الفصل السادس عشر: من نبوكد نصر إلى الاسكندر

الفصل السادس عشر
من نبوكد نصر
إلى الاسكندر ( 587 – 333 )

المقدّمة:
نتوقّف في هذا الفصل على ثلاثة أقسام: الأوّل: تسلّط بابل. الثاني: ششبصر وزربابل. الثالث: نحميا وعزرا.
لا نحسب أنّنا نستطيع أن نكتب تاريخ هذه الفترة بطريقة سهلة. فرغم قربنا من زمن المسيح، فالوثائق غير دقيقة وتحليلها صعب. لن نجد هذه الحوليات الأشورية أو البابلية، ولا أرشيف الدولة في أورشليم الذي استعان به المؤرخ الاشتراعي ليقدّم إطارًا سياسيًا لدورات الأنبياء (أحيا الشيلوني، إيليّا، اليشاع). فبعد كارثة سقوط مملكة الشمال التي كانت تضم معظم القبائل التي تعترف بيهوه كإله وطني، حاولت الحركة الاشتراعية أن تقوم بتجمّع حول أورشليم التي ظلّت مستقلّة. فحول أسماء مثل موسى وعاموس وهوشع وميخا وأشعيا، استطاع الكتبة أن يجمعوا الإرث الوطني وأن ينجحوا، أقلّه جزئيًا، في إقامة تجمّع حول سلالة داود.
ولكن حين انهارت الدولة الداودية، لم يعد بالإمكان القيام بأي عملية تجميع. لقد تمزّقت الأمّة قطعًا، وخضعت كل قطعة لنظام مختلف. فهناك منفيّو السامرة الذين جعلهم الأشوبلون في شرق (ماداي) وغرب الفرات (الخابور، رج2 مل 17: 6) فضاع أثرهم. وهناك بقية يهوذا، والذين لجأوا إلى مصر، والذين نُفوا إلى بابل. ولكنّهم حافظوا على وحدتهم رغم تشتّتهم، بفضل وسائل متعددة.

أ- تسلّط بابل
1- يهوذا
حُرم شعب يهوذا من قوّاده ومن الصناعيين بسبب الاجلاءات المتعاقبة. وإنّ مقتل جدليا وهرب يوحنان بن قاريح مع إرميا وباروك (إر 41: 5 ي) وضعا حدًّا لكلّ أمل باستقلال إداري. فقائد الحرس الذي كان بابليًا، لم يترك في البلاد إلاّ المساكين من كرّامين وفلاّحين (2 مل 25: 12). إذًا، نحن أمام شعب من الفقراء العائشين في عالم الزراعة. ثمّ إنّ يهوذا ترتبط سياسيًا بالسامرة حيث حلّت السلطات الكلدائية محلّ السلطات الأشورية، بانتظار أن تترك المكان للسلطات الفارسية.
وظلّت القلاقل في البلاد، بل اندلعت ثورة سنة 582، بفضل عناصر جاؤوا من مصر وبتحريض من موآب وعمون. فعمون لم يرمِ السلاح منذ سنة 587 وهو الذي كان السبب في مقتل جدليا (إر 40: 14). ونحن نعرف بواسطة يوسيفوس أنّ نبوكد نصر غزا موآب وعمون سنة 582، وجلا نبوزرادان، قائدُ الحرس الذي أحرق أورشليم سنة 587، جلا 745 شخصاً من أرض يهوذا. أمّا بلاد أدوم، حليفة بابل حين سقطت أورشليم، فقد امتدّت حتّى حبرون التي دُعيت فيما بعد أدومية. هذا الاقتطاع سيكون مؤلمًا وسيطبع بطابعه نبوءة عوبديا وملاخي (2:1).
وظلّت أنقاض الهيكل مركز حجّ يأتي إليه حتّى أهل الشمال، من شكيم وشيلو والسامرة (إر 41: 5)، فيحملون تقادمهم وبخورهم. هذا يعني أنّ السلطات البابلية احتفظت بسفر التثنية كشريعة محليّة. كان قد أعلن هذا السفرُ وحدة المعبد في الموضع الذي اختاره الله (تث 12: 5)، في أورشليم، كما يقول كتاب الملوك. وتنظّمت ليتورجية توبة سيخرج منها مراثي إرميا. تتألّف هذه المراثي من خمس مقطوعات ونجد فيها أسلوب المزامير الذي استعمله إرميا في "اعترافاته" (إر 15: 10- 21 ؛ 17: 14- 18 ؛ 18 : 19- 23؛ 20: 7- 18). وإنّ المرثيّة الثالثة تبدو ذات طابع خاص في مقاطع أبجدية، فترسم أمامنا آلام النبي. ونكتشف في المراثي أيضاً آلام الشعب. "إنتقل ميراثنا إلى الكافرين، وبيوتنا إلى الغرباء" (مرا 5: 2)، صارت صهيون مدينة حزينة ومدمّرة ولا ساكن فيها. "سبل صهيون في حداد، ولا أحد يأتي إلى أعيادها" (1: 4). لم يعد لها قوّاد ولا ملك. "نسمة أنوفنا، مسيح الرب، أخذ في حُفَرهم. وهو الذي قلنا عنه: في ظلّه نحيا بين الأمم "( 4 : 20 ).
نحن نفهم أنّه أمام هذه الأحقاد التي تؤول إلى التمرّد والثورة، سهّلت السلطات البابلية نشر سفر إرميا في نسخته الاشتراعية. هذه النسخة تشجّع على الخضوع لبابل، وتتوسّع في جُمل تلفّظ بها النبي في أيّام صدقيا. إنّها انعكاس لكرازة في زمن المنفى. أمّا التدوين فكان بالنظر إلى السنة البابلية التي تبدأ في الربيع. ومن المعقول أن يكون باروك الذي هرب مع إرميا إلى مصر ولم يتّفق مع الفارّين (إر 43: 3)، قد لعب في هذا النشر دورًا كبيرًا. هدفت هذه النشرة إلى تهدئة الأفكار، مستعملةً سلطة النبي الذي ندّد بآلهة مصر (إر 37: 7). إذا ظلّت أورشليم متمردّة وخائنة تجاه عبيدي الأنبياء، فإنّ آخرتها الجوع والسيف والوباء.

2- السامرة
واختلفت الحالة بالنسبة إلى السامرة. فالسلطات بابلية وهي تفرض تبديلاً في الروزنامة، بل تبديلاً في العوائد اليومية: تجعل النهار يبدأ في المساء لا في الصباح. ثمّ إنّ شعب إسرائيل الذي ظلّ في البلاد، إمتزج بشعب غير إسرائيل جاء به إلى مملكة السامرة أسرحدون واشور بانيبال. وقد جعل الأشوريون في السامرة بعض البابليين الذين سيكونون مع السلطة الجديدة. وهكذا لم تعترض المشاكل نبوكد نصّر وخلفاءه، لأنّ كلّ إنسان يعبد الله كما يحلو له في السامرة (2 مل 17: 30- 31).
إذًا استطاع الإسرائيليون أن يعبدوا يهوه كما يشاؤون وبالشكل الذي يرتئيه الكهنة الذين عادوا من المنفى في نهاية الحكم الأشوري (2 مل 27:17- 32). رأينا أنّ سفر التثنية الذي أعلنه يوشيا وطبّقه على أناس من شكيم وشيلو والسامرة، احتُفظ به كشريعة محليّة. وسيطلب السامريون فيما بعد أن يشاركوا في إعادة بناء هيكل أورشليم، ذلك الموضع الذي اختاره الله (عز 4: 1- 2). خلال المنفى، كان سفر التثنية قاسيًا بالنسبة للمنفيين (تث 28: 64- 68)، وقد دونت بعض أجزائه في هذا المناخ. دوّنت النسخة الأولى في أيّام يوشيا، فجاءت في مصلحة المصريين (تث 8:32- 9)، أمّا نسخة أيام المنفى فلم تكن في مصلحتهم.
في هذا المحيط المتقلّب الذي يشعر الإنسان بثقل السلطات الغريبة، أخذ بنو إسرائيل يندمجون مع سائر السكان في روح تلفيقية ستوّلد الانشقاق السامري. كانت جذور هذا الانشقاق بعيدة لاسيّمَا وأنّ الأحقاد تجاه سياسة آسا أو أحاز تركت أثرها العميق في البلاد.

3- اليهود في مصر
منذ الألف الثاني، إعتاد الساميون أن يذهبوا إلى مصر، وكانت الاتصالات وثيقة بين أورشليم من جهة وتانيس ثمّ سائيس من جهة أخرى. ومن الممكن أنّه بعد سقوط السامرة، لجأ أهل بيت إيل إلى مصر، ونحن نجد أثرًا لهم في مستوطنة الفنتيين. وفي أي حال، لقد هرب إلى مصر يوحنان بن قاريح وضبّاطه. كيف كانت السياسة المصرية حيال هؤلاء اللاجئين، كيف تنظّمت علاقتهم مع إخوتهم في بلاد يهوذا؟
رأينا أنّه بعد هزيمة كركميش وإفناء الجيش المصري قرب حماة، رفض نكو الثاني أن يخرج من وراء حدوده حتى بعد انتصاره في الدلتا سنة 601 (2 مل 7:24). وكان بساميتيك الثاني قد أراد أن يتدخّل في آسية، ولكنّه تحوّل عن مشروعه بسبب الحملة على نوبة وسفرته إلى "حارو" (فينيقية) التي اقلقت بابل. كان نكو الثاني قد وجّه جهوده نحو سياسة بحرية ومنها حفر قنال بين النيل والبحر الأحمر وتابع خفرع خلف بساميتيك هذه السياسة المحصورة في البحر المتوسّط بعد فشله في مساعدة صدقيا. اتّصل مرارًا بصور، وتدخّل بواسطة اليونانيين في قضايا القيروان. تفاهم عمليًا مع نبوكد نصّر من أجل الابقاء على الوضع الراهن. وحين تدخّل الملك البابلي في فوتويمان، في مصر، سنة 569- 568، فقد جاء يساند خفرع ضد قائد متمرّد، هو أماسيس (رج ار 8:43- 13؛ حز 17:29- 20).
ولكن انتصر أماسيس. غير أنّه تابع سياسة سلَفه. أخذ بعين الاعتبار تسلّط البابليين على الأرض، فاكتفى بالعمل في البحر، استولى مثلاً على قبرص، كما يقول هيرودوتس. إذًا، إزدهرت المستوطنات اليهودية، ولكنّها لم تستطع التدخّل سياسيًا في أرض يهوذا، لاسيّمَا بعد ثورة سنة 582 التي فشلت. وازدهرت الجماعات اليهودية في مصر وتطورت متجهة نحو تلفيق حقيقي على مستوى العبادات. وإنّ مدرسة إرميا ستشجب بشدة عبادة "ملكة السماء" (أي عشتارا، وهذا التلفيق الذي لا يأخذ بعين الأعتبار متطلّبات سفر التثنية، قادهم إلى بناء هيكل في الفنتيين قبل العهد الفارسي. وسننتظر زمن الاسكندر ليستعيد العالم اليهودي نشاطه في مصر.

4- المنفيون في بابل
جُعل المنفيّون في أماكن متروكة بعد الدمار الأشوري: تل أبيب (حز 3: 15)، تل الملح، تل الحرشا (عز 59:2). وبعض هؤلاء المجموعات التي جاءت في الجلاء الأوِّل (597) مع النبي والكاهن حزقيال، أقامت على الخابور (حز 1: 1، كبار. في البابلي، كبارو) وهو إحدى القنوات التي تربط دجلة بالفرات عند المدينة القديمة نيفور. كانت جماعات مبعثرة في البلاد، ولم ترتبط بعلاقات مع منفيّي السامرة الذين كان منهم لاويو كسفيا (عز 17:8) والذين أعادهم عزريا إلى أورشليم.
يرئس هذه الجماعات "الشيوخ" (إر 29: 1 ؛ حز 20: 1)، ويحرّكها الأنبياء (إر 8:29). وفي السنوات الأولى التي تلت الجلاء، حافظت هذه الجماعات على علاقات بالبلد الأمّ. وانتظر المنفيون عودة يوياكين إلى العرش (إر 28: 4). وسيحتاجون إلى بعض الوقت ليقتنعوا أنّ ازدهار بابل هو شرط لازدهارهم. كانوا يجتمعون يوم السبت قرب أنهار بابل (مز 137: 1). ونحن نرى في هذا الاجتماع بداية ليتورجية المجمع. ولكن لا نجد في هذه الاجتماعات فرح أناشيد صهيون (مز 137: 3)، بل حقدًا على بابل وأدوم. ولكن لا نتخيّل هؤلاء الأسرى في السجون أو تحت الأرض. إنّهم مهجّرون مع ما في حياة التهجير من تعب وقساوة. والملك يوياكين نفسه يعيش في الإقامة الجبرية، ويصل إليه في قصره ما يحتاج إليه هو وأولاده. ولكنّ السلطات لا تعترف إلاّ بصدقيا كملك شرعي.
إذن، جاء نبوكد نصّر بالمنفيين، وجعلهم في أماكن كانت خالية من السكّان. وأعاد بناء المدن القديمة مثل أور وسفار وكوتا، وأغدق على هذه المدن الانعامات الملكية. سيملك حتّى سنة 562 أي بعد سقوط أورشليم باثنتين وعشرين سنة. هو الذي بنى وجمّل بابل التي أنشدها اليونانيون واكتشفها معول علماء الآثار: هناك البرج بطوابقه (زيغورات، ويسمى: آتامن إن كي، أي: أساس السماء والأرض)، والأبواب المرصّعة بالعاج (مثل باب عشتارا، والجنائن المعلّقة. بابل هي مكان ليتورجيات فخمة ولاسيّمَا في رأس السنة (أكيتو)، ومركز إدارة منظّمة تسهر على الري وصيانة القنوات.
ولكنّ هذه المملكة بدت سريعة العطب. فالموآمرات تُحاك في بابل نفسها. وفي سنة 595 بدأت محاكمة بعض القوّاد بالخيانة العظمى. والقلق يسيطر على الحدود. فالحدود الشمالية قريبة. فعبر الزاب ودجلةَ وعلى بعد 205 كيلومتر إلى الشمال الغربي من بابل، تجد أرض ماداي. لقد نمت ماداي وسيطرت في وقت من الأوقات على حاران حيث أقام إبراهيم. ما زال نبوكد نصّر يسيطر على عيلام وشوش وسيصل إلى ارّافة (أو كركوك). ولكنّ الفرس سيحتلّون هذه المناطق. وحين يأخذون من أستياجس ماداي، تصبح أيّام بابل معدودة.
ولكنّ نبوكد نصّر كان قلقًا في أوّل حكمه على حدوده إلى الغرب وعلى العلاقات بين نكو وصور. ولمّا اعتلى بساميتيك الثاني العرش وذهب إلى حارو (فينيقية)، أجبر نبوكد نصّر على إعادة النظر في سياسته في يهوذا. ففي سنة 593 أي السنة الرابعة لصدقيا، تمّت في أورشليم مصالحة مع صيدون وصور وموآب وعمون وأدوم (إر 27)، اعتبرت تهيئة لحلف عسكري. وأعلن النبي حنانيا (إر 28) أنّ الملك يوياكين سيعود وأنّ نير بابل سيحطّم. فأُجبر الملك صدقيا على الذهاب إلى بابل ليبرّر موقفه. ورافقه في سفره سرايا بن نيريا، شقيق باروك (إر 51: 59). ولكنّ حملة بساميتيك إلى النوبة جعلت الأمور تتوقّف عند هذا الحدّ. ويبقى أنّه ليس من قبيل الصدف أن يكون حزقيال قد بدأ كرازته في السنة التالية (حز 1: 2) أي سنة 592.
كان حزقيال ابن كاهن من هيكل أورشليم. وقد كان له نشاطه في المعبد، فعرفه وعرف غرفه المختلفة. كان الكهنة من الوطنيين المتطرّفين، وكانو يعادون إرميا (إر 20: 1 ي؛ 28: 1 ي). أما حزقيال فعادى الشافانيين (حز 8: 11)، فكان هذا العداء سببًا لنفيه يوم استعاد صدقيا وإرميا والشافانيّون نفوذهم. وإنّ حزقيال يعتبر صدقيا أميرًا متمرّدًا، وهو لا يسمّيه الملك. فهذا "الأمير" (صدقيا) يُرسل رسلاً إلى مصر(حز 17: 15)، وينقض العهد مع الله (حز 17: 19) ناقضاً عهده مع ملك بابل الذي أوصله إلى العرش (حز 17: 16). ويؤرّخ حزقيال نبوءته بسنوات الجلاء الأوّل (597) التي هي أيضاً سنوات ملك يوياكين (حز 1: 2). فيوياكين هذا الذي استبعده إرميا عن العرش هو ونسله (إر 22: 30)، قد اعتبره حزقيال وتلاميذه الملك الشرعي. وفي صيف 592 (حز 8: 1) وهي السنة التي جاء فيها بساميتيك إلى فينيقية، قدّم حزقيال أمام الشيوخ كرازة عنيفة ضدّ أورشليم "وبيت إسرائيل ". قلق نبوكد نصر من التحرّكات المصرية، فارتاح لكلام حزقيال الذي يحذّر جماعة المنفيين من الميول السياسية الجديدة لدى صدقيا، وساعد على نشر هذه الأقوال الموجّهة ضدّ أورشليم والبلاط الملكي والهيكل الذي تركه الله (حز 10: 18). ولمّا استشاروا حزقيال في السنة التالية (أي صيف 591، رج حز 20 :1 )، ذكّر الشيوخ بالخروج من مصر وبعد هذا لن يقول حزقيال قولاً ضدّ بابل رغم تلميحه إلى "التجّار الكلدائيين" (حز 29:16). فقد توجّهت أكثر أقواله (وهي مؤرّخة بين سنة 588 وسنة 586) ضد مصر وصور (حز 28- 32) اللتين ارتبطتا بعلاقات متينة. وخاب أمل الإدارة البابلية من صدقيا، فوجّهت أفكارها إلى يوياكين ومحازبيه، مثل حزقيال. وإنّنا سنعلم من خلال لويحات القصر في سنة 592- 591، أنّ صنّاع فينيقية ومصر انضمّوا إلى المسببين وكانوا في خدمة ملك بابل.

5- من نبوكد نصّر إلى نبو نيد (562- 539)
فضّل ملوك الشرق نظام الأمراء الذين يتمتّعون بالحماية على الإدارة المباشرة التي لا تروق لشعوب هذه البلدان. ولكنّ الوضع كان متفجّرًا بحيث إنّ نبوزرادان ونبوكد نصر اعتبرا أنّه من الأفضل أن تدمَّر مدينة أورشليم. ولكن مات نبوكد نصّر، وحلّ محلّه إويل مردوك فأعاد إلى يوياكين بعض كرامته الملوكية وسمح له أن جمل معه إلى مائدته دون أن يحرّره. إنّ المؤرّخ الاشتراعي يُنهي 2 مل بهذا الحدث الذي يحمل معنى عميقا (2 مل 25: 27-30). إنّ خلاص الملك يرمز إلى خلاص الأمّة كلّها. هذا يعني أنّ نسخة 2 مل تعود إلى الجلاء. ولكن هل دوّنت في بابل أم في يهوذا؟ لم يزل الجواب موضع جدال. ثمّ إنّ هذه النسخة تتجاهل إرميا وهجومه على يوياكين. حكَم إويل مردوك سنتين ومات بعد أن أعاد اعتبار الوارث الداودي. كان صهره وخلفه نرجل شرأصر (560- 556) قد شارك في هجمة نبوكد نصّر على أورشليم (إر 39: 3). وصل إلينا عنه كورنيكون يخبر بحملة قام بها في كيليكية ضدّ أبواشي ملك مدينة أورا (في شمالي سورية). لا يزال ملك بابل يهتمّ بالمتوسّط وبطرقه التجارية التي يهدّدها الفرس. أمّا ابنه لَباشي مردوك فقد قُتل بعد شهرين من اعتلائه العرش على يد آخر ملك بابلي هو نبونيد (556- 539).
ما الذي سبّب هذه القلاقل في البلاط؟ توتّرات داخلية ووضع خارجي خطير. كان نبونيد ابن كاهنة من حران. فأدخلته أمّه إلى بلاط نبوكد نصّر. إستعاد مدينة حاران من المادايين قبل سنة 553، مستفيدًا من ثورة كورش الفارسي على استياجس المادابي. وبنى نبونيد في حاران هيكلاً للإله القمر (سين)، وكان قد دمّر سنة 610. كان الملك أراميًا من الغرب فاستطاع أن يقول لمردوك، إله بابل: "ما كنت أعرفك". ولكنّه حرص أن يجعل نفسه في تقليد بابل وأشور. إنّه يقدّم نفسه في كتاباته العديدة على أنّه أمير تقي، متعبّد لمردوك ونبو، بل هو يحمل اسم هذا الإله، إله الكتبة. وكما تعبّدت عائلة إبراهيم قبل انطلاقها إلى كنعان للإله القمر، تعبّد نبونيد تعبّدًا خاضّا للإله القمر بالاسم الذي يحمله على الحدود العربية: ايل تارح. وسيحاول أن يدخل الإله القمر إلى هيكل إيساجيل المكرّس لمردوك في بابل. ولم يكن هذا العمل هو التجديد الديني الوحيد الذي قام به نبونيد: فقد نقل إلى قرب مردوك تماثيل آلهة المدن البابلية، كما حمل نبوكد نصّر أواني هيكل أورشليم (لأنّه لم يجد هناك تماثيل) الثمينة. وهكذا أحسّ كهنة المعابد المحلية أنّ حظّهم ليس بأفضل من حظّ اليهود.
في هذه الظروف، وبعد حملة على سورية، ترك نبونيد بابل سنة 552 وأقام في واحة تيماء الواقعة في شمالي جزيرة العرب، وظلّ هناك عشر سنوات. وبعد حملة على سورية شبيهة بحملة نرجل شراصر إلى كيليكية، أحس بقوة الفُرس الصاعدة. ثمّ إنّ حركة المرور على نهري دجلة والفرات تأثّرت بالرمال المجمَّع عند المصب، فبدا من الضروري أن يسهّل سير القوافل بعيدًا عن الحدود الفارسية. وإنّ هذا التبدل في مجرى النهرَ سهّل نمو الثقافة في مدنيّات الجنوب العربي المدينة بالكثير لبابل، وقد يكون السبب البعيد لإقامة اللاويين في ددان (العلا). وكان نبونيد قد أقام مراكز عسكرية في ددان وفي مدن أخرى مثل يثرب (أو المدينة).
وترك نبونيد ابنه بلشصر كحاكم على بابل، ولكنّ بلشصر لم يكن أهلاً للاحتفال بأعياد رأس السنة. فاحست بابل بالحرمان وقلقت على مصيرها. حينئذ عاد نبونيد سنة 542، ولكنّه تأخّر فحاكم مقاطعة غوتيوم الحدودية (واسمه اوغبارو) الذي انتقل إلى خدمة كورش. انتصر كورش في اوفيش في 26 أيلود سنة 639، ودخل اوغبارو بالحيلة إلى بابل في 12 تشرين الأوّل من السنة نفسها. قُتل بلشصر، وأسر نبونيد، ودخل كورش إلى بابل في 29 تشرين الأوّل، وحافظ على شعائر العبادة فيها. صار كورش "ملك بابل وملك البلدان" وقدّم نفسه كالمحرّر. وسارت شائعة تقول إنّ نبونيد هو كافر ومجنون، ونحن نجد صدى لهذه الشائعة في مخطوط وجد في قمران سيستلهمه سفر دانيال ليتحدّث عن جنون نبوكد نصّر (دا 4)، وعن وليمة بلشصر (دا 5). ولكنّ هذا الكتاب الذي جاء بعد هذه الأحداث بثلاثة قرون جعل نبونيد نبوكد نصّر وجعل بلشصر ابن نبوكد نصّر.
ولكن قبل سقوط بابل، أنشد أحد الأنبياء انتصارات كورش (أش 28:44؛ 45: 1). نسميه "مجهول المنفى الاكبر"، وقد تحدّث عن الرجوع من المنفى بشكل تطواف (أش 40: 55). يسير الرب في المقدّمة والمؤخّرة، ويترك الشعبُ بابلَ النجسة (أش 52: 11- 12). ينتمي هذا الكاتب إلى مدرسة أشعيا، ويستعيد العديد من عباراته وصوَره. أورشليم هي بالنسبة إليه (كما كانت بالنسبة إلى أشعيا) محور نظرته (أش 40: 9؛ 54: 1ي). إنّها تتقبّل الأخبار السارّة التي يحملها الرسل العائدون. إنّها ترى الجماعة آتية إليها عبر الصحراء. هي الآن مدمّرة وخالية من السكّان (أش 51: 21- 23)، ولكنّها ستُبنى من جديد وستكون أكبر مّما كانت عليه (أش 54: 2). نجد في هذه الفصول طابعًا ليتورجيًا يذكّرنا بالمزامير (أش 42: 10 ي)، وقد قال بعضهم إنّها دوّنت في أرض بابل (بابلونية) لا في أورشليم. ولكنّ النبات (أش 41 : 18ي) المذكور هنا ليس نبات بلاد الرافدين، والبرّية المصورة هنا هي بريّة يهوذا. كانت مدرسة أشعيا معارضة لبابل (أش 47:46)، فلم تعمل في بلاد الرافدين مثل مدرسة حزقيال، ولا حول السامرة وقرب السلطات البابلية المقيمة فيها مثل مدرسة ارميا (قبل النسخة الأخيرة لكتابه). ففي نظر مدرسة أشعيا، يعيش المنفيون في السجون المظلمة (أش 42: 22) وهم يحتاجون إلى ارتداد حقيقي (أش 42: 18 ؛ 48: 4)0 انفتحت هذه المدرسة على الأمم فتكلّمت مرارًا عن الجزر، أي عن سواحل البحر المتوسّط. إذًا نحن نقول إنّ أقوال أشعيا الثاني أُعلنت في أرض يهوذا حيث النار تحت الرماد، قرب شاطئ تصل إليه أصداء انتصارات كورش ضدّ كريسوس، ملك سرديس في آسية الصغرى (أش 41: 2- 25). كان البحر المتوسط قد أفلت من قبضة بابل وظلّ تحت سيطرة مصر وصور المتفاهمتين. في هذا الإطار، انتظر الشعب كورش "مسيح" الرب، كما انتظر إعادة بناء أورشليم والهيكل. في هذا الإطار أعلنت مملكة داودية جديدة (أش 55: 3) تشمل الكون وتدعو شعوبًا لم تكن تعرفها (أش 4:55).
وهكذا نكتشف تنوعّ التيّارات التي تعبر في أرض إسرائيل المفكّكة والذليلة. أمّا الشيء المشترك، فهو أنّ كلّ هذه المجموعات تنتظر إعادة بناء الوطن بواسطة داود جديد. هذا ما قالته مدرسة أشعيا، كما رأينا. وهذا ما تقوله مدرسة إرميا حتّى حين تصحّح (في إر 33: 15- 16) قول النبي من أجل صدقيا (إر 23: 5- 6). والأمر صحيح في نظر حزقيال. فبعد رؤى المستقبل، تميّز مدرسة حزقيال بين الكاهن المتحدّر من صادوق (رئيس كهنة داود وسليمان) وبين الأمير (ناسي) الذي يمكن أن لا يكون إسرائيليًا، على عكس ما يقول سفر التثنية (15:18؛ رج إر 30: 21). فكأنّي بمدرسة حزقيال تعترف بطريقة ضمنيّة بسلطة دولة خارجية على بلاد إسرائيل. ولكنّها تحتفظ بالأمل أنّ هذا الأمير سيكون في المستقبل من نسل داود (حز 23:34؛ 24:37).

ب- ششبصر وزربابل
1- سياسة كورش الدينية (539- 529)
سيعيش اليهود قرنين من الزمن في ظلّ الحكم الفارسي. وستكون المملكة الفارسية واسعة جدًّا. تمتدّ في الشرق إلى البنجاب وتركستان، وفي الشمال إلى القوقاز وتراقية، وفي الغرب إلى مراتون وسلامينة في اليونان، حيث سيُمنى الملك العظيم بهزيمة نكراء. وسيتنقّل اليهود في هذا العالم السياسي الشاسع. وستكون أسفار أستير وطوبيا ودانيال الشاهد على وجود اليهود في مناطق المملكة الشرقية. ولكنّ اليهود سيعودون إلى أورشليم كمركز لحياتهم، بفضل السياسة الدينية التي انتهجها الملوك الأخمينيون.
كان أهورامزدا الإله الاكبر للأحمينيين منذ أجدادهم أريارامنيس وأرساميس. إنّه إله السماء "مثل إله إسرائيل" (عز 1: 2). وقد حصل لأحشورش (486- 465) أن يهاجم الشياطين والآلهة الكاذبة كما فعل قبله النبي زراتوسترا الذي عاش شرقي إيران حوالي القرن السادس ق. م.. ولكنّ الملوك الأحمينيين لا يطمحون إلى توحيد مملكتهم بوحدة الديانة أو العبادة تجاه إلههم الذي يحميهم. فقد جاء كورش إلى بابل على أنّه "مختار مردوك "، وإلى أور على أنّه "مرسل سين" (الإله القمر)، وإلى اليهود على أنّه منفّذ أوامر يهوه.
وعادت تماثيل الآلهة إلى معابدها، بعد أن أخذها نبونيد. وأعاد كورش في قراره الشهير (عز 3:6- 5؛ رج 1: 2- 4) إلى "الإله الذي في أورشليم" لا تمثالاً (وهو غير موجود) بل الأواني المقدّسة التي حملها نبوكد نصّر فردّها أمين صندوقه متريدات إلى ششبصر "رئيس يهوذا" (عز 1 :8، 6: 5)، بعد أن عدّها واحدة واحدة (عز 1 :9- 11).

2- ششبصر
من هو ششبصر الذي لن نذكره فيما بعد؟ هل هو شنأصر المذكور في 1 أخ 18:3؟ إذا كان الأمر هكذا، فيكون من نسل داود، وعم زربابل. هذه سياسة داريوس الذي يكون قد عيّن واحدًا من نسل داود حاكمًا على يهوذا. لقبه "فحة" (عز 5: 14، سيصير باشا) في الأرامية، ناسي (عز 1 :8) في العبرية. لن يُعطى هذا اللقب لزربابل في النصوص العبرية. أمّا أسماء العلم فهي بابلية، زربابل أو زربابيلي. كلِّف ششبصر بإعادة أواني "الإله الذي في أورشليم " إلى هيكله، فبدأ باعادة بناء الهيكل "في مكانه " عز 5: 15). وإذا عدنا إلى عز 1 :3 نعرف أنّه أرسل نداء إلى ذوي الإرادة الصالحة ليشاركوا في إعادة البناء: الذهب، الفضّة، البهائم، التقدمات الطوعية. وإذا عدنا إلى عز 6: 4 رأينا أن "بيت الملك" يدفع نفقات البناء. وبما أن عز 3: 1 ي ينسب إلى زربابل، لا إلى ششبصر، إعادة شعائر العبادة وتقدمة الذبائح والمحرقات، وجب القول إنّ مهمّة ششبصر في سنة 538 (السنة الأولى لكورش) كانت قصيرة جدًا. واصطدم زربابل (كما اصطدم ششبصر قبله) بسلطات السامرة، برفض "أهل البلاد" لمبادئ هؤلاء العائدين وتشبّثهم بأفكارهم. لا بدّ من بكاء وأصوام يمارسها أهل يهوذا سنة 518 (زك 18:8 ي). ولكنّ الوقت لم يحن بعد لإقامة ليتورجيا توافق مبادئ مدرسة حزقيال. ثمّ، إذا أراد ششبصر ورفاقه أن يبنوا هيكلاً مربعًا حسب نموذج حزقيال (ف 40- 42)، وجب عليهم أن يزيلوا ما تبقّى من الهيكل السابق للجلاء. محاولة تعارض التقليد، وتقرّبنا من عالم الخيال. وعاد ششبصر بسرعة. ولكن أين وضع الأواني المقدّسة في أورشليم المهدّمة؟ هذا ما لا نعرفه. ثمّ عاد إلى إحدى عواصم المملكة: بابل، شوش، فساغرديس أو اكبتانا (حمدان الحالية). ونحن سنجد قرار كورش (عز 6: 2) في اكبتانا (أو أحمتا).
أجل، لم يسنده كورش الذي اهتمّ بالشرق أكثر منه بالغرب بعد سنة 538، تاركًا تسيير الأمور للسلطات المحلية. وهو سيموت خلال حملته الأخيرة قرب بحيرة أرال.
أمّا ابنه وخلفه كمبيز فالتفت إلى الغرب. قطع العلاقات مع الفرعون أماسيس الذي تخلّى عنه فيلوكراتيس، سيّد ساموس. سار بمحاذاة الساحل، وقهر في بالوز بساميتيك الثالث مع جيشه المؤلّف من المرتزقة اليونانيين (525). دام احتلاله لمصر زمنًا طويلاً، ولكنّه لم يحترم المعابد المحلية. فترك مرورُه في مصر ذكرًا سيئًا في قلوب المصريين. وعرف أنّ أخاه تمرّد عليه فاستعدّ للعودة. ولكنّه مات في حادثة قرب الكرمل، ولم يسنح له الوقت لكي يتِّصل بالجماعات اليهودية. وظلّ الشاطئ تحت سلطان الفلسطيين في الجنوب، وتحت سلطان الفينيقيين في الشمال حتّى دور ويافا.
ونعود إلى القسم الثالث من سفر أشعيا (ف 56- 66)، لنجد بعض المعلومات عن حياة الجماعات اليهودية في يهوذا في ذلك الوقت. أورشليم قفر والهيكل دمار (أش 64: 9 ي). لقد عاد بعض المنفيّين والشعب ينتظر غيرهم (اش 8:56). غير أنّ العبادات القديمة ما زالت ناشطة مع جنائن أدونيس (أش 3:65)، وهي تمارسَ في الكهوف مع لحوم محزمة (أش 65: 14) وتحت كل شجرة خضراء (أش 57: 5). وسيعود تلاميذ أشعيا إلى نبرة معلّمهم، فيهاجمون سلطات السامرة وهؤلاء الكلاب البكم الذين لا يستطيعون النباح (أش 56: 15) بل هم شرهون يتركون الصدّيق يموت (أش 57: 11ي). وستبقى جماعة يهوذا في حالة من الضعف مدّة 17 سنة، بينما ازدهرت جماعات أخرى تحت الحكم الفارسي.

3- داريوس (522- 485)
وستتبدّل الأمور حين يعتلي العرشَ داريوسُ الأوّل ابن هوستاسفيس، الذي رافق كمبيز إلى مصر وستخبر كتابة محفورة على صخر باهستون في ثلاث لغات، أنّه في مدّة سنتين أزال الساحر نحوماتا الذي اعتبر نفسه الأخ الذي قتله كمبيز، وأبعد الطامحين العديدين إلى العرش ومنهم نبوكد نصر الرابع. ومنذ خريف سنة 521، سيطر داريوس على الموقف تاركًا لضبّاطه أن يهدئوا الثورات التي ما زالت تشتعل خلال حمس سنوات. وتطلّع داريوس إلى الغرب، والحالة تدعو فيه إلى القلق بعد التركة التي خلفها كمبيز، وتطلعّ بالأخصّ إلى مصر حيث يتآمر عليه الحاكم أريانديس، فحكم عليه بالإعدام. وفي سنة 519، أرسل أحد جلساء كمبيز وهو مصريّ التحق بالإدارة الفارسية (اسمه أوجاهوراسني). وأخيرًا ذهب بنفسه سنة 518. نحن نفهم أنّه أراد منذ السنة الثانية لملكه (520) أن يؤمّن الهدوء في يهوذا، وهي المقاطعة التي تقع على حدود مصر فسمّى الداودي الذي صار بابليًا "فحة" أو رئيسًا وبعث به إلى أورشليم. وكما كلّف أوجاهوراسني بإعادة بناء هيكل الإلاهة نايث في سائيس، كذلك كلّمت زربابل بأن يطبّق قرار كورش وينفّذ تعليمات جديدة وضعها داريوس نفسه (عز 6:6- 12).

4- مهمّة زولابل (520- 518)
بدأت مهمّة زربابل منذ الشهر السادس من السنة الثانية لداريوس (حج 1: 1). عاونه النبي حجاي الذي وبّخ أهل يهوذا لأنّهم يهتمّون ببيتهم أكثر من اهتمامهم بالهيكل. ومنذ بداية الشهر السابع (عز 3: 6)، أقيم المذبح وقدّمت عليه المحرقات، ولكن لم تكن بعد وُضعت أساسات الهيكل (عز 3: 6). وعيّدوا عيد المظالّ رغم معارضة "أهل البلاد" (عز 3: 3 ؛ 4: 4) والذين حصلوا على مساندة سلطات السامرة. فهذه السلطات قدّمت تقريرًا إلى داريوس بواسطة تتناي (هو أوشتاني مرزبان بابل أو تعتاني الذي ظلّ مرزبان عبر الفرات حتّى سنة 516) مرزبان حاكم عبر الفرات. فالمرزبة (الإقليم) واسعة ولا بدّ من الذهاب، لا إلى بابل، بل إلى اكبتانا للحصول على النسخة الأصلية لقرار كورش.
وجاء جواب داريوس إيجابيًا من أجل زربابل، بل زاد بعض الأمور على ما قاله كورش. أجل، لقد أراد الملك أن يطبّق السياسة الدينية المنفتحة في مصركما في يهوذا. ويشهد زك 1: 1 على حمّى شعبية: انتظروا اضطرابات يخرج منها الاستقلال لهم. ولكنّ داريوس لم يكن مستعدًّا لأنّ يعطيهم هذا الامتياز. ثمّ إنّه منذ الشهر الثامن، دخل النبي على مسرح الأحداث ووجّه أقواله على مثال خطب إرميا المتأخّرة (زك 1 :3- 6). ذكّرهم بغضب الرب على آبائهم الذين لم يسمعوا "لعبيدي الأنبياء". وفي اليوم الحادي والعشرين من الشهر السابع، شجّع نبيّ آخر (هو حجاي) زربابل كونه ابن شألتئيل ومن نسل يوباكين ابن داود، ويشوع الذي من نسل يوصاداق الذي يرتبط بالكهنوت الصادوقي في أورشليم، وحدّثهما عن بناء الهيكل. ولكن في اليوم الرابع والعشرين من الشهر التاسع أعلن حجاي أنّ الرب يرسل بركته على هذا الهيكل منذ تأسيسه. ثم زاد قولاً عن اختيار زربابل: "أقلب عروش الممالك وأزيل قوّة الأمم" (حج 2: 22). وبعد شهرين من الزمن، وفي الرابع والعشرين من شهر، قدّم زكريا سلسلة من الرؤى تستعيد الموضوع عينه. قال زكريا مادحًا زربابل: "ما أنت أيّها الجبل العظيم (إشارة إلى أنقاض الهيكل)؟ إنّما أنت سهل أمام زربابل" (أزال زربابل الأنقاض فبانت أساسات الهيكل) (زك 4: 7). وفي تشرين الثاني سنة 518 (السنة الرابعة لداريوس)، أطلق زكريّا قولاً جديدًا ولم يذكر فيه زربابل. في تلك السنة جاء داريوس شخصيًا إلى مصر، كما جاء ضابط ملكي (بيت إيل شرأصّر) إلى زكريا وطلب جوابًا نبويًا. وجّه كلامه بأسلوب قريب من أسلوب إرميا مع تلميح إلى سنوات السبي السبعين (زك 7: 5). لقد أُلغي صوم الشهر الخامس الذي يذكّر الشعب بحريق الهيكل، فيجب أن يُعاد بناءُ الهيكل (زك 9:8) وأن يسكن الناس من جديد في أورشليم. ويجب على الشعب أن يخضع للشريعة التقليدية (زك 8:7- 12) التي يذكّره بها الأنبياء. وهكذا سيفعل أوجاهوراسني في مصر، فيدافع عن الضعيف بوجه القويّ، ويعيد الأعياد والتقادم التقليدية في سائيس، ويدوّن شرائع مصر القديمة.
ولم يتخلّ داريوس عن سياسته الدينية. وانتهى العمل من الهيكل في سنة 515، في السنة السادسة لداريوس (عز 5: 15)، في الربيع (آذار). واحتفل المؤمنون بعيد الفصح في هذه المناسبة (عز 6: 15)، ولكن لم يُذكر زربابل. فقد انتهت مهمّته سنة 518. هل كان ضحية الحميا المسيحانية فأعدم كما أعدم اريانديس في مصر؟ الأمر معقول. ويعتبر بعض الشرّاح أنّ صورة زربابل الملكية هي في خلفية أناشيد عبد يهوه الذي تألّم ومات كما يقول أش 9:53.

5- اليهودية في العالم الفارسي
وتغلّب داريوس بصورة نهائية على خصومه سنة 515، وبدأ بتنظيم المملكة الفارسية، وهو الذي جعل في الفنتيين مستوطنة يهودية قبل سنة 495. وإذا عُدنا إلى كتابة باهستون نرى 23 مقاطعة ستصير مرزبات. وسنجد 24 على المثلَّث اللغات الذي وُجد في شوش وُصنع في مصر حوالي سنة 495. وصارت المقاطعات 31 في نهاية عهده. ولكنّ هيرودوتس لا يعرف سنة 450 إلاّ 20 مرزبة. لا نجد على هذه اللوائح لا اليهودية ولا السامرة. ولكن كان على رأس السامرة "فحة" أي حاكم. ومنذ نهاية القرن السادس ظهرت أختام أخمينية على الجرار. وسننتظر منتصف القرن الخاسر حتى تحمل هذه الأختام أسم يهودا (ي ه د)، والقرن الرابع ونهاية عهد الفرس حتى تحمل العملة المصكوكة اسم يهودا. وقد وُجد أثران باسم "الناتان فحة" وهي تعود إلى نهاية القرن السادس، أي إلى عهد داريوس، ولكنّ النصّ لا يقول "فحة يهودا". كانت مهمّة زربابل قصيرة، فحلّ محلّه كهنوت يشوع الهاروني المسؤول عن شعائر يبدو موسى وسيطها. ولكنّ يهودا كانت صغيرة ليكون لها استقلال إداري في إطار المرزبة الخامسة.
لم يكتف داريوس بإعادة بناء المعابد المحلّية (ومنها هيكل أورشليم) لتدوين تقاليد هذه المعابد، بل كان هو نفسه مشترعًا. شرعّ في خط حمورابي. قال: "ما هو مستقيم أحبّه، وما ليس بمستقيم أكرهه". "لا أريد أن يؤذي القويّ الضَعيف ". وقد يكون هذا الملك قدّر حق قدره تشريع دستور العهد وسفر التثنية.
وكما أمّن حمورابي الحماية للتجارة، كذلك فعل داريوس في مملكته الكبيرة، وذلك بنظام الطرقات وصكّ العملات التي سمّيت "داريوسية" (1 أخ 7:29؛ عز 27:8). وسنجد مثل هذه العملة في اليهودية. والرسوم التي على هذه العملة تدلّ على تأثير ايونية حيث اخترعت العملة، واليونان. وتنظيم عملية النقل من محطّة إلى أخرى، سهّل الطريق للتجارة الفارسية، بل للتجارة اليونانية التي وصلت إلى مصر وإلى مملكة فارس نفسها. ولقد وصلت هذه الطرق إلى اليهودية تربطها بالعاصمة كما ترتبط سائر الأقاليم. ولكنّ هذا التنظيم استعمل الساحل لا جبال يهوذا. ونشير هنا إلى أنّ العائدين من المنفى أقاموا في يهودية صغيرة وفقيرة، بين جبعون وبيت زور. وإنّ اللائحة التي نجدها في عز 2 ونح 7 تقابل حالة إدارية تعود إلى زمن داريوس. بالمقابل، لا يبدو أنّ اللائحة حسبت حساب أهل لود، حاديد، اونو على منحدر التلال في مناطق الساحل.
وتوجّه داريوس نحو الشمال. فقام بحملات ضدّ الإسكوتيين في تراقية سنة 513، ثمّ اصطدم بعالم هيليني في أقصى ازدهاره. سحق ميلتيس خلال ثورة ايونية سنة 494، ولكن بعد النجاح جاء الفشل: هُزم مردونيوس سنة 492، وداتيس المادايي وارتفرنيس الفارسي في مراتون، سنة 490،، واحشورش بن داريوس في سلامينة سنة 480، ومردونيوس في بلاتيس، ومبرودونتيس في موكاليس سنة 479، وذلك رغم مساندة الأسطول الفينيقي له. وفي سنة 480، غُلب فينيقيو الغرب (أي القرطاجيون) في صقلية. أجل، لقد دقّت ساعة الانطلاقة اليونانية. كان انطلاقًا في عالم التجارة والفن قبل أن يكون في عالم السياسة. وإلى هؤلاء اليونانيين سيبيع تجّار الساحل (الفينيقيون والفلسطيون) أبناء يهودا وأورشليم كعبيد أرقاء (يؤ 6:4).

ج- نحميا وعزرا
1- صعود اليونان
وصلت التجارة اليونانية إلى اليهودية حيث اكتشفت الحفريات آنية من كلازومانيس وكورنتوس تعود إلى القرن السادس ق. م.. ولكنّ العالم اليوناني لا يعرف الشيء الكثير عن العالم الاسرائيلي. ففي القرن الخامس، لن يهتم هيرودوتس المؤرّخ ببني إسرائيل. ولكن بدأ اليهود ينتشرون في الغرب رغم تخوفّهم من البحر وإن أهمّ المجموعات اليهودية أقامت في بلاد الرافدين واليهودية ومصر.
أمّا اكبر مجموعة فنجدها في بابل وحول عواصم فارس، لاسيّمَا بعد ثورة بابل التي سحقها أحشورش سنة 482، أي قبل معركة سلامينة بسنتين. قد تكون بابل المهدّمة هي "مدينة الباطل (أو العدم) التي دُكّت" والتي تذكرها رؤيا أشعيا (أش 24: 10). ولكن بعد بلاتيس وموكاليس، انزوى أحشورش في بيته في برسيبوليس (تخت جمشيد الحالية). استعمل صنّاعًا عديدين ومنهم من جاء من سورية وفلسطية (حاطي). في برسيبوليس استقبل أحشورش تاميستوكلس الذي قهره قيمون، وعرف بالانتصار اليوناني الساحق عند نهر أورميون (في بمفيلية) سنة 466. وفي برسيبوليس سيُقتل في نهاية سنة 465 على يد ارطبان، صديق تاميستوكلس. كان أرتحششتا ثاني أبنائه فأزاح البكر وحكم إحدى وأربعين سنة (465- 424) وسط المؤامرات والثورات بعد أن عرف أن يستفيد من الانقسامات داخل العالم اليوناني.

2- أرشيف موراشو وسياسة ارتحششتا
وبدأت في عهد أرتحششتا تظهر أسماء يهودية على العقود، خاصة في أرشيف موراشو في نيفور بعد سنة 455. إلى نيفور كان يصل نهر كبار (أو خابور)، وإنّ الأرشيف يشهد على تجذّر اليهود في 27 محلّة من أقضية المنطقة بعضها يسمى تل غباري، تل رحيمو. فالمنطقة أغنى مناطق المملكة بعد الهند. أمّا أساس اقتصادها فالزراعة مع البقر والضآن. ولقد تخصص بيت موراشو في تربية القطعان. إلاّ أنّ بيت موراشو هذا تأسّس من أجل إقراض الناس المال. وكانت الفائدة 40 أو 50% في السنة، لأنّ المال زادت قيمته منذ بداية الاحتلال الفارسي. وفي هذا الاقتصاد الزراعي، كانت المدن أسواقًا ومحلاّت بيع لموراشو الذين امتدّ نشاطهم إلى شوش في التلال الإيرانية.
وشوش هي أيضاً إحدى عواصم المملكة الفارسية، وأرتحششتا يقيم فيها مرارًا لأنّه تعب من برسيبوليس في السنة السابعة لملكه. وبعد معركة أوريميدون، استقبل في شوش سفراء حلف ديلوس في اليونان، ولكنّ المحادثات فشلت. ثمّ إنّ الخلاف بين إسبرطة وأثينة جعل المملكة الفارسية تنجو من التفكّك. هذا ما أقرّت به معاهدة سلام كالياس سنة 449، وسيأتي اليونانيون إلى شوش كزوّار (ديموكريتس، هيردوتس) وصنّاع، وأطبّاء (اكتاسياس). ومن شوش يتابع أرتحششتا تحرّكات صهره ميغابيز الذي انتصر في بابل وصار مرزبان الإقليم الخامس (عبر النهر) أي مرزبة سورية التي ترتبط بها السامرة واليهودية. ولقد استعان ميغابيز في شوش بالاسطول الفينيقي فانتصر على ثورة إيناروس (في مصر) الذي ساندته أثينة (460). استُقبل ميغابيز في شوش استقبال الفاتحين. ولكنّه ما عتّم أن ثار على الملك حوالي سنة 448، فوجب على الملك أنّ يتعامل مع هذا الوضع الجديد. وأخيرًا، في شوش، سنة 445، في السنة العشرين لأرتحششتا، في شهر نيسان (نح 2: 1)، رأى الملك حزن ساقيه نحميا وهو يهودي وصل إلى وظيفة مهمة في البلاط فتجاوز وضعُه وضعَ موظفي موراشو.

3- مهمة نحميا والمعارضون له
نحميا حزين، فقد وصله من حناني أحد إخوته أخبار سيئة عن اليهودية (نح 1: 2). لا يزال الشعب في الضيّق هناك، لم تزل أسوار أورشليم مهدومة، وأبوابها محروقة. ولكنّنا نعرف بواسطة عز 4: 6 أنّ الأعداء أبلغوا السلطات بنشاط اليهود في عهد أحشورش. أمّا موضوع هذا الإبلاغ فهو ذاته موضوع إبلاغ ثان في أيّام أرتحششتا: بدأ أهل اليهودية يعيدون بناء أسوار أورشليم. قلق من الأمر سكّانُ السامرة الذين جاء بهم أشور بانيبال إلى هنا وجعل "سيّد المجلس " (بعل تيم) يتدخّل مع السكرتير شمشاي: إنّ الثورة تحت الرماد في أورشليم التي ترفض دخل الجزية (عز 7:4- 23).
وأوقف أرتحششتا الأعمال. لقد كان ميغابيز معارضاً لتحصين أورشليم خلال ثورة ايناروس (460- 455) أو خلال ثورته الخاصة سنة 448. نحن لا نعرف تاريخ وفاته. من المعقول أن يكون نحميا قام بمحاولة بعد موته، فذكر مساندة الملكة امستريس (نح 6:2) التي تدخّلت في الصلح بين ميغابيز وأرتحششتا. فأرسل الملكُ نحميا ليبني أورشليم ويعيد إليها أبوابها. ورافقه في مهمته ضبّاط من الجيش وفرسان مع أوامر ملحّة إلى مرازبة عبر الفرات (نح 2: 7، 9). فعلى أساف "حافظ غابة الملك" (في لبنان) أن يقدّم الخشب الضروري. كل هذا لا يتوافق مع وجود ميغابيز الذي كان من القوّة بحيث يفرض رأيه على الملك. ونحن نفهم أن يكون القرار الملكي قد اتّخذ بعد موت ميغابيز. وفكّر الملك بتفكيك مرزبة قويّة. فاقتطع منها مقاطعة "يهود" أو اليهودية التي ستُصدر عملة باسمها. ولمّا ذهب نحميا إلى اليهودية، وجد الوضع صعبًا جدًّا: سكّان قليلون جدًّا كما يقول المؤرّخ الكهنوتي في لائحة ترد مرتين (عز 2: 1ي ؛ نح 7: 1ي). جُمع بنو إسرائيل في هذه اللائحة حسب وظيفتهم: العوامّ، الكهنة، اللاويّون... ولكنّ هذه القسمات الكبيرة تتضمّن مجموعات عائليّة ومحليّة وقروية (بنو بيت لحم، رجال نطوفة. عز 2: 21- 35). وإذ أراد أن يورع السكّان من أجل بناء الأسوار، وزّعهم توزيعًا محلّيًا (نح 3: 1- 32، رجال أريحا، رجال تقوع)، وهذا ما يقابل الأقضية (فلكيم في العبرية) داخل المحافظة: أورشليم، نطوفة، بيت هكارم، مصفاة بيت صور، قعيلة، أريحا (و 12 قضاء ثانويًا). يجب أن تعود أورشليم مدينة مملوءة بالسكّان (نح 4:7 ي).
وبانتظار ذلك، اصطدم الحاكم بمشاكل خارجيّة وداخليّة. لتي في الخارج معارضة مثلّثة: سنبلط (في البابلية: سين أو بليط) الحوروني، الذي يقيم في الشمال، في السامرة. طوليا العموني الذي هو في شرقي الأردن، جاشم العربي الذي سيطر على الأدوميين في الجنوب. فعلى نحميا أن يعمل بسرعة وفي السرّ (نح 2: 11). ووجد أنّه يقدر أن يستعمل قسمًا من الأسوار القديمة وأن يُعيد الأبواب. فعمل، ولم يتأثّر بالتهديدات العديدة. ولقد كشفت الحفريات عن هذه الأسوار.

4- ضغط الساحل
درست الأركيولوجيا الزمن الفارسي في هذه السنوات الأخيرة، فظهر القرن الخامس على أنّه فترة تجديد في عالم البناء والبرونز والأثاث والتماثيل والفخاريات. فالحفريات في قيسان بين عكّا ويافا أظهرت التوسّع الفينيقي. إنّ فينيقية تسيطر على الشاطئ إلى يافا، بل تقيم مستوطنة في مريشة داخل أرض يهوذا.
وهذا الازدهار الذي يصعد من الساحل إلى الداخل، يؤثّر في الجبل حيث يحاول نحميا أن يبني عالمًا يهوديًا. فاليهود يتزوّجون من بنات عمون وموآب ونصف الأولاد لا يتكلّمون العبرية (نح 13: 24) بل اللغات الغربية وبالأخصّ الأشدودية. ولاحظ منذ وصوله (نح 5: 1ي) أنّ هذا الازدهار المرتبط بالتجارة الخارجية، ساعد على جعل السكان العائدين مرهقين بالديون. باعوا الحقول والكروم، بل باعوا أولادهم عبيدًا: وإذا زدنا على كل هذا الضرائب الأخمينية الباهظة، عرفنا الشقاء واليأس عند الناس. قال نحميا (5: 15): "كان حكّام قبلي فثقلّوا على الشعب وأخذوا منه الخبز والخمر والفضة (40 مثقالاً). بل مارس عبيدُهم تسلّطَهم على الشعب."
فاستند إلى شرائع سفر التثنية ودعا الشعب إلى اجتماع عام ليضع حدًّا للمتاجرة بالعبيد. بدأ بنفسه، ثمّ أمر الجميع أن يعيدوا الحقول والزيتون والكروم والبيوت (نح 5: 11). وسيحارب مدة اثنتي عشرة سنة ضد هذه التجاوزات: إفتدى العبيد، وأعال على نفقته الخدم العائدين من المنفى (نح 17:5). كان الحاكم قد عيِّن لوقت محدّد (نح 2: 6). فلمّا انتهت مدّته، عاد إلى شوش سنة 433 وكان أرتحششتا الأوّل لا يزال على رأس مملكة فارس.

5- مهمة نحميا الثانية
لا نعرف الوقت الذي قضاه نحميا في شوش (نح 13: 6)، ولكنّنا نعرف أنّه عاد إلى أورشليم قبل موت أرتحششتا (424). كان أرتحششتا قد خسر ترابيزوند على البحر الأسود (425)، ولكن لا علاقة لهذه الخسارة بمهمّة نحميا الثانية. ثمّ إنّ أرشام مرزبان مصر، الذي حكم من سنة 428 إلى سنة 411، لم يعرف صعوبات خاصّة خلال حكمه. فالثورات لم تبدأ حقًا في مصر إلاّ في سنة 411. وقد أُعطي نحميا هذه المهمّة الثانية ليداوي صعوبات داخلية، فجاءت قراراته مرتكزة أيضاً على سفر التثنية: انفصال عن الغرباء، طرد طوبيا العموني (نح 13: 4- 9؛ رج تث 23: 4- 6)، تنظيم مداخيل اللاويين والمغنيّن (نح 13: 10- 13، تث 14: 27؛ 26: 12 ي)، العشور الخاصة بالكهنة، منع البيع يوم السبت (تث 15:13-18؛ رج تث 13:5 ي)، ردع الزواجات مع الغرباء (نح 23:13- 28؛ تث 3:7- 4).
ما يلفت النظر في مهمّة نحميا الثانية، هو موقفه تجاه عائلة عظيم الكهنة، والطريقة التي بها تتصرّف المجموعة الهارونية التي نظّمها يشوع حين أعيد بناء الهيكل سنة 520- 515. وبّخ نحميا الياشيب لأنّه منح طوبيا غرفة في حرم الهيكل، وهذا أمر يتعارض وشريعة حزقيال (ف 40- 48) التي تفصل بين الرئيس والكاهن. وطرد أحد أحفاد عم الكهنة الذي تزوّج بنت سنبلط. وهنا نجد موقف نحميا قريبًا من موقف ملاخي تجاه كهنة أهملوا واجباتهم وساوموا على الشريعة (ملا 1: 6- 2 ؛ 2: 9). قال ملاخي (2: 8): "عدلتم عن الطريق، شكّكتم كثيرين بتعليمكم، دمّرتم عهد لاوي". وهذا ما ارتأته أيضا المستوطنة اليهودية في الفنتيين.

6- مستوطنة الفنتيين وصعوباتها
أرسلت هذه المستوطنة نداء إلى أورشليم فلم تلقَ جوابًا. لها هيكلها وشرائع عبادتها البعيدة عن تعليم سفر التثنية، فكيف تتلّقى جوابًا؟ نحن على علم بحياة هذه الجماعة المدنيّة والدينيّة بفضل البرديات وأجزاء الفخار التي وُجدت في جزيرة الفنتيين. ونشير إلى أنّ جماعة الفنتيين لم تكن الجماعة السامية الواحدة في المنطقة. كان لها هيكل مكرّس لياهو منذ أيّام ملوك مصر ولكنّ أقدم نصّ يعود إلى سنة 461 ق. م.، وإن أكثر النصوص تتعلّق بأمور خاصّة بعائلتين، وهي تعود إلى أيّام داريوس الثاني (424- 454) الذي استفاد من الصراع بين أسبرطة وأثينة ليجعل جيوشه في مدن آسية الصغرى.
وهناك نصوص تتضمّن أمورًا سياسية. فثورة أميرتيس تتهيّأ، وسكّان مصر لا يحتملون الحامية الفارسية التي يقودها فيدرانغا والتي لا تحمي اليهود. وإنّ كهنة الإله الكبش خنوم لا ترضى بذبائح الخراف في هيكل ياهو. لهذا نهبوا الهيكل وأحرقوه، ودبَّت الخلافات في الحيّ الواحد، ووُضع اليهود في السجن. فرفعوا أمرهم إلى السلطات العليا، فربحوا الحكم وعزلوا فيدرانغا. ولكن جاءت سنة 407 ولم يُبنَ الهيكل، مُداراةً للسكان المحليين. وتوجّه يدونيا الكاهن اليهودي في الفنتيين، إلى سلطات السامرة وأورشليم، وإلى بغوحي حاكم اليهودية، وإالى دلايا وشلميا ابني سنبلط في السامرة، وإلى يوحنان عظيم الكهنة (حفيد الياشيب نح 23:12). لم يرسل عظيم الكهنة جوابًا، وكيف يوافق على بناء هيكل آخر غير هيكل أورشليم، وهذا أمر يعارض الشريعة حول وحدة المعبد. ولكنّ بغوحي ودلايا دعما طلب الفنتيين. فأُعيد بناء الهيكل مع الإذن برفع التقدّمات والبخور، لا المحرقات، مداراة للسكّان المحليّين.

7- نحو بنى نهائية في الشريعة
نرى الجماعات اليهودية مأخوذة بمسائل السياسة العامّة، وبمسائل تتعلّق بالشريعة. فهيكل الفنتيين ليس القضية الوحيدة في هذا الأرشيف. فقبل هذا الوقت ببضع سنوات (سنة 419)، طلب يهودي اسمه حنانيا (قد يكون شقيق نحميا رج نح 1: 2) إلى المرزبان أرشام، من قبل الملك داريوس، تنظيم عيد الفصح: "الآن تعدّون هكذا 14 يومًا منذ اليوم الأوّل من نيسان وتعيدّون الفصح. ومنذ اليوم الخامس عشر من نيسان حتّى الحادي والعشرين من نيسان يكون عيد الفطير. والآن كونوا أطهارًا، واحذروا أن تعملوا عملاً في اليوم الخامس عشر وفي اليوم الحادي والعشرين. بالإضافة إلى ذلك، لا تشربوا الجعة ولا جملوا شيئًا فيه خمير". وهناك نصوص أخرى من تلك الحقبة تشير إلى الفصح، بل إلى ليلة الفصح. هذا كل ما نجده في بردية الفنتيين الفصحية. إنّها لا تورد إيرادًا مباشرًا نصّ الشريعة، بل تقدّم تدخّل السلطة الفارسية التي فرضت تنظيمًا شرعيًا يختلف بعض الشيء عن سفر التثنية (16: 1- 8)، ولكنّه يقترب من سفر الخروج (6:23 ي) وسفر العدد (3:9 ي؛ 17:28 ي). ونكتشف أيضاً اهتمامات البلاط الفارسي بالتوتّر الحاصل بين أهل اليهودية وأهل السامرة، بين العائدين من السي وشعب الأرض. وسيزداد التوتّر بسبب ثورة اميرتيس، وثورة نافاريتيس سنة 398. ستنجح ثورة نافاريتيس وتضع حدًّا للتسلّط الفارسي. وهكذا تصبح اليهودية مقاطعة حدودية بالنسبة إلى المملكة الفارسية التي اهتزّت بسبب حملة كسينوفون وعشرة آلافه الذين جاؤوا سنة 401 ليساندوا كورش الصغير على أخيه ارتحششتا الثاني في معركة قوناكسا.

8- عزرا
في هذا الإطار السياسي تجد مهمة عزرا مكانها الأفضل. كان عزرا كاهنًا وكاتبًا، وقد مُنح سلطات فوق العادة (عز 7: 11- 26) بقرار من أرتحششتا في السنة السابعة لملكه. نحن في أيّام يوحنان بن الياشيب (عز 6:10 ؛ نح 23:12؛ نصوص الفنتيين). وجد أورشليم تكتظ بالسكّان (عز 10: 1 )، وهذا الأمر لم يكن في عهد نحميا. يحمي أورشليم سور كبير (عز 9: 9) كان قد بناه نحميا. فعلى عزرا أن يهتمّ بهيكل أورشليم وجمال عبادته، وأن يطبّق الشريعة أو "شرائع الهك" على الذين يعرفون أو لا يعرفون هذه الشرائع في عبر الفرات (عز 7: 25). إنّه يعني بني إسرائيل العائشين في المرزبة. أقام عزرا قضاة من أجل هذا الدمل، ولكنّ المؤرّخ الكهنوتي لا يقول لنا إنّه نفذّه. غير أنّه يصوّر لنا القراءة الاحتفالية للشريعة (نح 8- 9) والصراع ضدّ الزواجات المختلطة (عز 9- 10). استندت هذه الأعمال إلى سفر التثنية الذي حرّم الزواج مع الغريبات، وطلب أن تُقرأ الشريعة في عيد المظال (تث 31: 10؛ رج نح 2:8). وما يلفت النظر، هو أنّ عزرا لا يهاجم السامريين الذين كانوا خصوم نحميا الألدّاء. فهدف مهمّته هو أن يجمع في شريعة واحدة العائدين من المنفى وأهل الأرض. وإنّ السامريين سيقبلون البنتاتوكس الذي يقبله اليهود، غير أنّهم سيلعنون عزرا في تقاليدهم.

9- الخاتمة: نهاية الحكم الفارسي
تحمل آخر وثيقة مؤرّخة في الفنتيين سنة 398. فثورة نافاريتيس أنهت مهمة هذه الحامية الحربية، وأزالت التسلّط الفارسي. والفراعنة الذين جاؤوا بعد نافاريتيس سيقومون بنشاط كبير فيكونون حاضرين على شاطئ فينيقية، إمّا بمذابح مكرّسة في عهد أحوريس (391- 379)، وإمّا بمعاهدات مع اليونان وقبرص. ولكنّ ردّة الفعل عند الفرس كانت قويّة في أيّام أرتحششتا الثاني. فالمرزبان فرنباز اجتاح مصر ووصل إلى ممفيس بعد أن ركز جيشه ومرتزقته اليونانيين في عكّا (373). ولكنّ البرديات الأرامية في ذلك الزمان لا تلقي الضوء الكافي على نشاط الجماعات اليهودية في ذلك الوقت.
ولا نعرف الشيء الكثير عن اليهودية في نهاية عهد أرتحششتا الذي تُوفّي سنة 358. ويذكر المؤرّخ أنّ خلف يوحنان (او يوناتان. رج نح 12: 11) كان يدّوع الذي سيكون عظيم الكهنة في أيّام الاسكندر، كما يقول يوسيفوس. ويقول يوسيفوس إنّه في ذاك الوقت بدأت التوتّرات التي أوصلت الأمور إلى الانشقاق السامري. وبعد أن يتكلّم عن نحميا يروىِ قصّة أستير. هذا السفر مفيد لأنّه يبيّن كيف أن الجماعات اليهودية الشرقية أُقحمت في خصومات الطامحين وفي مشاكل البلاط الفارسي.
وخلف أرتحششتا الثالث والده وسط ثورة المرازبة. كانت ردة الفعل قويّة وعنيفة. فقتل كلّ أمراء العائلة المالكة ليتجنّب وجود مزاحمين له. وسيطر على صيدون وقتل ملكها تانيس (تبنيت)، واحتلّ مصر من جديد سنة 345، كما احتلّ آسية الصغرى في أيّام ديموستان وفيلبس المكدوني. وهناك شهادات متأخّرة تقول إنّه لم يوفّر اليهودية، فأجلى بعض السكان إلى حركانيا (جنوبي بحر قزوين). هذه هي الخلفيّة التاريخية لسفر يهوديت (اليهودية) لأنّ أليفانا وبوغا لعبا دورًا في هذه الحملة. فبوغا هو الذي وضع السمّ لارتحششتا الثالث (338) قبل أن يجبره آخر ملك فارسي، داريوس الثالث كودومان، على وضع السمّ لنفسه.
ومنذ سنة 337 دخل فيلبس المكدوني إلى آسية الصغرى ليحرر المدن اليونانية. قتل سنة 336 فخلفه ابنه الشاب اسكندر المكدوني. فانتصر في غرانيك وفي ايسوس (333)، كما استولى على صور بعد حصار مشهور، واحتلّ دمشق وأورشليم دون أن يرفع أحد سلاحًا، وكبح ثورة في السامرة (330).
لقد انتهى العصر الفارسي وبدأ العالم الهلّيني يقتحم الشرق، ولن يقف شيء في وجهه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM