الفصل الحادي عشر: كتاب المكابيين

الفصل الحادي عشر
كتاب المكابيين

1- المقدّمة
يعود كتاب المكّابيين إلى لقب أشهر أبناء متتيا، يهوذا المكّابي. وهذا اللقب (1 مك 4:2، 2 مك 27:5) ما عتّم أن صار اسمه (2 مك 5:8، 16، 10: 1، 16) ثمّ انتقل إلى كل العائلة.
كتاب المكّابيين سفران. سفر أوّل كتب في العبرانية وبقيت لنا ترجمته اليونانية في السبعنية وهو يروي أحداثًا جرت من سنة 175 إلى سنة 135 ق م، من يوم تسلّم أنطيوخس أبيفانيوس الحكم إلى مات سمعان آخر أبناء متتيا. وسفر ثان دوّن في اليونانية وهو خلاصة مؤلّف في خمسة أجزاء دوّنه ياسون القيريني وهو من الشتات. يعود في خبره أبعد من 1 مك ويتوقّف بعد انتصار يهوذا المكّابي على نكانور سنة 160 ق م.
إنّ 2 مك ليس تتمّة 1 مك، بل هما شران مستقلاّن، إلاّ أنّ موضوع الكتاب واحد: لقد استطاع يهوذا المكّابي وإخوته بفضل العون الإلهي أن يستعيدوا الاستقلال الوطني وحريّة العبادة ضدّ أنطيوخس أبيفانيوس.
من كتب 1 مك؟ يهودي من فلسطين يحاول أن يقلّد أسلوب الأسفار التاريخية. متى كتب ا مك؟ كتب حوالي السنة 100 ق م، أي بعد موت هركانس سنة 104 وقبل دخول رومة أرض فلسطين (سنة 63) والكتاب يكيل لها المديح والثناء (مك 8: 1 ي).

2- بنية ا مك ومضمونه
1 مك هو قصّة الملحمة المكّابية منذ بداية الثورة حتّى موت سمعان (175- 135). يروي ما فعله المكّابيون ليخلّصوا أمّتهم من التأثير الهلّيني ويؤمّنوا لها الحرّية الدينية ويستعيدوا الاستقلال السياسي. بدأت هذه المعركة البطولية مع متتيا وتتابعت مع أبنائه الثلاثة. وعند موت سمعان سيكمّل يوحنا هركانس ما بناه المكّابيون.
أمّا الكتاب فيبدو في خمسة أقسام، ويخصّص كلّ قسم فيه لشخصٍ من الشخصيّات. فبعد الحديث عن أسباب الثورة ننتقل إلى متتيا ويهوذا المكّابي ويوناتان وسمعان.

أ- القسم الأوّل: أسباب الثورة (1: 1- 63)
بعد موت الإسكندر تقاسم قوّاده مملكته. حينئذ أخذ التأثير الهلّيني يفعل فعله في فلسطين. وجاء أنطيوخس أبيفانيوس فسلب الهيكل وفرض على الشعب لغة الشعوب الهلّينية وعاداتها.

ب- القسم الثاني: ثورة متتيا (2: 1- 69)
ويحدّثنا الكتاب عن متتيا وأبنائه. بكى على أورشليم ثمّ أطلق الثورة. وهجم المقاتلون على اليهود يوم السبت فلم يقاوموهم وفضّلوا الموت على استباحة السبت. حينئذ قرّر متتيا تنظيم الثورة بالتعاون مع الحسيديم وهم أهل الورع واليهود المتمسّكون بالشريعة. ولكن مات متتيا فسلّم الوديعة إلى أبنائه.

ج- القسم الثالث: يهوذا المكّابي (3: 1- 9: 22)
المرحلة الأولى (3: 1- 4: 11) تتضمن معارك عديدة انتصر فيها يهوذا. وبعد أن طهّر الهيكل دشّن المذبح ونظمّ عيد التدشين واتّخذ إجراءات مختلفة. وفي مرحلة ثانية (5: 1 - 8: 32) وبعد أن طهرّ الهيكل، قام بحملات على البلدان المجاورة. في تلك الأثناء مات أنطيوخس ابيفانيوس (6: 1- 17) ولكن تابع يهوذا الحرب حتّى حصل اليهود على الحربة الدينية. وظلّت الحرب قائمة حتّى في أيّام ديمتريوس. ولكن دخل الرومان في سياسة الشرق وحاول يهوذا فتح خطّ اتصّال معهم. وأخيرًا مات يهوذا في معركة بئر زيت (9: 1-22).

د- القسم الرابع: يوناتان (9: 23- 12: 53)
وخلف يوناتان أخاه يهوذا وتابع الحرب وأنتصر على بكيديس قائد ديمتريوس، فعقد معه صلحًا (9: 23- 73). وبدأ الصراع بين إسكندر بالاس وديمتريوس الأوّل فاستفاد يوناتان من هذا الصراع: عيّنه الإسكندر كاهنًا أعظم، وقدّم ديمتريوس تنازلات لليهود فرفضوها وتحزّبوا للإسكندر. ولكن ما عتمّ ديمتريوس أن مات (10: 1-50). وكان صراع بين الإسكندر وديمتريوس الثاني. تحالف الإسكندر مع بطيموس ومع يوناتان الذي انتصر على قائد جيش ديمتريوس. ولكن مات الإسكندر (10: 51- 11: 19). واحتدم الصراع بين ديمتريوس الثاني وتريفون فتحالف يوناتان مع ديمتريوس وأرسل وفدًا الى كل من إسبرطة ورومة. ولكن انقلب يوناتان على ديمتريوس وحالف عدوّه تريفون غير أن تريفون خانه فسقط يوناتان في يد أعدائه (11: 20- 53:12).

هـ- القسم الخامس: سمعان: (ف 13- 16)
وصار سمعان رئيس اليهود وتغلّب على تريفون الذي أعدم يوناتان. وتحالف سمعان مع ديمتريوس الثاني واحتلّ جازر ثمّ قلعة أورشليم التي كانت تسيطر على المدينة (13: ا- 53). بعد هذا جدّد سمعان العهد مع إسبرطة ورومة واعترف أنطيوخس السابع برئاسته (14: 1- 15: 9). وتغلّب أنطيوخس على تريفون ولكنّه عادى سمعان الذي تلقّى رسائل من الرومان، وهاجم اليهودية. ولكن انتصر أبناء سمعان. ولمّا مات سمعان خلفه ابنه يوحنّا.

3- القيمة الدينية لسفر المكّابيين الأوّل
نتعرّف أوّلاً إلى أبطال هذه الثورة: متتيا الذي كان من نسل كهنوتي. تألّم لما يَرى من المنكرات في أرض يهوذا فقال: ويل لي: أوُلدت لأرى تحطيم شعي وتحطيم المدينة المقدّسة وأبقى ههنا جالسًا والمدينة تسلّم إلى أيدي الأعداء ويسلّم الهيكل إلى أيدي الأغراب (7:2)؟ أغراه الهلّينيون أن يقدّم الذبيحة في مودين فأجاب: إن أطاعت الملكَ كل الأمم، وارتدّ كل واحد عن دين آبائه، فانا وبنيّ وإخوتي نسير على عهد آبائنا. فحاشى لنا أن نترك الشريعة والأحكام، لن نسمع لكلام الملك فنحيد عن ديننا يمنة أو يسرة (19:2-22). ولما تقدّم رجل يهودي ليقدّم الذبيحة، قتله متتيا وقتل معه رجل الملك ودعا إلى الثورة: من غار على الشريعة وحافظ على العهد فليخرج ورائي (27:2). وحين جاءت ساعة موته قال لأبنائه: غاروا على الشريعة وابذلوا نفوسكم في سبيل عهد آبائنا (2: 50). وسيموت أبناؤه كلّهم من أجل القضيّة المقدّسة: ثلاثة يموتون في ساحة القتال وأثنان يموتان حيلة وغدرًا، وعلى أيديهم سيخلّص الله شعبه (5: 61).
يهوذا هو البطل الأكبر. وحين يموت سيرثيه بنو يهوذا كما رثوا داود في الماضي ويقولون: كيف سقط البطل الذي خلّص بني إسرائيل (9: 21). تحمّس لإيمان آبائه وتعلّقَ بعادات أمّته، فقاد الحرب بحميّة ضدّ عدو يتفوّق عليه عدّة وعددًا. وتغلّب عليه بكلماته النارية وشجاعته واقدامه. كان دائمًا أوّل المهاجمين فما عرف راحة ولا كلل . وبعد ان أحرز انتصارات باهرة على القواد السلوقيين أعاد إلى هيكل أورشليم كرامته ، فطهرّ الهيكل وأعاد بناء مذبح المحرقات . ولكنه سقط في بئر زيت فوقّع بدمه الكلمات التي تلفظ بها قبل معركة عمواس : "فلأن نموت في القتال خير لنا من أن نعاين الشرّ في قومنا وأقداسنا . وكما تكون مشيئته في السماء فليصنع " (59:3).
وبدأ يوناتان عهداً جديداً ، فمزج المعارك الحربية بالأعمال الدبلوماسية . استفاد من الخلافات بين المتصارعين على الحكم في أنطاكية . وهكذا حصل على منافع دينية (صار رئيس الكهنة) ومالية وشرفية وسياسية . ولكنه سقط بخيانة من تريفون . وخلفه أخوه سمعان فتابع عمله : إحتل القلعة التي كانت تهدد الهيكل ويافا وجازر وبيت صور فاعترف بسلطانه على أمّة اليهود كلُّ من أنطاكية وإسبرطة ورومة فكان عظيم كهنة وقائداً ورئيسًا لأمة اليهود وللكهنة (47:14) ولكن أيّامه لا تطول فيموت مثل إخوته من أجل شعبه .
ونتعرّف ثانيًا إلى الصراع الذي يقوم به المكّابيون ضدّ السلوقيين ، إنّها حرب مقدّسة ، حرب الله ، كالحروب التي قام بها يشوع بن نون (سي 3:46) وداود (1 صم 17:18 ؛ 28:25). وهدف هذه الحرب هو تخليص "العهد المقدّس" (15:1 ، 63) ، "عهد الآباء" (20:2 ، 50؛ 10:4) "عبادة الآباء" (19:2) "الشريعة" (5:2؛ 64)، "الاحكام")21:2)، العادات (21:3). ولنسمع نداء متتيا : "من غار على الشريعة وحافظ على العهد ، فليخرج ورائي" (27:2). وقال لأبنائه : "غاروا على الشريعة وابذلوا نفوسكم في سبيل عهد آبائنا" (50:2) وقال أيضاً: "لن نحيد عن ديننا يمنة ولا يسرة" (22:2).
يجب أن نكون على قدر آبائنا الذين كانوا أمناء للعهد والشريعة فحفظهم الله وحماهم في كلّ محنهم. "اعتبروا هكذا أنّ جميع المتوكّلين عليه من جيل الى جيل لا يضعفون" (61:2). ولهذا ننتظر من الله أن يقود الحرب ويمنح النصر، فيجب أن نتضرّع اليه قبل المعركة (46:3 – 53؛ 10:4 – 11؛ 30 – 34؛ 40:7 – 41). ولكنّنا لن نجد في 1 مك تدخلاً عجيبًا من قِبل الله . فالذي يقرّر كل شيء هو جرأة الرجال وروح التضحية لديهم . وعليهم أن يكونوا مستَعدّين ليموتوا من أجل قضية مقدّسة. "إن دنا أجلنا ، فلنمت بشجاعة عن إخوتنا ولا نبق وصمة على مجدنا" (10:9).

4 – بنية وتصميم 2 مك
بعد رسالتين (1:1 – 18:2) ومقدّمة (19:2 – 32) يبدأ الخبر وهو يتضمّن أمورًا خاصّة به وأمورًا لسفر المكّابيين الأوّل . أمّا الخبر فيقسم أربعة أقسام . وهذا هو تصميم 2 مك.

أ- توطئة (1: 1- 2: 32)
نقرأ رسالة أولى إلى يهود مصر (1: 1- 9) ورسالة ثانية (1: 10- 18:2) تحكي عن موت أنطيوخس وتجديد النار المقدّسة. وبعد ذكر ما فعله إرميا بالنسبة إلى آية العبادة والاشارة إلى مكتبة نحميا، تدعو الرسالة المؤمنين للاحتفال بعيد تطهير الهيكل. وأخيرًا نقرأ مقدّمة الكاتب (2: 19- 32) التي يعلن فيها انه لخّص كتاب باسون القيريني المؤلّف من خمسة مجلدات.

ب- القسم الأوّل: قبل الثورة (3: 1- 7: 42)
وقَدِم هليودورس إلى أورشليم (3: 1- 40) واستفاد من الخلاف بين سمعان وأونيا وأراد أن يسلب أموال الهيكل وينجّسه، فعاقبه الله فارتدّ واهتدى. قال: الذي مسكنه في السماء يسهر على هذا المكان ويدافع عنه.
كثرت القلاقل والموآمرات في فلسطين (4: 1- 5: 10). وشى أونيا بسمعان إلى سلوقس الرابع، وتغلّب ياسون على أونيا وأدخل الحضارة الهلّينية. ثمّ صار منلاوس عظيم كهنة وقتل أونيا وعمّت الفوضى في أورشليم. وكانت فتنة مات فيها ياسون.
أمّا أصل الثورة (5: 11- 7: 42) فلأنّ أنطيوخس أبيفانيوس سلب الهيكل وترك الحكّام يعيثون فسادًا. ذهب يهوذا المكّابي إلى البرّية، وبدأت الحركة الهلّينية تسيطر على البلاد. هنا يقدّم الكاتب تفسيرًا عن معنى الاضطهاد في التدبير الإلهي: إنّ هذه الاضطهادات ليست لهلاك أمّتنا بل لتأديبها. وبعد هذا يذكر استشهاد ألعازر ثمّ الإخوة السبعة وأمّهم.

ج- القسم الثاني: من ثورة يهوذا إلى تطهير الهيكل (8: 1- 8:10)
وبدأت ثورة يهوذا المكّابي وانتصاراته على قواد أنطاكية نكانور وتيموتاوس وبكيديس. وهرب نكانورومات كذلك أنطيوخس أبيفانيوس ميتة شنيعة. بعدها دشّنوا الهيكل ونظّموا عيد التجديد.

د- القسم الثالث: من تطهير الهيكل إلى مؤمرات عظيم الكهنة الكيمس (10: 9-14: 2)
وحارب المكّابي الأدوميين وتيموتاوس واستولى على جازر وقهر ليسياس. هنا ترد أربع وثائق رسمية: رسالة ليسياس إلى اليهود، رسالة أنطيوخس الخاسر إلى ليسياس، رسالة أنطيوخس الرابع إلى اليهود، رسالة الرومان إلى اليهود (11: 16- 38). ثمّ عاقب يهوذا يافا وقهر جورجياس وقدّم ذبائح عن الموتى. وأخيرًا نجح اليهود قرب مودين فتفاوض أنطيوخس الخامس مع اليهود.
هـ- القسم الرابع: من موآمرات الكيمس إلى موت نكانور (3:14- 15: 36)
وبدأ الكيمس موآمراته لاسترجاع رئاسة الكهنوت. غير أنّ نكانور صادق يهوذا، ثمّ تراجع فتهرّب يهوذا. وستكون حرب يُهزم فيها نكانور ويموت مع حامل سلاحه.

5- القيمة الدينية لسفر المكّابيين الثاني
أ- عناصر تقليدية
أوّلاً: سلوك اللّه تجاه شعبه
نقرا مثلاً في 5: 19: "ما اختار الرب الأمّة من أجل المكان المقدّس، بل المكان المقدّس لأجل الأمّة". وهذا يعني أنّ المؤسسات هي في خدمة الشعب والمؤمنين. وقال أيضًا في 6: 12- 16: "وإنّي أرجو من مطالعيّ هذا السفر ان لا يستسلموا إلى خور عزائمهم بسبب هذه الضربات، وأن يحسبوا أن هذه الاضطهادات ليست لهلاك أمّتنا، بل لتأديبها. فإنّه إذا لم يهمَل الكافرون زمنًا طويلاً، بل عجّل عليهم بالعقاب، فذلك دليل على رحمة عظيمة. أمّا سائر الأمم، فإنّ السيّد يمهل عقابهم بطول أناته، إلى أن يطفح كيل آثامهم. ولم يقضِ بأن يعاملنا على هذا الوجه، لئلا يعاقبنا أخيرًا حين تبلغ آثامنا تمامها. فهو لا يرفع عنّا رحمته أبدًا، وإذا أدَّب شعبه بالشدائد فلا يخذله ". هناك وجهان للعدل الإلهيّ، ولكنّ الله حليم حتّى مع الأمم (حك 11: 10؛ 12: 20- 22). وفي 7: 32- 33 نقرأ بلسان أصغر السبعة الذين قُتلوا من أجل إيمانهم: "فنحن إنّما نتألم من أجل خطايانا. وإن سخط علينا الرب الحيّ حينًا قليلاً لمعاقبتنا وتأديبنا، فسيصالح عبيده فيما بعد".

ثانيًا: تطبيق شريعة المثل
من أخطأ يُعاقَب بحسب خطيئته. كان سفر الحكمة قد قال: "وإذ كانوا قد سفهوا في أفكارهم الأثيمة وضلّوا حتّى عبدوا زحافات حقيرة ووحوشًا لا نطق لها، انتقمت منهم بأن ارسلت عليهم من الحيوانات التي لا نُطقَ لها، لكي يعلموا أنّ ما خطئ به أحد، به يُعاقب " (حك 11: 15- 16). ويروي 2 مك أنّ أندرونيكس قتل أونيا، فتأسّف أنطيوخس على حكمة ذلك المفقود واضطرم غضبًا ونزع لساعته الأرجوان عن أندرونيكس وأطافه في المدينة كلّها، ثمّ أباد ذلك القاتل في المكان الذي ارتكب فيه كفره على أونيا، فأنزل به الرب العقاب الذي استوجبه (4: 34- 38)
وهذا ما حصل لياسون الذي ذبح أهل وطنه بغير رحمة. "جعل يفرّمن مدينة إلى مدينة والجميع يطاردونه ويبغضونه... فكان الذي غرّب كثيرين هلك في الغربة" (5: 8- 9). ويقول الكاتب عن كلستانيس إنّه "نال الجزاء الذي استحقّه بكفره " (8: 32). ويتوسعّ في الحديث عن موت أنطيوخس أبيفانيوس. "ولكنّ قضاء السماء كان يرافقه. فإنّه قال في كبريائه: لأجعلنّ من أورشليم مدفنًا لليهود، عند وصولي إليها. لكنّ الرب البصير بكل شيء، إله إسرائيل، ضربه ضربة معضلة غير منظورة. فإنّه ما إن انتهى من كلامه ذاك حتّى أخذه إلى في أحشائه لا دواء له وعذابات أليمة في جوفه وكان ذلك عين العدل في حقّه، لأنّه عذّب أحشاء كثيرين بالآلام المتنوعة الغريبة... وهكذا فإنّ هذا السفّاح المجدّف الذي عانى الآمًا مبرّحة شبيهة بالتي أنزلها بالآخرين، قضى نحبه ومات أشقى ميتة على الجبال في أرض الغربة " (9: 4- 6، 28). وهذا ما حصل أيضًا لمنلاوس الذي جوزي بعدل (7:13- 8) ونكانور الذي رفع يده على الهيكل (15: 30- 33). أجل، الله يجازي في هذه الدنيا أعداءه ويعاملهم بشريعة المثل.

ثالثًا: قداسة الهيكل
يشدّد الكاتب على هذه القداسة باحتفال مهيب. يقول في 2: 22 عن اليهود: "إستردّوا الهيكل الذي اشتهر ذكره في المسكونة بأسرها". وفي 3: 12: "لا يجوز بوجه من الوجوه هضم حقوق الذين ائتمنوا قداسة المكان وحرمة الهيكل المكرّم في المسكونة كلها". فالهيكل كان بمثابة خزانة تُودع فيه أموال الأرامل واليتامى، فلا يجوز لأحد أن يمسّها. لم يعرف هذا الأمر هليودورس في بادئ الأمر، ولكن حين يعاقبه الله سيقول إنّ الربّ يسهر على هذا المكان ويدافع عنه (3: 39). أمّا اليهود فباركوا "الرب الذي مجّد مكانه المقدّس تمجيدًا رائعًا، وقد امتلأ الهيكل ابتهاجًا وتهلّلاً إذ تجلّى فيه الرب القدير" (3: 30). ويورد النصّ أخيرًا كيف أنّ نكانور السلوقي ذهب إلى الهيكل العظيم المقدّس وطلب من الكهنة أن يسلّموه يهوذا. وأقسم قائلاً: "إن لم تسلّموا اليّ يهوذا موثقًا، سوف أهدم بيت الله إلى الأرض وأقلع المذبح واشيد هنا هيكلاً رائعًا لديونيسيوس ". قال هذا وانصرف. فرفع الكهنة أيديهم إلى السماء ودعوا من لم يزل يحارب عن أمّتنا قائلين: "يا من هو ربّ الجميع والغنيّ عن كل شيء. لقد حسن في عينك أن يكون هيكل سكناك فيما بيننا. فالآن أيّها الربّ القدوّس، يا قدوّس كل قداسة، صُن هذا البيت الذي طُهِّر منذ قليل واحفظه طاهرًا إلى الأبد" (14: 31- 36). وسيلقى نكانور جزاءه العادل بعد ان مدّ يده متكبّرًا على الهيكل المقدّس (15: 32).

ب- عناصر جديدة
أوّلاً: قيامة أجساد الأبرار والحياة الأبدية
كان دانيال قد فتح الطريق أمام هذه الحقيقة فقال: "كثيرون من الراقدين في أعماق القبور يستيقظون، بعضهم للحياة الأبدية وبعضهم للعار والرذل الأبدي" (دا 12: 12). ويستعيد 2 مك هذه الفكرة عن الآخرة فيما يخصّ ضحايا الاضطهاد ويعلن: "الذين رقدوا بالتقوى، قد ادُّخر لهم ثواب جميل " (12: 45). وخبر استشهاد الإخوة السبعة مليء بهذا الرجاء بالحياة الأخرى. قال الأخ الثاني: "إنّك أيّها المجرم تسلبنا الحياة الدنيا ولكنّ ملك العالم، إذا متنا في سبيل شرائعه، سيقيمنا لحياة أبديّة " (7: 9). وقال الأخ الثالث: "إنّي من السماء أوتيت هذه الأعضاء، وفي سبيل شرائعها أستهين بها، ومنها أرجو أن أستردّها" (7: 11). وقال الرابع: "خير أن يموت الإنسان بأيدي الناس ويرجو أن يقيمه الله، فلك أنت لن تكون قيامة للحياة" (7: 14). وستقول الأمّ: "إنّ خالق العالم الذي جبل الجنس البشري والذي هو أصل كل شيء، سيعيد إليكم برحمته الروح والحياة" (23:7) وشجّعت الأصغر: "فلا تخف من هذا الجلاّد، بل كن جديرًا بإخوتك واقبل الموت لألقاك مع إخوتك بالرحمة" (7: 29). حينئذ قال الأخ الأصغر: "صبر إخوتنا على إلم ساعة، سعيًا لحياة لا تزول وسقطوا في سبيل عهد الله " (36:7).

ثانيًا: تشفعّ الأحياء من أجل الموتى
حين جاء يهوذا ورجاله ليدفنوا جثث القتلى وجدوا تمائم ترتبط بالآلهة الوثنية. احتفظ بها هؤلاء المحاربون وما أحرقوها فاخطأوا إلى الله لأنّهم فعلوا ما تحرّمه الشريعة. "ثمّ أخذوا يصلّون وبيتهلون أن تمحى تلك الخطيئة المرتكبة محوًا تامًّا". ثمّ جمع يهوذا من كل واحد تقدمة وأرسلها إلى أورشليم لتقدّم بها ذبيحة عن الخطيئة. ويقول الكتاب: "وكان عمله من أحسن الصنيع وأسماه، فدلّ على أنّه يؤمن بقيامة الموتى" (38:12- 45). وهناك أيضًا تشفّع الموتى من أجل الأحياء. كان يهوذا يستعد للقتال فرأى أونيا عظيم الكهنة السابق (وكان قد مات)... باسطًا يديه يصلّي من أجل جماعة اليهود بأسرها. ثمّ رأى يهوذا شيخًا فقال له أونيا: "هذا محبّ الإخوة، المكثر من الصلوات لأجل الشعب والمدينة المقدّسة، إرميا نبيّ الله " (12:15- 15).

ثالثًا: الخلق من العدم
حين كانت الأمّ تحرّض أصغر أبنائها قالت له : "أسألك يا ولدي. أنظر إلى السماء والأرض، وإذ رأيت كل ما فيهما فاعلم أنّ الله صنعهما من العدم " (28:7) وهكذا يؤكدّ هذا الكلام أنّ الله خلق كلّ ما في الكون من العدم. بمعنى أنّه لم يكن يُوجَد شيء، وفي وقت من الأوقات حدّده الله بحكمته، برز الخلق إلى الوجود. أجل، ما احتاج الله إلى مادّة أولّية، بل هو خلق كل شيء من لا شيء. إذا عدنا إلى سفر التكوين نجد قولاً أوّل يعلن أنّ الله خلق السماء والأرض، أي خلق كل شيء. تلك كانت المرحلة الأولى. وفي مرحلة ثانية نظّم السماء والأرض، فجعل في الأولى الشمس والقمر والنجوم وفي الثانية النبات والحيوان. وستشدّد النصوص الكتابية عادة على الله الذي ينظّم الكون ولا تعود إلى الفكرة الفلسفية التي نجدها هنا والتي تتحدّث عن الخلق من العدم. فنقرأ مثلاً في اش 44: 24: "أنا الرب صانع كل شيء. نشرت السماوات وحدي وبسطت الأرض بنفسي "، وما احتجت إلى من يعينني. وسفر الحكمة نفسه المكتوب في محيط يوناني: يذكر الخلق الأوّل انطلاقًا من الخواء والعدم، بل يتحدّث عن مادة غير مصوّرة فيقول: يدك القادرة على كل شيء يا رب، صنعت العالم من مادّة غير مصورّة (حك 17:11). أمّا ما نقرأه هنا في 28:7 فهو يقدّم لنا تحديدًا يوصلنا إلى العهد الجديد. قال يوحنّا الإنجيلي (3:1): "به كان كل شيء وبغيره ما كان شيء". وقال القدّيس بولس عن المسيح (كو 1: 15- 16): "هو صورة الله الذي لا يُرى وبكر الخلائق كلّها. ففيه خلق كل شيء ممّا في السماوات وممّا في الأرض، ما يرى وما لا يرى... كل شيء خلق، به وله".

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM