الفصل الثامن عشر :التوراة كتاب تاريخ الله

الفصل الثامن عشر
التوراة كتاب تاريخ الله

درسنا التوراة ككتاب شريعة الله فرأينا فيه محطّة جامدة في تاريخ الخلاص تهيّئ لمجيء المسيح وتبيّن لنا أنّ الشرائع والنظم تطوّرت على مرّ الزمن وأنّ تأديب الله عبر الشريعة قد تواصل مع مجرى الأحداث. كل هذا يدفعنا إلى درس التاريخ الذي يشكّل كالشريعة وجهة جوهرية من وجهات العهد القديم. وسينقسم بحثنا قسمين. في قسم أوّل نعرف أنّ الله عمل في نظام الشريعة فوجّه تاريخ شعبه بحيث صار تاريخًا مقدّسًا. وفي قسم ثان نكتشف أنّ هذا التاريخ لعب في مخطّط الله دورًا تربويًا في تهيئة القلوب لمجيء المسيح ودورًا رمزيًا حصل به المؤمنون على معرفة مسبّقة لسرّ الخلاص انطلاقًا من اختبارهم الخاصّ للتاريخ.

I- تاريخ شعب الله في نظام الشريعة
يشكّل التاريخ شيئًا متشعّبًا تلعب فيه مسبّبات مختلفة، وتؤثّر أحداثه في البشرية بطرق متعدّدة. أمّا التاريخ المقدّس فهو تاريخ جماعة دعاها الله لتكون شعبه. دعا الرب شعب إسرائيل ثمّ دعا الكنيسة. وعندما يكتمل تاريخ الكنيسة تصبح البشرية كلّها شعب الله بحيث يصبح كل تاريخ تاريخًا مقدّسًا يوم تصبح الأرض أرضاً جديدة والسماء سماء جديدة ويصير الله كلاًّ في الكل.
ولكنّنا نتوقّف هنا على التاريخ في نظام الشريعة ونتعرّف إلى دور العهد القديم في مخطّط الله فنتعرّف إلى علاقات تاريخ بني إسرائيل بالوحي، وإلى العلامات التي تجعلنا نرى في هذا التاريخ البشري تاريخ أعمال الله، وإلى المضمون الديني الذي يحمله هذا التاريخ.

أ- تاريخ بني إسرائيل وعلاقاته بالوحي والإيمان
1- اختبار شعب الله للتاريخ
بدأ تاريخ بني إسرائيل يوم صاروا شعب الله، أي يوم قَبِل موسى والآباء وحي الله. أما عن الزمن الذي أقام فيه الآباء في عبر النهر وعبدوا آلهة أخَرى (يش 24: 2) فلم يبقَ إلاّ بعض الذكريات الغامضة (تك 11: 27- 32؛ 20: 20- 23) التي ظلّت شفهية لدى هؤلاء الأراميين التائهين (تث 26: 6) ثمّ كُتبت في عهد الملوك. وهذا يعني أنّ هذه الذكريات تروي لنا مرحلة جديدة أساسها وحي من الله ونداء (تك 12: 1 ي). إنّ تاريخ الشعب هو تاريخ إيمانه.
هذا الواقع جعل من بني إسرائيل "شعبًا يعيش وحده ولا يحسب بين سائر الأمم" (عد 23: 9) ولكنّه كان في الوقت ذاته خاضعًا لتقلّبات التاريخ. وهو يشبه إلى حدّ بعيد واقع موآب وأدوم وعمون وسائر الممالك الأرامية والفينيقية. وهو يتأثّر باضطرابات السياسة الدولية التي تقودها مصر وأشور وبابل ورومة. إنّ تاريخ بني إسرائيل هو جزء من تاريخ الشرق وجزء صغير.
هذا التاريخ يورده المؤرّخون على طريقة أبناء الشرق القديم. فيبقى علينا أن نتفحّص الفنّ الأدبي لهذه النصوص علّنا نكتشف أسرارها، وأن نقابل هذه النصوص بمعطيات الآثار فنفهم أمورًا عديدة لم تزل غامضة: إنّ قصّة الآباء تتكوّن من سلسلة حكايات دوّنت في إطار زمني مصطنع، وقصّة الخروج صارت ملحمة دينية، وخبر الاحتلال عُرِض بشكل أخبار بطولية.
ولكن رغم كل هذا، تبقى المراحل الكبيرة واضحة، لأنّ التوراة حفظت لنا الاختبارات التاريخية الرئيسيّة التي تشكّل محطّات لهذا الشعب عبر الأزمنة: دعوة إبراهيم والعهد معه، النجاة من مصر والعهد في سيناء، امتلاك كنعان، النظام الملكي مع داود وسليمان، مملكة الشمال (بعاصمتها السامرة) ومملكة الجنوب (بعاصمتها أورشليم) في أيّام إيليا وأليشاع، دمار السامرة وأورشليم وتشتّت الشعب، آلام وآمال بعد الرجوع، المجابهة مع مملكة وثنية يمثّلها أنطيوخس الرابع المضطهد... لكل شعب أبطاله الذين يعتزّ بهم وتواريخ يتوقّف عندها. وفي هذا لا يختلف بنو إسرائيل عن سائر الشعوب. غير أنّ هذه الذكريات التاريخية قد حُفظت، لا من أجل عاطفة وطنية فقط، بل حُفظت في كتب دينية فكانت قيمتها كبيرة بالنسبة إلى الإيمان.

2- اختبار التاريخ واختبار الإيمان
تكفينا قراءة سريعة للتوراة (أي أسفار العهد القديم) لنفهم أيّة مكانة يحتلّها التاريخ في هذه الأسفار التي تحتفظ لنا بالتقاليد القديمة وأخبار الملوك، وتروي لنا تاريخ شعب الله ومرسليه، وتقدّم لنا مسار الديانة المبنيّة على شهادة هؤلاء المرسلين. في هذا الإطار تأخذ كل الموادّ مكانها وتجد معناها. فهناك الشرائع التي تهدف إلى تنظيم سلوك شعب الله عبر التاريخ. وهناك أقوال الأنبياء وعظاتهم المتوجّهة نحو المستقبل. وهناك النشيد الديني الذي يُدخل الماضي في مواضيع صلاته، وهناك كلام الحكماء الذي يتأمّل في الأحداث فيتذكّر أنّ الرب هو سيد التاريخ (حك 10- 18؛ سي 44- 50).
تلك هي مكانة التاريخ في العهد القديم، وتلك ستكونه في العهد الجديد حيث نقطة الثقل ليست تعليمًا مجرّدًا، بل واقع حصل في ملء الزمن وهو تاريخ يسوع. في هذا التاريخ لا يهتمّ الإنجيليون بكتابة الأمور المفصّلة التي تهمّ حشرية القارئ وفضوله، بل "جميع ما عمل يسوع وعلّم " (أع 1: 1) بالاستناد إلى شهود عيان (لو 1 :2). بعد هذا تبدأ الأحداث والتأمّلات النظرية التي تبقى مرتبطة بهذا الواقع التاريخي الأساسي. في هذا الإطار تبقى العناصر التاريخية التي نقرأها في التوراة جزءاً لا يتجزّأ من تاريخ الله المقدّس، وهي مهمّة لإيماننا، وقد عاد إليها العهد الجديد فاستخلص منها تعليمًا وتذكر أنّ كل ما كتب إنّما كتب لتعليمنا.
أجل، إنّ الإيمان ينطلق من اختبار تاريخي، وإيماننا لا يكتفي بأن يقرّ بوجود الخالق عبر المخلوقات، ولا يعرف فقط بوجود مشترع عبر صوت الضمير، بل يعلن أيضاً أنّ الله يحقّق على الأرض مخطّطه الخلاصي وأنّه حاضر في تاريخ شعبه. في هذا السبيل، لم يعد الاختبار التاريخي إطارًا يكيّف التعبير عن العاطفة الدينية وحسب، بل هو جزء من الإيمان، لأنّ الوحي لا يصل إلينا أوّلاً عبر البحث والتأمّل، بل بواسطة واقع يجعلنا نلمس يد الله تعمل في العالم.

ب- أفعال الله وأفعال الإنسان
1- عناية الله وعمل الإنسان
الله يعمل والإنسان يعمل، ولكنّ الله لا يعمل على مستوى الإنسان. ومن العبث أن نفصل عمل الإنسان عن عمل الله أو نعارض عمل الله بعمل الإنسان، وكأنّ الله لا يستطيع أن يتدخّل عبر عمل الإنسان. إنّ الرب يحترم الأمور الحتمية من اقتصادية واجتماعية ويتركها تفعل فعلها، ويحترم حرّية البشر وفي الوقت ذاته يُخضع التاريخ لسيادته فيدفعه ويوجّهه إلى الهدف الذي رسمته عنايته. وهو يستفيد من حتميّة التاريخ وحرّية الأفراد، وإن بدت لأوّل وهلة وكأنّها تسير عكس أهدافه. مخطّطه الخلاصي يسير مسيرته مهما كانت الطرق التي يسلكها. وخلف سرّ الأحداث يختبئ سرّ المسيح الحمل الذي له وحده كل سلطان.
وهذه الحقيقة تصحّ في التاريخ البشري كلّه، أكان تاريخ الأمم الوثنية أم تاريخ شعب الله، وهي تفهمنا أنّ التاريخ لا يجد معناه في ذاته، بل يخضع لتحقيق مخطّط الخلاص. ونقول إنّ العهد القديم يدلّنا على خطّ تظهر فيه عناية الله بنوع خاصّ بالنسبة إلى مخطّط الخلاص الذي تبان قمّته في حياة يسوع على الأرض، وتمتدّ في تاريخ الكنيسة، بانتظار تمام كل شيء في ملكوت الله.
هذا هو خطّ عمل الله في الزمن كما يتعرّف إليه المؤمنون. هي علامات منظورة تدلّ على حضور الله ويده الفاعلة من أجل الذين يحبّونه (روم 28:8).

2- آيات الله وأعماله
يحدّثنا الكتاب المقدّس عن آيات الله ومعجزاته وعجائبه وأعمال قدرته الرفيعة والمرهوبة. يحدّثنا عن معجزات حصلت في الخليقة (تث 3: 24؛ مز 136: 4؛ أي 37: 14- 16)، وعن عجائب شفاء (2 مل 32:4 ي)، ونبوءات (أش 7: 11) ووقائع تاريخية (مز 78: 11- 12؛ أش 29: 14) وعلامات تتم في آخر الأزمنة (يوء 3:3). كل هذا يدلّ على قدرة الله الخلاقّة. فالكلمة التي برأت الكون في البدء ما زالت تجدّد وجه الأرض وتحدث في التاريخ أمورًا خارقة. وكما أنّ عجائب الخلق هي علامات تنشد مجد الخالق (مز 19: 2)، فأعماله في التاريخ تحمل مضمونًا عميقًا يدعو المؤمنين إلى التأمل فيه.
نحن نجد في الكتاب معجزات لا تفسّر إلا بتدخّل مباشر من قبل الله. وهي تهدف إلى جعل الناس يصدِّقون كلام رسول الله، وإلى تدعيم عمله الديني واقتياد الناس إلى الإيمان برسالته وبكلام الله الذي يحمله. هذا هو معنى الآيات التي قام بها موسى (خر 4: 1- 9) وأشعيا (7: 11) وإيليا واليشاع (1 مل 7:17- 4 ؛ 2 مل: 1ي). آمن العبرانيون (خر 4: 31؛ 14: 31) حين رأوا أعمال الله بواسطة عبده موسى. ولمّا شفى أليشاع نعمان السرياني عرف الناس أنّ في أرض إسرائيل نبيًّا (2 مل 8:5).
ونجد معجزات تبدو بشكل تنبّؤ ونظرة مسبّقة إلى المستقبل. أعلن موسى لشعب إسرائيل أنّ الرب سينجّيه. وتمّ للشعب ما وعده به ساعة بدا الخلاص أمرًا مستحيلاً (خر 13:14- 14). وأعلن ناتان أنّ ابن داود وبتشابع سوف يموت، فتمّ ما قاله (2صم 12: 14). وتنبّأ أشعيا عن هزيمة السامرة ودمشق (أش 8:7؛ 8: 4) وعن تراجع سنحاريب (أش 33:37- 35). لا شكّ في أنّ ما تمَّ تمّ بفعل أحداث تاريخية، ولكنّ كلمة الله التي تفوّه بها النبي أعطت للحدث معنى جديدًا (إنّه صادر عن الله) وأظهرت مصداقيّة كلام رسول الله.

ج- التاريخ على ضوء الإيمان
1- مبادئ عامّة
لم تورد الأسفار المقدّسة التاريخ من أجل التاريخ ولإشباع الفضول والحشريّة، كما أنّها لم تفصل يومًا الأحداث عن البعد الديني. إنّ جوهر تعليم الكاتب الملهم هو المضمون الذي جعله الله في الأحداث. فكل حدث هو نتيجة كلمة الله الخلاّقة، كل حدث يحمل في طيّاته كلمة الله التي تتوجّه إلى الناس اليوم وفي كل زمان.
ولكنّ هذه الكلمة تبقى غير مفهومة إن لم يوجد أناس ملهمون يوضحونها لنا. وشعب إسرائيل لم يعوزه يومًا مثل هؤلاء الناس الذين أفهموه معنى أحداث تشكّل مصيره. فالمؤرّخون يرسمون الماضي ويتأمّلون فيه. أمّا الأنبياء فيقرأون الحاضر ويكتشفون المستقبل، وكلّهم يعودون إلى عهد سيناء الذي ما زال يلقي ضوءه منذ بداية تاريخ الشعب على المعنى العميق للأحداث الآتية. وعلى ضوء هذا الدستور الديني يتضمّن تاريخ بني إسرائيل أمرين اثنين. فهو اختبار لعطايا الله ومواعيده المحقّقة، وهو اختبار لدينونة الله وحكمه حسب مبدأ المكافأة الزمنية المرتبطة بالعهد.

2- اختبار عطايا الله ومواعيده
إنّ النظام الذي أسّسه الله في العهد القديم لا يتضمّن فقط شرائع ونظمًا، بل مواعيد تبيّن لنا أي هدف يشدّ تاريخ شعب إسرائيل. هذه المواعيد سبقت عهد سيناء، لأنّها بدأت مع الآباء، يوم دعا الله إبراهيم (تك 12: 2- 3؛ 13: 14- 17). أمّا موضوع هذه المواعيد فنسل كبير وأرض خصبة وبركة دائمة. وفي مرحلة لاحقة سيعود الكتاب إلى الكلام عن هذه المواعيد في إطار عهد سيناء: لقد صار نسل إبراهيم وإسحق ويعقوب الشعب الإسرائيلي بأسباطه الاثني عشر (خر 24: 4) الذي وعده الرب بأن يكون كثيرًا (خر 23: 30) وأن يرث أرض آبائه (خر 17:3 ؛ 23: 30- 31). ولمّا تمّ احتلال أرض كنعان، أعطى صموئيل النظام الملكي سمته الدينية، وجعل ناتان بين سلالة داود ومصير شعب الله رباطاً أبديًا لا يزول (2 صم 8:7- 16).
ثمّ نتحدّث عن المواعيد في مخطّط الله. لهذه المواعيد غرض ملموس يتحقّق الآن أو في مستقبل قريب على مستوى تاريخ الأمّة، ويسند في الوقت ذاته رجاء دينيًا يشكّل للشعب برنامج عمل. إذا كانت هذه المواعيد متوجّهة إلى أبعاد لا حدود لها (تك 3:12؛ 2 صم 7: 16)، إلاّ أنّها تسير نحو مرحلة تسبق هذا المستقبل فتكشف لنا بطريقة تدريجية تفاصيل مخطّط الله، لا بشكله النهائي، بل بالمراحل التي تسبق النهاية. وهكذا يرتبط تاريخ بني إسرائيل بمخطّط الخلاص الشامل الذي يشكّل الإطار الذي يحلّ فيه هذا التاريخ.
أجل، لقد اختبر شعب إسرائيل مواعيد الله وعطاياه، وعرف أنّ نموّ الشعب وخلاصه من عبودية المصريين وإقامته في أرض كنعان لم تكن من قبيل الصدف أو بسبب قدرة شعب إسرائيل أو أعماله الصالحة، بل هي عطيّة من الله ليتمّ ما وعد به الآباء. قال موسى للشعب: "اختاركم الرب لتكونوا من نصيبه، لا لأنّكم أكثر من جميع الشعوب، لكن لمحبّته ولمحافظته على اليمين التي أقسم بها لآبائكم " (تث 6:7- 8). "فلا تقولوا في قلوبكم: إنّنا بقدرتنا وقوّة سواعدنا اكتسبنا ما نحن عليه من سلطان، بل تذكّروا الرب إلهكم الذي أعطاكم هذه القدرة" (تث 8: 17- 18).

3- دينونة الله وحكمه
إنّ نظام العهد القديم المؤسّس على عهود الله، يظهر بشكل اتّفاقية بين الله والشعب. بالعهد يُلزم الله نفسه ويجدّد مواعيده، ولكنّه في الوقت ذاته يفرض دستورًا وشرائع وفرائض يلزم الشعبُ نفسه بها. وهكذا يضع الرب شعب إسرائيل أمام مسؤوليّاته: إن كان أمينًا أتم وعوده له وغَمَره ببركاته (خر 22:23-33 ؛ لا 3:26-13؛ تث 28: 1- 14). وإن كان خائنًا انتُزعت منه البركات وتحمّل العقاب (خر 23: 21 ؛ لا 26: 14- 43 ؛ تث 28: 15- 68). نرى هنا تطبيقًا لمبدأ المكافأة والجزاء على الجماعة كلّها في إطار أرضي ودنيوي. والنتيجة: يعتبر بنو إسرائيل أنّ كل ما يحصل لهم من خير وسعادة هو تتميم لوعد الله بسبب أمانتهم له وأنّ كل ما يصيبهم من شرّ وشقاء (أكانت هزيمة في الحرب أم آفة زراعية) هو نتيجة ضربة الله لهم بسبب خيانتهم للعهد.
انطلاقًا من هذا المبدأ سيجد الشعب علامات الله في كل ظروف تاريخه. لن نذكر نعم الله لشعبه، وقد كانت كثيرة، بل معاكساته التي بدت بشكل نوائب ومصائب جعلت الشعب يشكّ بأمانة الله. ولكنّ الشعب نسي أنّ الله وعد بتحقيق مواعيده شرط أن يكون الشعب أمينًا. ولمّا فهم الشعب هذا الأمر، إختبر دينونة الله وحكمه.
من هذه الزاوية ستنظر التقاليد القديمة إلى المصائب التي حلّت بالجماعة: زمن الحياة في البرّية (عد 11- 14؛ 20: 1- 13؛ 21: 4- 9)، زمن الاحتلال (يش 7: 1 ي)، عهد الملوك (عا 2: 6- 6؛ هو 2: 4- 9). سقطت السامرة (2 مل 7:17- 21) وبعدها أورشليم (2 ملى 21: 10- 15؛ 23: 26- 27) لأنّ الشعب أخطأ إلى الرب وتمرّد عليه (مز 17:78). وغضب الرب فاستعمل الجفاف (إر 14: 1ي ؛ 1 مل 17- 18) والجراد (يوء 1- 2) والقحط (حج 1: 1- 11) والغزو (ار 5: 15- 17) ليعاقب شعبه. من هذا القبيل لا يختلف شعب إسرائيل عن سائر الشعوب الذين تصيبهم دينونة الله ويضربهم غضبه قصاصاً لهم على خطاياهم (عا 1 :3- 3:2). هذا التشابه بين مصير شعب الله ومصير سائر الشعوب يبيّن لنا أنّ دينونة الله تصيب البشرية الخاطئة كلّها وأنّ غضبه يُعلَن على كل الشعوب معًا (روم 1 :18 ي). ما نراه هنا ليس مخطّط خلاص بقدر ما هو مصير عالم خاطئ كان شعب إسرائيل النموذج الأوّل له.

4- التاريخ المقدّس
إذا كانت أحداث تاريخ شعب إسرائيل ترتبط بأيّ شكل كان، إمّا باختبار عطايا الله وإمّا باختبار دينونته، أما نستطيع أن نقول بعد ذلك إنّ كل شيء هو تاريخ مقدّس وله أهمّيته بالنسبة إلى الإيمان؟ فإن أخذنا التاريخ المقدّس كما عاشه الشعب، فالحدث ككل أو سلسلة الأحداث تشكّل اختبارًا له بعده الديني. فني صموئيل نقرأ خبرًا عن وصول داود إلى عرش بني إسرائيل (1 صم 16: 1- 2 صم 7: 29). ولكنّنا لن نتوقّف على التفاصيل إلاّ داخل المجموعة، مع العلم أنّ هناك تحوّلات رئيسية تدلّ بوضوح على إرادة الله: فاختيار شيوخ يهوذا (2 صم 2: 2) ثِمّ شيوخ إسرائيل (2 صم 5: 1- 3) هما من العناصر الاساسية التي تستقطب معها أحداثًا يكون بعضها تافهًا مثل وقائع هرب داود من وجه شاول (1 صم 21: 1ي). لا يفهم المؤمنُ الحدث إلاّ بعد نهايته ت بعد أن تكون كشفت كلمة الله عن معناه (2 صم 7: 1 ي).
وإن أخذنا التاريخ المقدّس كما سرده الكتّاب الملهمون، نفهم أنّ المضمون الديني للإخبار الكتابي يبرز من خلال التفاصيل ليكشف لنا هدف الكاتب التعليمي. وموضوع تعليمه ليس بالدرجة الأولى وقائع وأحداث بقدر ما هو معنى عميق نكتشفه وراء هذه الوقائع والأحداث. يهمّ الكاتب التاريخ بقدر ما هو تاريخ مقدّس، بقدر ما يحدّثه عن مسيرة مخطّط الخلاص. وإن هو جمع في سرده للماضي موادّ غنائية وقانونية وقصصية، فلا يجب أن ننسى أنّنا أمام لوحة نستخلص منها كلّها المعنى العميق. وهنا، عندما نقرأ الكتاب ننظر أوّلاً إلى الوجهة الدينية التي تحدّد هدف الكاتب في كتابه وتربطه باللاهوت والتاريخ. وعندما ننظر إلى الوجهة الأدبية ننظر إلى الموادّ التي استعملها الكاتب ليورد لنا اختبارات الماضي التاريخية.

II- دور التاريخ في العهد القديم وفي مخطط الظلام
نقول عن التاريخ في العهد القديم ما قلناه عن الشريعة. فالتاريخ جزء لا يتجزّأ من تأديب الله لشعبه، وهو يرسم لنا صورة مسبّقة عن سرّ الخلاص في المسيح. هذا هو المبدأ العام الذي سنجد تطبيقًا له في أحداث تاريخ شعب الله.

أ- دور التاريخ في تأديب شعب الله
1- تأديب الله
التأديب، كما يفهمه القدّيس بولس (غل 3: 24) هو تربية أخلاقية ودينية. في العهد القديم أدّب الرب شعبه مستندًا إلى وسائل ناقصة، فهيّأه لنظام العهد الجديد، ووصل إلى نتيجتين:
الأولى: رفع هذا الشعب إلى مستوى أخلاقي وديني سامٍ فهيّأه لتقبّل الإنجيل.
الثانية: حفر في قلبه وعيًا للخطيئة جعله يحسّ بالحاجة إلى الفداء.
أدّب الرب شعبه بواسطة الثواب والعقاب، فاختبر الشعب عطايا الرب المرتبطة بالوصايا واختبر دينونة الرب كعقاب عن الخيانة، كل هذا تمّ عبر أحداث التاريخ. وجاءت شرائع الرب وفرائضه مرتبطة بتاريخ الشعب. كانت البداية في عهد سيناء، ثمّ تطوّرت الشرائع لتنسجم مع العصور اللاحقة فجمعت الموادّ العديدة التي هي ثمرة اختبار تاريخي يوجّهه الله. ونقول: إنّ تأديب الرب تمّ عبر أحداث التاريخ، فكان تقدّم وتراجع، وكانت وقائع تاريخ روحي ارتبط بتوالي الأحداث. وهكذا رأينا من جهة مواقف بني إسرائيل المتعدّدة والمتضاربة تجاه الله، كما رأينا من جهة ثانية أحداث عنايته تُعاقب المؤمنين وتشجّعهم ليبقوا على الأمانة لربّهم أو تدعوهم إلى التوبة. وهكذا يكون تأديب الله تاريخًا يشمل تاريخ بني إسرائيل الروحي والزمني كلّه.
والتأديب الأخلاقي يكمن في تربية على حياة فاضلة توافق الوصايا، وعلى عيش بحسب العدالة توضح الشريعة ومتطلّباتها، وعلى ممارسات ديانة تحدّد الطقوسُ فرائضها. وكان التأديب اللاهوتي بواسطة كلمة الله التي تنعش في القلوب الإيمان وحياً والرجاء وعدًا والمحبّة قاعدة حياة. وهذه الكلمة ترتبط بأحداث تسندها وتكون علامة لها.

2- الله يربّي إيمان شعبه
الله يعمل في التاريخ ليوقظ الإيمان في شعبه، ويستفيد من اختبار شعبه للتاريخ ليربّي فيه الإيمان. ولكنّ الإيمان ليس عاطفة مبنية على أمور لا عقلية بل جوابًا على كلام الله الذي يوحي إلى الإنسان سرّ عمله وكيانه. وعندما يريد الله أن يوقظ في القلوب هذا الموقف الروحي، فهو يستفيد من التاريخ بطريقتين:
أوّلاً: تصل كلمته إلى الناس عبر أشخاص عاشوا في زمن من الأزمنة. أرسلهم فلعبوا دورًا فاعلاً في حياة شعبه (موسى، الأنبياء). بهذه الطريقة تكون كلمة الله دافعًا تاريخيًا وحدثًا محدّدًا يرتبط بغيره من أحداث.
ثانيًا: الآيات التي تبيّن مصداقية هذه الكلمة ومصدرها الإلهي هي أحداث تشكّل تاريخ بني إسرائيل (عبور البحر الأحمر، آيات برّية سيناء).
إنّ التاريخ يلعب دورًا هامًّا في إيقاظ إيمان شعب الله في العهد القديم وهو يؤثّر في موضوع إيمان الشعب. فالله يكشف لشعبه موضوع هذا الإيمان الذي ليس فقط موقفًا روحيًّا يقفه الإنسان أمام الله، بل يتضمّن معرفة لأسرار الله. وهنا نجد نفوسنا أمام عنصرين اثنين: كلمات المرسلين وأحداث التاريخ. فالله لا يكشف عن ذاته بطريقة مجرّدة عبر أفكار المفكّرين، بل يعلن أسرار شخصه الحميم عبر عمله السرّي الذي يقوم به من أجل خلاص العالم. إنّ الإنسان يتعرّف إلى الإله الكائن عبر الإله الفاعل في الكون. وتاريخ شعب إسرائيل هو تحقيق لمخطّط خلاصه الذي يتمّ في نهاية الأزمنة، واختبار لطرقه التي فيها يكشف عن ذاته كما في مرآة بالنسبة إلى بني إسرائيل. ليس الله فقط ذلك "الخالق السماوات والأرض " (تك 14: 19)، بل "إله إبراهيم وإسحق ويعقوب " (خر 3: 15)، الإله الذي تجلّى في التاريخ، سيّد التاريخ الذي فيه ينشر قوّته. الله هو من يدعو الإنسان (تك 12: 1؛ خر 4:3 ي ؛ 19: 5- 6) ويخلّصه (خر 7:4، 8؛ 30:14- 31) ويقيم معه عهدًا (تك 15: 1ي ؛ خر 8:24) ويفرض عليه شريعته (خر 20: 1-17) ويعاقبه إن أخطأ ويكافئه إن أطاع... كلّ هذه اليقينات تستند إلى اعتبارات ملموسة انطلق منها بنو إسرائيل ليتعرّفوا إلى الله وإلى موقع الخليقة بالنسبة إلى الله. فتبيّن لهم أنّه إله الحنان والرحمة، الطويل البال والكثير النعمة والأمانة (خر 34: 7- 8). إنّه الإله القدّوس الذي يفرض القداسة على الذين يريدون أن يقتربوا منه (لا 11: 44- 45؛ 2:19؛ أش 3:6-4).
تلك هي تربية الإيمان في العهد القديم، وهي مؤسّسة على اختبار تاريخي يبرز مضمونه العميق على ضوء كلمة الأنبياء. من هنا يرتسم مخطّط الله، وإن بقي خفيًّا، يدخل في حقل اختبار الإنسان، ويرتسم أمامنا سرّ الله العميق وإن بقي كيانه الحميم محجوبًا فلا يتمكّن الإنسان أن يراه (خر 23:33 ؛ 1 مل 19: 11؛ أش 6: 5). إلاّ انّه يكشف عن ذاته إلهًا شخصيًا حاضرًا مع الإنسان فاعلاً في خليقته وسيّدًا عليها. هذا الوحي، وإن ناقصاً، يدلّنا على موضوع إيماننا، نحن المسيحيين، بانتظار الوحي الذي يتمّ لنا يوم يرسل الله إلينا ابنه أي كلمته (يو 1 :9- 18)، ويوم يكشف لنا موتُ يسوع وقيامتُه ملءَ مخطط الله. وهكذا تكون نهاية الأزمنة المرحلة الأخيرة من مراحل تاريخ الله.

3- الله يربّي شعبه على الرجاء
ينطلق الله من التاريخ ليوقظ الرجاء في قلب شعبه ويقدّم له موضوع هذا الرجاء. فرجاء الشعب بالله هو جواب على كلمة الله ووعد بالخلاص، وهو ينبع من الإيمان. فإيمان إبراهيم (تك 6:15) يفترض الرجاء لأنّه يتطلّع إلى وعد من قبل الله. قال الرب لإبراهيم: "هكذا يكون نسلك ". فآمن إبراهيم بالله (تك 15: ا- 6).
ويرتبط الرجاء بالتاريخ. فمواعيد الله وكلام أنبيائه هي أحداث في الزمن. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فالآيات التي تؤّسس الرجاء هي موضوع اختبار الناس في التاريخ وتحقيق وعود سابقة. بما أنّ الله حقّق جزءًا ممّا وعد بتحقيقه في مصير شعبه، أكان ذلك خيرًا كالإقامة في كنعان، أم شرًا كدمار أورشليم، فهذه هي العلامة أنّ كلمته الخلاّقة توجّه التاريخ وتحقّق فيه كل مخطّطاتها (أش 55: 10- 11 ). ويستنتج المؤمن بعد ذلك أنّ كل ما وعد به الرب سيتمّ من دون شكّ، لأنّ ما تمّ من مواعيد في الماضي يكفل مواعيد المستقبل (أش 42: 49؛ 48: 3- 8). فالإله الذي كشف عن نفسه في الماضي مخلّصاً وقديرًا ومعينًا وحنونًا وأمينًا، هو هو بذاته وسيبقى كذلك إلى الأبد. لهذا فالثقة به والاتّكال على كلامه فرض على كل مؤمن (مز 121: 1 ي ؛ 124: 1 ي؛ 130: 5-8). والرجاء بمواعيده لا يكون موقفًا عاطفيًا وحسب، بل التزام يستند إلى كل تاريخ شعب الله ويجد فيه قوّته وثباته.
وينطلق الشعب من هذا التاريخ ليدرك موضوع رجائه الذي هو الخلاص. أجل، إنّ تاريخ شعب الله هو مسيرة الخلاص الطويلة، ومخطّط الخلاص هو جوهر التاريخ. لا شكّ في أنّ التوراة تبدأ فتعبّر عن هذا الخلاص بكلمات غامضة وعبارات مبهمة: وعد بالبركة، بنسل كبير، بسعادة على هذه الأرض (تك 12: 2- 3؛ 13: 14- 16)، فيبدو الوعد مرتبطاً بوضع الإنسان التاريخي، ويعلن أنّ هذا الوضع سيتبدّل تبدّلاً جذريًا. ثمّ إنّ موضوع هذا الرجاء سيتّضح شيئًا فشيئًا نتيجة نموّ كلام الله الذي ينطلق من المواعيد نفسها ليكشف عن نواياه الخفيّة. ينطلق الرب من التاريخ فيعلّمنا أنّ التاريخ هو اختبار لوضع الإنسان الشقي: اختبار الألم بكل أشكاله (أمراض، آفات، حروب، غزوات، سبي، عبودية)، اختبار الخطيئة التي هي السبب في كل هذه الشرور لأنّها تقطع الإنسان عن الله. اختبار لعطايا الله التي لا تمنح الخلاص النهائي وكأنّ كل شيء قد انتهى، بل ترسم الخطوط العريضة لما يمكن أن يكون عليه هذا الخلاص. اختبر الشعب نجاته من عبودية مصر، اختبر سعادة الإقامة في أرض الموعد... وكما اختبر الشقاء فعرف من أيّة حالة يريد الله أن ينجّيه، كذلك اختبر من خلال التاريخ إلى أيّة حالة يريد الله أن يرفعه. لهذا ستنقلنا مواعيد الأنبياء الإسكاتولوجية من اختبار تاريخي في الماضي لترسم أمامنا الخلاص الأخير.
لا شكّ في أنّ فكرة الخلاص النابعة من هذا الاختبار تبقى ناقصة. ولكنّها تبقى منفتحة على الوحي الأخير الذي يكشف للإنسان موضوع الرجاء الكامل الآتي إلينا بصليب المسيح وقيامته.

4- الله يربّي شعبه على المحبّة
حدّثنا العهد القديم عن الخوف، ولكنّه حدّثنا أيضاً عن المحبّة فهيّأ الطريق للإنجيل. فما هي الوسائل التي لجأ الله إليها ليربّي شعبه على هذه المحبّة السامية؟ أيقظ القلوب على عرفان الجميل، وجّه الأفكار إلى التوبة فانفتحت الطريق أمام المحبّة.
إنّ ما أيقظ الحبّ في قلوب بني إسرائيل هو اختبار حبّ الله السابق الذي أغدقه على شعبه عبر تاريخه. منحه عطايا مجّانية لم يكن شعب الله يستحقّها، لا بسبب أعماله السامية ولا بسبب قدرته أو أمانته. دعا الآباء، اختار شعبًا خاصًّا به، نجّاه من العبودية، أدخله أرض الميعاد. كل هذه الأعمال تدل على حبّه لشعبه. ولماذا فعل ذلك؟ محبّة بشعبه، ومحافظة على اليمين التي أقسم بها للآباء (تث 7:7- 8). هذا ما يقوله سفر التثنية (10: 21- 22؛ 2:11- 7) ويردّده الأنبياء من عاموس (6:2- 12) إلى هوشع (11: ا- 4) وأشعيا (5: 1- 4) وإرميا (2: 2- 7) وحزقيال (16: 1- 14). ويمتدّ اختبار عطايا الله إلى ميثاق العهد الذي يلقي ضوءًا على حياة الشعب. فهذا العهد ليس عقدًا ذات طابع قانوني وحسب، بل رمز إلى علاقة محبّة بين الله وشعبه، كحبّ الأمّ لابنها والعريس لعروسه. أجل، من خلال عهده مع الله وعطايا الله له، إختبر الشعب يهوه إلهًا محبًا.
خطا الرب الخطوة الأولى ليدعو الشعب لكي يبادله الحبّ: هو حبّ يعرف جميل من أغدق عليه عطاياه، حبّ يريد حبًّا لا حدود له: أحبّ الرب إلهك بكل قلبك كل نفسك كل قدرتك (تث 6: 5). حينئذ يفهم الشعب أنّه ليس في منزلة العبد بل في منزلة الابن والحبيب. وهكذا تكون أمانة الحبّ المتجاوب مع حبّ الله فوق الأمانة لوصية خارجية أو لشعائردينية، وتصبح عاطفة عميقة تدعونا إلى الأخذ بكلمة الله كقاعدة حياة لنا (تث 6:6؛ 1:11).
ولكنّ حبّ الشعب لله لم يكن حبًّا لا غبار عليه، وأمانته انقلبت خيانة يوم اختبر بنو إسرائيل الخطيئة وأداروا بوجوههم عن وصايا الله. تصرّفوا كالمرأة الزانية التي تخون زوجها من أوكالابن العقوق الذي يترك المنزل الوالدي (هو 2: 7- 10؛ أش 1: 2؛ إر 3: 19- 20) فأنكروا ذواتهم. ولكنّ الله لا يمكنه أن ينكر ذاته. هو الإله الحيّ وسيبقى كذلك. لهذا نراه يوقظ الأمانة في قلب شعبه الخاطئ. دان شعبه وحكم عليه بالألم، لا لينتقم منه كما ينتقم سيّد قاس من عبيد خونة، بل لينبّهه ويؤدّبه ويردّه إليه. تصرّف الله كأب استهان به ابنه أو كزوج خانته زوجته فعمل كل شيء ليعيد إليه الابن الضالّ والزوجة الزانية. وهكذا جاءت نداءات الأنبياء تشدّد على حقّ الله الذي تعدّى عليه الإنسان بخطيئته، وتدعو الشعب إلى الرجوع بقلب محبّ تائب فيجدون قلب الرب وغفرانه في انتظارهم (هو 2: 9- 10؛ إر 3: 11- 13؛ مي 6: 3- 5). إنّ الله ينتظر الخاطئين التائبين، ينتظر أمانة أخلاقية دينية، بل ينتظر حبًّا جديدًا متواضعًا وخاشعًا يظهر في أعمال العدل والرحمة (مي 6: 6- 8).
نحن هنا في بداية الطريق، طريق تربية الله لشعبه على المحبّة. وهي تهيّئ البشرية لتتقبّل تجلّي محبّة الله يوم يرسل ابنه ليموت على الصليب كفّارة عن خطايانا (1 يو 4: 9- 10). إنّ اختبار شعب إسرائيل لمحبّة الله الذي يعطي النعمة ويغدقها، الذي هو الغيور على محبّته والغافر لشعبه، يهيّئنا للاختبار السامي الذي فيه سنعرف المحبّة (1 يو 3: 16)، نعرف محبّة الله لنا ونؤمن بها (1 يو 16:4) في شخص الابن الوحيد يسوع المسيح.

ب- العبرة التي نستخلصها من التاريخ
1- التاريخ ورموزه في العهد القديم
تكلّم القدّيس بولس عمّا حدث للعبرانيين يوم خرجوا من مصر وتاهوا في البرّية، فقال: "وقد حدث لهم هذا كلّه ليكون لنا مثلاً، وكتب تنبيهًا لنا نحن الذين بلغنا منتهى الأزمنة" (1 كور 10: 11). يفهمنا هذا المبدأ أنّ أحداث التاريخ في العهد القديم تحمل بعدًا نبويًا بالنسبة إلى سرّ المسيح الذي جاء في نهاية الأزمنة وأدخلنا في جسده بواسطة المعمودية والإفخارستيا. لقد جاء الوقت الذي فيه أتمّ يسوع كل الرموز وأعطى معنى للأحداث التي كوّنت نسيج تاريخ العهد القديم.
هنا نميّز التاريخ في التوراة عن التاريخ في البدايات الوثنية. نقول أوّلاً: لا وجود للأساطير في التوراة، إذ لا يوجد في البدايات إلاّ العمل الخلاّق الذي يقوم به الله الواحد. وإذا رجع الكاتب الملهم إلى الصور القديمة (مز 74: 14؛ 89: 10- 11؛ أش 51: 9- 10) ليعبّر عن عمل من الأعمال، فهو ينقّي هذه الصور من كل مضمون شرك ويحوّل معنى التعابير على ضوء عقيدة التوحيد. وهكذا، فالخلق ليس نهاية تاريخ إلهي حصل في الأزمنة الأولى (كما في أسطورة مردوك البابلية)، بل بداية تاريخ مقدّس يتضمّن زمن الناس. إنّه تاريخ مخطّط الله الذي يظهر في سلسلة من الأحداث تشكّل متن مصير شعب إسرائيل.
وهذا التاريخ يسير إلى نهاية تطابق نوايا الله الخفيّة. وهذه النهاية، وإن لم تنكشف للبشر قبل أن تتحقّق في الواقع، إلاّ أنّها تجتذب مسيرة التاريخ المقدّس بأحداثه فتتطلعّ إلي الحدث الأوحد الذي تهيّئ له الطريقَ كلُ الأحداث السابقة. إنّ طبيعة نشاط الله الخلاصي في زمن العهد القديم لا تختلف عمّا ستكون عليه يوم تتجلّى في كمالها. ولهذا فالوحي يعطي شعب الله معرفة مسبّقة للنهاية، لا معرفة بمجيئه العتيد عبر مواعيده فحسب، بل معرفة ملموسة ترتبط باختبار لأعمال الله في التاريخ. إنّ ما عمله الله في الماضي يرسم الخطوط الأولى لما سيصنعه في آخر الأيّام. ننطلق من الوعد فنتصوّر ما يكون عليه تحقيق الخلاص النهائي. إنّ أحداثًا كالخروج وعهد سيناء ودخول أرض الموعد والملكية الداودية وبناء الهيكل، تشكّل الخطوط الأولى لما سيحقّقه الله في نهاية الزمن. وحتّى عمل الله الخالق في بداية الزمن هو صورة لما سيحقّقه الله في نهاية الزمن ساعة تكون "سماء جديدة، وأرض جديدة" (رؤ 21: 1).
مثل هذه الطريقة الرمزية تعطي التاريخ قيمته فيصبح نموذجًا، وتصبح أحداث الماضي صورًا مسبّقة لعمل الله الواحد الذي يفعل في العالم الإلهي والعالم الأرضي معًا، في الزمن البشري وفي الزمن الأزلي معًا. مثل هذه الطريقة لها تأثيرها في عبادة بني إسرائيل الذين رفضوا الشرك وكلّ الأساطير الوثنية فلم تعد الطقوس أعمالاً تردّد أعمال الله في ما قبل الزمن. لا شكّ في أنّ الأزمنة المقدّسة ترتبط بالدورة الكونية وتحافظ على قيمتها الدينية (دورة السنة، دورة القمر، دورة الفصول). هل نسينا أنّ الخليقة هي المكان الذي يتجلّى فيه الله! ولكنّ الأعياد التي تكرّس الزمن وتقدّسه، تبدّل طبيعة هذه الأعياد التي تصبح احتفالاً بأعمال الله في التاريخ المقدّس. فيوم السبت (الذي ينهي دورة الأسبوع) يذكّر المؤمن بعمل الخلق (تك 2:2-3؛ خر 20: 11؛ 12:31 ي). وعيد الفصح (والفطير) يذكّره بنجاته من العبودية (خر 12: 25- 27). وعيد العنصرة بعهد سيناء، وعيد المظالّ بالإقامة في البرّية برفقة الله (لا 32:23- 43). وهكذا أعيد بناء دورة الأعياد التي عرفها الرعاة والمزارعون (هذا ما كان عليه بنو إسرائيل) لا على أساس الطبيعة بل على أساس تاريخ الخلاص الذي تمّ في تاريخ شعب الله. وجُعل كل عمل من أعمال الله حاضرًا لا للتذكير وحسب، بل لتكون للشعب الحاضر اليوم النتائج التي حصل عليها آباؤه في الماضي. فإذا كانت أقوال الأنبياء تردِّد أنّ الرب سيعيد في المستقبل بطريقة أكمل، ما فعله في الماضي، فالأعياد التي تحتفل بهذه الأحداث ترتبط هي أيضاً بالحدث الفريد، حدث مجيء الرب، وتهيّئ الشعب مسبّقًا لهذا الحدث.
2- مع العهد الجديد
مع العهد الجديد تدشّنت الأزمنة الأخيرة وتحقّق حدث الخلاص في واقع من التاريخ البشري هو تجسّد يسوع وموته وقيامته. إنّ ما رآه الأنبياء ينكشف، ومعنى وقائع الماضي تتوضّح لترينا العلاقة التي تربطها بالنهاية. في سرّ الفصح يتوضّح معنى الرموز التاريخية التي تلقي بدورها ضوءًا على تاريخ المسيح. ولهذا نرى يسوع يستعيد أحداثًا وصورًا من العهد القديم ليحدّثنا عن معنى موته: إنّ موته هو ذبيحة العهد الجديد (مر 14: 24) وهو يدشّن الفصح الجديد (لو 22: 15- 16).
وهنا نلاحظ عنصرًا جديدًا في هذا البعد الرمزي للتاريخ الكتابي، إذ إنّ الحدث الإسكاتولوجي يتّخذ شكلاً يميّزه عمّا كان عليه في المواعيد النبوية. ستدخل فيه نظرة زمنية تجعل تحقيقه يمرّ في ثلاث مراحل متتالية: مرحلة مجيء يسوع بالجسد وإقامة ملكوت الله وإنجاز ذبيحة الخلاص. مرحلة الكنيسة التي يستتر فيها الرب الممجّد، بينما يمتدّ الملكوت وينتشر بفضل كرازة الإنجيل والتدبير التقديسي بالأسرار. مرحلة المسيح الممجّد وفيها يتمّ الخلاص لجميع المختارين. وهكذا، فسرّ الخلاص الذي رحمه التاريخ في العهد القديم يبدو الآن على مستويات ثلاثة.
الأوّل: مستوى يسوع الإنسان العائش على أرض فلسطين في زمن أغوسطس قيصر وهيرودس ملك اليهودية.
الثاني: على مستوى الحياة الأبدية حيث يَتمّ سرُ الخلاص في ما وراء التاريخ.
الثالث: سرّ الكنيسة وبها يدخل في قلب التاريخ الزمني حضورُ الأزل السرّي. من هذا القبيل نستطيعِ أن نقرأ رموز العهد القديم بالنسبة إلى هذه المستويات الثلاثة: فخروج العبرانيين مثلاً يذكّرنا بخروج يسوع من هذا العالم ورجوعه إلى الآب (يو 13: 1). كما يذكّرنا بخروج المسيحيين من عالم الخطيئة إلى حياة في المسيح بواسطة المعمودية (1 كور 10: 1-2)، وخروجهم على خطى المسيح في مجد السماء حيث يرتّلون نشيد موسى والحمل (رؤ 15: 3).

3- رمز الدينونة الأخيرة
تحدّثنا عن اختبارين عاشهما بنو إسرائيل في التاريخ: اختبار دينونة الله وتهديده لشعبه الذي تحقّق فيما بعد. اختبار عطايا الله ومواعيده التي تحقّقت هي أيضاً. وهذان الاختباران يرسمان لنا، على ضوء الإيمان، وجه الأزمنة الأخيرة دينونة وخلاصاً.
لا تتخيّلنّ الدينونة من منظارنا الضيّق فنحسبها حكمًا قضائيًا من الله يكافئ بموجبه الإنسان الصالح ويعاقب الإنسان الشرير. إنّ الله الديّان، كما يعرفه الوحي الكتابي، ليس حاكمًا لا يحسّ ولا يشعر في مراقبته أمور العالم. إنّه الإله الذي يفعل في التاريخ البشري فيحقّق فيه مخطّطه الخلاصي ويصارع القوى المعادية ليصل إلى أهدافه. ودينونته جزء من هذا الصراع، وهي ترينا الرب منتصرًا بفعله السامي على بشرية وقحة تعارض إرادته، فيفتح الطريق أمام عدالته التي تخلّص المؤمنين. وهكذا فالدينونة هي نشاط الله الدائم عبر كل التاريخ البشري، وهي تتجسّد في أحداث يختبرها الناس عقابًا وقصاصاً. ولكنّ هذه الدينونة لن تتحقّق كلّيًا إلاّ في نهاية الأزمنة كمقدّمة للخلاص.
هذه الدينونة التي تصل إلى البشرية بعد فترة التوراة الإعدادية تبرز أمامنا في مستويات ثلاثة: مستوى حياة يسوع على الأرض، مستوى زمن الكنيسة، مستوى التمام النهائي.
فخلال حياة يسوع على الأرض تدشّنت الدينونة الإسكاتولوجية. قال يوحنّا في ذلك: إنّ ابن الإنسان، إن الابن قد جعله الآب الديّان السامي. فمن يسمع كلام الابن لا يصير إلى الدينونة (يو 5: 22- 24). "أمّا من لا يؤمن فقد حُكم عليه" (يو 17:3- 18). إذًا، يكفي أن يأتي المسيح نورًا للعالم حتّى تبدأ دينونة العالم (يو 3: 19- 20). ولمّا رفض عالم الظلمة يسوع بطريقة نهائية وحكم عليه بالموت، حكم على نفسه: "الآن دينونة هذا العالم. الآن يُطرح سيّد هذا العالم إلى الأرض " (يو 12: 31؛ رج مت 27: 45- 52). ولكن إذا كانت الدينونة قد حصلت بالنسبة إلى الشيطان والعالم الخاطئ، فهي تبقى سرّية وستظهر بصورة تدريجية.
وفي زمن الكنيسة، أي بين قيامة يسوع ورجوعه، تبقى الدينونة تهديدًا لعالم لا يؤمن رغم الآيات التي يراها. حضرت الدينونة في عقاب أورشليم، واليهود الذين سيؤخذ منهم الملكوت ويسلّم إلى شعب يخرج ثمرًا (مت 12: 24 ؛ 18:24- 22؛ لو 19: 41- 44). وقد تحقّق هذا القول في نكبة سنة 70 ب م (رج التلميحات إلى دمار أورشليم في مت 7:22؛ لو 21 : 20؛ عب 26:12-27؛ رؤ11: 1ي). وستكون الدينونة حاضرة في عقاب رومة وامبراطوريتها بعد أن صارت عميل الشيطان الذي يقف بوجه كنيسة المسيح (رؤ 17: 5- 19: 14). ويتوقّف العهد الجديد عند هذا الحدّ من اختبار قامت به الكنيسة الأولى. ولكنّ الأمثولة الأولى يمكن أن تطبّق على الأجيال اللاحقة في صراعها مع الأمم الوثنية. والدينونة تصير تهديدًا دائمًا للمسيحيين الكافرين أو الفاترين (1 كور 11: 30- 33؛ عب 3: 12 ي؛ رؤ 2- 3).
تلك هي بداية جزئية لتجلّي المسيح الديان الذي يضع حدًّا لتاريخ العالم عندما يزول شكل هذا العالم (رج أع 30:17- 31، 1 تس 1 :10؛ مت 29:24- 30).
ولكن كيف يتصوّر العهد الجديد هذه الدينونة؟ يستعيد أمورًا من تاريخ شعب إسرائيل ومن تاريخ سائر الشعوب، ويتأمّل في مسلسل الخطيئة والنكبات التي تحلّ بالكون، وينظر إلى المجابهة بين الله وخصومه الواقفين بوجهه الرافضين لإرادته. أمّا خصوم الله من الخارج فهم القوى المعادية لمخطّطه، المعادية لشعبه. نجد بينهم فرعون الجديد (رؤ 13:15) والرئيس الجديد لبابل (رؤ 17: 1 ي ؛ 1 بط 13:5) وانطيوخس مضطهد شعب الله الجديد (2 تسع2: 2- 3؛ رج دا 11: 36؛ رؤ 13: 1- 10؛ رج دا 7: 1 ي). وأما خصومه من الداخل فهم الذين يتسّللون داخل شعب الله ليفسدوه: قورح الجديد (يهو 11) الذي ثار على موسى مع داثان وأبيرام (عد 16: 1ي )، وبلعام الجديد (يهو 11 ؛ 2 بط 2: 15؛ رؤ 2: 14) الذي جرّ الشعب إلى عبادات وثنية (عد 31: 5- 8). أمّا القصاص الذي ينتظر خصوم الله فهو نسخة طبق الأصل عن قصاص الله في الماضي: طوفان كذلك الذي حصل للخليقة في الزمن السابق للتاريخ (مت 37:34- 41، 2 بط 2: 5؛ رج تك 6: 1 ي). خراب كالذي حصل لسدوم (يهو 7 ؛ 2 بط 2: 6؛ رؤ 8:11). ضربات كضربات مصر تنتهي بموت فرعون (رؤ 8: 6- 11؛ 16: 1 ي؛ رج خر 7: 14 ي). عقاب كالذي تمّ للعبرانيين في برّية سيناء (1 كور 10: 1 ي؛ عب 3- 4؛ يهو 5، 11 ؛ رج خر 32: 1 ي؛ عد 14: 1 ي). دمار كدمار بابل كما أعلن عنه الأنبياء وتحقّق في وقته (أش 18: 1 ي؛ رج 13: 1 ي؛ 8:47- 9؛ 52: 11؛ إر 50: 15- 39؛ 51: 6- 9؛ حز 27- 28).
إنّ مثل هذه اللغة الرمزية تستند إلى نظرة نموذجية إلى التاريخ. أساسها تعليم عن الثواب والعقاب بالنسبة إلى كل البشر والشعوب في كل زمان ومكان. أجل، إنّ شعب إسرائيل قد اختبر ما تختبره البشرية الخاطئة وعرف عمل الديّان في تاريخه وحياته. منذ حكم الرب على الإنسان الأوّل (تك 3: 14- 19) إلى الدينونة الإسكاتولوجية التي تدشّنت بموت المسيح (يو 12: 31) بانتظار أن تتمّ في اليوم الأخير (رؤ 12: 1- 17؛ 19: 19- 20؛ 20: 9- 10)، هناك عمل واحد نراه عبر أحداث متشابهة ستكون الدينونة الأخيرة نهايتها.

4- زمن الخلاص الأخير
إنّ كلمة الخلاص تجعل أمامنا اختبارًا متشعّبًا يتضمّن ثلاث مراحل. في نقطة الانطلاق، نجد اختبار خلاص من حالة شقاء سيخلّص الله الإنسان منها. وفي نقطة الوصول نجد اختبار وضع جديد سيقيم فيه الإنسان المخلّص. وبين نقطة الانطلاف ونقطة الوصول اختبار عبور من حالة الهلاك إلى حالة الخلاص نتيجة عمل الله المتدخّل في التاريخ. من هذه الوجهات الثلاث يعرض علينا تاريخ العهد القديم صورًا من الخلاص تمّت على مرّ الزمان.
ثمّ إنّه يجب أن نتذكّر أنّ هذا الخلاص الإسكاتولوجي يتضمّن ثلاثة مستويات يتحقّق فيها: مستوى تاريخ يسوع الرأس الذي يعبر من حالتنا المتألّمة والمائتة إلى حالة القيامة ؛ ومستوى تاريخ الكنيسة حيث يشترك أعضاء جسد المسيح بواسطة الأسرار، في سرّ الله الذي تحقّق كاملاً في المسيح، ومستوى الانقضاء، حين يجتمع الأعضاء برأسهم في الحياة الأبدية.
وأخيرًا يمكننا أن ننظر إلى هذا الخلاص من وجهتين متباينتين: وجهة الله الذي يحقّق هذا الخلاص بابنه وبكلمته، ووجهة البشر الذين يستفيدون من هذا الخلاص. والبشر هم أوّلاً وآخرًا يسوع الإنسان وبكر من قام من بين الأموات (كو 18:1؛ روم 8: 29)، ثّم كل أعضاء الكنيسة.
ذاك هو الواقع الذي ترسم التوراة (أو الكتاب المقدّس) خطوطه العريضة. وسنميّز في هذا الواقع ثلاثة مجالات. مجال الأحداث التاريخية، ومجال الأشخاص الفاعلين في التاريخ، ومجال النظم والمؤسّسات التي تشكّل بنية هذا التاريخ.

أوّلاً: مجال الأحداث التاريخية
إنّ أحداث التاريخ التي تصوّر الخلاص الإسكاتولوجي هي تلك التي تبيّن لنا الله مخلّصاً. والله مخلّص هو عندما ينجّي الإنسان من شقائه، من عذابه، من سجنه، من أي خطر كان. والله مخلّص هو عندما تعمل نعمته القديرة لتعطي الإنسان السعادة والراحة والسلام وكل ما تحتاج إليه حياته. واختبار الإنسان لخلاص الله يبدو في تاريخ شعب الله، في تاريخ كل فرد من أفراد هذا الشعب، وفي تاريخ البشريّة كلّها.
لقد اختبر شعب الله كل حالات الشقاء التي عرفتها البشرية الخاطئة: العبودية في مصر، الضيق في زمن القضاة، الهزائم العسكرية، الآفات الزراعية، التقتيل في الحرب والتشريد والنفي، الإنقسامات الداخلية، فقدان الاستقلال والخضوع للحاكم الأجنبي. وفي كل هذه الحالات عرف الشعب في الله مخلّصاً يغمره بعطاياه ويدخله في حالة ترسم أمامه ملامح الخلاص النهائي: النجاة من مصر، دخول أرض الموعد، التخلّص من الضيق في زمن القضاة (قض 2: 16)، فشل سنحاريب أمام المدينة المقدّسة (2 مل 19: 34). كل هذا ساعد الشعب فتصوّر ما سيكون عليه الخلاص النهائي.
واختبر كل فرد من شعب الله شقاء الإنسان ونعمة الله التي تخلّصه من هذا الشقاء. ونجد صدى لهذا الاختبار في مزامير التوسّل والشكر. ويشكّل مز 107 مثالاً على ذلك: "بعضهم ضلّ في برّية مقفرة ولم يجدوا طريقًا لهم إلى مدينة يقيمون بها، وهم جياع وعطاش تخور نفوسهم فيهم. فصرخوا في ضيقهم إلى الرب، فأنقذهم الرب من ضيقهم وهداهم طريقًا مستقيمًا إلى مدينة يقيمون فيها. فليحمدوا الرب على رحمته وعلى عجائبه لبني البشر".
وجعل الكاتب اختباره لسرّ الخلاص في أخبار تعليمية تجعل خلاص الله يصل إلى جميع البشر: يونان الناجي من الموت، أيّوب البارّ الذي امتحنه الألم. طوبيّا الذي شفي من أمراضه. دانيال الناجي من جبّ الأسود والفتيان الثلاثة من النار. نوح الذي نجا من العقاب الذي دمّر البشرية كلّها. أجل، إنّ مخطّط الخلاص قد بدأ منذ بداية الكون وقبل أن يختار الرب إبراهيم ونسله.

ثانيًا: مجال الأشخاص الفاعل
هناك أشخاص أرسلهم الله فنفّذوا إرادته وكانوا ضعفاء وخاطئين. من هذا القبيل، يبدون صورة مسبّقة عن المسيح المرسل الإلهي ومحقّق الخلاص الإسكاتولوجي. وقد حمل كل واحد منهم في داخله سرًّا سيكشف عنه مجيء المسيح.
ولكنّنا نميّز وجهين في المسيح المخلّص. وجه المجد المرتبط بالقيامة والذي يجعله على رأس شعبه في جلالته الملوكية. في هذا الإطار يكون كل ملك في التوراة صورة حيّة له: داود (لو 1: 32) وسليمان (مت 12: 42)، بل موسى ويشوع (عب 8:4- 9). ووجه المسيح المتواضع الذي يحقق الفداء بآلامه. في هذا الإطار يؤلّف الأبرار المتألّمون سلسلة تعلن عن حضوره: هابيل (عب 12: 24)، وإسحق فوق الحطب (عب 17:11- 19؛ يو 56:8) وموسى الذي أنكره شعبه ورفضه (أع 7: 25، 35) واضطهده عظماء هذا العالم (مت 13:2- 14، 20- 21)، والأنبياء كإرميا وكل الذين رتّلوا المزامير. كل هؤلاء، شاركوا المسيح مسبّقًا في آلامه الخلاصية.
هناك الفاعلون في الخلاص وهناك المستفيدون من الخلاص شعبًا وأفرادًا. في العهد الجديد يبدو الخلاص على مستوى لم يعرفه العهد القديم، وكان المسيح أوّل من اختبر هذا الخلاص بقيامته من بين الأموات. بهذه الصفة، كل الذين اختبروا الخلاص، وكل الذين عرفوا الألم كانوا صورة له في آلامه، وأوّلهم يونان (مت 12: 39-. 4). إنّ يسوع اختبر النجاة من الموت على مثال يونان. ثمّ إنّ المسيحيين خلصوا بإيمانهم بالمسيح الذي تختمه فيهم المعمودية. أمّا رجال العهد القديم فهم صورة سابقة للمسيحيين لأنّهم دخلوا في المخطّط الخلاصي واشتركوا في خيرات الله وتبرّروا بالإيمان، هذا الإيمان الذي يتطلعّ إلى المسيح بطريقة ضمنيّة. من أجل هذا، يبدو دور إبراهيم عظيمًا في رسائل القدّيس بولس (روم 4: 1ي؛ غل 3: 6- 9). من أجل هذا تورد الرسالة إلى العبرانيين (12: 1) عددًا كبيرًا من الشهود والشهداء (عب 11: 35- 38) ولا تنسى راحاب الزانية التي كانت بكر الوثنيين الداخلين في جسم الكنيسة (عب 11: 31؛ يع 2: 25). كل هذه المقابلات تبيّن لنا أنّ الواقع المسيحي حاضر في العهد القديم، أنّه حيّ في اختبار إيمان ما زال ناقصاً، وأنّ سرّ المسيح والكنيسة يستتر تاريخ مليء بالصور والرموز.

ثالثًا: مجال النظم والمؤسسات
ونشدّد هنا على علاقة النظم (والمؤسّسات) بتاريخ الخلاص. إنّ هذه النظم حملت لشعب إسرائيل اختبارًا عن عطيّة الله في وقت من الأوقات. في عهد سيناء عرف الشعب تجمّع القبائل. وفي زمن الاحتلال نال أرض كنعان ميراثًا، وفي عهد الملوك استولى على أورشليم... وإذا كانت أرض الموعد وأورشليم عاصمتها تشكّلان إعلانًا نبويًّا عن الكنيسة والسماء، وإذا كانت الملكية ترسم خطوط المسيح المنتظر، فلأنّ النظم تلعب في التاريخ المقدّس الدور الذي لعبه يسوع والكنيسة في الإيمان المسيحي.
وإذا نظرنا إلى أعياد بني إسرائيل رأينا أنّها احتفال بأعمال الله العظيمة: الخروج، عهد سيناء، عبور الصحراء... ولقد أخذ العهد الجديد بهذه الرموز ليحتفل بالحدث الذي أعلنته هذه الأعياد. فصوّر الفصح ذبيحةَ الحمل الفصحي الجديد الذي يقدّم لنا الفداء (1 كور 5: 7؛ يو 19: 36؛ رؤ 5: 6). وصوّر السبت راحة الإنسان في الخليقة الجديدة (عب 9:4). وصوّر عيدُ العنصرة (وهو عيد اعلان الشريعة على جبل سيناء) إعلانَ الإنجيل وبداية تاريخ شعب الله الجديد (أع 2: 1). أمّا طقوس عيد الخريف، أي عيد القطاف (أو عيد المظالّ) فهي تلمّح إلي تجمّع المختارين في نهاية الأزمنة (1 تس 4: 19 ي؛ 1 كور 15: 52 ؛ رؤ 7: 9) وإلى انتصار الله الإسكاتولوجي في ابنه يسوع (مت 17: 4؛ 21: 8- 11 ؛ 23: 39). وهكذا تشكّل أعياد بني إسرائيل إطارًا يساعدنا على فهم السرّ الذي تمِّ في العهد الجديد.

خلاصة
تلك هي الصورة العامّة عن التاريخ المقدّس، وتاريخ العهد القديم جزء منه. المسيح هو في منتهاه، المسيح هو محوره وهو حاضر في كل مسيرته. هذا ما يعطي التاريخ وحدته العميقة. إنّ من يتطلعّ إلى بُعد الأمور وزخم الرموز يجد أنّ العهد القديم (أو التوراة) يحدّثنا دومًا عن المسيح. فالمسيح مستتر في التوراة لا كفكرة، بل كحضور. ولهذا، فبالنسبة إلينا نحن العائشين بعد مجيء يسوع الأوّل، يحافظ العهد القديم على قيمته بالنسبة إلينا لأنّه يبقى شاهدًا على حضور الكلمة المتجسّد.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM