الفصل الثامن عشر: النصوص المصرية

  الفصل الثامن عشر
النصوص المصرية

أدب مصر القديمة واسع وشيّق، وهو يساعدنا على تفسير عدد من النصوص البيبلية. ولكن قبل أن نقدّم خطوطه الكبرى، نُلقي نظرة سريعة على التاريخ الذي ربط مصر بأرض إسرائيل.

أ - نظرة إلى التاريخ
1- العلاقات التاريخية
كانت مصر جارة كنعان (ما سيسمّى فلسطين في القرن الثاني ب م) الجنوبية، وقد استعملت مرارًا هذا الممرّ الكنعاني من أجل حملاتها على الفرات. لهذا اتصلت بالشعوب التي ستشكّل إلى الجنوب من فينيقية ما سيسمّى مملكة يهوذا وإسرائيل.
وأوّل اتصال بمصر تذكره التوراة تمَّ في الحقبة الآبائية. نزل إبراهيم إلى مصر مع امرأته سارة (تك 12: 20-20). وسيكون له ابن من جارية مصرية (تك 16: 1- 4). وبعد هذا سينزل أبناء يعقوب على خطى يوسف إلى مصر (تك 42: 1- 5). ومع خبر يوسف، ستشدّد التوراة على تأثير رجل غريب في الإدارة المصرية (ستذكر النصوص المصرية حالات مماثلة). ثمّ يروي سفر الخروج كيف استغل ضبّاط فرعونَ الملك، العبرانيين الذين تحرّروا بواسطة موسى (خر 5 :6- 13؛ 33:12- 42). ولا يقول الكتاب شيئًا عن تأثير الحضارة المصرية على "بني إسرائيل" إلاّ ما يتعلّق بتربية موسى، وهذا ما سيؤثّر على عمله كمشترع.
وسينظّم داود وسليمان الشعب في دولة ملكية. يتحدث النصّ الكتابي عن امرأة سليمان المصرية (1 مل 24:9 ؛ ق 2 أخ 11:8؛ 1 مل 11: 1)، وعن عدد من الضبّاط والكتبة العاملين في القصر الملكي والحاملين اسمًا مصريًا. واسم حفني وفنحاس (ارتبطا بنسل أليعازر رج خر 25:6؛ 1 صم 1 :3) اسم مصري. وستتّخذ مملكة يهوذا الفتية النموذج المصري بإدارته المركزية.
غير أنّ العلاقات بين الدوليتن لم تكن دومًا على ما يرام. فمصر قدّمت أقلّه في ظرفين مختلفين ملجأ لأشخاص غير مرغوب فيهم في أرض إسرائيل: هذا ما حصل ليربعام الذي سعى سليمان الملك إلى قتله (1 مل 11: 40). ثمّ هدد الأدومي الذي أعطاه ملك مصر بيتًا وأمّن له أرضاً وطعامًا (1 مل 11: 7ي). وهدد هذا كان خصمًا لسليمان (1 مل 11: 14. وأخطر من هذا هو الحملة التي قام بها شيشانق على أورشليم فسلبها في أيّامِ رحبعام (1 مل 14: 25- 28). ولكن في السياسة قد تحوّل الظروف عدوّ الأمس حليفَا لا يستغنى عنه. فقد أخبرنا الأنبياء أنّ شعب إسرائيل تطعّ مرارًا نحو مصر منتظرًا عونًا حربيًا (أش 30: 1- 7؛ 31: 1 ؛ إر 18:2). وهل ننسى أنّ سليمان كان قد تاجر مع جاره في الجنوب فاشترى الخيول والمركبات (1 مل 29:10).
وفيما بعد سيقوم نكو، ملك مصر، بحملة على أرض إسرائيل، وهو ذاهب لمساعدة حلفائه في الشمال. وتنتهي الحملة بموت ملك يهوذا في مجدو سنة 609 ق م (2 مل 23: 69).
وبعد دمار أورشليم سنة 587، سيلجأ قسم من السكّان إلى مصر قُتل جدليا الحاكم الذي فرضته بابل على البلاد، فخاف الناس من ردة الفعل لدى المحتل البابلي وذهبوا إلى مصر، فتكوّنت أولى الجاليات اليهودية في الفنتين، كما تمركزت مستوطنة شهيرة في الدلتا وازدهرت منذ القرن الثاني ق. م.

2- العلاقات الثقافية
تساعدنا علوم الآثار على الاطّلاع على التأثير المصري العميق على أرض كنعان قبل وصول العبرانيين إليها. ولكنّ الحصون المتقدّمة (بيسان، مجدو) التي أقامتها مصر لم تثبت طويلاً بعد إقامة العبرانيين في الأرض. ونقول الشيء ذاته عن المدوّنات المصرية. أمّا عن علاقات مصر بكنعان، فلنا نصوص اللعنات في المملكة الوسيطة، وهي تذكر ملوكًا وأراضي يصعب تحديدها. كما نملك حوليّات أمينوفيس الثاني وتحوتمس الثالث، وتلميحات بردية أنستاسي الأوّل، وخبر سفر وان أمون إلى فينيقية. أمّا بالنسبة إلى إسرائيل، فلا نجد إلاّ نُصب منفتاح الذي يحمل لائحة المدن التي احتلها شيشانق.
أمّا في المجال الأدبي، فتأثير النصوص المصرية واضح في النصوص البيبلية: نجد مقاربة بين مز 104 ونشيد اخناتون (أو أمينوفيس الرابع)، وبين أم 22: 7- 23: 14 مع بعض مقاطع من تعليم أمينوفي. ونجد تشابهًا بين مغامرة يوسف مع امرأة فوطيفار (تك 7:39- 20) و "خبر الأخوين"، بين نشيد الأناشيد وبعض أناشيد الحب في مصر.

ب- نظرة سريعة إلى أدب مصر القديمة
إذا سمّينا "أدبًا" كل ما وصل إلينا مدوِّنا على يد المصريين القدامى، فسيكون لنا مكتبة ضخمة جدًا. وإذا توقّفنا عند النصوص التي ترضي ذوق الباحثين عن الجمال، تركنا جانبًا عددًا من الأناشيد الدينيّة والمقاطع الجنائزية والحوليات الملكية التي تهمّ المحبّين للحضارات القديمة. لذلك سنختار بعض النصوص ونقدّمها في إطار سريع وناشف، نقدّمها في الإطار التاريخي المصري.

1- المملكة القديمة (2815- 2400)
إنّ أهرامات الجيزة هي رمز قوة مصر في عهد تلك السلالات. ولكن لا ننسى أنّ الفكر الديني والحكمي للسلالات الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة قد طبع بطابعه ألفَيْ سنة من التاريخ. فتركيز السلطة في يد الملك يرتبط بأصل الهي، وتثبيت الأمّة، وتوحيد أرض تمتدّ من المتوسط إلى النوبة (أي السودان)، كل هذه كانت عوامل ساعدت على بروز أدب وفنّ لا يزال قريبًا مما عند معاصرينا. وها نحن نذكر أهم مؤلّفات هذا الأدب.

أولاً: نصوص الأهرامات
نشير بهذا العنوان إلى "مجموعة تعابير دينية" (عددها 714 وقد قسمت في الطبعات الحديثة إلى 2217 مقطعًا) مليئة بالسحر (والحدود غير واضحة بين السحر والديانة في ذلك الزمان). وُجدت مدوّنة على الجدران الداخلية لغرف الملوك والملكات في هذه الأهرام في أيّام السلالة الخامسة (اونا، حوالي سنة 2600) والسلالة السادسة (تاتي، مرنرع، بابي الأوّل، بابي الثاني). أمّا هدفها فمنح الملك، بقوّة الكلمة، حياة في الآخرة مع الآلهة. ولقد اهتمّت الأجيال اللاحقة بهذه الكتابات. ونحن نجد نتفًا منها في معابد جنائزية تعود إلى زمن سلالة سائيس (حوالي سنة 600 ق م) المُحبِّة لكل قديم.
هذه "المجموعة" هي تقميش لكتابات قديمة لم يبقَ لنا منها أثر. نجد فيها أناشيد للشمس (الإله رع)، وللملك المدفون، وتعابير تعزيم ضدّ الآلهة أو الجنّيات التي يمكنها أن تعادي الميت. وهذه التعابير هي "فاعلة" لأنّها تتيح للملك أن يصل إلى السماء ويكون واحدًا من الآلهة وسط النجوم.
وإليك هذا التعبير الذي يساعد أونا ليأخذ مكانه في قارب الشمس: "طار أونا كعصفور، وحطّ كالجعلة على عرش فارغ في قاربك، يا رع. قم وابتعد، انت يا من لا يعرف منبت الأسل. فأونا هذا يجلس مكانك ويسير في السماء مع قاربك. يتقدّم أونا مع المجداف، بعيدًا عن الأرض، في قاربك، يا رع " (هرم 267).
ونقرأ أمرًا موجّهًا إلى أبواب الآخرة: "يا باب نون، يا بابًا ساميًا لا يُمسّ، لقد جاء إليك نون، فليُفتح له. قال: هل أونا هو هذا الصغير؟ أجاب: أونا هو في المقدّمة على خطى رع. ليس أونا تابعًا للالهة المدمّرين" (هرم 272).
وهذا كلام موجَّه إلى رع يدعوه فيه إلى أن يتبنّى الملك: "يا رع، قلت حين كنت ملكًا: لو كان لي ابن شهير وقدير وجليل، تكون خطواته واسعة وذراعه متسلّطة. فها هو بابي، يا رع. بابي هو ابنك " (هرم 467).
نلاحظ أنّنا لا نجد فقط اللاهوت الشمسي (رع، إله الشمس) في هذه النصوص، بل سيذكر أوزيريس إله الأموات الساكنين في العالم الأسفل. وسيسمّى الملك أوزيريس. وإليك هذا التعبير: "قل هذه الكلمات: يا أبي، يا أوزيريس بابي. إنهض عن جنبك الأيسر واسترح على جنبك الأيمن، وتوجّه نحو هذه المياه الجديدة التي أعطيتك. إنهض عن جنبك الأيسر واسترح على الأيمن وتوجّه إلى هذا الخبز الساخن الذي أعطيتك " (هرم 482).
هذه النصوص هي في الأساس سحرية ودينية، وهي أيضاً مرآة تعكس الحالة السياسية والاجتماعية والمعتقدات الدينية في المملكة الوسيطة. فالرغبة في إعطاء الملك قدرة ومهابة في الآخرة، وُلدت من واقع يجعل هذه الصفات في الملك خلال حكمه على الأرض. وإذا تساءلنا بمناسبة هذه النصوص، عن فكرة المصريين حول مصير الإنسان بعد الموت، نقول إنّ الكاتب لا يهتمّ هنا إلاّ بمصير الملوك. أمّا قبور رجال الحاشية الراقدين في ظلال الأهرام فهي خرساء، وقبور الناس العاديين فقد زالت. ولهذا يجب أن ننتظر الحقبة اللاحقة لنرى لاهوت الحياة بعد الموت يشمل جميع البشر حين يشاركون أوزيريس في حياته.
هناك نصوص تتحدّث عن أونا "الذي يأكل البشر ويقتات بالآلهة". نحن هنا أمام رمزية تدلّ على أنّ الملك الميت أدخل في ذاته قوى روحيّة شاملة، صار سيّد الكون فتشبّه بالآلهة.

ثانيًا: التعاليم الأخلاقية
اعتبرت مصر منذ القدم أرضاً تزهر فيها الحكمة، أرضاً تقدّم للإنسان طرق حياة صالحة ووسائل فاعلة من أجل النجاح. تلك كانت فكرة الكتاب البيبليين أيضاً. قال 1 مل 5: 10: "تجاوزت حكمة سلمان حكمة أبناء مصر". أمّا الأنبياء فأعلنوا دمار هذه الحكمة. قال أشعيا: "رؤساء مدينة صوعن (أو تانيس وهي مدينة في دلتا النيل) سفهاء، وخبراء فرعون يقدّمون مشورة سخيفة. فكيف تقولون لفرعون: أنا ابن الحكماء، أنا ابن الملوك الأقدمين؟ أين حكماؤك يا فرعون؟ ليخبروك ويعلّموك ما قرّره الرب القدير على مصر" (أش 19 : 11 – 12 )؟
ولقد نُسبت أولى المؤلّفات الحكمية (المسماة "تعليم") إلى أشخاص يعيشون قرب الملك: تعليم امحوتب، مستشار الملك جازر (السلالة الثالثة. حوالي سنة 2800) وطبيبه ومهندس الهرم المدرّج (له درجات) في صقارة. تعليم حور جادف، ثاني أبناء خيوف (السلالة الرابعة. حوالي سنة 2700). تعليم كاجمني، وزير سنافرع (السلالة الرابعة). تعليم فتاح حوتب الوزير في عهد ايساسي (السلالة الخامسة. حوالي سنة 2600)، وقد تدّم كتابه لملكه. تعليم كايريس، وهو مجهول بعض الشيء. وقد قالت بردية تعود إلى حقبة الرعامسة (القرن 10) إنّ هذه التعاليم لا تُضاهى. وصل إلينا تعليم فتاح حوتب (وحده) كاملاً في نسخات متأخّرة، فقدّم لنا نموذج بحث عن الكمال الخلقي كما يراه الموظّفون الكبار في البلاط الملكي. لقد تمنّى الكاتب أن "تكون كلمته القديمة نموذجًا لأبناء العظماء، إذ لا أحد يولد حكيمًا". ونكتشف أيضاً في هذا "التعليم" لغة أنيقة تدل على أنّنا أمام أهمّ ما في أدب المملكة القديمة.
توجّه فتاح حوتب إلى ملكه فصوّر حالته الشقية: إنسان أنهكته السنون، ولكنّه غني بما علّمته خبرة الحياة. قال: "يا ملكي، ويا سيّدي. عمري الطويل هو هنا، والشيخوخة نزلت عليّ. جاء الذبول، وتجدّدت سرعة عطب الطفولة... ضعفت العينان وصمّت الأذنان. زالت القوّة، لأنّ القلب تعب. وصمت الفم، فلم يعد يقدر أن يتكلّم. صار الفكر نسَّاء، فلا يستطيع بعد أن يتذكّر. ما تفعله الشيخوخة بالإنسان هو شر بأي حال ".
وتتوالى الصورة في بداية تعليم فتاح حوتب على مثال ما نقرأ في نهاية سفر الجامعة: "يوم يرتجف حرّاس البيت، وينحني رجال البأس، يوم تبطل الطواحين لقلة النساء، وتظلم الأنوار في النوافذ، وتغلق الأبواب على الشارع. يوم ينخفض صوت المطحنة، ويخفت صوت العصفور... فيما الإنسان يمضي إلى بيته الأبدي" (جا 12: 3- 5).
لا نستطيع أن نلخّص تعليم فتاح حوتب. ولكنّنا نورد مقطعين لهما مدلولهما. الأوّل، تنبيه إلى رجل وصل إلى النعمة حديثًا: "إذا صرتَ كبيرًا بعد أن كنت صغيرًا، وإذا امتلكت خيرات حُرمت منها في الماضي... فلا تبخل بأموالك التي جاءتك كعطية من الله ".
وهذه نصائح عن الاعتدال في الرغبات: "إذا أردت أن تكون حالُك طيّبة، فامتنع عن كل خطيئة، واحفظ نفسك من كل جشع: فهذا مرض مؤلم وهو كعضة حيّة سامّة لا ربح فيها. هذا يضع الانزعاج بين الآباء والامّهات والإخوة، ويفصل المرأة عن زوجها. الجشع هو مجموعة كل المساوئ وتكديس كل الخطايا".
وسيعتبر كلّ حكيم أنّه من المفيد للإنسان أن يهيّئ آخرته. قال حورجادف: "أنجح بيتك في مدينة الموتى وليكن مقعدك في الغرب ثمينًا. تبنّ هذه القاعدة لأنّ الموت لنا هو في أسفل. تبنّ هذه القاعدة، لأنّ الحياة لنا هي في العلاء. بيت الميت هو للحياة".
والأجيال اللاحقة ستربط الحكمة بممارسة المسؤولية في الدولة. الحكمة تفترض الخبرة التي تُعمل الفكر، وسيجد فيها الحاكم نماذج من أجل الحياة. وسنكتشف في هذه النصوص معرفة بالنفس البشرية ونصائح تدعو إلى التعقّل وحب العمل، إلى السماع أكثر منه إلى الكلام.
"كم يستفيد من السماع ابن يسمع! حين يدخل السماع في من يسمع، فالذي يسمع يصبح أهلاً لأن يُسمع له. حين يكون السماع صالحًا يصبح التكلّم صالحًا. من سمع سيطر على ما هو مفيد، والسماع مفيد لمن يسمع. السماع أجمل من أي لشيء، ومنه يُولد حب جميل. ما أجمل الابن الذي يسمع ما يقوله أبوه. من يسمع هو حبيب الله ومن لا يسمع يبغضه الله ".

ثالثًا: السير الذاتيّة
تشكّل السير الذاتية فنًّا أدبيّا سيتوسّع توسّعًا كبيرًا في العصور اللاحقة من تاريخ مصر فأناس احتلّوا مراكزًا هامّة في المجتمع واعتبروا أنّهم لعبوا دورًا كبيرًا، قدّموا نفوسهم وأظهروا أفضالهم وما عملوه في حياتهم. يذكرون فضائلهم وسلوكهم المثالي خلال حياتهم على الأرض، وهكذا يبرزون حقوقهم من أجل سعادة في الآخرة. سيقول أوني لنفسه: "كنت محبوبًا من أبي، محبوبًا من أمّي، متفانيًا من أجل رفاقي، وديعًا مع إخوتي. محبوبًا من خدمي. لم أصنع شيئًا أحزن هؤلاء الناس". وقال أيضاً: "أعطيت خبزًا للجائع، وألبست العريان، وأوصلت من لا قارب له إلى الميناء... أكرمت أبي وأحببت أمّي". هذه نتف من نصوص عديدة دوِّنت في تلك الحقبة.
تشدّد هذه النصوص على فضائل صاحبها، وتشدّد أيضاً على ما عملوه في المجال الدبلوماسي أو العسكري. وهكذا فتح عظماءُ المملكة القديمة الباب أمام فنّ أدبي سيزدهر فيمَا بعد، هو فنّ "الحوليات التاريخيّة". أمّا أهمّ نموذج لهذا الفنّ، فهو حوليّات أوني ضابط جيوش بيبي الأوّل مرانرع (السلالة السادسة). يذكر أوني بارتياح وصوله إلى وظائف الدولة المتعدّدة، وحملاته في فلسطين على الآسيويين، والمهمّات التي قام بها لحساب الملك في جنوب البلاد. ويُبرز هذا النصُّ الطويل اهتمام الكاتب بأن يقدم لنا تحفة أدبية، وهذا ما يدفعنا إلى أن نتجاوز الفائدة التاريخيّة لنصل إلى جمال الأسلوب.
ويرتبط بالفن الأدبي ذاته تقرير تركه حرخوف وهو رئيس في الفنتين عاش في أيّام مرانرع وبابي الثاني. إذًا، بعد أوني بقليل. وهنا نجد أيضاً محاولة أدبية إلى معلومات تاريخية.

رابعًا: مؤلفات متنوّعة
* نصّ دراماتيكي في نصب ساباكا. شيّد النصب في أيّام السلالة الخامسة والعشرين (حوالي 700 ق م)، ولكنّ النصّ يعود، بلا شكّ، إلى المملكة القديمة.
* بردية رمساريوم (معبد رعمسيس) الدراماتيكية. نحن أمام وثيقة (السلالة 19: حوالي سنة 1250 ق م) تحتفظ بنصّ قديم جدًّا.
* نصّ قانوني. قرار أوسرخاو (نافريكاري: السلالة الخامسة) الموجّه إلى كهنة تعبد قبطس. نجد فيه تعبير الفتاوى التي عرفته الدساتير البيبلية وكودكس حمورابي.
* نصّ سمّي "لاهوت ممفيس" ونقله نصب ساباكا. إنّه شهادة للمجهود الفكري في الفلسفة والاهوت لدى كهنة فتاح في معبده. إنّه محاولة تردّ إلى كلمة (لسان) وفكر (قلب) فتاح خلقَ كل ما هو موجود: الآلهة، البشر، الذرات الأربع، الزّحافات: "للقلب واللسان سلطة على سائر الأعضاء... القلب يفكّر ما يشاء واللسان يأمر ما يريد... يردّد اللسان ما يفكّر به القلب. وهكذا وُلدت كلّ الآلهة، وهكذا تصّت تساعية فتاح. فكل كلمة الهية وجدت بما فكّر به القلب وأمره اللسان". كم نحن قريبون من تك 1 حيث يخلق الله الكون بكلمته.
* برديّة جراحية. نشرها أدوين حيث فسمّيت بأنه. يُنسب النصّ إلى أمحوتب ولكن زيدت عليه بعض الأمور في زمن لاحق.

2- المملكة الإقطاعية (2300- 2050)
بعد حكم بيبي الأوّل الطويل (50 سنة تقريبًا) وحكم بيبي الثاني الأطول (94 سنة) عرفت مصر فترة تفتّت ومملكات متعددة. تحرّر حكّام المقاطعات من سلطة الحكم المركزي، فكوّنوا لهم إقطاعات مستقلّة تصارع الواحدة الأخرى. كان لهذا الوضع نتائج ملموسة في مجال الثقافة والفكر ولاسيّمَا الفكر الديني منه. إمّحت الايدولوجيا الملكية فوعى الفرد ذاته واكتشف علاقته مع الآلهة ولاسيّمَا فيما يخصّ الحياة في الآخرة. في هذه الحقبة، صارت ممارسات الجنازة معمّمة على كلّ الناس، وطمح كلّ واحد (لا الملك وحده) أن يكون أوزيريس.
وإذا عدنا إلى الفكر العام وإلى تحرّر روح النقد، نجد تحسّرًا مرًّا على النظام القديم وانتقادًا لاذعًا للاضطرابات التي أدّت إلى هذا التبدّل في السياسة والإدارة. ونتيجة كل هذا، برزت لا أدرية خائبة فيما يخص النظرة إلى الإنسان في المجتمع، إلى مصيره، بل إلى وجوده. وظهر أدب متشائم في أرض عرفت التقلّب في مجتمع بدا ثابتًا كالأهرام التي بناها.

أولاً: الفنّ التعليمي
هذا الفن هو امتداد للذي سبقه في المملكة القديمة، ولكن مواضيعه تأثّرت بالأزمة التي أشرنا إليها.
* تنبيهات حكيم مصري (بيت أيضاً خطأ: نبوءة ايبوّار). كتاب "محافظٍ " تألّم من نتائج التبدّلات السياسية والاجتماعية التي حصلت في البلاد. يحاول الكاتب أن يسحر القارئ بتكرار عبارات تدلّ على واقعيّة مؤلمة. في القسم الأوّل يبدأ كل دور بالعبارة التالية: "حقًّا، الأمر هكذا". لقد رأى الكاتب بأمّ العين ما وصلت إليه البلاد من تعاسة فرسم أمامنا لوحة مظلمة: "حقًّا، الأمر هو هكذا. الأغنياء يحزنون والفقراء يعيّدون. كل حاضرة تقول: لنطرد الأقوياء الذين هم عندنا. حقًّا، الأمر هكذا... الشقاء يتحكّم بالبلاد، وليس من إنسان يلبس اليوم ثيابًا بيضاء. حقا، الأمر هو هكذا. تدور البلاد مثل دولاب الفخّاري، والسارق يمتلك كلّ خير".
وفي قسم ثانٍ ينوّع الكاتب عباراته: "أنظر، ذاك الذي لم يكن يقدر أن يبني قاربًا يمتلك سفينة. أنظر، صار فقراء البلاد أغنياء، والذي لم يكن يملك شيئًا صار ملاّكًا كبيرًا. أنظر، ذلك الذي لم يكن له خبز، صار له الآن الأهراء. ولكنّ مخازنه مملوءة من خيرات أخذها من الآخرين".
وتبدأ الأدوار في القسم الثالث بكلمة "اعتبروا". هو يعود إلى الزمن الماضي يوم كان كلّ شيء منظّمًا. ويعبّر القسم الرابع عن الحنين إلى الماضي، فيبدأ كلّ دور بهذه الكلمة: "إنّه لجميل ". "إنّه لجميل أن يمتلئ الفم فرحًا، وأن يحضر العيد عبء المقاطعة وينظروا بفرح إلى أملاكهم، ويكونوا في لباس جميل وهندام متقن وقلب هادئ ".
أجل، حلّ التشاؤم محلّ التفاؤل، فانتظر هذا الحكيم مخلّصاً. ولهذا سمّي كتابه "نبوءة". "سيظهر محارب ويطرد الشر الذي سبّبه هؤلاء الرعاع. لم يعد الصلاح موجودًا اليوم. أين هو؟ هل ينام؟ نحن لا نرى عمله الآن".
* حوار اليائس مع نفسه: يجادل اليائس نفسه: هل يناسبه أن يبقى في عالم الأحياء بعد ان طُردت الخصائل التي جعلت ذاك العالم جميلاً؟ "إلى من أتكلّم اليوم؟ الإخوة أشرار، والأشرار لا يعرفون المحبّة. إلى من أتكلّم اليوم؟ القلوب جشعة، كلّ واحد يضع يده على خيرات صاحبه... إلى من أتكلّم اليوم؟ أنا مُثقل بالألم، لأن لا صديق لي. إلى من أتكلّم اليوم؟ الشقاء الذي يضرب البلاد لا يعرف حدًّا ولا نهاية... ".
ما يُلهم الكاتب هو الوضع السياسي والاجتماعي. لماذا يبقى في عالم زالت منه فتنته؟ ويتطلعّ إلى الآخرة، إلى الانتحار. ولكنّ نفسه لا توافقه الرأي. ففي الآخرة يتبخّر الجسد ويسيطر الألم. الآمال التقليدية باطلة، وكذلك المواعيد التي تقدّمها الديانة. إذًا نحن هنا أمام تأسّف من حالة اجتماعية، بل أمام أزمة إيمان ديني. أيّهما أفضل، الموت أو الحياة؟ "يكفيني اليوم أنّ نفسي لا توافقني الرأي ".
ونورد مقاطعُ تنشد نشيد الموت: "الموت هو اليوم أمامي كالعافية للمريض، كالسفر بعد المرض. الموت هو اليوم أمامي كعطر المر وكالجلوس في ملجأ ساعة ينفخ الهواء. الموت هو اليوم أمامي كعطر اللوتس، كجالس على ضفاف السُكر. الموت هو اليوم أمامي كإنسان يعود إلى بيته بعد رحلة طويلة... ".
ولكن يحدث لليائس أن يستشفّ جمال عالم لم يفسد فيه كلّ شيء، عالم يحلم به: "ما أجمل أن تمخر السفن عباب البحر ما أجمل أن تُجرّ الشبكة والعصافير الثمينة فجها. ما أجمل الناس يبنون الأهرامات ويحفرون البرك ويزرعون البساتين من أجل الآلهة... ".
وفي النهاية، سيحلّ الإيمان محلّ الشك في هذه النفس القلقة: "الذي هو هناك (في العالم الآخر) يعرف أن لا أحد يمنعه من الانضمام إلى رع حين يتكلّم ". كل هذا يذكّرنا بسفر الجامعة (19:3 ي؛ 17:5- 19)، ومز 49. "هذا ما نراه: الحكماء يموتون كالجاهل والغنيّ، ويتركون غناهم لآخرين. ومع أنّهم دعوا البلاد بأسمائهم، إلاّ أنّ قبورهم هي منازلهم مدى الدهر ومساكنهم إلى جيل فجيل... جُعلوا في الجحيم كالغنم وصار الموت راعيهم " (مز 49: 8 ي).
" تعليم للملك مريكارع. نُسب إلى الملك خاتي الثاني (السلالة العاشرة) أو إلى كاتب معاصر له. يحذّر الدولة والأفراد من سوء وضع ثوري خرّب المجتمع. نجد فيه خبرة حكم صعب واعتبارات حول موقف الإنسان من العدالة واحترام الشرائع. فمخافة الله والاستعداد للآخرة والصمت التأمّلي، تحمل التوازن إلى المجتمع.
هذا "التعليم " هو مقال في السلوك السياسي والخلقي. هو ينصح الملك أن يعامل الموظّفين عنده بالحسنى "ليعملوا بشرائعه". فالذي تدفع له حقه لا يبحث عن الرشوة. "فالذي يقول: آه، لو كان لي: لا يستطيع أن يكون عادلاً. إنّه يماشي من يدفع له المال ".
ويختم الكاتب تعليمه ببعض التواضع: "تأمّل، قلت لك أفضل تأمّلاتي. إجعلها أمام عينيك كأساس لسلوكك ". ويعود أيضاً إلى أنّ كل واحد سيمثل يومًا أمام الديّان الإلهي: "أنت تعرف أنّ المحكمة التي تميّز النوايا لن تكون رؤوفة يوم يُدان البائس وساعة يُتلى الحكم. الويل لك إن كان من يتّهمك عارفًا. لا تثق بعدد سنينك، فالإله يرى الحياة في لحظة. يفحص الإنسان بعد الموت ويكرّس اعماله. الأبدية هي هنا. من احتقرها كان جاهلاً. ولكن من وصل إليها ولم يقترف ذنبًا يصبح كالآلهة ويتمشّى كالأرباب الأزليين ".

ثانيًا: الفنّ الشعري بالمعنى الحصري
أناشيد ضارب القيثار. كان الفنّانون المصريون يرحمون في مشهد الجنازة ضارب قيثار أعمى مع آلته الموسيقيّة. ولهذا سُمّي هذا المؤلَّف أناشيد ضارب القيثار. كان المغنّون والمغنّيات ينشدون هذه الأبيات. أمّا الموضوع: لا نقدر أن نسبر سرّ الموت. وهكذا نلتقي بتساؤلات "اليائس". أمّا أوّل نموذج معروف لهذا النوع من القصائد فهو النشيد الذي دوّن على مدفن الملك انتيف (السلالة الحادية عشرة، حوالي سنة 2100). يقول: "الأجيال تفسد وتزول... والآلهة (= الملوك) الذين ظهروا في الماضي يرقدون في أهراماتهم. لن نجد مكان الذين بنوا الأهرام. ماذا صار بهم؟ دعت كلمات امحوتب وحورجادف. اين هو مكانهما؟ سقطت الجدران وزالت الأمكنة... اتبع قلبك (= رغبتك) ما دمت حيًّا، اجعل المر على جسدك والبس البرفير. تعطّر بأثمن العطور، بتلك التي تقدّم للآلهة... فالبكاء لا يخلّص أحدًا من القبر. ليكن نهارك سعيدًا ولا تتعب نفسك. تأمّل، لم يأخذ أحد خيراته معه. تأمّل، لم يرجع أحد إلى الوراء".
ولكن سينتقد شاعر هذا الموقف السلبي والمتشائم، فينقش أشعاره على مدفن نفرحوتب (السلالة 18، حوالي سنة 1500): "سمعت هذه الأغنيات التي تعتبر عالم الموتى قبيحًا. لماذا يعملون هكذا؟ ليس من إنسان إلاّ ويذهب إلى هناك. ولكن يقال: أهلاً وسهلاً (وسلامًا) لمن وصل إلى الغرب (أي مثوى الموتى) ".

ثالثًا: الخبر
خبر العائش في الواحة (أو بردية الكثير الكلام). من أطول المؤلّفات الأدبية التي وصلت إلينا من مصر القديمة. قد تعود إلى نهاية حقبة سيت رع (أو بداية المملكة الوسيطة). إنّه مؤلّف خيالي يُستعمل كإطار لموضوعات حكمية قرأنا مثلها في تعليم هذا الحكيم أو ذاك.
كان فلاح في واحة وادي النطرون (غربي الدلتا). ذهب يومًا ليبيع محصولات منطقته في الوادي. وإذ كان في الطريق، أمسكه جندُ موظّف محلّي لا ضمير له وأساؤوا معاملته وأخذوا منه ما يملك. فاشتكى الفلاّح إلى السلطة العليا، إلى رنسي المدير الكبير. فلم يُسرع إلى حلّ قضيته. فلجَّ الفلاّح. دُهش رنسي من طلاقة لسان هذا الرجل فأخبر الملك. فاهتمّ الملك بالفلاّح، وطلب من القاضي أن تطول القضية ليستمع إلى اقواله. ولكنّه في الوقت عينه أمر بالاهتمام بعائلته، ثمّ أعطاه وظيفة الذي هاجمه.
وهكذا يجعل الكاتب في فم بطله تسعة خطابات يعالج فيها موضوعات الحكمة العادية: واجبات السلطان، حقّ المساكين، أهميّة العدالة في نظر الآلهة والبشر، تبرير السارق الذي دُفع إلى السرقة بسبب الجوع...

3- المملكة الوسيطة (2000- 1800)
انتصرت سلالة طيبة تدريجيًا على سلالة سيت رع، فعاد إلى مصر تماسكها الذي عرفته في المملكة القديمة. عمل منتوحوتب من السلالة 11 واماغيس وساسوتريس من السلالة 12. خلال هذه الحقبة، لم يتخلّ الأدب كليًّا عن المواضيع التي تطرّقت إليها الحقبة السابقة، ولكنّ الكتّاب عادوا إلى جوّ التفاؤل. مدحوا الملوك، واعتبروهم مخلّصين لشعبهم. واتّجهوا إلى الرواية التاريخية أو إلى الخبر الخيالي الذي يهدف إلى خلق الانشراح والتسلية.

أولاً: أدب سياسي
* خبر نفرتي النبوي. يضع الكاتب أمامنا ملكًا من السلالة الخامسة وهو سنافرع. أراد هذا الملك أن يُبعد الضجر عنه، فاستدعى رجلاً يستطيع أن يسليّه "بأقوال حلوة وعبارات مختارة". فأدخلوا إليه أحد كهنة الإلاهة بستيت واسمه نفرتي. عرض على الملك أن يخبره عن الأمور الماضية كما يراها في مستقبل قريب. وأخيرًا رسم لوحة عن انحلال المملكة، كما عرفتها المملكة القديمة وحقبة الإقطاع. وهكذا يقترب النص من المراثي.
ولكنّ نفرتي لا يتوقّف هنا، بل يُنبئ بملك مخلّص آتٍ من الجنوب: "سيأتي ملك من مصر العليا، وسيكون اسمه اميني. يكون ابن نوبية وينبت في مصر العليا. يعتمر التاج الأبيض ويحتلّ التاج الأحمر ويجمع القوتين (= التاجين). إفرحوا، يا أهل عصره، البار سيستعيد مكانه والمخطئ يُطرد. طوبى لمن يرى كل هذا ويكون تابعًا للملك ".
تحدّث الشرّاح عن مسيحانية تقابل ما نجده عند الأنبياء في التوراة. بل نحن أمام مديح لعمل الملك الحاكم، الملك أمينمحات. إنّه مقال أحد رجال الحاشية. قيل بشكّل نبوءة كُتبت بعد حدوث الحدث.
* تعليم أمينمحات (الأوّل) إلى ابنه ساسوتريس (الأوّل). نُسب المؤلَّف إلى خاتي، الكاتب المزعوم لنشيد للنيل. نحن أمام نظرة متشائمة عن كون يحمل التعب إلى من يعمل الخير ويجعل الخيانة تلاحق من يثق بأصدقائه. وهكذا نجد سلسلة من التحذيرات: "احذر عبيدك لئلاّ يحصل لك ما لا تنتظره. لا تقترب منهم عندما تكون وحدك. لا تملأ قلبك من صداقة أخيك. لا تتعرّف إلى صديق، ولا تجعل لك أشخاصاً حميمين، فلن يكون لك منهم خير... كن منتبهًا بكلّ قلبك حتّى في منامك لأنّك لن تجد نصيرًا ساعة تخسر خطواتك. الذي أكل خبزي جمع المتمردين عليّ، الذي أعطيته يدي تآمر عليّ ".
* ويروي الكاتب خبر هجوم ليلي: "استيقظت للقتال كنت وحدي... ليس من شجاع في الليل، وليس بممكن أن تقاتل وحدك، ولن تكون المغامرة سعيدة إن لم يكن لك نصير".
* نشيد إلى ساسوتريس الثالث. وُجد في نهاية السلالة 12 في كاحون، في الفيوم، حيث أقامت هذه السلالة قصور الملوك ومدافنهم. نحن هنا أمام تمجيد الملك وذكر انتصاراته في النوبة والحديث عن حكمه: "ما أكبر السيّد لمدينته. وحده يساوي الملايين. وبقية الناس شيء قليل. أمّا هو فملجأ مبرّد ينام فيه الإنسان حتّى الصباح. إنّه الجبل الذي يشكّل سورًا بوجه الهواء خلال العاصفة".
* "هجاء المهن". دوّنه كاتي ابن دواؤوف. يصوّر ساخرًا المهن اليدوية المتعددة (حداد، نجار، حلاّق، فخّاري، إسكاف ليس له إلاّ النعل ليأكل) فيعطينا فكرة عن الحياة الاجتماعية والمهنية في عصره. أمّا وظيفة الكاتب فهي نبيلة ومرغوبة: "ليس من كاتب ينقصه الطعام. وهو يناله من القصر الملكي. ومصير الكاتب أن يصل إلى قمّة الإدارة. أشكر والدك ووالدتك اللذين جعلاك في طريق الكتب ". هناك من قابل هذا النص مع سي 24:38- 39 : 11.

ثانيًا: الفن الإخباري
* خبر سينوحي. نجد في أساس هذا الخبر حادثًا تاريخيًا هو موت أمينمحات الأوّل (حوالي 1985) بفعل مؤامرة، واعتلاء ابنه ساسوتريس الأوّل العرش. كان سينوحي أحد رجال الحاشية فوجد نفسه داخلاً في هذه المؤامرة. خاف حين وصل الملك الجديد من حملة حربية في ليبيا، فهرب إلى سورية. ثمّ عاد إلى بلاده وروى مغامراته: كيف عبر الحدود خلال الليل والتقى بالبدو، وسافر إلى سورية حيث أقام (هنا يتوقّف الخبر ويبدأ مديح لملك مصر الجديد). تزوّج بابنة أمير ذاك المكان، وكان له منها أولاد، وتنازع مع أحد الزعماء المحليّين. ولكنّه حنّ إلى مصر فصلّى إلى الله ليعيده إليها. وما عتّم أن جاءه قرار ملكي يؤكّد له عطف الملك. عاد فاستُقبل في القصر وكانت له بعض كلمات التهكّم من قبل رفاقه القدامى: "انظر إلى سينوحي، لقد تحول إلى رجل آسيوي، صار ابنًا حقيقيًّا للبدو" (هنا نحسّ بالشعور بالتفوّق عند المصري). ولكن هذا لا يمنعه من أن يستعيد وظيفته وأن يجمع الثروة ويموت بسلام ويُدفن دفنة مهيبة بأمر من الملك.
هذا الخبر هو تحفة أدبية، وهو يعرّفنا إلى نظرة المصريين إلى سورية وفينيقية وفلسطين، ويدخلنا إلى بلاط الفرعون في تلك الحقبة المزدهرة في المجال الحضاري.
* خبر الغريق. نحن هنا كما في الخبر السابق في عالم الخيال. وقد يكون الكتاب قد انتشر شفهيًا قبل أن يدوّن. أنشده "المغنّون" فحملوا سامعيهم إلى عالم من الأسرار. بعث الملك برسول إلى مناطق الشرق، إلى البحر الأحمر، إلى شبه جزيرة سيناء أو إلى الصومال (أوفوني) ليبحث عن النحاس والفيروز. ويبدو الخبر تقريرًا يرفعه البطل إلى الملك عن مغامراته المخيفة. إنطلق فوق سفينة متينة مع ملاّحين مجرّبين. ولكن هبّت عاصفة هائلة فضربت السفينة فنجا وحده ووصل إلى جزيرة سرّية ملكها حيّة. وجاء إليه سيّد تلك الأمكنة: كان طوله ثلاثين ذراعًا وجاوزت لحيته الذراعين. كانت أعضاء جسمه مغطاة بالذهب واللازورد. أخذت الحيّة البطل في فيها وحملته إلى حجرها فبدأ الحديث. روى البطل للحيّة ما حدث له، فروت له بدورها شقاءها: كيف خسرت أبناءها وصارت تعيش وحدها. واقتربت سفينة من الأفق فأشار إليها البطل فرست في الجزيرة السرية. وحمّلت الحيّة البطل هدايا لملكه فعاد إلى مصر ورفع مقامه فصار "الصاحب".
* أخبار بردية وستكار (إسم الشخص الذي اكتشف البردية). تعود الوثيقة إلى السلالة 13، ولكنّ الأخبار ألّفت أقلّه في أيّام السلالة 12 . الموضوع العام: ولا يخبر والده الملك خبرًا غريبًا. أمّا الملك فهو خيوف من السلالة الرابعة، وكان له تسعة أولاد. هذا يعني أنّه كان هناك تسعة أخبار. ولكنّ الخطوط لم يحتفظ إلاّ بخمسة أخبار. يقتصر الأوّل على بضعة أسطر (بسبب التلف). الخبر الثاني يرويه شفرين: زوج خانته امرأته فانتقم منها لاجئًا إلى الممارسة السحرية: تمساح من شمع سيتحوّل إلى تمثال حقيقي فيبتلع المرأة الزانية. الخبر الثالث خبر شعري. كان سنافرع عاطلاً عن العمل. نصحه بوفره أحد أبناء خيوف أن يذهب في نزهة على البحيرة في سفينة تسيّرها عشرون فتاة جميلة. وتوقّفت رئيستهنّ عن التجذيف وتوقّفت رفيقاتها. انفك من شعرها أحد حلاها المعمول من الفيروز وسقط في البحر، فحزنت وما كان أحد يقدر أن يعزّيها. فطلب الملك كاهنًا ساحرًا فقسم الماء إلى قسمين فوجد الحلي وأعاده إلى صاحبته. ويعود بنا الخبر الرابع إلى عالم السحر ليسلّي خيوف. سأل الملك الساحر جادي: "هل تستطع حقًّا أن تعيد رأسًا مقطوعًا إلى مكانه". وإذ أجاب الساحر بالإيجاب أمر الملك قال: "جيئوني بالأسير الذي في السجن بعد أن تقطعوا رأسه". فأجاب جادي: "لا يا سيّدي الملك. لا يُسمح لنا أن نعمل مثل هذا الشيء في قطيع الله المكرّس". وسينجح جادي مع بطّتين وثور فيعيد إليها رؤوسها. وفي ملحق للخبر الرابع يروي الراوي ولادة مثلّث سيصيرون ملوكًا من السلالة الخامسة.
نحن هنا أمام أخبار شعبية، وسنجد ما يشبهها في كتاب "ألف ليلة وليلة".

ثالثًا: الأدب الجنائزي والديني
* نصوص النواويس (تابوت حجري). في نهاية أيّام السلالة 11 وفي أيّام السلالة 12، كانت الامتيازات الجنائزية خاصّة بالملوك، فتعمّمت على أفراد الـشعب. لهذا طلب بعض الأفراد أن تُنسخ على جدران نواويسهم مقاطعُ من "نصوص الأهرام". وبما أنّ هذه العبارات لا توافق عامّة الشعب، كيّفوها من أجل الذين استعملوها. أمّا التوجيه الفكري فهو هو: نعطي المائت خيرات سعادة خالدة. نطلب له الحياة الابدية بالمشاركة في أسرار أوزيريس. هذا ما سنجده في "كتاب الموتى" الذي يعود إلى الحقبة اللاحقة.
هي عبارات بعث يتم باتّحاد الميت بالإله. يُعلن النصّ أنّ كلّ أعضائه هي أعضاء إله. وكانت عبارات تحاول أن تؤمّن الطعام للميت، لأنّ الطعام ضرورة حياتية في هذا العالم وفي الآخر وكانوا يكتبون عبارات سحرية تُماثل بين الميت وبعض الحيوانات التي تفرض نفسها بقوّتها. ودوّنت عبارات فاعلة تُساعد الأحياء على اللقاء بالذين أحبّوهم على هذه الأرض، في مملكة أوزيريس.
أناشيد دينية. فنّ أدبي انتشر خلال المملكة الحديثة ولكنّه بدأ في المملكة الوسيطة من خلال أناشيد لأوزيريس احتفظت لنا بها أنصاب جنائزية.

4- المملكة الحديثة (1590- 1085)
تمتدّ هذه الحقبة من السلالة 17 إلى السلالة 20. فبين المملكة الوسيطة والمملكة الحديثة نجد حقبة من الفوضى سيطر عليها الهكسوس (الملوك الرعاة)، فلم تترك لنا شيئًا مهما في المجال الأدبي. وسيأتي احميس (احموسيس كما يقول اليونانيون) أوّل ملك في السلالة 18، فيحرّر البلاد من غزاة احتلّوها منذ الدلتا إلى الأقصر وفرضوا عليها ملوكًا غرباء.
وتمّ، من الوجهة الأدبية، تحوّل ثقافي يشبه ذلك الذي طَبع بطابعه نهاية السلالة 11 وبداية السلالة 12. صارت اللغة شعبية، فاقتربت من اللغة المحكيّة. أمّا اللغة الأدبيّة الرفيعة، فصارت وقفًا على المثقّفين.
وخلال الفترة الثانية من أيّام السلالة 18، حدثت ثورة دينية حقيقية: أزيلت عبادة أمون وما يرتبط بها، وحلت محلّها عبادة أتون، الشمس الشاملة التي صار نبيّها أمينوفيس الرابع (حوالي 1380) أي أخناتون.

أولاً: الأدب الديني
جاءتنا شهادات عديدة في هذا المجال: مدوّنات الهياكل والمدافن، برديات طقسية، مكتبات مدرسية، "بيوت الحياة"، أنصاب موضوعة في المعابد الجنائزية.
* كتاب الموتى. ارتبطت زخرفة المدافن والتوابيت والمومياءات بنصوص النواويس. ووُضعت نصوص على البرديات في صناديق قرب الميت. هذا ما نسمّيه كتاب الموتى. أمّا المصريون فتكلّموا بالأحرى عن كتاب الخروج إلى النهار، وفيه نجد تجميع عبارات (192 في الطبعات الحديثة)، وهو يعود في أقدم مخطوطاته إلى السلالة 18 وفي أضبطها إلى السلالة 26 (نسخة سائية. وصلت على بردية تورينو وهي تعود إلى سنة 600 تقريبًا).
إنّ هذه العبارات تتيح للميت أن ينضمّ إلى الشمس التي تسير مسارها (دوات) في الليل، وأن يتّحد بحثا حين تخرج إلى الضوء في ساعات النهار. وبفضل عبارات أخرى، يشارك أوزيريس في مجده. وهناك عبارات تساعده على اتّخاذ شكل الحيوانات المتنوّعة (وقوّتها مفيدة)، على استعمال القارب الشمسي، على التخلّص من الوحش المفترس حين يقف أمام محكمة أوزيريس، على تقبّل تقادم الطعام في بعض الأعياد، على النجاة من بعض الأشغال الشاقّة المفروضة على ضيوف "دوات". وإليك الفصل السادس الذي يُستَعمل لزخرفة التماثيل الجنائزية الصغيرة الموضوعة قرب المومياء (اسمها شوابتي). "كلمات قالها فلان: يا شوابتي فلان (مضاف إليه)، إذا دعيتُ لأقوم بكل الأعمال التي تُعمل عادة في مملكة الموتى... ابقي معي في كلّ وقت لتفلحي الحقول لتسقي شواطئ النهر لتحملي الطحين من الشرق إلى الغرب".
ونلاحظ من الوجهة الأدبية بعض الفصول الخاصة: مقدّمات بعض المخطوطات (مثلاً: مقدمة آني). ف 15 الذي يتضمّن أناشيد لرع إله الشمس. ف 30 هو استحلاف الميت لقلبه بأن لا يتّهمه في يوم الدينونة: "يا قلبي، يا غلاف قلبي الأرضي، لا تقف ضدّي وتشهد بحضرة أسياد الخيرات. لا تقل عنّي: إنّه حقًّا فعل هذا. لا تجعل ما فعلته يقف ضدّي أمام الإله العظيم وسيّد الغرب ".
ونلاحظ أيضاًف 125 المسمّى "اعتراف سلبي" أو إعلان براءة. إنّه يعكس مثالاً أخلاقيًا عرفته المدوّنات الجنائزية لشخصيات حقبة المملكة القديمة.
* أناشيد وصلوات توسل. وصلت إلينا بعض النصوص من هذا النوع، وإن مُتلَفة، في بعض الهياكل. ولكنّ البرديات والأنصاب الجنائزية تركت لنا ما يكوّن كتابًا من المقتطفات الدينية. نترك جانبًا البرديات العبادية (عبادة أمون، عبادة معت) التي تتضمّن أناشيد، ونتوقّف على نشيد أتون الذي حفظ في مدفن آي، أحد ضبّاط أخناتون. إنّه شاهد عظيم للتوجيه الذي عرفه زمن تل العمارنة. لقد قابله الشراح بالمزمور 104. إليك بعض مقاطعه: "تشرق جميلاً، أيّها القرص الشمسي الحي، وشعاعك يعطي عيونًا لما خلقت، سحنتك تضيء فتحي القلوب. تملأ المصرَيْن (مصرائيم) من حبّك، أيّها الإله النبيل الذي خلق نفسه، الذي خلق كلّ الأرض وما عليها: الناس، كلّ البهائم الداجنة والحيوانات المفترسة، الأشجار التي تنمو على الأرض، إنّها تحيا حين تضيء عليها. أنت أب وأمّ لما خلقت... أنت واحد وفيك آلاف الحياتات لتحيي الخلائق. من رأى شعاعك كانت له نسمة الحياة. تحيا كلّ الأزهار التي تنبت على الأرض وتنمو حين تضيء. إنّها تسكر بوجهك. تقفز الحيوانات على أرجلها والعصافير التي في أعشاشها تطير من الفرح. كانت أجنحتها منغلقة فانفتحت لتنشد القرص الشمسي الحي".
ونذكر أيضاً النشيد العظيم لأوزيريس (نصب اللوفر)، النشيد لأمون إله السلالات (بردية 17 في القاهرة، بردية 3049، 3050 في برلين، برديات 1 - 350 في ليدن بهولندا التي تنشد أمجاد امون وطيبة مدينته المقدّسة)، أناشيد للإله فتاح (بردية 3048 في برلين).
* صلوات التوسل والتوبة الموجّهة لأمون وفتاح والإلاهة التي تحمي عال مدن الأموات الملوكية في دير البحري. صلوات موجّهة لملوك مؤلّهين مثل أمينوفيس والملكة أحميس نفرتاري...
ترتدي الديانة المصرية وجه العطف والرأفة. وعلى المستوى اللاهوتي نجد نظريات عن طبيعة أمون ودوره. وستتوسّع في هذا الموضوع أناشيد لأمون مدوّنة على جدران معبد هيبيس في أيّام داريوس الثاني، إلاّ أنّها تعكس لاهوتًا تكوّن في أيّام المملكة الحديثة.

ثانيًا: أدب قريب من التاريخ
ترك ملوك السلالتين 18 و 19 مدوّنات عديدة على جدران الهياكل والأنصاب. وقد احتفظت البرديات أيضاً بأعمال الملوك. مثلاً: وصلت إلينا لوحة خشبية تورد لنا آخر حرب قام بها كموصي، آخر ملوك السلالة 17. أمّا أحميس ابن ابانا (ضابط أوّل ملك في السلالة 18)، فقد روى حروب أهل طيبة ضد الهكسوس الذين خسروا عاصمتهم أفاريس. لا شكّ في أنّ الكاتب يمتدح نفسه، ولكنّنا نجد في هذه المدوّنة شاهدًا عن حقبة هامة من تاريخ مصر ونجد نصوصاً خرجت من الدوائر الملكية: خبر ولادة حتشبسوت ولادةً إلهية بزواج أمرن من الملكة أحميس. مواعيد رخاء وجّهها أمون من أجل تحوتمس الثالث على النصب الشعري في الكرنك. حوليات تحوتمس الثالث وخبر معركة مجدو. أنصاب عديدة تذكر حملات أمينوفيس الثاني في فلسطين ومآثره في عالم الرياضة البدنية...
ونصل إلى السلالة 19، فنورد مدوّنات سيتي الأوّل العديدة على جدران معبد أمون في الكرنك. وترك رعمسيس الثاني مدوّنات متنوّعة تتعلّق بمعركة قادش التي انتصر فيها على الحثيين بفضل حماية أمون العجائبية. في حوزتنا سبعة نصوص لما يسمّى "نشرة قادش " (تقرير عن الوقائع) و "قصيدة فنتاوور" (اسم الكاتب الذي دوّنه). يصوّر الشاعر تنظيم المعركة، تشتّت الفرق المصرية الثلاث، صلاة رعمسيس الثاني لأبيه أمون. هربَ كلُ جيشه ولكنّه انتصر على عدوّه.
ونورد أيضاً من السلالة 19 "نصب إسرائيل" المتعلّق بهجمات منفتاح على شعوب البحر (الفلسطيون) ليحمي بلاده من هجماتهم. أبعدهم عن شواطئ مصر الشمالية، فأقام على شاطئ كنعان (فلسطين) الغربي. في تلك الحقبة، أقامت في كنعان قبائل ستكون فيما بعد شعب إسرائيل.

ثالثًا: الأخبار
نجد في المملكة الحديثة كما في أيّام السلالة 12 أدبًا خيالها مع خلفية تاريخية أو أسطورية. وهناك عملان يرتبطان بالوضع السياسي كما برز في نهاية السلالة 17: مملكة الهكسوس الذين أقاموا في الدلتا، مملكة الفراعنة في طيبة.
* نزاع ابوفي وسقنانرع. يروي هذا الخبر حدثًا واقعيُّا آتيًا من عالم الأسطورة. احتج أبوفي، ملك الهكسوس، لدى سقنانرع، ملك طيبة، لأنّه لا يقدر أن ينام بسبب الضخة التي تحدثها التماسيح قرب عاصمته أفاريس، وأمره بأن يخلّصه منها. كان ذاك تحديًّا واضحًا. ما كان جواب سقنانرع؟ هذا ما لا نعرفه، لأنّ المخطوط مشوّه في هذا المكان من الخبر.
* خبر احتلال يافا. احتلّ الحثّيون هذه المدينة. تظاهر أحد قوّاد تحوتمس الثالث بأنّه ترك سيّده، فدخل المدينة. وقتل حاكمها. وجعل رجاله في سلال يحملها 500 رجل، وكأنّها هدايا لحاكم المدينة. استقبل الوفد وكأنّه أسراب حربية. خرج عسكر جاحوتي من مخائبهم وسيطروا على المدافعين عن يافا. هذا هو موضوع حصان طروادة أو علي بابا والأربعين لصاً.
* خبر الأخوين. خلفية أسطورية. باطا وأنفو هما أخوان. استعبد الاكبر (انفو) أخاه. وفي يوم من الأيّام دعت زوجة انفو باطا ليضاجعها في غياب زوجها. رفض باطا وهرب من البيت تاركًا بين يدي المرأة معطفه. أتّهم باطا بالزنى فهرب إلى لبنان. هنا تتلاحق سلسلة أحداث يلعب السحر فيها دورًا بارزًا. مات باطا ولكنّه قام وصار ملك مصر هناك مقابلة مع قصّة يوسف وامرأة فوطيفار.
ونذكر أيضاً: مغامرات حورس وسيت، خبر عائد، رواية الحقيقة والكذب، خبر الأمير المعدّ للملك، مغامرات أونامون (أرسله الملك ليشتري خشبًا في جبيل من أجل إصلاح قارب أمون).
رابعاً: أدب أخلاقي
سار الكتبة في خطّ "تعاليم" العصور السالفة، فألّفوا كتبًا أخلاقية من أجل أبنائهم، أي من أجل تلاميذهم. لا يعود الكتبة إلى الملك، بل يقدّمون حكمة تليق بكبار النفوس.
* حكمة آني. أقوال مأثورة، فرائض، تحريضات. نصائح في الصلاة والتربية الحسنة والسلوك مع النساء أو تربية الأولاد والاستعداد للموت. وهذا ما سجعلنا نفكّر بسفر الجامعة. وإليك هذا النص من حكمة آني: "لا تمت ما دمت لم تعرف الراحة. إعرف بعض المراكز التي تحبّ، فكّر بالشيخوخة لكي تعرفها. اهتمّ بهذا لا بمسار وظيفتك. يليق بك أن تجد مكانًا معدّا في الوادي، القبر الذي يحمي جثتك. اعتبر هذا بين الأمور التي لها حساب في نظرك. أمّا الذي هو مثل شيخ عجوز فاجعله داخل قبره. فلا لوم لمن يفعل هذا. من الخير أن تكون مستعدًا. فإذا جاء رسولك ليأخذك يجدك مستعدًّا. قل: هاءنذا. تعال، فيبتعد عنك. لا تقل: لست شيخًا لتأخذني، فأنت لا تعرف ساعة موتك. يأتي الموت فيتسلّط على الطفل الذي في حضن أمّه كما يتسلّط على الذي صار شيخًا".
"أكرم الله ". هذا ما نقرأه في القول 37: "قربّ تقدمتك إلى إلهك، واحفظ نفسك من إغاظته. لا تسبر كيانه. من عظّمه يعظَّم". والقول 7: "احتفل بعيد إلهك وكرر الاحتفال في تاريخه. فالإله لا يرضى أن تهمله".
* تعليم أمينحوبي (أو امينوفي). قد يعود هذا النص إلى السلالة 22. قسمَ المؤلِّف كتابه إلى ثلاثين فصلاً (رج ام 22: 20)0 اهتمامات أمينوفي هي اهتمامات آني مع تشديد على احترام الأشخاص وعلى الحس الديني. لاحظ الشرّاح تقاربًا بين هذا التعليم وأم 17:22- 23: 14.
ونورد ف 4 القريب من مز 1 وإر 17: 5- 8: "الجاهل (الحامي) في الهيكل هو مثل شجرة تنبت في الأدغال فتخسر كل أعضائها في لحظة واحدة، وتكون نهايتها في مصنع السفن ثمّ تجري بعيدًا عن مكانها أو تكون النار مدفنها. أمّا الصامت (الحكيم) الحقيقي فيقف على انفراد. إنّه كشجرة تنمو في بستان وتكون خضراء وتعطي غلّة مضاعفة. لا تقف في ساحة هيكل الرب. ثمارها حلوة، وظلّها لذيذ، ونهايتها في البستان ".

خامسًا: أناشيد الحب
وصلت إلينا برديات واوستراكات عديدة تنشد الحب البشري، فتعبّر عن عواطف الإنسان ومواقفه. وإذ نقرأ هذه النصوص نتذكّر نشيد الأناشيد.
* شقفة القاهرة: نجد فيها قصائد متنوّعة المواضيع: يعبر الحبيبُ النيلَ رغم المخاطر لكي يصل إلى حبيبته. اجتماع يمامتين، القبلات، التمنّيات: "لو كنت عبدته لما كنت أتركه، لو كنت خاتمًا في يده فلا أنفصل عنه ".
* برديّة هامشا500. تتضمّن ثلاث مجموعات من أناشيد الحب. في المجموعة الأولى يقف الحبيب على مقدّمة القارب ويوجّه صلاته إلى فتاح، إله ممفيس: "أعطني جميلتي في هذا المساء". وتلوّن رغبتُه هذه النهرَ والقصب بل المدينة بكل جمال.
في المجموعة الثانية نجد ثماني قصائد عنوانها: "بداية أناشيد جميلة وطريفة من جميلتك، من التي يحبّها قلبك، والآتية من المروج". وقد سمّيت أيضاً "قناصة الطيور". ولكن هذا العنوان لا يوافق إلاّ القصائد الثلاث الأولى. وتتألّف المجموعة الثالثة من أدوار ترتبط فيها الكلمة الأولى باسم زهرة. تتمشّى الصبيّة في الحديقة فتوحي لها كلُ زهرة بنشيد.
* برديّة تورينو. سلسلة من الأناشيد تتكلَّم فيها كل شجرة فتشجّع المحبين على التعبير عن حبّهم. وستقول الجميزة: "أنا مغلقة على نفسي فلا أقول شيئا عمّا أرى".
* برديّة شستر بيتي الأولى. عنوانها: بداية كلمات المسلّية الكبرى. في الواقع نحن أمام حوار بين الحبيبين.

5- الحقبة المتأخّرة: السلالات 21- 30 (1000- 331 ق م)
هذه حقبة غامضة من الوجهة التاريخية: نزاع بين سلالات طيبة وممفيس وسائيس (سلالات 21- 24)، نهضة سائيس (السلالة 26). وبعد الاجتياح الأشوري ثم البابلي سيطر الفرس (السلالة 27) ثمّ المكدونيون مع الإسكندر الكبير (332 ق م). برزت في هذه الحقبة اللغة الديموتية (أو الشعبية) والأدب الديموتي. ابتعد الأدب الكلاسيكي الذي لم يعرف إلاّ نهضة سطحية في حقبة سائيس.

أولاً: النقوش الملكية
* نصب بيانكي. انطلق بيانكي من الحبشة فاستعاد البلاد من الجنوب إلى الشمال. روى حملاته ضدّ تفنخت أمير سائيس: احتلّ العاصمة وأخذ الحريم كل خير في المدينة، وأخذ خيله الذي كان جائعًا.
* مدوّنة آخر ملوك السلالة "الحبشية" (السلالة 25)، تنوتامون. تورد حلمًا رآه الملك فأنبأه بأنّه سيستعيد مصر من الأشوريين. ثمّ يروي النصب تحقيق الحلم: سافر الملك من نفاتا إلى الفنتين ثمّ إلى طيبة (حيث شيّد الأبنية ليشكر الله). وتابع حملته إلى الشمال فسيطر على الدلتا.

ثانيًا: السير الذاتية
* نصب الطبيب أو جحورسنات: من المدوّنات التي لا يذكر فيها العظماء نشاطهم في خدمة الدولة أو الآلهة، بل يفتخرون بنفوسهم ويُعلنون براءتهم مبرزين عطفهم على الفقراء. وقد وصلت إلينا معطيات هامّة حول علاقات هؤلاء العظماء مع السلطة الغريبة خلال الحكم الفارسي: كمبيز وداريوس الأوّل في نصب الطبيب أو جحورسنات.
* مدفن بيتوسيريس وعائلته (حوالي 300 ق. م.). أرى ما في النصوص القديمة من روحانية حكمية وكهنوتية: مديح الحياة المقدّسة لإنسان يسير حسب إرادة الله الذي يجازي.
نداء إلى الأحياء، لا ليقدّموا تقدمة جنائزية، بل ليسمعوا للحكمة: "أيّها الأحياء العائشون اليوم على الأرض والذين سيُولدَون، أنتم يا من يأتون إلى هذا الجبل وإلى هذا القبر، تعالوا فأجعلكم تطّلعون على إرادة الله. أقودكم نحو طريق الحياة والسبيل الصالح الذي يقود إلى الله. طوبى لمن يقوده قلبه نحو هذه الطريق، لمن يثبت قلبه في سبيل الله فتتجذّر حياته في الأرض. من كانت مخافة الرب عظيمة في نفسه، تكون سعادته على الأرض عظيمة... ما أحسن الطريق التي يسير فيها الأمين لله. فمن وجّهه قلبه إليها كان مباركًا. سأقول لكم ما حصل لي وأعلمكم بإرادة الله وأجعلكم تلجون في معرفة روحه. إذا كنت وصلت إلى هنا، إلى المدينة الأبديّة فلأنّي فعلت الخير على الأرض وارتاح قلبي في طريق الله منذ طفولتي إلى اليوم... فعلت كل هذا، وأنا أفكّر أنّي أصل إلى الله بعد موتي... طوبى لمن يحبّ الله، فهو يصل إلى قبره من دون عائق".

ثالثًا: أدب إخباري ديموتي (أو شعبي)
وصلت إلينا في اللغة الديموتية أخبار ونصوص حكميّة وعمل قريب من سفر دانيال أو تفاسير قمران.
* الكرونيكة الديموتية. يعود أحد المخطوطات (القرن 3 تقريبًا ق م) إلى 14 لويحة. يتطرّق الكاتب إلى تاريخ بلاده في أيّام السلالة 30. ويتحدّث عن الملوك الذين حكموا في أيّام المادايين وبعد تلك الأيّام. يتألّف الكتاب من إيرادات "نبوية" ذات طابع تاريخي. النصّ غامض، لهذا يفسّره الكاتب جملة جملة ويبدأ تفسيره بهذه العبارة: أعني أو تفسيره. وإليك مثلاً: الثالث، خلع عن العرش. أعني (هذا التفسير في قمران): إنّ الأمير الثالث الذي عاش في أيّام المادايين خُلع عن العرش، لأنّه ترك الشريعة على ما يبدو. وجاؤوا له بخليفة وهو بعد حي. الرابع، لم يظهر. أعني: إنّ الحاكم الرابع الذي جاء بعد المادايين (أي بساموتيس)، لم يظهر. أعني: إنّه ليس على طريق الرب. فلم يُسمح له بأن يبقى الحاكم مدّة طويلة.
نستطيع أن نقابل هذا الكتاب بتفسير حبقوق (وُجد في قمران): "قال الله لحبقوق أن يكتب الأحداث الآتية عن الجيل العتيد. ولكنّه لم يعرّفه بالزمان الذي فيه ستتمّ. أمّا ما قبل: ليركض القارئ. فهذا يفسّر عن معلّم البرّ الذي عرّفه الله بكلّ أسرار كلمات عبيده الأنبياء... إذا تأخّر التحقيق فانتظره لأنّه آت حقا ولا يبطئ (حب 2: 3 ب). هذا يفسّر عن رجال الحقيقة، عن الذين يمارسون الشريعة والذين لا يتعبون من خدمة الحقيقة".
* الأخبار الشعبية. نحن أمام سلسلة من الأخبار المرتبطة بأسطورة عن الشمس التي أخذت وأعيدت. انطلق راوٍ من هذا المعطى اللاهوتي وطعّمه بأخبار شعبيّة. أراد الإنسان أن يهدّئ غضب هذا الإله، فروى له أخبارًا يكون أبطالها الحيوانات: الهرّ، الصقر، الأسد الذي عفا عن الفارة فخلّصته بدورها. وهناك سلسلة أخرى من الأخبار أبطالها الملوك: أماسيس، باتوبستيس، خامواست ابن رعمسيس الثاني الذي صار رئيس كهنة في ممفيس وابنه سيوسيريس الحكيم.

رابعًا: الأدب الحكمي الديموتي
* أقوال بردية إنسنجر تعود هذه البردية إلى الزمن الروماني، ولكنّها دوّنت قبل تلك الحقبة. لا نجد خطبًا حكمية كما في "التعاليم"، بل أمثالاً قصيرة وموزونة. أمّا مضمونها فقريب ممّا وجد في السير الذاتية: احترام السلطة، تشديد على الديانة وعلى الآلهة أسياد مصير الإنسان. نقرأ هذه الردّة في نهاية كل من الفصول 25: "السعادة والمصير الآتيان يعطيهما الله". وهناك أمثال عديدة قريبة ممّا نقرأ في التوراة: "الله يعطي الغنى، والحكيم يحافظ عليه... يفرح قلب الله حين يرى الفقير شبعانًا". وتتحدّث هذه الأمثال عن التربية: "لا يموت ولد ضُرب بالعصا الوالدي". وقد ورث الكاتب من القدماء الاهتمام بدفنه: "الدفنة هي بيد الله، ولكنّ الحكيم يهتمّ بها".
* حكمة اونخ شيشانق. يورد مخطوط من القرن الأوّل المسيحي أقوالاً كتبها حكيم سُجن بعد مؤامرة. دوّن على جرة وُضعت بتصرّفه أقوالاً مأثورة، وقدّمها بطريقة غير منسّقة: اهتمامات اجتماعية وعائلية في المجتمع الفرعوني خلال الحكم الفارسي. هي حكمة دينية: "إجعل أمورك في يد الله". ويقدّم الحكيم نصائح عن الحياة اليومية: العمل، تدبير الميراث، الزواج، الفطنة مع النساء، ولاسيّمَا مع المرأة الشرعية: "لا تفتح قلبك لامرأتك، فما تقوله لها سيعرفه الشارع كلّه. افتح قلبك لأمّك". ويحذّر الحكيم تلميذه من التجّار... نكتشف هنا حياة المجتمع بحسناته وسيّئاته. ونورد قولاً قريبًا من جا 9:11: "افرح ما دمت شابًّا فيوم العيد قصير".

خاتمة
لا تطمح هذه اللمحة السريعة إلى إعطاء فكرت كاملة عن النتاج الأدبي في مصر القديمة على مدى ثلاثة آلاف سنة، أو إلى أن تحل السؤال المطروح غالبًا: ما هو تأثير الفكر المصري في الفكر العبراني وأدبه ونظُمه؟ المهمّ أن نعرف أنّ هذا الشعب الغني بما شيّده من بناء هو غني أيضاً بأدب لا يزال القسم الكبير منّا يجهله.
ولكنّ هذه اللمحة دلّتنا على ثوابت في هذا الأدب ونموّ وتطوّر. ثوابت في الفنون الأدبية: كتابات جنائزية، تعاليم، أدب خيالي (أخبار أو قصائد)، أناشيد خاصّة، صلوات ليتورجية. أمّا التمر فظاهر من خلال الكتابات الجنائزية (نصوص الأهرام، أدب ملكي، نصوص نواويس، كتب طقوس) والتعاليم المطبوعة بالطابع الملكي والإداري في المملكة القديمة، والمهتمّة بالتربية الأخلاقية والروحية مع آني وامينوفي واونخ شيشانق. انطبع الأدب الشعري بطابع التشاؤم مع اضطرابات العصر الوسيط، عصر الإقطاع، ثمّ ازدهر مع أناشيد الحبّ خلال المملكة الحديثة. وتطوّر الفن الروائي من المملكة الوسيطة إلى الحقبة الديموتية...
هذا بعض الغنى الذي عرفه الأدب المصري خلال ثلاثة ألف سنة. بهذا الأدب تأثّر الشرق كلّه بما فيه الشعب العبراني. وإنّ التوراة أخذت الكثير من عالم مصر فاغتنت، وستأخذ من عالم بلاد الرافدين فتجعل كل غنى الشرق القديم في إطار كلمة الله.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM