الفصل الأوّل: التاريخ اليهوديّ السياسيّ

الفصل الأوّل
التاريخ اليهوديّ السياسيّ

نقدّم هنا مسلسلاً عن الأحداث منذ الإسكندر الكبير (336- 323 ق. م) إلى الإمبراطور الرومانيّ أدريانس (117- 138).

أ- الإسكندر الكبير وخلفاؤه
1- الإسكندر الكبير (336- 323 ق م)
إعتلى الإسكندر، وهو شابّ ابن عشرين سنة، عرشَ مكدونية سنة 336 ق. م.
وفي سنة 334 قاد حملة على الفرس طالبًا احتلال الشرق. كانت سلالةُ الفرس الأخمينيّين تسيطر على السياسة الدوليّة منذ سنة 560، ولكنها بدت مُنهكةً وحلّ الضعفُ فيها. وهكذا احتلَّ الإسكندرُ كلّ المقاطعات الواحدةَ بعد الاخرى: آسية الصغرى، فينيقية، فلسطين، مصر، بلاد الرافدين وإيران وجزءًا كبيرًا من الهند. ترك البُنى الإداريّة والديانات الموجودة على حالها، وفرض الثقافة الهلّينيّة وتنظيم المدن على غرار المدن اليونانيّة.
في سنة 332 سار على الشاطئ الذي يربط سورية بمصر وكان هدفه السيطرة على البحر. احتلّ صور وغزّة بعد أن حاصرهما حصارًا طويلاً، ثمّ سيطر على مصر حيث أسّس مدينة الإسكندريّة سنة 331. يجدر القول إنّ المصرّيين تعبوا من سيطرة الفرس فاستقبلوا الإسكندر كمحرِّرٍ لهم. ثمّ إنّه لم تكن مواجهاتٌ بين جيوشِ مكدونيةِ وسكّان فلسطين اليهوديّة الذين انتقلوا من سلطة الفرس إلى سلطة المكدونيّين. وقد احتفظ المؤرّخ يوسيفوس (ومراجع أخرى، منها التلمود) بخبر لقاء الإسكندر بعظيم كهنة أورشليم. نحن هنا أمام أسطورة تشدّد على واقعين. الأوّل: تصرُّفُ الإسكندر المتسامح حيال العبادات المحلّية في كلّ بلد. الثاني: تفاؤُلُ اليهود الذين رأوا في الإسكندر وخلفائه الأوّلين أسيادًا شرعيّين على العالم أرسلتهم العناية الإلهيّة (رج ما قاله أش 44: 28؛ 45: 1 عن كورش الفارسيّ).
مع حكم الإسكندر بدأت ثورة حقيقيّة في علاقة اليهود باليونانيّين. قبل ذلك الوقت لم يكن أيّ حوار بين الشعبين. كانت مبادلاتٌ تجاريّة ولكن ظلّت مغفلة. وإنْ عرف اليهود ياوان (تك 10: 2، حز 27: 13؛ أش 66: 19...)، إلا أنّ اليونانيّين جهلوا حتّى اسم اليهود. وكان أحد أسباب التباعد المسافة اللغويّة. تكلّم اليهود الآراميّة (وبعضهم العبريّة) فاتّصلوا بالفرس والبابليّين والمصرّيين، لا باليونانيّين الذين عرفوا اليونانيّة فقط. ولكن ها إنّ وريث ملك الفرس، الإسكندر الكبير، يتكلّم اليونانيّة ويفرضها على كلّ مملكته من نهر النيل إلى نهر الهندوس (أو السند).
اليونانيّة المحكيّة بعد احتلالات الإسكندر هي اللغة الشائعة، لا اللغة الكلاسيكيّة، ولقد أخذ بها الموظفون والتّجار والمشترعون والخطباء والكتّاب. كانت اللغة الآراميّة اللغة الدوليّة، ففرضت نفسها في الدبلوماسيّة والجيش والتجارة إلى أن تغلّبت عليها اليونانيّة. ولكن ظلَّ كثير من الناس في سورية وبلاد الرافدَين وفلسطين ومصر يتكلّمون اللغة اليونانيّة دون أن يهملوا اللغة الأمّ. وتُرجمت التوراة إلى اليونانيّة، ودوِّنت كتب يهوديّة في اللغة اليونانيّة، كما دُوِّنَتْ في هذه اللغة عينها كلُّ أسفار العهد الجديد.
في صيف سنة 331 دخل الإسكندرُ بابل بعد أن تغلّب على آخر ملوك الأخمينيّين داريوس الثالث (الذي هرب ثمّ قُتل سنة 330). دامت حملات الإسكندر في الشرق ثماني سنوات. وتوفيّ هذا القائد سنة 323 قبل أن يسمح له الوقت بأن يؤسّس سلالةً تتابع عمله. فكان هذا سببَ حروبِ الخلافةِ التي أندلعت بعد موته.

2- خلافة الإسكندر: الممالك الهلّينية الكبيرة.
ضمّ الإسكندر في مجموعة سياسيّة وإداريّة واحدة، مكدونية واليونان وكلّ مملكة الفرس وجزءًا من الهند. فكان من الصعب على رجل واحد أن يحكم مثل هذا العالم الواسع والمتنوّع. حاول أخو الإسكندر من أبيه وابنُه المولودُ من روكسان الإيرانية أن يحكما هذه المملكة الشاسعة الأطراف، ولكن قُتل الواحدُ بعد الآخر. وبدأ قوّاد الإسكندر وحكّام المقاطعات حربًا للاستيلاء على السلطة، فقرّر السلاحُ من سيَخلفُ الملكَ العظيم. أُعطيت مكدونية لأنتيبتروس الذي توفّي سنة 319، ومصر لبطليموس الأوّل سوتر (أي المخلّص) ابن لاجوس وأشهر قوّاد الإسكندر. قبل بطليموس بمقاطعة مصر سنة 323 وأعلن نفسه ملكًا سنة 306 وأسّس سلالة اللاجيّين. توفّي سنة 283. وتسلّم ليسيماكيس تراقية (جنوبي أوروبّة) ولكنّه قتل سنة 281. وتسلّم أنطيغونيس (الملّقب بالأعور) آسية الصغرى. أعلن نفسه ملكًا سنة 306 وقُتل في حرب الحلافة الرابعة سنة 301 في إبسوس. وأُعطيت بابل لسلوقس الأوّل نيكاتور الذي ساعد بطليموس سنة 312 في غزّة على ديمتريوس ابن أنطيغونيس. وبعد أن انتصر عاد إلى عاصمته بابل فدشّن عهدًا جديدًا هو العهد السلوقيّ وأسّس سلالة السلوقيّين. توفّي سنة 281.
ولم تهدأ الصراعات المسلّحة بين خلفاء الإسكندر، فشكّلت لحمة التاريخ اليونانيّ والتاريخ الشرقيّ سحابة نصف قرن. نسي هؤلاء القوّاد فِكَرة مملكة واحدة موحّدة، وتخلَّوا عن السياسة الشاملة، ونظَّم كلّ واحد مملكة حاولت أن تعيش مع جيرانها. إلاّ أنَّ الحضارة الهلّينيّة ظلَّت هي القاسم المشترك رغم كلّ الخلافات وفوق كلّ الحدود.
بدأت حقبة خلفاء الإسكندر سنة 323، وامتدّت إلى سنة 281 يوم تُوفّي آخرهم، وهو سلوقس الأوّل، مقتولاً. وتنظّمت ثلاث ممالك هلّينيّة: مكدونية وملكها أنطيغونيس، حفيد أنطيغونيس الأعور. دامت مملكته حتّى سنة 146 ق م يوم احتلّها الرومان. مصر وملكها بطليموس الثاني فيلدلفيس (282-246). وضع الرومان حدًّا لسلالة اللاجيّين بعد معركة أكسيوم في اليونان سنة 31 ق م وموت كليوبترة. سورية وأسية الصغرى، حكها أنطيوخس الأول سوتر (281- 261). وضعت رومة حدًّا لحكم السلوقيّين سنة 64 ق م.
سيحدِّد الاقتسامُ سياسةَ الشرق الأوسط مدّة طويلة. ولكن حين يصل الفراتيّون من الشرق، والرومان من الغرب إلى آسية الصغرى ومصر وسورية وفلسطين، سيبدّلون بنية العلاقات المقامة هناك. أمّا وضع يهود فلسطين فتبع تطّور العالم السياسيّ والثقافيّ الذي تضامن معه.
في أيّام خلفاء الإسكندر خرج اليهود من عزلتهم، فما عادوا مجهولين. وحوالي السنة 300 عرفهم كتّاب اليونان وكتبوا عنهم تدفعهم إلى ذلك فضوليّة متعاطفة. أوّل من ذكرهم كان تيوفرستيس أعظم تلاميذ أرسطو. وتحدّث عنهم ميغاستينيس سفير سلوقس الأوّل في الهند. واستنبط كلياركيس حوارًا بين أرسطو ويهوديّ أخذ باللغة والفلسفة الهلّينيّة فجعل اليهود يتحدّرون من فلاسفة الهند. ودوَّن هاكاتيس (وهو يونانيّ صار مصريًّا) أقدم خبر عن الجذور اليهوديّة نجده في الأدب اليونانيّ.
انتقل سكّان فلسطين اليهود من إدارة الفرس إلى إدارة المكدونيّين فلم يتبدّل شيء في ظروف حياتهم. كانت اليهوديّة محافَظةً في مقاطعة "ما وراء النهر" وقد حكها أحد ضبّاط الإسكندر، لأوميدون. ولكنْ عَزَلَه سنة 320 بطليموس ملك مصر العتيد. فكان هذا العمل بداية سلسلة من الحروب من سنة 320 إلى سنة 301 بين مؤسّس اللاجيّين وأنطيغونيس. لم تكن فلسطين غريبة عن هذه المجابهات ولا محايدة. ولهذا، وبعد انتصار بطليموس في غزّة سنة 312 ذهب إليه طوعًا أهل اليهوديّة وأورشليم (كما يقول يوسيفوس). وفي معركة أبسوس سنة 301 انتصر حلفاء ملك مصر (ومنهم سلوقس) على أنطيغونيس. فصار بطليموس سيّد فينيقية وفلسطين. وسيظلّ كذلك حتّى سنة 200 إلى أن يطرده من هناك السلوقيّ أنطيوخس الثالث الكبير (222-187) بمساعدة اليهود. ويجدر القول إنّه خلال هذا القرن من الاحتلال، كانت فلسطين مسرحًا لمجابهات عديدة بين اللاجيّين (في مصر) والسلوقيّين (في سورية). لقد قام ملوك مصر خلال كلّ القرن الثالث بخمس حروب على ملوك سورية الذين أرادوا أن يمدّوا سلطانهم على البحر المتوسّط. في الحرب السوريّة الأولى (274- 271) حارب بطليموس الثاني أنطيوخس الأوّل. وفي الحرب السوريّة الثانية (260- 241) حارب بطليموس الثالث سلوقس الثاني. وفي الحرب السوريّة الرابعة (221- 217) حارب بطليموس الرابع أنطيوخس الثالث وانتصر عليه في رافيا. وفي الحرب السوريّة الخامسة (202- 195) قاتل بطليموس الخامس أنطيوخس الثالث وانهزم في فانيس.

3- أرض يهودا في عهد السلوقيّين (200- 164 ق م)
انتهت الحرب السوريّة الخامسة سنة 200 ق م بأنتصار أنطيوخس الثالث في فانيس، فكانت بذلك نهاية البطالسة في سوريّة وفي اليهوديّة. وأراد الملك السلوقيّ أن يدخل مصر، فتدخّلت رومة لتمنعه من ذلك. في ذلك الوقت وصل أنطيوخس إلى قمّة سلطانه بعد أن نجح في حربه ضدّ الأرمن والفراتيّين، وقاد حملاته حتّى بلاد الهند، فسمّاه الخلفي "أنطيوخس الكبير". ولكنّه أخطأ خطأً فادحًا حين لفت انتباه رومة إليه وهو يطمح إلى السيطرة على آسية الصغرى واليونان. كما أنّه استقبل هنيبعل عدوّ رومة ودفعه إلى الأخذ بالثأر. أمّا الرومان فانطلقوا نحو الشطر الشرقيّ من البحر المتوسّط فقهروا فيلبّس الخامس المكدونيّ سنة 197 وأعلنوا "حريّة اليونانيّين". ثمّ بدأوا الحرب مع أنطيوخس فطردوه من اليونان ثمّ كسروه في مغنيزيا في بداية سنة 189 ق م. فتفاوض الفريقان من أجل الصلح في رومة ثمّ وافقوا عليه في أفامية سنة 188 وكانت بنوده قاسية ومنها: أن يدفع أنطيوخس في السنة 12000 وزنة مقسّطة على اثني عشر شهرًا. فأحسّ البيت السلوقيّ أنّه سائر إلى الخراب. حينئذ حاول ملك سورية أن يداوي الحالة السيّئة بأن يضع يده علىٍ أموال الهياكل التي كانت المؤسّساتِ المصرفيّةَ في ذلك الزمان. ولكنّه مات ميتة مُخْزِيَة في إحدى العمليّات الحربيّة سنة 187، وورث ابنه وخليفته سلوقس الرابع فيلوباتور (187- 175 ق م) دَينًا باهظاً. فتطلعّ إلى كنز هيكل أورشليم الذي كانت تغذّيه خاصّة عائلة الطوبيائيّين. إذًا، أرسل سلوقسُ مستشارَه هليودورس إلى أورشليم ليضع يده على الأموال المُودَعة. وكان قد اتّفق مع سمعان وهو موظّف كبير في الهيكل. ولكنّ هليودورسَ لم يقدر أن يصل إلى مبتغاه بعد أن قاومته قوى "عجائبيّة" كما يقول التقليد اليهوديّ (2 مك 3: 1- 40)، وطردته من المعبد. فعاد إلى سرية فارغ اليدين. ولكنّه سيَقْتُلُ سلوقسَ الرابع سنة 167 ليستوليَ على السلطة. ولكن نجت السلالة الملكيّة بفضل شقيق الملك المقتول، أنطيوخس الرابع أبيفانيوس (175- 164) الذي أعلن نفسه ملكًا بموافقة رومة. فابن أنطيوخس الثالث هذا كان قد سُلِّم كرهينةٍ بعد معاهدة مغنيزية. عاش في رومة فسُحر بالمدينة وبالحركة الهلّينية المزدهرة في الأوساط الدبلوماسيّة. جاء أنطيوخس من رومة وحلّ محلَّه كرهينة وليُ العهد ديمتريوس الأوّل العتيد.
حاول أنطيوخس الرابع أن يعيد تنظيم المملكة السلوقيّة. فبنى من المدن الجديدة أكثر ممّا بناه أسلافه كلّهم. وعمل على نشر الحضارة الهلّينيّة في كلّ مكان. أخذ بخطّ أبيه أنطيوخس الثالث في السياسة التوسّعيّة، واختلف عنه بالمحافظة على علاقات طيّبة مع رومة ومع حلفائه في آسية الصغرى. أمّا هدفه المباشر فكان وضع يده على مصر التي كانت في انحطاط مرج. حينذاك بدأت الحرب السوريّة السادسة (170- 168). كان بطليموس الخامس (205- 180) صهر بطليموس الثالث قد مات سنة 180. فتولّت أرملته كليوبّترة الأولى الحكم ولكنّها ماتت سنة 176. وفي سنة 170 أُعلن بطليموس السادس ملكًا فأشرك في الحكم أخته كليوبّترة الثانية وأخاه الأصغر بطليموس الثامن فيسكن. وفي تلك السنة عينها استولى أنطيوخس الرابع على كلّ مصر ما خلا الإسكندريّة وبدأت مفاوضات بينه وبين ابن أخته بطليموس السادس. حينئذ طرد الإسكندرانيّون بطليموس السادس وأعلنوا فيسكن وحده ملكًا. حاول أنطيوخس أن يعيد ابنَ أخته ولكنّه فشل وترك مصر سنة 169. ولكنّه عاد فاجتاح مصر سنة 168، ولمّا وصل إلى ممفيس أخذ لقب ملك مصر. وإذْ كان يستعدّ ليدخل الإسكندريّة أمرته رومةُ أن يترك أرض مصر فعاد إلى بلاده.

ب- المكابيّون والحشمونيّون
1- ثورة المكابيّين: متتيا ويهوذا (167- 160 ق م)
خلال أحداث مصر دخل أنطيوخس الرابع في صراع مع يهود أرض يهودا. فإطار أورشليم السياسي والاجتماعي كان إطار حرب أهلية بين المتعلّقين بالهلّينيّة والمعارضين لها. وسرت إشاعة أنّ أنطيوخس الرابع قد مات، فتدخّلَ ليُزيلَ كلّ بورة مضطربة قبل أن يهجم على آسية الصغرى. ضايق اليهودَ مضايقةً منتظِمةً وانتهى به الأمرُ سنة 167 إلى إلغاء الديانة اليهوديّة ليُزيلَ أسباب قرح خبيث. فأثار حربًا حقيقيّة قام بها ممثّلو الحزب اليهوديّ المتشدّد الذين سيخلَّدون باسم المكابيّين.
اندلعت الثورة المكابيّة سنة 167- 166 وحمل لواءها رجلٌ من عائلة كهنوتيّة اسمه متتيا. لجأ مع أبنائه إلى مودين، وهي ضيعة بين أورشليم ويافا، فكان لجوُءه نقطة انطلاق لحركة ستجعل من يهودا ثمّ من كلّ فلسطين مملكة واسعة الأطراف. ومات متتيا سنة 166، ولكنّه عيَّن قبل موته أبنه الثالث الملقّب بالمكابيّ (1 مك 2: 4) كخليفة له على رأس الثورة. كان يهوذا قائدًا حربيًّا لا مثيل له. ولكنّه مات سنة 160 وصار بطلاً وطنيًّا (زاحم الأسد أو الشبل في أعماله ومآثره: 1 مك 3: 4).
في ذلك الوقت كان أنطيوخس الرابع يحارب الفراتيّين، فأرسل ليسياس الحاكم العسكريّ للمقاطعات الشرقيّة ليوقف ثورة اليهود. استعمل يهوذا خطّة حرب العصابات فأنزل بالجيوش السلوقية خسائر متعدّدة (1 مك 3: 10- 4: 35). وبعد ثلاث سنوات من الثورة (أي سنة 164) استولى يهوذا على أورشليم (ما خلا القلعة أو أكرا) وطهّر الهيكل. وما زال اليهود يعيّدون في 25 كسلو (حوالي كانون الأوّل) عيد حنوكة أو تدشين الهيكل الجديد (1 مك 4: 59؛ رج يو 10: 22). ومات أنطيوخس الرابع في تلك السنة في فارس (1 مك 6: 1- 6). فأعلن ليسياس نفسه وصيًّا على الفتى أنطيوخس الخامس (164- 162) وقرّر معاقبة محاربي يهوذا. هاجمهم من أدومية فانتصر عليهم. ولكن نجت أورشليم وسكّانُها بفضل مزاحمة هدّدت عرش أنطاكية وليسياس نفسه. فعاد على جناح الساعة إلى بلاده. وإذ أراد أن يقوّي موقعه جعل المَلك يعلن الحريّة الدينيّة لليهود (1 مك 6: 55- 63).
ولكن في سنة 162 جاء من رومة أبن سلوقس الرابع الذي حلّ كرهينةٍ محلّ عمّه أنطيوخس الرابع. سمع نصيحة أصدقائه فجاء فجأة إلى أنطاكية وطالب بخلافة والده سلوقس الرابع الذي اعتبر أنّها اغتُصبت. قُتل أنطيوخس الخامس واعتلى العرش ابنُ سلوقسَ الرابع الذي سُمّي ديمتريوسَ الأوّل (162- 150). تحزّب مع اليهود الهلّينيّين وأرسل حملة جديدة على اليهود الثوّار بقيادة نكانور الذي ما عتّم أن قُتل (يحتفل اليهود بيوم نكانور). ولكن هاجمت أنطاكية يهودا مرّة ثانية فانتصرت عليه شمالي غربي أورشليم (1 مك 7: 9-22). مات يهوذا ومات كثيرون معه وسيطر على الوضع اليهود الهلّينيّون الموالون لأنطاكية.
كان يهوذا قد قام بمحاولات دبلوماسيّة بموازاة أعماله الحربيّة، فاتّصل برومة عدوّة السلوقيّين. ونحن نعرف اليوم رسالة بعث بها سنة 163 موفدون رومان أقاموا في سورية وعرضوا على اليهود أن يتدخّلوا من أجلهم لدى الملك السلوقيّ (1 مك 11: 34-38). والوثيقة الثانية تعود إلى سنة 161 (1 مك 8: 23-30) وهي تتضمّن أوّل معاهدة صداقة بين الرومان وحزب يهوذا المكابيّ.

2- نجاحات يوناتان وسمعان المكابيَّين (165- 142 ق م)
وخلف يهوذا أخوه يوناتان، خامس وأصغر أبناء متتيا، وقاد حرب المكابيّين من سنة 180 إلى سنة 143 ق. م. (1 مك 9: 28- 12: 53). وضعُف الضغط السلوقي فاستفاد القائد اليهوديّ من هذا الضعف. بدأت حرب لدى السلوقيّين يوم نزل إسكندر بالاس، ابن أنطيوخس الرابع المزعوم، على الشاطئ الفلسطينيّ في بطلمايس (عكا)، وبدأ يملك بمساندة مجلس شيوخ رومة. فأخذ كلٌّ من الملكَين يقدّم الوعود للمكابيّين ليربح وُدَّهم (1 مك 10: 4-20). أمّا يوناتان فأخذ جانب بالاس الذي عيّنه "كاهنًا أعظم"، فظهر في هذه الوظيفة في عيد المظالّ من السنة 152 (1 مك 10: 21). ولمّا مات ديمتريوس سنة 150 دعا إسكندر بالاس يوناتان إلى زواجه بكليوبترة أبنة بطليموس السادس فليوماتور. وخلال الاحتفال ألبس بالاس حليفَه اليهودي اللباس الأرجوانيّ، وسمّاه قائدًا عامًّا، ورفعه إلى مقام يكاد يساوي مقام الملك. واستفاد يوناتان فيما بعد من الصراع بين ديمتريوس الثاني ابن ديمتريوس الأوّل، وأنطيوخس السادس أبن بالاس، كما نال مساندة بطليموس السادس ورومة وإسبرطة. وتوسّعت منطقة نفوذه وتدفّق المال عليه بعد أن سيطر على السهل الساحليّ الذي احتلّه أخوه سمعان (1 مك 11: 59) وعلى مناطق غير يهوديّة ومدن محصّنة (1 مك 12: 31-38). ولكنه سقط في فخّ نُصِبَ له في بطلمايس، فقُتل هناك سنة 143. ورغم نجاحه الحربيّ والسياسيّ، لم يستطع أن يحتلّ قلعة أورشليم (أكرا). ولكنّ أخاه وخَلَفَهُ سمعان (143-134 ق م: 1 مك 13: 1-6، 17) سيقوم بهذا العمل كما سيحالفه النجاح العسكريّ والسياسيّ. ولمّا كان حزب أنطيوخس السادس السبب في مقتل أخيه، تحالف مع خصمه ديمتريوس الثاني الذي اعترف بسلطانه وأعفاه من الضرائب (1 مك 13: 34). فاحتفل اليهود بهذه السنة على أنّها بداية عهد من الاستقلال السياسيّ التي لم تعرفها أرض يهودا منذ سنة 587 ق م. وسيكون رمزُ هذا الاستقلال احتلالَ قلعة أورشليم (142- 141) آخرِ معقلٍ للتأثير السلوقي والهلّينيّ في العاصمة، وتحويلها إلى قصر ملكيّ (1 مك 13: 51).
وهكذا انتهت مرحلة الثورة، مرحلة الإخْوَةِ المكابيّين، وبدأ عهد دولة الحشمونيّين (من حشمون جدّ متتيا، رج يش 15: 27).
تميّزت مرحلة الثورة بثلاثة أمور: حرّيّة دينيّة استعادها يهوذا سنة 162، لقب عظيم الكهنة حصل عليه يوناتان سنة 152، الإعفاء من الضرائب في أيّام سمعان سنة 142. فلم يعد ينقص إلا لقب ملك ليصل الصعود السياسيّ إلى القِمّة.

3- الحشمونيّون: رئيسا الكهنةِ سمعان ويوحنّا هركانس
صار سمعان الحشمونيّ قائد اليهود الجديد منذ سنة 143 فتصرّف بموارده الماليّة الخاصّة، وهذا ما أتاح له أن يشتريَ السلاحَ وأن ينظّم فريقًا دبلوماسيًّا (1 مك 13: 16- 14: 32). فتصرّف كرئيس دولة حقيقيّ، واقتنى جيشًا من المرتزقة، وتاج احتلال فلسطين. أخذ جازر، تلك النقطة الستراتيجيّة على زاوية السهل الساحلي، وجعلها بالقوّة مدينة يهوديّة (1 مك 13: 43- 48) وأقام ابنَه يوحنّا هركانس حاكِمًا عليها (1 مك 16: 19). وتقدّم في حملته حتّى وصل إلى مرفأ حيفا (1 مك 13: 11).
وعرفت أرضُ يهودا فترةَ سلام واتّخذت في إطار سياسة الشرق الأوسط مكانةً لم تتخذّها منذ سقوط الملكيّة. في ذلك الوقت، كان السلوقيون يهدمون سلطانهم بحرب سلاليّة لا تنتهي، وكان الرومان يزيدون من تأثيرهم في الشرق، والفراتيّون يهاجمون المقاطعات السلوقيّة السائرة إلى انحطاط. ثبَّت معان المعاهدة مع كلّ من رومة وإسبرطة (1 مك 14: 16-24)، وأعْلَنَ المجلسُ اليهوديُّ العامُّ (سيناغوغي) سمعانَ عظيمَ كهنة، وقائدًا عامًّا، ورئيسًا لأمّة اليهود مدى الحياة، على أن يتوارث أبناؤه سلطانه (1 مك 14: 47). نُقش هذا القرار على ألواح من نحاس، وُوضع في سور الهيكل، ونال مساندة مجلس الشيوخ الروماني (1 مك 5: 15-24). منذ ذلك اليوم تأسّست السلالة الحشمونيّة، وكانت كهنوتيّة وحربيّة لا ملكيّة، تدشّنت دولة يهوديّة.
وتهدّد استقلالُ يهودا في النصف الثاني صن حكم معان. اعتلى أنطيوخس السابع سيداتيس (138- 129) العرش، وحاول أن يُنْهِضَ المملكة السلوقيّة المريضة من كبوتها. وساءت العلاقات بينه وبين سمعان، إلاّ أنّ أبناءَ سمعان دافعوا عن المملكة (1 مك 15: 25-16: 10). ولكن قُتل سمعان قربَ أريحا خلال وليمة مع اثنين من أبنائه، وكان قاتلَه صهرُه الذي عمل لحساب السلوقيّين وحاولوا أن يقتلوا يوحنا هركانس ابنَه الآخر، فهرب من جازر. فاستقبله أهل أورشليم وأعلنوه عظيم كهنة وخلفًا لأبيه. ورَأسَ اليهود من سنة 134 إلى سنة 105 ق م.
تعلّم هركانس مهنة الحرب والإدارة على يد أبيه، فكان أشهر الملوك الحشمونيّين، وقد ترك ذكرًا عاطرًا في التاريخ اليهوديّ. وسيتوقّف سفر المكابيّين الأوّل عند خبر اعتلائه العرش بعد مقتل معان. ولكنّ يوسيفوسَ يُحدّثنا عن أعماله.
واجهت هركانس صعوباتٌ في بداية حكه. حاول أنطيوخسُ السابع أن يضع يده على كلّ فلسطين، ففرض على اليهود دفع جزية ليافا ولسائر المدن الخارجة عن مقاطعة يهودا. كما طلب من هركانس أن يساعده في حربه على الفراتيّين. واستعاد أنطيوخس يافا وجازر، وحاصر أورشليم وكاد يأخذها لولا تدخّل رومة التي منعت أنطيوخس من التعدّي على مقاطعات حلفائها وأصدقائها اليهود. فعاد أنطيوخس يحارب الفراتيّين وهناك مات سنة 129. واعتلى العرش ديمتريوس الذي كان قد أسره الفراتيّون، ولكنّه خاف أن يتحرّش بهركانس بسبب الوضع الصعب فتركه وحاله. حينئذ ثبّت الحشمونيّ استقلال يهودا، ووسعّ تخوَمهُ فضمّ إليه أدومية في الجنوب والسامرة (سنة 107) في الوسط وبعض مدن شرقي الأردنّ وجُزْءًا من الجليل في الشمال. كان هركانس عظيم كهنة، ولكنّه تصرّف مرارًا كرئيس فلجأ إلى العنف والقتل، شأنه شأن سائر الملوك. لهذا تخلّى عنه الفرّيسيّون في أواخر عهده بعد أن كانوا قد ساندوا المكابيّين منذ البداية، فتقرّب هركانس من أعدائهم الصادوقيّين.

4- الحشمونيّون: الملكان أرسطوبولس وإسكندر (يناي) (104- 76 ق م)
وخلف يوحنّا هركانس ابنُه اكبر أرسطوبولس الأوّل (104- 103)، فسجن أمّه (التي ماتت جوعًا في السجن) وإخوتَه، بعد أن قتل واحدًا منهم (كان على أرملة الملك أن تؤمّن الوظيفة السياسيّة، وأرسطوبولس الوظيفة الكهنرتيّة). أكمل أرسطوبولس ضمّ الجليل إلى اليهوديّة، ولكنّه مات بعد أن حكم سنة واحدة.
وخلف أرسطوبولسَ أخوه (ابن يوحنّا هركانس الثالث) إسكندر يناي. ملك (كان أوّلَ من دُعيَ ملكًا) من سنة 103 إلى سنة 76 ق م. وقُسم عهدُه من الوجهة السياسيّة إلى ثلاث حِقَبٍ .
الحِقْبة الأولى: من سنة 103 إلى سنة 95. احتلّ يناي مجمل ساحل فلسطين من جبل الكرمل في الشمال إلى حدود مصرفي الجنوب. حصل على مساعدة كليوبترة الثالثة، ملكة مصر والحارث الأوّل ملك الأنباط. أمّا أشهر انتصاراته فكانت احتلالَ غزّة (سنة 96) وجَدارا في شرقيّ الأردنّ.
الحِقْبة الثانية: من سنة 95 إلى سنة 83. كانت حقبةً من الصعوبات الداخليّة والخارجيّة. حدثت قلاقل في يهودا، وعارض قسم من السكّان سياسة يناي الحربيّة فلم يقبلوا بارتباط هذا الشخص (الذي يجمع الملكيّة إلى رئاسة الكهنوت) بالصادوقيّين. أمّا الفرّيسيّون الذين بدأوا يعارضون يوحنّا هركانس في أواخر أيّامه، فقد برزوا كخصوم مُعْلَنِيْنَ وعنيفين لإسكندر يناي. ففي سنة 90 وفي عيد المظالّ، هاجمه الشعب بأكثريّته الفرّيسيّة بعصير الليمون حين كان يقدّم الذبيحة الإلَهيّة في الهيكل وشتموه، وأعلنوا أنّه غيرُ أهلٍ لأن يُتمَّ هذا العملَ المقدّس. قلق يناي من هذه الحركة التي لم يكن لها مثيل في التاريخ اليهوديّ وقتل ستّة آلاف شخص. هذا في الداخل، أمّا في الخارج فاستعاد بطليموس التاسع سلطانه، كما أنّ الأنباط هاجموا المناطق التي احتلّها اليهود في شرقيّ الأردنّ. قهروا يناي في الجولان فهرب إلى أورشليم حيث ثار عليه أهلها. وكانت حرب أهليّة دامت ستَّ سنوات ومات فيها ما يقارب 50000 يهوديّ.
وفي سنة 89 تدخّل ديمتريوس الثالث بعد أن دعاه معارضو يناي، فقُهر قرب شكيم. ثمّ هاجم السلوقيون والأنباط فلسطين، فانقلبت العواطف نحو إسكندر يناي الذي نجح في ضبط الأمور. عاد ديمتريوس إلى انطاكية حيث حاربه أخوه بمعاونة الفراتيّين. وعرفت رومة أزمة سياسيّة فقام متريداتيس السادس فتحالف مع أرمينية والفراتيّين وسورية ومصر، واحتل سنة 88 آسية الصغرى والجزر وبعض أجزاء اليونان. أمّا يناي فأهمل كلّ علاقة دبلوماسيّة مع رومة تاركًا خطًّا سار عليه جدوده منذ يهوذا المكابيّ.
الحِقْبة الثالثة: من سنة 83 إلى سنة 76. واستعاد يناي الأمور ووسعّ تخومه بعد أن مات بطليموس وضعف السلوقيّون والأنباط بسبب وجود تغرانا الأرمنيّ في سورية وفينيقية. وعمَّ السلامُ أرضَ فلسطين. واستقبلت أورشليم يناي استقبال الفاتحين. وحين مات بعد أن أكل وشرب كثيرًا، ترك وصيّته لامرأته ألكسندرة، وطلب منها أن تصالح الفرّيسيّين الذين يؤثّرون في اليهود فيؤذون من يبغضونْ ويخدمون من يحبّون. وزاد: إذا كانت الأمور ساءت بينه وبين الشعب، فالسبب يعود إلى الفرّيسيّين الذين سوّدوا صفحته لأنه أهانهم. إذن، خلفت ألكسندرة زوجها على العرش الملكي من سنة 76 إلى سنة 67. وكان أبنها الأكبر هركانس الثاني عظم الكهنة، ولكنّه لم يمارس سلطة مدنيّة. أمَّا أبنها الثاني الذي عُرف بحكمته وشجاعته فأُبعد.


5- نهاية مملكة الحشمونيين: ألكسندرة وأولادها (76- 63)
كان عهد ألكسندرة عهد سلم. ملكت قلب الشعب منذ أيّام زوجها، واتّصفت بتقواها فكانت تمارس بدقّة عوائد الآباء وتبعد عن مقاليد الحكم كلّ من يحاول التخلّص من الشرائع الدينيّة.
وكان تأثير الفرّيسيّين كبيرًا على ألكسندرة، فأبعدوا مستشاري يناي المسؤولين عن اضطهاد عدد كبير منهم. ووسّعت الملكة علاقاتها مع سائر الدول، وجنّدت المرتزقة وضاعفت عدد جيشها، غير أنّ الفرّيسيّين مالوا بها عن معاودة حروب أسلافها. وإنّ ابنها أرسطوبولس قاد حملة نحو دمشق وفشل هناك. ولولا المفاوضات والهدايا لاجتاح يهودا تغرانا ملكُ أرمينية الذي كان قد دخل سورية (70 ق. م). بعد هذا مرضت ألكسندرة ودبّ الخلاف بين ولديها هركانس وأرسطوبولس. فاستند أرسطوبولس إلى الصادوقيّين واحتلّ 28 حصنًا، وجنّد المرتزقة واستعدّ ليخضع أرض يهودا لمنع أخاه من اعتلاء العرش بعد موت الملكة.
وبعد موت ألكسندرة (67 ق م) أعلن أرسطوبولس الثاني الحرب على أخيه هركانس وغلبه قرب أريحا وأجبره على التنحّي عن الملك. فاتّخذ هو لقبَي عظيمِ الكهنة وملك اللذين احتفظ بهما حتّى سنة 63. ولكن هاجمه الأنباط وقهروه في سنة 65 فالتجأ إلى حرم الهيكل حيث حاصره الحارث ملك الأنباط وهركانس أخوه بعد أن تحالفا. وكان مُلهِم هذا الحلف أنتيباتريس، حاكم أدومية في أيّام يناي، ووالد هيرودس الكبير. انتمى أنتيباتريس هذا إلى عائلة أدوميّة غنيّة وارتدّ إلى الديانة اليهوديّة في أيّام يوحنّا هركانس.
ولكنّ الخلاف لم يحسم بين الأخوين، فلا بد من تدخّلِ دولة قويّة. أجل، ستتدخّل رومة في شخص بومبيوس.

ج- السيطرة الرومانيّة
1- سيطرة رومة على أرض اليهوديّة: بومبيوس وقيصر (63- 44 ق م)
في سنة 64- 63 ثبّت بومبيوس (106- 48) سلطة رومة على سورية وفلسطين. انطلق في حملة عسكريّة إلى الشرق ليقتلع من البحر جذور القرصنة التي تؤذي الاقتصاد الرومانيّ، فوصل إلى دمشق سنة 64. أنهى الحربَ منتصرًا ضدّ متريداتيس (ملك البنطس) وتغرانا (ملك أرمينية) ثمّ وضع يده على سورية السلوقيّة وجعلها مقاطعة رومانيّة. وجعل نفسه الحَكَم بين أرسطوبولس وهركانس (الذي يسنده أنتيباتريس). ودافع كلّ من الأخوين عن قضيّته وأرفق دفاعَه بفيض من الهدايا. وجاء أناس من الأمّة يطلبون إلغاء الملكيّة والاكتفاء بكاهنٍ أعظم يحكم البلاد. سجن بومبيوسُ أرسطوبولسَ وزحف على أورشليم ففتح له محازبو هركانس أبوابها. أمّا أتباع أرسطوبولس فالتجأوا إلى حرم الهيكل وقاوموا ثلاثة أشهر. ولكن دخل بومبيوسُ مع قوّاد جيشه إلى المعبد فوضع حذّا لنهاية مملكة الحشمونيّين. أخذ أرسطوبولسَ أسيرًا مع أولاده إلى رومة، وعيّنَ هركانس رئيسَ كهنةِ اليهود الذين فرض عليهم دفع الجزية. ولكنّ الخلاف بين الفريقين المتنازِعين لم يهدأ، وصارت اليهوديّة جُزْءًا من مقاطعة سورية الرومانيّة. وانحصرت سلطات هركانس في مقاطعات يهودا وبيريه والجليل التي سكنها اليهود بفعل سياسة الحشمونيّين. وأعاد بومبيوس وخلفاؤه (ولا سيّما غابينيوس حاكم سورية من 57 إلى 55 ق م) بناء المدن التي اجتاحها أو دمّرها الحشمونيّون، وفرضوا الحضارة الهلّينيّة على أساس البُنى السياسيّة والإداريّة.
ولجأ أنتيباتريس إلى دسائسَ ومؤامراتٍ كانت أسُسًا متينة لمملكة ابنه هيرودس العتيدة، ولكنّ أنتيباتريس وهيرودس ظلاّ رهينة الإرادة السياسيّة لدى الشخصيّات الكبرى التي وجّهت التاريخ في ذاك الوقت وهم: بومبيوس، قيصر، أنطونيوس، أوافيوس (أو أغوسطس).
وما زال أنتيباتريس يتلاعب برئيس الكهنة هركانس بعد أن صار له مستشارًا. فقبل سقوط بومبيوس (48 ق م) عيّنه وكيلاً على اليهوديّة حاكمُ سورية. وإذا كان غابينيوس قنصلاً على سورية من سنة 57 إلى سنة 55 اندلعت الثورة ثلاث مرّات في اليهوديّة. في المرّة الأولى والثالثة أشعلها الإسكندر، بكر أرسطوبولس، وفي المرّة الثانية أرسطوبولس الذي فرّ من رومة برفقة ابنه الصغير أنطيغونيس. تعاون غابينيوس وقائد جيشه (أحد أعضاء المثلّث) مع أنتيباتريس وهركانس فوضعوا حدًّا لهذه الثورات، وأعيد أرسطوبولس وابنه أنطيغونيس مقيّدَين إلى رومة.
وخلال الحرب الأهلية بين بومبيوس وقيصر (سنة 49، بعد عبور روبيكون) حرّر قيصرُ أرسطوبولسَ وأعطاه فرقتين وأرسله ليحاربَ بومبيوس. ولكنّ محازبي بومبيوسَ وضعوا السمّ في طعام أرسطوبولسَ قبل أن يترك رومة وأزالوا ابنه الأكبر الإسكندر. أمّا هركانس وأنتيباتريس فظلاّ مواليَين لبومبيوس وأرسلا إليه المساعدة في معركة فرساليس (48 ق. م) التي هزم فيها. ولكنّهما أخذا جانب قيصر حين انتصر.
وواجهت قيصرَ حربٌ شرسة في مصر من خريف 48 إلى ربيع 47 ق م. حاصره الجيش المصري وأهل الإسكندرية، وكان قريبًا من الهزيمة لولا تدخّل هركانس وأنتيباتريس. أرسل جيشًا قوامه ثلاثة آلاف جنديّ وحصل على مساعدة حربية من جيرانه في سورية، وحرّض هركانس يهود أرض أونيا أن يفتحوا الطريق أمام الجيش الروماني ويقدّموا له كلّ عون. فانتصر قيصر، وحين عاد إلى سورية سنة 47، ثبّت هركانس في رئاسة الكهنوت وعيّنه رئيس امَّةِ اليهود. ومنح أنتيبِاتريس لقبَ المواطنِ الرومانيّ وأعفاه من الضرائب. وأوصى بقراراتٍ وترتيباتٍ إلى مجلس الشيوخ من أجل تنظيم أرض يهودا. فسمح بأن يعاد بناء أسوار الهيكل، وأرجع إلى اليهود مرفأ يافا، وثبّت هركانسَ وخلفاءه في رئاسة الكهنوت وفي رئاسة الأمّة. واشتملت بلاد اليهود على يهودا نفسها ويافا والإنشاءات اليهوديّة في الجليل وشرقيّ الأردنّ مع وادي يزرعيل الكبير.
كانت سياسة قيصر مؤاتية لليهود في فلسطين كما في الشتات، وسيسير على خطاه أنطونيوس وأوكتافيوس أغوسطس. ولكنّها في الواقع أتاحت لبيت أنتيباتريس (أي هيرودس) صعودًا لا يقف في وجهه عائق. فمنذ سنة 47 لم يكن يتصرّف أنتيباتريس بمعزل عن إرادة هركانس المسؤول الرسميّ عن اليهود، ولكنّه كان في الواقع السيّد الفعليّ في أرض يهودا بعد أن عيّن واليًا عليها. وتسلّم ابناه وظائفَ إداريّةً. فكان فسائيل حاكمًا على أورشليم، وهيرودس حاكمًا على الجليل. وبعد موت قيصر (44 ق. م) شدّد البيت الأدوميّ (بيت أنتيباتريس) قبضته على فلسطين ووضع نفسه بتصرّف كاسيوس سيّد الشرق خلال الحرب بين خلفاء قيصر. وفي سنة 43 وُضع السمُّ لأنتيباتريس بتحريض من هركانس. ولكنّ بناءه السياسي ظلَّ متينًا فهيّأ الدرب لمرحلة ملتبسة في تاريخ الأمّة اليهودية عنينا بها حكم هيرودس.

2- هيرودس الكبير (37- 4 ق م)
بعد أن أزال المثلّث الثاني قاتلي قيصر في فيلبّي من أعمال مكدونية سنة 42 ق م، سلَّموا إلى أنطونيوس مسؤوليّة الشرق. فتقدّم نحو سورية عابرًا آسية الصغرى. وتدخّل لديه اليهود ليحرّرهم من هيرودس. ولكنّ هيرودس استند إلى عهود سابقة بين أنطونيوس (لمّا كان قائدًا) وبين أبيه أنتيباتريس فحافظ على امتيازاته. فثبّت أنطونيوسُ الامتيازاتِ التي كانَ قد منحها قيصرُ لليهود، وَعَيّنَ هيرودسَ رئيسًا على الجليل والسامرة وفسائيل رئيسًا على اليهوديّة.
وفي سنة 40 حاول أنطيغونيس، ابنُ أرسطوبولس الأصغر، أن يعود إلى مسرح الأحداث بعد أن كان حاول سنة 44، بعد موت قيصر، أن يدخل إلى الجليل ليصل إلى أورشليمَ وعرشِها. ولكن ردّه هيرودس الحاكم إلى خلقيس حيث كان يقيم. وحين اجتاح الفراتيّون سورية وجد الظرف مؤاتيًا ليُزيحَ "الأدومي" ويعيد المملكة الحشمونية إلى سابق عزّها. فتحالف مع الفراتيّين الذين ساعدوه على وضع يده على مملكة يهودا والأراضي المجاورة لها، وعلى أسر هركانس وفسائيل. أمّا فسائيل فانتحر أو قُتل. وشُوِّه هركانس لئلا يقدر من بعد أن يمارس وظيفة الكهنوت، ونُقل إلى بابل حيث استقبله اليهود هناك استقبالاً حافلاً. وهكذا كان أنطيغونيس آخر الملوك الحشمونيّين فصكّ عملة جديدة زيّها برموز وطنية، وجعل نفسه زعيم الحزب الوطنيّ التقليديّ المعارض لبيت أنتيباتريس. أمّا هيرودس فجعل عائلته في مكان أمين في قلعة مصعدة وهرب إلى الإسكندرية ومن هناك إلى رومة. وفي خريف 40 عيّنه مجلسُ الشيوخ على اقتراح أنطونيوس وأوكتافيوس، ملكَ اليهوديّة، وأعلنه "الملكَ الصديق وحليفَ الشعب الرومانيّ". حاول من سنة 39 إلى سنة 37 أن يزيح أنطيغونيس عن العرش فلم يَفلح. فجنّد جيشًا من المرتزقة وأراد احتلال الجليل، فاصطدم بمعارضة السكّان وكان حليفه الفشل. فعاد إلى الشاطىء ومن هناك ذهب إلى أدومية وذهب ليستعين بأنطونيوس. فلمّا انتهت الحرب مع الفراتيّين تدخّل الجيش الروماني بقيادة سوسيوس، فحاصر مع جيش هيرودس مدينة أورشليم، ودام الحصار خمسة أشهر قبل أن تسقط في نهاية صيف 37. أُسر أنطيغونيس وأُرسل إلى أنطاكية، فأمر أنطونيوسُ بإعدامه. أمّا هيرودس فتحالف مع حزب هركانس وتزوّج مريمة، حفيدة الكاهن الأعظم.
وأخيرًا صار هيرودس الأدوميّ الملك الحقيقيّ لليهود. فأعدم 45 عضوًا من مجلس اليهود ساندوا الحشمونيّين، وسيعيِّن خلالَ ملكه وسيعزل رؤساءَ الكهنةِ كما يشاء. وقد منحه الرومان امتيازاتٍ عديدةً بما فيها حقّ إعلان الحرب على البلدان الغريبة. ولكن رغم كلّ هذه الظواهر، أقامت رومة هيرودس ملكًا، وسيظلّ أداةَ التسلّط الرومانيّ في الشرق. حكم هيرودس من سنة 37 إلى سنة 4 ق م. ونحن نقسم حكه إلى ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى من 37 إلى 27 ق م: مرحلة تثبيت الحكم.
حاول هيرودس في هذه المرحلة أن يصفّيَ الحشمونيّين. وهكذا زال أرسطوبولس الثالث، شقيق مريمة، زوجة هيرودس (كان قد عيِّن كاهنًا أعظم بمساندة أمّه ألكسندرة وبفضل تدخّل كليوبترة السابقة) سنة 35. وزال سنة 30 هركانس، رئيس الكهنة المشوّه الذي عاد من بابل. وفي سنة 29 زالت مريمة نفسها التي اتّهمت بالزنى، وفي سنة 28 زالت ألكسندرة أمّ مريمة وحماة هيرودس.
وتنبّه هيرودس في الخارج إلى الطموح السياسيّ لدى كليوبترة، ملكة مصر. فبعد معركة فرساليس غلبها قيصر وصار عشيقها. أمّا الآن فهي عشيقة أنطونيوس ومعه تدرس إمكانيّة تكوين مملكة عاصمتها الإسكندريّة. ولكن جاءت حرب الفراتيّين ودمّرت هذه الأحلام حينئذ حاولت أن تعيد سلطة البطالسة على سورية وفلسطين، ولكنّها وجدت في طريقها هيرودس المعروف بولائه لأنطونيوس.
حين اندلعت الحرب الأهليّة بين أوكتافيوس وأنطونيوس سنة 32، طلب أنطونيوس من هيرودس أن يحارب الأنباط قرب فيلدلفية (أي عمّان)، ففعل وأخضعهم لسلطانه سنة 31 ق م. وفي أيلول من السنة نفسها هُزم أنطونيوس على يد أوكتافيوس في أكسيوم فكانت تلك الهزيمة نهايته ونهاية كليوبترة. أمّا هيرودس فكان محازبًا لأنطونيوس وكاد يصل الحكم إليه. دعاه أوكتافيوس إلى رودس ليبرّرَ أعماله ويوضح نواياه. وإذْ رأى أنّ مملكة هيرودسَ تفيد رومة، ثبَّته في الملك، كما ثبّت سائرَ الأُمراءِ الشرقيّين، وتركه يحتفظ بامتيازاته، وأعاد إليه الأراضي التي أخذها أنطونيوس منه ووهبها لكليوبترة. ولمّا جاء أوكتافيوس إلى بطلمايس (عكّا). لاقاه هيرودس بحفاوة، ثمّ ذهب إليه إلى مصر يهنّئه بموت أنطونيوس كليوبترة. حينئذ منحه أوكتافيوس المدن البحريّة وبعض مدن شرقيّ الأردن.

المرحلة الثانية: من سنة 27 إلى سنة 13 ق م: الازدهار
تميّزت هذه المرحلة بالأبنية الكثيرة والضخمة. هناك المدن التي بُنيت أو أُعيد بناؤها حسب الفنّ الهلّينيّ وسنتحدّث عينها فيما بعد. أمّا في أورشليم فشيّد هيرودس قصره وبنى قلعة أنطونيا حيث كانت قلعة أكرا. أمّا أعظم أعماله فكان بناء الهيكل حيث كان المعبد الصغير الذي شيّد بعد العودة من الجلاء. بدأ العمل فيه سنة 20- 19، فصار مهيّأً لشعائر العبادة في السنة التالية. ولكنّه دُشَّن بعد 9 سنوات. غير أنّ الأعمال لن تنتهي فيه إلاّ سنة 64 م أي قبل الثورة الكبرى (66- 70 م) بسنتين، وقبل أن يدمّر على يد تيطس بستّ سنوات. ونشير أيضاً إلى قلعة مصعدة والهيروديوم أو الضريح الفخم الذي سيدفن فيه الملك بأبّهة عظيمة. ونظّم هيرودس الريّ كما أنمى التجارة في البرّ والبحر بفضل الأمان الذي سيطر على البلاد.
وعمل هيرودس كالملوك الهلّينيّين. فكان سخيًّا في مبادراته تجاه مدن فينيقية وسورية وآسية الصغرى واليونان. وهذه الإنعاماتُ ثبّتت موقفَ المَلِكِ وساعدت على الإشعاعِ اليهودي في عالم الشتات، ونَشْرِ الحضارة الهلّينيّة. ولكنّ هذا السخاء كلَّف الشعب اليهوديّ الكثيرَ من المال، لهذا لم يكن هيرودسُ محبوبًا لديه وقد قابله بعضهم بأنطيوخس إبيفانيوس. وعاداه الفرّيسيّون. أمّا الصادوقيّون فخسروا كلّ سلطتهم (منهم يؤخذ رؤساء الكهنة) وصاروا أداة طيّعة بين يديه.

المرحلة الثالثة: من سنة 13 إلى سنة 4: أزمة داخل البيت
تميّزت المرحلة الأخيرة بصراعات عائليّة هامّة بسبب طموح أبناء الملك وتأثيرهم السياسيّ. وُلد لهيرودس من مريمة الحشمونيّة (قتلت سنة 29 ق م) ولدان: إسكندر وأرسطوبولس. بما أنهما كانا الوارثين الشرعيّين أرسلا إلى رومة ليتلقّيا تربية ملوكيّة. ولمّا عادا إلى البَلاط الملكيّ سنة 18- 17 بدأ الخلاف بينهما وبين والدهما. وزاحمهما في الخلافة الملكيّة هيرودس أنتيباتريس أخوهما من دوريس امرأة هيرودس الأدومية. إذًا بدت الحرب على الخلافة ظاهرةً في الأفق. استشار هيرودس أغوسطس فامزح أن سّمَ المملكة على الأولاد الثلاثة عند موت الوالد. ولكن رغم محاولات المصالحة، لم يستطع هيرودسُ أن يسيطرَ على الموقف وهو الخائف دومًا من المؤامرات. فخنق الإسكندر وأرسطوبولس بموافقة رومة سنة 7 ق. م، ونفّذ حكمَ الإعدام بهيرودسَ أنتيباتريس قبل أن يموت بخمسة أيّام.
توفّي هيرودس في أريحا سنة 4 ق م وهو بعمر 70 سنة، فكان بعد داود أعظم ملك عرفته أرض اليهود. انطلقت مملكته سنة 37 ق م من أرض يهودا (التي كان يحكمها أنطيغونيس) وامتدّت فشملت كلّ فلسطين انطلاقًا من البحر الميت (جنوبي مصعدة)، وأجزاء من شرقيّ الأردنّ حتّى حوران، فضمّ إلى مملكته اليهود واليونانيّين وقسمًا كبيرًا من السوريّين والهلّينيّين.
ولكن كان هناك ثلاثةٌ أمور لم يَسْتَسِغْها الشعبُ اليهوديّ: أصل هيرودس. كان أدوميًا لا يهوديًّا. ثانيًا: عاش وحكم البلاد على الطريقة الهلّينيّة لا على الطريقة اليهوديّة. ثالثًا: كان تابعًا لسلطة لا يتحرّك إلاّ بأمرها. مثل هذه التبعيّة كانت فخًّا ستحوّله سلطة هيرودس وعبقريّته الدبلوماسية إلى منافع. ولكنّ ورَّاثه لم يعرفوا أن يسيروا على خطاه.

3- خلفاء هيرودس الكبير واقتسام المملكة (4 ق م)
قَسَمَ هيرودس في وصيّته الأخيرة المملكة بين أبنائه الثلاثة: أرخيلاوس وأنتيباس ابن مَلتقة السامريّة، وفيليبّس ابن كليوبترة. كان أرخيلاوس البكر فاتّخذ لقب الملك، أمّا الاثنان الآخران فاتّخذا لقب تترارخس (أي رئيس الربع). فلم يبق إلاّ أن يوافق أغوسطس على هذا التدبير.
ما إنِ انتهت جنازة الملك، وقبل أن يذهب أرخيلاوس إلى رومة، واجه ثورةً خطيرة بمناسبة عيد الفصح، ثمّ نزاعاتٍ صغيرةً في عيد العنصرة. فالطامحون إلى الملكيّة عديدون، لهذا جاءت هذه الفترة مخضّبة بالدماء.
وافق أغوسطوس على وصيّة هيرودس ورفض لأرخيلاوس لقب ملك. جعله تترارخسًا إثْرَ شكوى اليهوديّة والسامرة وأدومية. ولكن ما عتّمت رومة أن عزلته سنة 6 ب م على إثْرِ شكوى اليهود والسامريّين. فنُفي إلى فيّانا في فرنسا وتوفّي هناك سنة 18. وسلِّمت مقاطعته إلى والٍ تابع لحاكم سورية.
أمّا أنتيباس، فبعد أن عُزل أخوهُ، أخذ اسم هيرودس أنتيباس. كان صاحب مشاريع بناء مثل والده، وهو الذي يتحدّث عنه مت 14: 1 ي. دفعته امرأته الثانية هيروديّة أن يطلب من رومة لقب ملك. ولكنّ الإمبراطور كاليغولا (37- 41) عزله سنة 39 وأرسله إلى المنفى في فرنسا، في جبال البيرينيّة. وأعطيت مقاطعته لأغريبّا الاول، شقيق هيروديّة وحفيد هيرودس الكبير ومريمة.
أمّا فيلبّس فلم يحكم شعب اليهود، بل أناسًا غيرَ يهود. إشتهر هو أيضاً بمشاريع البناء. تزوّج سالومة ابنة هيروديّة وتوفّي دون عقب سنة 34. فضمّ الامبراطور طيباريوس (14- 37) أراضيَه إلى مقاطعة سورية الرومانيّة. ولكن عاد كاليغولا فأعطاها لأغريبّا الأوّل سنة 37.
كان أغريبا الأوّل (41- 44) حفيد هيرودس وأبن أرسطوبولس الذي قتل سنة 7 م. شارك في تسمية كلودبوس (41- 54) فأعطاه هذا لقب ملك فاحتفظ به حتّى موته المفاجئ سنة 44. لمّا اعتلى كلوديوس عرش رومة وجد أغريبّا نفسه على رأس مملكة شبيهة باتّساعها بمملكة هيرودس الكبير. فمنذ سنة 37 نال أرضَ فيلبّس وقسمًا من سورية. وفي سنة 39 نال أرض هيرودس أنتيباس. ثمّ أعطاه كلوديوس اليهوديّة والسامرة وأدومية. كان آخر ملك للأمّة اليهوديّة. ولكن لمّا مات، رفض كلوديوس أن يعطيَ ابنه أغريبّا الثاني عرشَ أبيه. حينئذ ضُمّت فلسطين إلى مقاطعة سورية وسُمّيت اليهوديّة وصارت تحت سلطة والٍ يعيّنه الإمبراطور. أمّا أغريبّا هذا فيُذكر في أع 25- 26 بمناسبة محاكمة بولس.

4- الولاة الرومان (6- 66 ب م)
الولاة هم حكّام عيّنتهم رومة أوّلاً على اليهوديّة (التي كانت تضمّ أيضاً السامرة وأدومية) من سنة 6 إلى سنة 41 (من عزل أرخيلاوس إلى عهد أغريبّا الأوّل)، وثانيًا على كلّ فلسطين من سنة 44 إلى سنة 66 (من موت أغريبّا الأوّل إلى سنة اندلاع الثورة الكبرى).
كان على الوالي أن يهتمّ بالأمور العسكريّة والماليّة والقانونيّة. أمّا الأمور الهامّة، فيعود فيها إلى حاكم سورية الذي ارتبطت به اليهوديّة. إنّما كان في الواقع حرَّ التصرّف لا يقف بوجهه أحد. كان يقيم عادة في قيصريّة البحريّة، ولكنّه كان يأتي إلى أورشليم بمناسبة الأعياد اليهوديّة الكبرى ترافقه فرقة عسكريّة ليتدارك ثورات محتملة، فيقيم في القصر القديم أو في قلعة أنطونيا القريبة من الهيكل. وكان في تصرّفه فرقةُ أنصار مجنّدةٌ من سورية وفلسطين، لا من اليهود (المُعْفَيْنَ من الخدمة العسكريّة). كان يقيم هذا الجيش بأكثريّته في قيصريّة ويتوزّع الباقي على أورشليم والقلاع التي بناها هيرودس. تنظّمت العدالة حسب الشريعة اليهوديّة بواسطة المجلس (سنهدرين) والمحاكم المحلّيّة. أمّا حكم الإعدام فكان يعود إلى الوالي (رج يو 19: 31).
لم تبدّل رومة التنظيمات السابقة فيما يخصّ العبادة الرسميّة في الهيكل وممارسات الديانة العامّة، فظلّت معتقدات الآباء ومتطلّبات الشريعة موقَّرة ومحترمة. وإذْ كان اليهود لا يقبلون صورة أو تمثالاً، تحاشت الإدارة الرومانية أن تُدخِلَ الجيوش بأعلامها إلى أورشليم وأن تضرب عملة عليها صورة. ولكن وَجَبَتِ الصلاة على نيّة الإمبراطور وازدهار رومة. وفعل الوالي كما كان يفعل هيرودس، فكان يعيّن رؤساء الكهنة ويعزلهم كما يشاء. وهذا ما حدث ثماني مرّات من سنة 6 إلى سنة 41.

أولاً: الولاة الأولون (6- 41 ب م)
الأباطرة اليهوديّة والسامرة حاكم سورية الجليل
أغوسطس أرخيلاوس فاروس أنتيباس
(31 ق م- 14 ق م) 4- 6 ب م 6- 3 ق م 4 ق م- 36 ب م
الولاة
كوبونيوس كيرينيوس
6 – 9 6 - 11
أنبيبولس
9 - 12
روفوس
12- 15
طيباريوس فاليريولس غراتوس
14- 37 15- 26
بونسيوس بيلاطس
26- 36
كاليغولا مرسلوس فيتاليوس
37- 41 26- 37 35- 39
مارولوس بترونيوس أغريبا الأول
37- 41 39- 42 39- 44
كلوديوس أغريبا الأوّل
41 – 54 41 - 44
لا نعرف شيئًا عن الولاة الثلاثة الأوّلين كوبونيوس وأنبيبولوس وروفوس. ولكن يخبر المؤرّخ يوسيفوس أنّه في سنة 6، يوم تنظّمت مقاطعة اليهوديّة وعيِّن عليها الوالي الأوّل، تمَّ إحصاء عامّ من أجل الضرائب المباشرة فثارت القلاقل. نظّم هذا الإحصاء حاكمُ سورية الجديد كيرينيوس، فدعا إلى الثورة يهوذا الجليلي الذي خلق تيّارًا وطنيًا متطرّفا سيلعب دوره في الحرب ضدّ رومة سنة 66.
إذا عدنا إلى أخبار العهد الجديد وما يقوله المؤرّخون، نعرف أنّ حكم الإعدام نفِّذ بيسوع في أيّام بونسيوس بيلاطس (أو بيلاطس البنطي) الذي حكم اليهودية عشر سنوات (26- 36) وعرفه المؤرّخ يوسيفوس وفيلون الإسكندراني. ما إن دخل اليهودية حتّى أغضب سكّان أورشليم فقرّر أن تدخل جيوشه المدينة بأعلامها وعليها صورة الإمبراطور. كان هذا واحدًا من التحدّيات العديدة التي اختلف فيها بيلاطس عن الولاة السابقين، وهذا ما جعله يخسر كلّ شعبيّته لدى اليهود (لو 13: 1). عزله من وظيفته فيتاليوس حاكم سورية، وأرسله إلى رومة فخيّره كاليغولا بين المنفى والانتحار.
ولمّا عيّن كلوديوس إمبراطورًا (سنة 41) بعد موت كاليغولا، ألغى وظيفة والي اليهوديّة وسلّم المنطقة إلى صديقه أغريبّا الأوّل.

ثانيًا: الولاة اللاحقون
الأباطرة الولاة
كلوديوس كوسبيوس فادوس
41 – 54 44 - 46
طيباريوس الإسكندر
46- 48
فانتيديوس كومانوس
48- 52
أنطونيوس فيلكس
52 - 60
نيرون فورقيوس فستس
54- 68 60- 62
لوقايوس ألبينوس
62 - 64
غاسيوس فلوروس
64 - 66
ما زالت الحالة من سيّئ إلى أسوأ في أيّام هؤلاء الولاة السبعة. تكاثرت أخطاء ممثّلي رومة وتعسّفاتهم. وبدأت النزاعات مع اليهود في أيّام الواليَين الأوّليَن وتحوّلت إلى حركات ثوريّة في أيّام الوالي الثالث. وتوسّع التمرّد وتثبّت على أيّام فيلكس ووصل إلى أوجِهِ في عهد غاسيوس فلوروس. عاشت البلاد كلّها جوّ الثورة وتهيّأ كلّ شيء للحرب التي اندلعت في حزيران سنة 66.

5- حرب اليهود على رومة (66- 70)
فسد الجوّ في كلّ مكان بين اليهود، ولاسيّما اليهود الوطنيّين، وبين الرومان ولا سيّما الذين يوافقون على وجودهم. وكان حدث خطير عجّل في تسلسل الأحداث.
طلب الوالي غاسيوس فلوروس من اليهود أن يذهبوا إلى ملاقاة الجيش الآتي من قيصرّية، وأفهم الجيش أن لا يردّوا إلى التحيّة. حينئذ توجّه الشعب بكلام قاس إلى الجنود، فأعملوا فيه القتل. استعاد اليهود المبادرة ونظّموا المقاومة في أورشليم التي تركها فلوروس وأبقى فيها كتيبة واحدة. فعاد أغريبا الثاني إلى مصر، وحاول أن يعيد النظام ولكنّه اجبر على الهرب من أورشليم والالتجاء إلى مقاطعته. وما زالت الثورة تنمو. فاحتلّ اليهود قلعة مصعدة وقتلوا الحامية الرومانيّة التي كانت فيها. وانضمّ أليعازرَ حاكمُ الهيكل إلى أفكار الثورة فتوقّف عن تقديم الذبيحة اليوميّة على نيّة الإمبراطور. وهكذا بدا وكأنّه يعلن الثورة على رومة. حاول أن يتدخّل بعض الوجهاء والفرّيسيّون وممثّلو الكهنة (الموالين للصادوقيين) بمساعدة جنود أغريبّا. ولكنّ الثائرين صلَّبوا مواقفهم وأزاحوا المعتدلين ومدوا الثورة إلى مدن أخرى غير أورشليم. هذا كان في آب- أيلول سنة 66. وفي تشرين الأوّل من السنة نفسها تدخّل فستيوس غالوس، حاكم سورية، وهجم على أورشليم. فانهزم جيشه شرّ هزيمة. منذ ذلك الوقت اتّفق اليهود كلّهم على الحرب. هرب العناصر الموالون لرومة، وسكت محازبو السلام أو انضمّوا إلى التمرّد.
ونظّم اليهود الحرب واستعدّوا للهجوم الرومانيّ الذي انتظروه آتيًا من شمال البلاد، وعيَّنوا في مناصبِ المسؤولية أكبرَ الشخصيّات. أُوكلَ إلى الكاهن والدبلوماسيّ يوسف بن متّيا (المؤرّخ فلافيوس يوسيفوس) الدفاع عن الجليل. حاول أن يهدّئ الغليان الشعبيّ فنظَّم في المنطقة جيشًا نظاميًّا ومحكمة محلّية. ولكنّه اصطدم بمعارضة المطالبين بالحرب أمثال يوحنّا جيشالا الذي طالب بمقاومة شرسة ونَعِمَ بمساندة سلطات أورشليم، وأتّهم يوسيفوسَ بالتعاون مع العدوّ. أقام يوسيفوسُ في رومة سنة 64 فعرف قوّتها. أراد أن يتجنّب الحرب، ولكنّ أورشليم كانت تهيّئ الرجال والعتاد وتستعدّ للدفاع.
وفي ربيع سنة 67 دخلت الجيوش الرومانيّة إلى الجليل بقيادة الجنرال فسباسيانس الذي جاء بطريق البحر ونزل في بطلمايس. كان عدد الجيش ستّين ألفَ مقاتِلٍ وتألَّفَ من فِرَقِ فسباسيانس الثلاثةِ، ومن الفرقةِ الخامسةَ عشرةَ التي يقودها تيطس بنُ فسباسيانس، ومن كتائب أنصار قدّمها الملوك المجاوزون ومنهم أغريبّا الثاني.

6- مسلسل الأحداث
إنضمّت سافوريس (صفورية) سريعًا إلى الرومان. وبدأ حصار يوتافاتا، التي أُخذت على إثْرِ خيانةٍ في 20 تمّوز سنة 67، والتي كان فيها يوسيفوس فأُسر ولكنّه لم يُقتَل. وأنهى تيطس تهدئة الجليل.
حينئذ بدأت في أورشليم صراعاتٌ بين يهود من مواقفَ مختلفةٍ . وكان يوحنّا جيشالا قد لجأ إليها مع الناجين من فرقته، فاصطدم بطموح قائد آخر هو سمعان بن غيورا. في ذلك الوقت قُتل عدد كبير من الوجهاء.
ولما مات نيرون في 9 حزيران سنة 68 أوقف فسباسيانس العمليّات العسكريّة وعاد إلى إيطالية تاركًا القيادة في يد تيطس. ولكن تقوّت الحرب الأهليّة في أورشليم في تلك الفترة من الهدوء.
وفي تمّوز سنة 69 هتفت الجيوش الرومانيّة الشرقيّة لفسباسيانس وأعلنته إمبراطورًا. فترك لابنه تيطس أن ينهي الحرب في اليهوديّة.
وفي سنة 70 زحف تيطس على أورشليم حيث سيطر الجوع. حينئذ تصالح العدوّان يوحنّا جيشالا وسمعان بن غيورا أمام التهديد الرومانيّ. في 25 أيّار سقط السور الثالث الذي بدأ ببنائه أغريبا الأوّل وأتمّه الثوّار. وفي 30 أيّار سقط السور الثاني وفي 24 تموز سقطت قلعة أنطونيا وبدأ حصار الهيكل الذي التجأت إليه القوى اليهوديّة. في 10 آب أحرق الهيكل. وفي نهاية أيلول خضعت المدينة كلّها بعد أن صارت كتلة من الدمار. ووُزِّع الأسرى بعضهم إلى الأشغال الشاقّة وبعضهم إلى حلبة الألعاب. بيع عدد كبير كعبيد، واحتفظ تيطس بسبع مئة شابّ ليمشُوا في موكبه عندما يدخلُ رومة في ربيع سنة 71. وقع سمعانَ بن غيورا في الأسر وقُتل، أمّا يوحنّا جيشالا فمات في السجن.
وبقيت ثلاثة حصون هجمت عليها الفرقة العاشرة. سقط هيروديوم من دون صعوبة. وحوصرت مكاور فسقطت سريعًا. أمّا حصار مصعدة فكان صعبًا وطويلاً (هناك تمّ الانتحار الجماعي) وانتهى سنة 74. حينئذ صارت فلسطين مقاطعة رومانيّة، وتولاّها قائد الفرقة العاشرة الذي أقام في أورشليم.

7- نهاية اليهوديّة: الثورة الثانية على رومة (132- 135)
أقام الجيش الروماني في المدينة المقدّسة ومارس شعائر العبادة الوثنيّة، ومُنع اليهود من الإقامة في ما تبقّى من عاصمتهم ومن الاقتراب من بقايا هيكلهم. فكان تَمَرُّد وُلد سنة 115 في مصر والقيروان وامتدّ إلى قبرص وبلاد الرافدَين واليهوديّة. ولكنّ الرومان قمعوه بسرعة وقساوة. في هذا الوقت صارت اليهوديّة مقاطعة قنصلية. وإنّ ضابط ترايانس لوقيوس قوياتوس الذي قمع التمرّد، أقام في هيكل أورشليم صنمًا سمّاه قيصر. فثار اليهود مرّة ثانية ولكن من دون جدوى.
وفي سنة 130 قرّر الإمبراطور أدريانس أن يعيد بناء أورشليم وسمّاها ايلية كابيتولينة (نسبةً إلى اسمه إيليوس وإلى الكابيتول، هيكل رومة بآلهته الثلاثة: زوش، يونون، منيرفا) ومنع الختان تحت طائلة الموت. فتحركت الثورة سنة 132 لدى اليهود تجاه هذه الإجراءات. قاد الثورة سمعانُ ابن الكوكب (رج عد 24: 17) الذي سُمِّيَ المسيحَ والذي احتلّ مع أتباعه قسمًا من البلاد واحتفظ به مدّة سنتين، كما أعاد شعائر العبادة إلى الهيكل المدمّر. تدخّلت رومة بأربعة فرق وظلّت تحارب ثلاث سنوات (132- 135) إلى أن قمعت الثورة كليًّا وبشراسة سنة 135. أمّا مصير المغلوبين فكان شرًّا ممّا كان عليه سنة 70. ومنع أدريانس كلَّ مختون من المجيء إلى أورشليم. ودمّر الهيكل وبُني مكانَه معبُدُ لزوشُ وضع فيه تمثال الإمبراطور وهو على صهوة جواده. وأُلغي اسم اليهوديّة وسمّيت المقاطعة فلسطين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM