38 ب م وانخرط في الحرب اليهوديّة ضدّ الرومانيّين وتسلَّم قيادة جيوش الجليل. انضمّ إلى الرومانيين، فحرّره فسباسيانس وتعلّق بأباطرة عائلة فلافيوس فسمّي فلافيوس يوسيفوس. دوَّن بين سنة 75 وسنة 95 "تاريخ الحرب اليهوديّة ضدّ الرومانيّين". يستعيد الخبرُ الأحداثَ منذ أنطيوخس إبّيفانيوس. توجّهت النسخة الأولى إلى اليهود ودوِّنت في الآراميّة، ولكنّها ضاعت. أمّا النسخة اليونانيّة فنُشرت في رومة وكان الهدف من كتابتها دفاعيًّا: أراد يوسيفوس أن يجعل مسؤوليّة الحرب على بعض الفئات اليهوديّة ويبرّر حزب السلام الذي بدأ بإعادة بناء العالم اليهوديّ. وقد سانده في كتابه يوحنّان بن زكّاي ومعلّمو يمنية الذين كانوا فرّيسيّين مثل يوسيفوس. عاد يوسيفوس إلى مراجع متعدّدة، أمّا أقواله التاريخيّة فلا بدّ من غربلتها قبل الأخذ بحقيقتها.
بعد هذا قدَّم يوسيفوس عرضاً عامًّا عنوانه "القديميّات اليهوديّة" فحاول أن يقلّد فيه "القديميّات اليونانيّة" لديونيسيوس الهلكرناسيّ (7 ق م). ولكن سبق يوسيفوسَ مؤرّخون يهودٌ كتبوا في اليونانيّة كما قلنا أعلاه. نُشر الكتاب مرةً أولى سنة 93- 94 بعد أن أُعَدَّ في زمن دوميسيانس (81- 96) الذي لم يكن راضيًا كسلفيه عن دفاع يوسيفوس عن الشعب اليهوديّ. وظهرت النشرة الثانية حوالي السنة 100 يوم كان يوسيفوس منشغلاً في الدفاع عن عمله ضدّ اتّهامات يوستس الطبرياويّ (سيرة حياته) وفي حرب على عدوّ العالم اليهوديّ (ضدّ أبيون). مهما يكن من أمر، إنّ "القديميّات اليهوديّة" هي كتاب موجّه إلى المثقّفين. يروي فيه يوسيفوس تاريخ أمّته منذ الخلق ويكيل لها المديح. ينطلق يوسيفوس من الأخبار البيبلية فيقرأها وكأنها تاريخ بالمعنى الحصريّ كما كان يفعل المؤرّخون الهلّينيّون في عصره. وحين يصل إلى القرون الأخيرة يلجأ إلى سفر المكابيّين الأوّل وإلى معلومات جمعها من كتّاب ضاعت مؤلّفاتهم (نقولاوس الدمشقيّ) وإلى تقليد شفهيّ غير محدَّد، وإلى وثائق مكتوبة لا نزال نجهلها. وهكذا تأتي الهاغادا التقليديّة فتلقي حلّة قشيبة على الأخبار البيبليّة، وتقحم في النصّ أساطير مصوّرة (مثلاً عن حياة موسى). إذا أردنا أن نعرف العالم اليهوديّ في زمن العهد الجديد، لن نجد ما نقابله مع الأناجيل وسفر الأعمال والرسائل إلاّ في "القديميّات" وفي "الحرب اليهوديّة". هذا على مستوى الحدث. أمّا على مستوى المؤسّسة فنستعين بما تركه لنا الرابّانيّون من آثار ونصوص قمران. أجل إنّه سيكون لمؤلّفات يوسيفوس تأثير كبير على التصوّر المسيحيّ لتاريخ إسرائيل. ولكنها لن تحظى بالاهتمام عينه في العالم اليهوديّ المتأثّر بالفرّيسيّين بسبب علاقتها بالترجمة اليونانيّة للتوراة التي رُفضت في مجمع يمنية حوالي سنة 90 ب م.

2- عالم الدعاية والدفاع
كان للوثنيّين من يقومون بالدعاية وما كانوا يوفرون اليهود. فوجب على اليهود أن يدافعوا عن أنفسهم. ولقد وجدنا أمثلة عند المؤرّخين الذين اهتمّوا بإبراز قِيَمِ وحكمة شعب إسرائيل وأجداده. فقد جعل منهم أوبوليميس وأرتابان أوّل من علّم الناس الحكمة القديمة. أما هكاتيس الأبديريّ المزعوم فقد نسب إلى اليونانيّين القدماء احترامًا عميقًا للكتب المقدّسة. وارتبط عرض الأشياء على هذه الصورة بالدعوة إلى الدين اليهوديّ، وهذا التيّار حاول أن يجتذب الوثنيّين الباحثين عن مثال أخلاقيّ ودينيّ نحو ذلك الذي تشير إليه التوراة. وهكذا صارت الجماعات اليهودية جماعات رسوليّة دون أن تتخلّى عن الروح الوطنيّة المتطّرفة المؤسَّسة في أنظمتهم.
أمّا المؤلَّف الذي يميّز هذا التيّار فهو "رسالة أرستيس إلى فيلوكراتيس". إنّها عمل موظّف بطليموس الثاني (285- 247). أرسل سفيرًا إلى أليعازر الكاهن الأعظم ليحصل على ترجمة رسميّة للتوراة يضعها في مكتبة الإسكندريّة. وما يُشكّل لحمة هذا الخبر التاريخيّ المدوَّن بشكل رسالة هو مديح الشريعة وشعائر العبادة اليهوديّة، واستقبال المترجمين في الإسكندريّة خلال وليمة على مائدة الملك، وقصّة الترجمة المعجزة التي جعلت 72 مترجمًا (6 مترجمين من كلّ سبط) يتّفقون على نصّ واحد ثمّ يتفرّقون بعد إعلان الشريعة. ليس المؤلَّف كتاب دعاية بسيطة موجّهًا إلى الوثنيّين، ولا خطابًا مرسَلاً إلى اليهود ليبيّن لهم أنّ نظمهم هي شميلة الوحدانيّة والفلسفة الشاملة. فالكاتب المهتمّ بالدعاية لترجوم البنتاتوكس اليونانيّ (الذي يعتبر أيضاً قاعدة إيمان) يتوخّى تثبيت نصّ القراءة في المجامع والابتعاد عن الترجمات المليئة بالخاطر، وخلقِ تيّار من الفضولية نحو نصّ بعيد عن روح اليونانيّة.
دوِّنت رسالة أرستيس حوالي السنة 200 أي قبل الصراع الذي واجه فيه أنطيوخس إبّيفانيوس القنصل الرومانيّ بوبليوس ليناس (سنة 168 ق م). وسيتوسّع الأدب الدفاعيّ فيما بعد مع يوسيفوس في كتابه "ضدّ أبيون" ومع فيلون الفيلسوف.
3- الروائيّون والشعراء والحكماء
أوّلاً: الرواية التقويّة عند اليهود
قدّمت لنا الأسفار المنحولة الآتية من فلسطين أمثلة عن الروايات التقويّة بأبطالها المأخوذين من الماضي. وارتبطت "رسالة أرستيس" بهذا الفنّ الأدبيّ في شكله الإسكندرانيّ. وستتبعها كتب أخرى.
"سفر المكابيّين الثالث". سمّي هذا الكتاب كذلك لأنّه وجد بعد 1 مك و2 مك في مخطوطات التوراة اليونانيّة. ولهذا اعتبرته بعض كنائس الشرق قانونيًّا شأنه شأن 1 مك و2 مك. ولكنّ هذا الكتاب لا يرتبط بالعالم اليهوديّ الفلسطينيّ. إنّه يروي كيف حَكم بطليمويس الرابع (221- 205) على يهود الإسكندريّة بالقتل، ولكنّهم نَجَوا بصورة عجيبة ثمّ قتلوا إخوتهم الذين جحدوا. نتذكّر هنا موضوع أستير مع الروح الوطنيّة الممزوجة بالروح الدينيّة. ولكنّ يوسيفوس يُورد حادثة مماثلة في أيّام بطليموس التاسع. إذًا نحن أمام موضوع شائع. دوِّن الكتاب ليشجّع اليهود على الأمانة رغم الاضطهاد، وذلك حوالي السنة 100 ب م وبعد نقل سفري أستير ويهوديت إلى اليونانيّة.
"سفر يوسف واسنات" أو "كتاب صلاة أسنات". هو مؤلَّف محفوظ في اليونانيّة وفي ترجمات أخرى قديمة. انطلق من تك 41: 45- 50 فروى زواج يوسف بأبنة الكاهن المصريّ فوطيفار. كانت الفتاة جميلة ونقيّة وارتدَّت إلى الإله الحقّ حين تزوّجت بيوسف، فثار غضب إخوة يوسف. نحن هنا أمام رواية دفاعيّة تجعل من اسنات نموذج المرتدّة إلى الدين اليهوديّ. دوِّن الكتاب بين القرن الأوّل ق. م. والقرن الأول ب. م. وقد تكون لعبت فيه يد مسيحيّة.
"صلاة منسّى". تتوسّع في خبر 2 أخ 33: 11- 13، 18- 19 الذي يتحدّث عن ارتداد الملك، وهذا أمر يجهله كتاب الملوك. اقتاد الأشوريّون منسّى أسيرًا إلى بابل، فرفع صلاة توبة وثقة بمراحم الله، وعبّر عن خوفه من العقابات الأبديّة. نجد هنا لاهوت الارتداد في خطّ الأنبياء. كتب هذه الصلاةَ يهوديٌّ هلّينيّ فحاكى المقاطع الكتابيّة والنصوص الليتورجيّة ونجح في عمله فأخذت كثير من الكنائس القديمة بهذا الكتاب وأدخلته في ليتورجيّتها. دوِّن هذا الكتاب في القرن الأوّل ق م.

ثانيًا: أشعار في اللغة اليونانيّة
هلكت المجموعة الرسميّة لكتاب "الأقوال السيبيليّة" سنة 82 ق. م. في حريق الكابيتول في رومة. فأعيد تكوينها في يونانيّة قديمة مصطنعة. وأخذت الدعاية اليهوديّة بهذا الفنّ المرتبط بالعرافة الوثنيّة المتحدّثة عن رجوع عصر ذهبيّ، فجعلت من سيبيلة ابنة نوح وهي نبيّة وثنيّة تشبه الملهَمين في الكتاب المقدّس. في المجموعة الحاليّة المؤلّفة من 12 نشيدًا تعود الأناشيد 3- 4- 5 إلى أصل يهوديّ. ويُزاد على كلّ هذا مقاطعُ محفوظةٌ عند الآباء. ولكنّ قصّة المؤلَّف لا تتوقّف هنا، لأن المسيحيّين حوّروا في النصوص ليجعلوا سيبيلة تخدم رجاءهم الخاصّ. وهكذا عرف الأدب الجليانيّ اليهوديّ والمسيحيّ توسّعًا مهمًّا في هذا الخطّ. لم تكتف سيبيلة بأن تعلن وحدانيّة الله، بل حُكْمَ الله على العالم الوثنيّ، ومجيءَ المسيح. فلعبت في إطار الأدب الإسكندرانيّ دورًا مماثلاً لذلك الذي لعبه أخنوخ في فلسطين. متى دوّن النشيد الثالث؟ في عهد بطليموس السابع (145- 117 ق م) أو في منتصف القرن الأوّل ق م، وفي محيط الإسكندريّة. أمّا النشيد الرابع الذي يستعيد نظريّة الممالك الكبيرة الأربع (رج دا 2: 1 ي؛ 7: 1 ي) فقد دوِّن بين سنة 79 وسنة 88 ب م وهو ينتهي بالحديث عن الدينونة دون التلميح إلى المسيح. ويجعل النشيدُ الخاسر مصيرَ شعب إسرائيل في قلب التاريخ العالميّ. دوِّن بين الثورتين اليهوديتين (70، 135 ب م) فدلّ على يقظة الروح الوطنيّة. ولكنّ الأوساط المسيحيّة روّجت لهذه المجموعة باحثة فيها عن نبوءة وثنيّة تدلّ على المسيح الآتي.
وهناك شعراء يهود نشروا في الإسكندريّة مؤلّفات مستوحاة من الكتاب المقدّس. ولكن لم يبق لنا منها إلاّ نتف بفضل أوسابيوس القيصريّ. ففيلون القديم (عرفه يوسيفوس أيضاً) دوَّن قصيدة من 14 نشيدًا لمجد أورشليم في أواسط القرن الثاني ق م. ولم يبق لنا من قصيدة تيودوتيس إلاّ مقطع واحد يمجّد معبد شكيم في خطّ تك 33- 34. قد يكون تيودوتيس سامريًّا، وقد يكون الحديث عن شكيم قريبًا ممّا نقرأه في "وصيّة لاوي" التي دوِّنت في الآراميّة في القرن الثالث ق م. ونشر شاعرٌ اسمه حزقيال مأساةً عن الخروج بقي لنا ربعها. لم يكن حزقيال من مصر لأنّه يجهل جغرافية البلاد. قد يكون دوَّن مأساته حوالي السنة 200 ق. م. انطلق من التوراة اليونانيّة وكيَّف النصوص مع ما أخذه من مواضيع دينيّة في العالم الهلّينيّ.

ثالثًا: حكماء، أخلاقيّون، فلاسفة
ترتبط الروايات التي ذكرناها بالأدب الحكميّ الذي يعود إلى تقليد قديم في مصر وبلاد الرافدين وفينيقية وإسرائيل. ولكن تمّ تداخل بين هذا الأدب والفلسفة اليونانيّة، وقد كان اللقاء بينهما في مصر. وهذا ما نكتشفه في سفر الحكمة وغيره.
يحمل "سفر المكابيّين الرابع" عنوانًا آخر في بعض المخطوطات: سلطان العقل. إنّه مقالة فلسفيّة بشكل خطبة وهو يشبه ما نجده عند الرواقيّين. إنطلق الكاتب من مثل الشهداء (أليعازر والإخوة السبعة) المذكورين في 2 مك 6: 18- 7: 42 فبيّن أنّ العقل المتّحد بالتقوى يتغلّب على الرغبات. ولكنّ الفكر الذي يتوسّع فيه هو فكر يهوديّ. وهو يتحدّث عن خلود النفس وقيمة الاستشهاد التكفيريّة. قد يكون دوِّن في القرن الثاني ب م وفي جماعة أنطاكية اليهوديّة.
وهناك "حكمة مناندريس المصريّ" المعروفة في اليونانيّة وفي السريانيّة. إنّها تتألّف من أقوال عمليّة ذات وجهة أخلاقيّة. ولكنّ الكاتب يؤمن بإله واحد. هو لا يتبع الرواقيّة ولا الهرماسيّة ولكنّ بَعْضاً من نصوصه توازي نصوص بلوترخوس. كاتب هذه الحكمة وثنيّ من خائفي الله وقد دوَّن كتابه حوالي القرن الثالث ب م.
أقحمت "أقوال فوقيليديس" جزئيًّا في الكتاب الثاني من "الأقوال السيبيليّة" فجاء تعليمها قريبًا من تعليم أسفار موسى والأمثال. كاتبها يهوديّ هلّينيّ أو يونانيّ مرتدّ عرف الفلسفة الشعبيّة المرتبطة بأفلاطون والرواقيّين، ولكنّه اتّجه اتّجاهًا أخلاقيًّا. دَوَّنَ كتابَه في القرن الأوّل أو القرن الثاني ب م.
تأثّرت الرسالتان الرابعة والسابعة المنسوبتين إلى هيراقليط الأفسسيّ بالفكر الرواقيّ والكلبيّ كما اتّصلتا بالتوراة. دوَّنهما في القرن الأوّل ب م أحد الكتَّاب اليهود.
ونقل آباء الكنيسة "إيرادات أرسطوبولس" التي تحاكي أسلوب الأساطير المقدّسة في العالم الوثنيّ، والتي تُنْشِدُ الإله الواحد مستعينة بقصائد يونانيّة.

4- فيلون الإسكندرانيّ
ولد فيلون في سنة 13 ق م من عائلة غنيّة أمّنت له تربية يهوديّة متقنة وثقافة هلّينيّة رفيعة. وهكذا كان فيلون أشهر ممثّل للعالم اليهوديّ في الاسكندريّة. حاول أن يكوِّن شميلة أصيلة بين الفكر البيبليّ الذي تجذّر إيمانُه فيه، وبين الفكر الفلسفيّ الانتقائيّ الذي تسيطر عليه الأفلاطونيّة والرواقيّة والبيتاغوريّة الجديدة. إنّه رجل تأمّل وصلاة، وقد بحث في الكتاب المقدّس، ولاسيّما في البنتاتوكس، عن نقطة إنطلاق لتأمّل يترجمه في لغة محيطه الثقافيّ العاديّة. وهكذا بنى نهجًا فلسفيًّا حقيقيًّا أخذ مواضيعه من التوراة. كان المعلّم، بين تلاميذ، وكان أيضاً صاحبَ المسؤوليّات العمليّة والمدافعَ عن مواطنيه. وهو لم يكتب فقط دفاعه عن اليهود الذي احتفظ لنا أوسابيوس القيصريّ ببعض مقاطع منه، بل قاد إلى رومة بعثة تطالب بالعدالة بعد مجزرة سنة 38 وتصرّفات والي مصر فلاكوس التعسّفية. هذا ما نعرفه من مقالٍ "إلى فلاكوس" (دوّن بعد عزل وموت هذا الوالي) ومن خبر "بعثة إلى كايوس" (أي الإمبراطور كاليغالا)، وهما كتابان دوَّنهما وهو في الستّين من عمره. بعد هذا لا نعرف شيئًا عن فيلون.
مؤلّفات فيلون كثيرة. مقالاته الفلسفيّة (عن فساد العالم، عن العناية، عن نفس الحيوانات، عن حرّيّة الإنسان) هي ملفّات مدرسيّة أجملَ فيها التعليم الذي تلقّاه. أمّا فكره الشخصي فنجده في تفاسيره عن البنتاتوكس الذي قرأه في اليونانيّة. وهي تتنظّم في ثلاث فئات. "إستعارة الشريعة" هي صدى لكرازته في المجمع. "عرض الشريعة" يتضمّن عدة مقالات ويحاول من خلال هدف دفاعيّ أن يتّصل بالمجتمع المثقَّف في الإسكندريّة. وأخيرًا "الأسئلة" عن سفر التكوين وسفر الخروج تجيب على صعوبات خاصّة. بما أنّ الإيمان اليهوديّ المغذّى بالكتاب المقدّس، هو في نظر فيلون الفلسفة الحقّة، فلا تمييز بين ميادين المعرفة والفنون الأدبيّة. وداخل النهج الذي يبنيه تجد عناصرُ الإيمان اليهودي والأخلاق ترجمتَها في خطبة فلسفيّة تلعب فيها الانتقائيّة الدور الرئيسيّ. وحدانيّته هي بيبليّة وأفلاطونيّة. الله هو الكائن السامي فلا يدركه العقل البشريّ. ما استطاع أن يتّصل مباشرة بالمادّة فاستعان بوسطاء من أجل عمل الخلق وتدبير الكون، هم العقول أي القوى الفاعلة الشبيهة بمُثُل أفلاطون والديناميّات الرواقيّة. إنّ أعظم العقول وأسماها هو اللوغوس والعقل الأصليّ الذي هو ظلّ الله وصورته ونموذج كلّ المخلوقات والقوّة السامية التي تشكّل صلة وصل بين الكائن المطلق وخلائق العالم المحسوس. بهذا اللوغوس ترتفع النفس البشريّة إلى الله وتُدركه في تأمّل عقلانيّ وروحانيّ.
ليس الكتاب المقدّس حجّة من أجل تفاسير أنطروبولوجيّة وأخلاقيّة، إنّه في قلب إيمانه. إلاّ أن التقاءه بالحضارة الهلّينيّة دفعه إلى الأخذ باللغة للتعبير عن هذا الإيمان. من هذا القبيل يبدو فيلون لاهوتيًّا وفيلسوفًا معًا. إنّ موسى يبقى له نموذجَ الحكيمِ والملكِ والمشترعِ والكاهن والنبيّ. ولكنّه يكتشف من خلال التاريخ المقدّس تعليمًا يوجّه حياته كحكيم. هو لا يُفرغ العالَمَ اليهوديّ من مضمونه الأصيل، بل يعطيه قيمةً جديدة وسط محيط مملوء بالنظريّات العلميّة.
كان فيلون معاصرًا ليسوع والبدايات المسيحيّة، ولكنّه عاش بعيدًا عن العالم الفلسطينيّ. فهل يمكن أن يكون له تأثير على بعض كتّاب العهد الجديد؟ لا ننسى أنّ لوقا يشير إلى وجود "مجمع الإسكندرانيّين" في أورشليم (أع 6: 9). ولكنّ أعضاءه رفضوا كرازة إسطفانُس الهلّينيّ. ومن المعقول أن يكون أبلّوس (أصله من الإسكندريّة، أع 18: 24) قد اتّصل بمحيط سيطر عليه فيلون. وإنّ القدّيس بولس لجأ إلى الاستعارة، فأخذ بأسلوب فيلون، ولكن هذا الاسلوب لم يكن وقفًا على فيلون. واستعمل يوحنّا لفظة "لوغوس" أي الكلمة، ولكنّ هذا الاستعمال يتعدّى فلسفة فيلون. يبقى أن نقول إنّ فيلون أثَّر أكثر ما أثّر على آباء الكنيسة ففتح الطريق أمام أسلوب تأويليّ أخذ به إكلمنضوس الإسكندرانيّ وأوريجانس وغيرهما.

د- الفكر اليهوديّ في زمن المسيح
كان العالم اليهوديّ في القرن الأوّل المسيحيّ مليئًا بالتحرّكات. فالأفكار والممارسات تتزاحم فتكاد تصل بالمجتمع اليهوديّ إلى التفتّت. ومن هذا الغليان وُلدت شيع مرذولة مثل الكنيسة المسيحيّة. لم يعرف العالم اليهوديّ في ذلك الوقت عقائدَ محدّدة (كما في الكنيسة) ولا مركزًا يعترف به الجميع ويُقِرُّون بسلطته في المجال الدينيّ. لم يكن هناك إلاّ التوراة. فالفكر حيّ ومتنوّع حسب المحيطات والحركات الدينيّة. فلا نستطيع أن نقدّم شميلة. ثمّ لن نعارض بين العالم اليهودي في فلسطين والعالم اليهوديّ في الشتات. فالعالم الهلّينيّ ولج فلسطين، وتأثير إسرائيل وصل إلى أبعد الأقطار. ولن نحجب بعض العناصر لنُبرز الجديد في الإنجيل، ولن نمزج بين الفكر اليهوديّ قبل دمار الهيكل والفكر اليهوديّ (أو الرابّانيّ) بعد دماره. ولن نتكلّم عن أرثوذكسيّة يهوديّة متمثّلة بالتيّار الفرّيسيّ تاركين جانبًا تيّارات تعتبر هامشيّة. فاليهود يتميّزون عن الوثنيّين بممارساتهم الغريبة (الختان، راحة السبت)، وبموقفهم حيال إله العهد والشريعة ومعتقدات متنوّعة تشير إلى الأرواح والدينونة والعالم الآخر.

1- الله، العهد، الشريعة
أولاً: الوحدانيّة اليهوديّة
سأل الكاتب يسوع عن أكبر الوصايا فأجاب يسوع موردًا تث 6: 4: "إسمع يا إسرائيل، الربّ إلهنا هو الربّ الواحد" (مر 12: 28- 29). هذا هو فعل الإيمان الوحدانيّ الذي يردّده المؤمن مرّتين في النهار في صلاة "شماع" أي إسمع. ففي المجامع وخلال القرن الأوّل، كانت تلاوة الوصايا العشر تسبق هذه الصلاة مشدَدة على موضوع الله الواحد. والتطلعّ إلى أنَّ إله إسرائيل هو الرب الواحد طبع ذلك العصر بطابع حاسم وسط عالم يعجّ باللامبالاة الدينيّة وتهدّده عبادة الأوثان. ورفض اليهود الصور والتماثيل، وأنكروا الآلهة الغريبة فاتُّهِموا بالملحدين (تاقيتوس، بلينوس، يوفينال).
وكانت نعوت ترافق اسم الله الواحد فتشدّد على تساميه وعلى تسلّطه على الكون والتاريخ: الله هو العليّ، القدير، القدّوس، العادل، الرحوم. هو يعرف مسبقًا كلَّ شيء، ويوجِّه الكون حسب مخطّطه. وليست هذه العبارات ثمرة استنتاجات عقليّة. إنّها تعكس الخبر الدينيّة لدى اليهود في ذلك العصر. لم يكن العالم اليهوديّ في زمن يسوع عالَمًا منحطّاً على المستوى الدينيّ. بل إنّ فكرة تسامي الله برزت بصورة خاصّة في تعظيم قداسته (والقداسة تشدّد على الانفصال والبحث عن وسائل تطهير ورجوع إلى البرّيّة) وفي التهرّب من التلفّظ بكلمة يهوه، فاستعملوا مكانها كلمة "كيريوس في اليونانيّة وأدوناي (السيّد) في فلسطين. واستعملوا ألفاظاً مثل القدرة، المبارك (مر 14: 61- 62) الاسم، المقام، الحضور (شكينة أو السكن) الكلمة (ممرا). ولا ننسى أنّ يوحنّا يسمّي يسوع الكلمة الذي سكن بيننا (يو 1: 14).
وهذا الاهتمام بالتسامي الإلهيّ دفع اليهود إلى الإكثار من الوسطاء بين الله والبشر: الملائكة، وبعض صفات إلهيّة اعتبرَتِ الله مثل عامل يتمتعّ بشخصيّة خاصّة. هناك الروح (أو روح القداسة)، والحكمة التي أبرزها الأنبياء والحكماء في العهد القديم. وهكذا زالت كلّ العبارات التشبيهيّة الأنتروبومورفيّة مع المحافظة على الشعور بأنّ الله قريب من الإنسان. وهكذا ستُصبح الحكمة المولودة منذ البدء مهندس الخلق، وستُعتبر الشريعة الأداة التي بها خلق الله العالم. وصارت "شكينة" (السكن) و"ممرا" (الكلمة) وكأنّهما أقنومان.

ثانيًا: العهد والشريعة
نتطلعّ عادة إلى العالم اليهوديّ وكأنّه ديانة شرعيّة دقيقة ينعشها الكتبة بعقليّة قانونيّة وشكلانيّة. ونبرهن عن هذا انطلاقًا من المجموعات السلوكيّة (هلكه) في القرن الثاني وما بعده (مشناة، تلمود). ولكن حملت هذه "الهلكة" صدى جدالات الكتبة في المجامع التي كانت مدارس أيضاً. فهي لا تستنفد التعليم الحيّ المعطى في هذه المجامع أيضاً يوم السبت. فهناك أسفار منحولة مثل "القديميّات البيبليّة" و"باروك الثاني" و"عزرا الرابع" تقدّم لنا شهادة عن ديانة الآباء التي هي ديانة القلب المتشرّبة بتعليم الأنبياء. هل ننسى أنّ قراءة الأنبياء فرضت نفسها في المجامع (أع 13: 15). ثمّ إنّ موضوع العهد ظلّ في قلب الفكر اليهوديّ. ولكنّ ديانة العهد صارت ديانة الشريعة، والأمانة لله قيست بالأمانة للشريعة.
كانت عهود الآباء، ولاسيّما عهد سيناء، تذكّر المؤمن باختيار إسرائيل، بقداسة الله، بمجّانيّة نعمته وبمعنى الخطيئة، وكان إسرائيلُ الشعبَ المختار وقطيعَ الله وكَرْمَه. ثمّ إنّ الكون خُلق من أجل إسرائيل، وقد يزول الكون قبل أن تزول إسرائيل. ويعبِّرون عن هذا الاختبار العميق للاختيار الإلهيّ بصلوات الفرح والأناشيد والمدائح، ويدلّون عليه أيضاً بحركتين متناقضتين. من جهة دفعت روحُ قداسة الله والاختيارُ بني إسرائيل إلى الانغلاق على ذاتهم وإلى رفض الوثنيّين والخطأة رفضًا قاطعًا. ففي داخل المجتمع اليهوديّ أدّت محرَّمات الطهارة الطقسيّة إلى أن تنغلق النخبة الدينيّة على أفرادها وأن تتكاثر مجموعات الطهارة مثل أهل قمران والفرّيسيّين. ومن جهة ثانية، إذا وضعنا جانبًا جماعة قمران، فروح الاختيار دفع إسرائيل ليكون الكبش الذي يسير ويقود القطيع الذي هو العالم. فالله لا يحابي الوجوه، وعلى إسرائيل أن يحمل الحقّ إلى الأمم (أش 42: 1؛ حك 18: 4؛ روم 2: 19)، وعلى الكون كلّه أن يجد الحقيقة. هنا نفهم الجهود الذي قامت به بطريقة خاصّة الجماعات الفرّيسيّة في الشتات، فجلبت إليها خائفي الله والمرتدّين (مت 23: 13). ولقد أثمر هذا المجهود فاستفادت منه الديانة المسيحيّة.
أعطيت الشريعة لجماعة العهد المقدَّسة والمرتبطة ارتباطاً وثيقًا بموسى، والتي تمثّل نموذج كلّ المجامع، أعطيت لجماعة البرّيّة التي يتحدّث عنها أع 7: 38. فشريعة سيناء هي نور وهي سراج إسرائيل. إنّها حياة، وتمثّل شجرة الحياة، وهي طعام مَنِّ البرّيّة. وُجدت منذ أيّام آدم (حك 17: 4- 11)، وقد وُضع الإنسان في عدن لكي يعتني بها. جاءت كلُّها من عند الله. ولكنّ البعض شَكُّوا بهذا أو ذاك من عناصرها، كما شددّوا على حضور الملاك كوسيط عندما أعطيت الشريعة (أع 7: 38؛ غل 3: 19). ولكن سيكون جدال: لمن السلطة لتفسير الشريعة وتأوين مقرّراتها؟ قال الصادوقيّون: الكهنة هم الذين يعطون بسلطانهم الخاصّ المقرّرات التي تتكيّف والساعة الحاضرة. وقال الفرّيسيّون: هم الكتبة الذين اعتادوا على التعامل مع النصّ الملهم.

2- عالم الأرواح: الملائكة والشياطين
أوّلاً: الملائكة والأرواح
تتحدّث الأسفار التي ما بين العهدين عن الملائكة وتُكْثِرُ من ذكرهم في سفر أخنوخ مثلاً. ما هو سبب هذا التوسّع في عالم الملائكة أيّام الفرس واليونانيّين؟ هناك أسباب مختلفة. أوّلاً: تأثير الديانة الإيرانيّة التي تشدّد على التناقض بين الأرواح الخيّرة والأرواح الشرّيرة. ثانيًا: اهتمّ المؤمن بتسامي الله وعظمته، فأكثرَ له الخدّامَ والوسطاءَ في السماء. ثالثًا: تعطّش المؤمن إلى المعجزات، فشدَّد على قبضة الله على التاريخ، وأعلن عنايته، وكشف عن قصده بواسطة الملائكة.
لم يكن الصادوقيّون يشدّدون على العناية الإلهيّة، ولا كانوا يقبلون بإمكانيّة وحي جديد، لهذا رفضوا الملائكة والأرواح ما عدا ماء تقوله التوراة نفسها (أع 23: 8). ولكن توسّعَ الحديثُ عن الملائكة في المحيطات التي تقبل بالثنائيّة وبالإيحاءات الباطنيّة كما في قمران. "فقاعدة الجماعة" يسودها موضوع الروحَين: من جهة، روح الحقيقة والنور أو ملاك الحقيقة. ومن جهة ثانية، روح الشرّ أو ملاك الظلمة. وفي أخنوخ الأوّل يكشف الملائكة عن أسرار الله الخفيّة. وإنّ اسم الملائكة كان جزءًا من تعاليم الإسيانيّين السرّيّة.
كان الشعب يعتقد بالملائكة في فلسطين. وإن فيلون يقول بوجود الكائنات اللاجسديّة. ويتكلّم عنهم فيلون المزعوم ويعطيهم وظائف هامّة، منها إعلان ولادة موسى، وخدمة شعب إسرائيل، والتشفّع والمديح. ولكنّه يعطي الملائكة أسماء غريبة (نجائيل، زرويل، فداهيل، نتنائيل). ويذكر باروك الثاني الملائكة ولا يسمّيهم (ما عدا الملاك رامئيل الذي يرئس الرؤى). ولا يذكر عزرا الرابع إلا أوريائيل وإرميائيل. ولقد خاف التلمود من هذا التجاوز فأورد هذا الكلام بلسان الربّ: "في الخطر لا يدعو الإنسان ميخائيل أو جبرائيل. إنّه يدعوني فأجيبه". وفي هذا المعنى رفض بولس الرسول (كو 2: 18- 19) عبادة الملائكة وحذَّر من الرؤى الكاذبة.
هذا التنوّع في الفكر سبَّب تنوّعًا في الأسماء. أكثر الأسماء المذكورة: ميخائيل، جبرائيل، رفائيل (طو 5: 4)، أوريائيل. وتتنوّع مهمّات الملائكة: يدبّرون عناصر الكون، يقودون الأمم ويخدمون إسرائيل، يكشفون أسرار الله، يتّهمون، يدافعون، يحمون الابرار، يعاونون النفوس. وهناك الملائكة الذين يقومون بالخدمة الليتورجيّة فينشدون مدائح السماء أو يرافقون ليتورجيّات أبناء العهد.

ثانيًا: الأرواح الشرّيرة والشياطين
كانت الأمور معقّدة حين تكلّمنا عن الملائكة وستكون أكثر تعقيدًا حين نتكلّم عن الأرواح الشرّيرة. هناك أرواح الشرّ والملائكة الساقطون والخاضعون لرئيس الشياطين. فالأرواح الشرّيرة خُلقت في اليوم الثاني (مثل سائر الأرواح) وهي تنتظر فريسةً مريضةً لتنقضَّ عليها. لهذا نحتاج إلى التعزيم والرقية. أمّا أصل الأرواح الشريرة فيرتبط بأصل الملائكة الساقطين، بأصل الساهرين أو أبنائهم، بأصل الجبابرة الذين ولدوا لأبناء الله (تك 6: 2- 4). وتتوسّع الكتب (اليوبيلات، وصيّات الآباء الاثني عشر، وثيقة دمشق) بخبر هذا السقوط. هذه هي قوى الظلمة التي هي أدوات رئيس الظلمة المسمىّ عزازيل في أخنوخ، ومستاما في اليوبيلات، وبليعال في قمران ووصيّات الآباء. ولقد تكلّم الحكماء الفرّيسيّون في القرن الأوّل المسيحيّ عن الأبالسة كما تكلّموا عن الشيطان خصم البشر ومتّهمِهم أمام الله. وسيفضِّل الكتبة أن يتحدّثوا عن الميل الشرّير الذي يبعدنا عن الشريعة، لا عن قوى خارجيّة. وسيكون العهد الجديد أقرب إلى المعتقدات الشعبيّة منه إلى التحفّظات الفرّيسيّة. ولكنّه لا يحمل شيئًا جديدًا من الوجهة العقائديّة. هو يتكلّم لغة زمانه مستعيدًا التصوّرات الشائعة. ولكنّ هناك نقطة يتّفق عليها الجميع: ستزول سلطة الشرّ كلّيًّا في نهاية الأزمنة. ويزيد العهد الجديد: بقوّة المسيح المخلّص.

3- المسيحانيّة والإسكاتولوجيا
أوّلاً: المسيحانيّة
نلاحظ في الهزات السياسيّة والدينيّة في القرن الأوّل وساعة أحسّ الناس أنّ النهاية ومُلك الله قريبان، نلاحظ كثيرًا من التخيّلات الإسكاتولوجيّة المرتبطة بالموضوع المسيحانيّ. ولكن تبقى المسيحانيّة مميّزة عن الإسكاتولوجيا. نحن نتكلّم عن المسيح وعن الرجاء المسيحانيّ حين يكون هناك شخص ممسوح. فكلمة "ماسيّا" تقابل العبريّة مشيح الذي يعني الممسوح بالزيت. كلّ هذه الكلمات تنطبق على كائن مطبوع بالمسحة وتشير إلى كاهن أو إلى ملك من نسل داود.
لا تتكلّم آداب ما بين العهدين كثيرًا عن المسيح، ولم يكن الانتظار المسيحانيّ شاملاً في القرن الأوّل. لا شكّ في أنّ الشعب انتظر مجيء ابن داود ليخلّص إسرائيل. وعزا يوسيفوس حرب سنة 66- 70 إلى نبوءة ملتبسة وُجدت في الكتب المقدّسة، وأنبأت اليهود في ذلك الوقت بأنّ رجلاً من بلادهم سيكون سيّد الكون: عنى يوسيفوس بذلك الإمبراطور فسباسيانس. ثمّ إنّ لقب "ابن داود" المعطى ليسوع يشهد على هذا الاعتقاد الشعبيّ (مر 10: 47؛ 11: 10؛ 12: 35؛ روم 1: 3؛ 15: 12). ولكن إذا وضعنا قمران جانبًا، فذكر المسيح قليلٌ جدًّا وسيكثر عند مجيء الرومانيّين (مزامير سليمان) أو بعد دمار الهيكل.
في كتاب الأحلام الذي هو جزء من سفر أخنوخ، يلد "ثور أبيض" وسط الجماعة المولودة جديدًا. وتذكر مزامير سليمان المسيح بصورة واضحة. فكاتب هذه المزامير هو فرّيسيّ، وقد شدّد على طهارة حياة المسيح وبرّه وحكمته، دون أن يشير إلى تساميه. وهناك اللوحة المسيحانيّة التقليديّة التي نجدها في الكتاب الثالث من "الأقوال السيبيليّة". أمّا بعد دمار الهيكل فيتحدّث عزرا الرابع وباروك الثاني عن المسيح الذي سيملك 400 سنة ثمّ يموت قبل نهاية الأزمنة. إذًا سيكون مُلكه قبل النهاية. من هذا القبيل يرتبط العهد المسيحانيّ بالتمثّلات الإسكاتولوجيّة. ولكن لا بدّ من التمييز بين المسيح الملك والنبيّ الإسكاتولوجيّ.
ما هو موقف المجموعات الفلسطينية من المسيح؟ قال الصادوقيّون: لا تتكلّم التوراة عن المسيح. الفريسيّون انتظروا الملك ابن داود ولكنّهم تحاشوا ذكر اسمه في أيّام حكم رومة. فيلون المزعوم: الله وحده هو الخلّص. لا تذكر "حياة آدم وحواء" المسيح. تتحدّث "وثيقة دمشق" عن مسيح كاهن وملك معًا. أراد القمرانيّون أن يعارضوا طموحات الملوك الكهنة الحشمونيّين (رج زك 4: 13) فقالوا بمسيحَيْن: "مسيح هارون" الذي هو على رأس كلّ جماعة إسرائيل "ومسيح إسرائيل" الذي يخضع للأوّل. وسيظهر المسيح الكاهن في "وصيّات الآباء الاثني عشر".

ثانيًا: النبيّ الإسكاتولوجيّ وابن الإنسان
وجدنا تعدّدًا في ما يخص المسألة المسيحانيّة، وسنجد تعدّدًا في الفكر اليهوديّ حول الأشخاص الذي سيلعبون دورًا في الانقلاب الأخير. سنجد بعض العناصر المتفرّقة التي اتّخذت أهمّيّة لأنّه أعيد استعمالها في العالم المسيحيّ. فحالاً قبل نهاية الأزمنة، يعود الرجال الذين اختطفهم الله إلى السماء، مثل أخنوخ وإيليّا والكاهن فنحاس، إلى الأرض لكي يموتوا. وينتظر الناس عودة إيليّا حسب ملا 3: 23- 24؛ سي 48: 10- 11؛ مر 6: 14- 16؛ يو 1: 21. ما هو دور هذا النبيّ العائد إلى الحياة؟ هل هناك علاقة بين النبيّ الإسكاتولوجيّ والمسيح؟ الشخصان مختلفان، ويذكر قمران النبيّ قبل مسيح هارون ومسيح إسرائيل. وهناك موسى الجديد أو النبي الشبيه بموسى (تث 18: 15) والذي يسمّيه السامريون "الثائب" أو الراجع، أو النبيّ الإسكاتولوجيّ. ويقول ترجوم أورشليم إنّ الكلمة (ممرا) ستعود من السماء على الغمام برفقة موسى والمسيح.
أمّا ابن الإنسان (من هو مثل ابن الإنسان: دا 7: 13- 14) فليس شخصاً مسيحيًّا (النسبة إلى مسيح) بالمعنى الحصريّ، بل صورة إسكاتولوجيّة تبدو بشكل رمزيّ. إنّه يجسّد إسرائيل المجدَّد الذي سيقترب على الغمام في نهاية الأزمنة. سيقترب من قديم الأيّام، ليتسلّم السلطان على الكون. يَعتبر عزرا الرابع أنّ شكل الإنسان هو الابن (لقب ملكيّ) والمسيح. وتتكلّم "القديميّات البيبليّة" عن" أبناء البشر" أو "صور البشر". وتشيرُ أمثال أخنوخ إلى ابن الإنسان كصورة إسكاتولوجيّة ترتبط بشخص أخنوخ.

ثالثًا: القيامة والحياة الأخرى
أنكر العالم الهلّينيّ الخلود، أمّا اليهود فاعتقدوا بالثواب والعقاب في الآخرة وبحياة سعيدة للأبرار. ولكن كيف التعبير عن هذه العقيدة؟ جعلوا الشيول قريبًا من فردوس النفوس. واختلفت الأنطروبولوجيا اليهوديّة عن الأنطروبولوجيا اليونانيّةِ فقالت الأولى بالقيامة والثانية بخلود النفس. إذا كان الإنسان البيبليّ نفسًا وجسدًا معًا دون تناقض ثنائيّ، فالاعتقاد بالحياة الأخرى يفرض فكرة قيامة الأجساد أي قيامة الإنسان كلّه.
ولكنّنا نجد في العالم اليهودي تيّاراتٍ مختلفةً، منها التيّار الذي يقول بخلود النفس من دون القيامة. لا شك في أنّ اختبار الاستشهاد في أيّام أنطيوخس الرابع إبّيفانيوس هيّأ الأفكار للقبول بحياة بعد موت (دا 12: 2). ولكنّ محيط الفرّيسيّين في فلسطين قَبِل بقيامة تصيب الجسد. أمّا الصادوقيّون فهم ينكرون ديمومة النفس بعد الموت، والعقاب والثواب في الآخرة. هذا ما يقول يوسيفوس عنهم مشوّهًا فكرهم الذي يقتصر على فكرة الشيول (مثوى الأموات) والحياة المنقوصة فيما بعد الموت. أمّا الإسيانيّون وأهل لهران فيقولون بالمجازاة وحياة الأنفس في الآخرة. ولكنّنا لم نجد في كتبهم نصّاً واضحًا عن قيامة الأجساد يرافقها تجديد كوني مع سماء جديدة وأرض جديدة (كما نجد في رسالة أخنوخ وكتاب اليوبيلات).
وإليك باختصار سيناريو الأحداث الأخيرة: حين تتمّ الأزمنة يُنفخ بالبوق فيسود الموت في كلّ مكان. وهذا الموت يكون عقاب الخطايا، والعقاب يصيب كلّ إنسان حيث أخطأ، والذين صعدوا إلى السماء مثل أخنوخ وإيليّا وعزرا نفسه يعودون إلى الأرض ليموتوا. غير أنّ باروك الثاني يعتبر أنّ الموتى يقومون وحدهم ليشهدوا للأحياء أنّ الموتى يَحيَون.
شغل مصيرُ الموتى قبل الدينونة بعضَ الأفكار. هذا لا يعني أنّ منظور دينونة قريبة وانتظار النهاية لفتا الانتباه إلى مصير الموتى. فيسوع نفسه لا يتكلّم عن هذا الموضوع إلاّ في مناسبة خاصّة (مر 12: 18- 27). ماذا يصيرون؟ هنا تتعدّد الأجوبة: ينزل الموتى إلى الشيول ولا فرق بين مصيرِ شرّيرٍ ومصيرِ بارّ. أو: ينفصل الروح عن الجسد ويعود إلى الله الذي اعطاه. أو: الله يأخذ نفس الأبرار ويجعَلها في الفرح والسلام والنور، في السماء الثالثة، في مستودع الأنفس. أمّا الأشرار فينالون أقسى العذابات حتّى يوم فنائهم.
وحين تتمّ الأزمنة تتقصّر الأيّام ويفتقد الله الكون: يعيد الشيول ما اسْتُودِعَ فيه ويُحْيي الله الراقدين. يعتبر أخنوخ أنّ الخطأة وحدهم يقومون ليُعاقَبوا، لأنّ نفوس الأبرار تنعم بالسعادة. وتتحدّث مزامير سليمان عن قيامة الأبرار فقط. وفي نهاية القرن الأوّل المسيحيّ دخلت فكرة القيامة العامّة عند الكتبة والفرّيسيّين. وهكذا صارت القيامة مقدّمة للدينونة الأخيرة: وظهر موضع العبور إلى الحياة والموت النهائيّين. هنا برز موضوع جديد: التحوّل الذي يصيب الأبرار. قال مر 12: 25: سيكونون مثل الملائكة في السماء. يرتدون ثوبًا جديدًا (2 كور 5: 2 ي). أو: سيتحوّلون بعضهم إلى بهاء ملائكيّ والآخرون سيُنسَون ويزولون. يموتون الموت الأخير أو الموت الثاني (رؤ 2: 11). وإنّ قيامة الموتى هي عند بولس الرسول وسيلة التوازن عند المؤمنين الموتى والأحياء (1 تس 4: 15- 17). أمّا في 1 كور 15: 51 فالمؤمنون لا يموتون كلّهم بل يتحوّلون. كلّ هذه المعطيات لا تسمح لنا بأن نقدم شميلة موحّدة. ولكنّنا نجد هنا عناصرَ عديدةً ستساعدنا على التحدّث عن الموت والمجازاة الفرديّة والقيامة العامّة والدينونة الأخيرة.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM