الفصل الرابع والعشرون: وحش البحر ووحش الأرض

وحش البحر ووحش الأرض
1:13-18

في قلب رؤ، وساعة نُفخ في البوق السابع وتمّ سرَّ الله (10: 7)، وساعة أنار قربُ الله العالم وحرّكه بشكل تدريجي، وساعة بدا ملكه حاضراً هنا لأن الشهود فضّلوا الله على حياتهم. في تلك الساعة كشف الكاتب عن سرّ التاريخ والوضع المعاصر وطابعه الدراماتيكي. فجعلنا نشاهد آيتين متعارضتين: آية المرأة وطفلها (12: 1)، آية التنين (12: 3). كيف بدا الوضع وكيف انتهى؟
قدّم لنا ف 12 السوابق الخفيّة للوضع المعاصر. هي رؤية إيمان. فُتح هيكل الله في السماء وظهر تابوتُ العهد ليدلّ على أن العهد تحقّق كاملاً (11: 19). لم يعد من مكان للتنين العظيم، للشيطان، لمتّهم المؤمنين. إستُبعد بكل بساطة، فلم يعد يستطيع شيئاً ضدّ المسيح والكنيسة، ولا ضدّ إرادة الله التي بانت واضحة وجليّة. ولكن بقي له سلطان موقت على الأرض، وهو سيقاتل بضراوة لأنه يعرف أنه صار ضعيفاً، أن لا مستقبل له، وأن آخرته الزوال. هذه هي الوجهة الخفيّة للواقع الحالي، وهذا ما يشجّع المؤمنين في الأيام الصعبة التي يعيشونها.
ويقدّم لنا ف 13 الوجه المنظور والمختبَر لهذا الواقع الحالي، لما نعيشه اليوم. هناك دعاية كاذبة ومحتالة. ونحن مدعوون إلى أن نرى وراء ما يسمّى تسلسل الأحداث، قوّة خفيّة تعمل من خلال هذه الأحداث بشكل متماسك. وهذه القوة هي وحش البحر أي السلطة السياسية، ووحش الأرض أي السلطة الإيديولوجية.

1- الوحش الأول (13: 1- 10)
حين نقرأ النصّ قراءة أولى، نكتشف بعض الكلمات "المفاتيح": "سلطان (آ 2، 4، 5، 7). "قتال" و"غلبة" (آ 4- 7). "أعطي له" (مرتين في آ 5 ومرتين في آ 7). "تجديف" (آ 1، 5، 6 مرتين). "سجود" (مرتين في آ 4، 8). وتوزّعُ هذه الكلمات في النصّ، يساعدنا على إدراك بنيته.
- آ 1. تضع أمامنا الوحش وهو صاعد من البحر. ندرك قوته: عشرة قرون، سبعة رؤوس، عشرة تيجان. نحن أمام تشديد على سلطانه. ونجد على رؤوسه أسماء تجديف لأنه يقاوم الله ويعارضه.
- آ 2- 4. سلطان الوحش وأصل هذا السلطان.
- آ 5-8. تجديف على الله ومحاولة الحرب. إنتصارات الوحش بالقول والعمل. هناك تقاليد سابقة للمسيحية ورموز الأعداد والتلميحات إلى أحداث القرن الأول المسيحي. كلها تعارض السرّ المركزي في المسيحية، سرّ صلب الرب وقيامته. فالوحش الذي يطلع من البحر ويحمل على رأسه أسماء التجديف (آ 1)، يقابل ذاك (الحمل) الذي يأتي من السماء والذي إسمه "كلمة الله" (19: 13). فالأنتيكرست (المناوىء للمسيح) يبدو كأنه "مسيح عاد إلى الحياة". فسرُّ وحش البحر يستلهم سرّ المسيح الذي صُلب وقام. إنّ الشرّ (والشرّير) يتقنّع بقناع المسيح.
أ- تصوير الوحش (13: 1)
"رأيت وحشاً طالعاً من البحر" (آ 1). إن الأحياء الأربعة في رؤية دا 7 ترمز إلى الممالك المعادية لله، وقد خرجت هي أيضاً من البحر. فالبحر هو الخواء الأولاني الذي ينتصر عليه الخالق. هو الموضع الخفيّ الذي إليه تلجأ القوى المعادية لله وفيه تتقوّى. هو الهاوية المظلمة والرمز إلى عالم الشرّ والموت (11: 7؛ 17: 8).
البحر هنا هو بشكل ملموس البحر المتوسّط. فالعالم اليهودي ماهى بين الحيوان الرابع عند دانيال والإمبراطورية الرومانية. والنسر الذي يتحدّث عنه 4 عزرا 11- 12 والذي يرمز إلى رومة، يخرج هو أيضاً من البحر. إذن، هناك علاقات بين الوحش والإمبراطورية. وبالتالي مع الشرّ، مع التنين الذي ينتظر طلوع الوحش من البحر.
"له سبعة رؤوس وعشرة قرون". هذا هو عدد القرون والرؤوس لدى الحيوانات الأربعة في دا 7. وهو عدد قرون ورؤوس التنين (12: 3). فالوحش قريب من التنين الذي هو قائده وملهمه. على قرونه عشرة تيجان. إذن، له ثلاثة تيجان أكثر من التنين: ما يميّزه هو السلطان الذي يمارسه.
من هو هذا الوحش؟ بالنسبة إلى البعض هو الإمبراطورية الرومانية. وإلى البعض الآخر هو الأنتيكرست. أو بالأحرى: الإثنان معاً. فالإمبراطورية الرومانية تجسّد المناوىء للمسيح. فمنذ العهد القديم، إعتُبر الأعداء التاريخيون لشعب الله صورة مسبقة (ونموذجاً) تدلّ على العدوّ النهائي الذي يجسّد قمّة العداوة والتجديف على الله، تدلّ على عدوّ الله. وقد تجسّد العدو على التوالي في ملك صور، في نبوكدنصر، في أنطيوخس أبيفانيوس، في نيرون. ووراء هؤلاء نجد محرّكاً واحداً هو إبليس. وفي المسيحية، إتخذ هذا المناوىء لله شكل المناوىء للمسيح (أنتيكرست)، الذي يعارض بشكل منهجي شخص يسوع وتعاليمه وأعماله. كانت رومة العدوّ الأكبر للإيمان المسيحي، فسُمّيت أنتيكرست. وهكذا يُسمّى كل واحد يضطهد الكنيسة على مدّ العصور.
"وعلى رؤوسه أسماء تجديف". في دا 7: 8، 11، 25؛ 11: 36، يبدو شخص يختفي وراء أنطيوخس أبيفانيوس فيتلفّظ بكلام الكبرياء. إنه يعتبر نفسه إلهاً. رج 2 تس 2: 4 (يجلس في هيكل الله). في الواقع، حمل الأباطرة الرومان أسماء يستطيع الله وحده أن يحملها: الله، الإلهي، المعبود (سبستوس في اليونانية، أوغسطس في اللاتينية)، ابن الله. فكل صاحب سلطان مجرّب في أن يعتبر نفسه الله.
إنطلق رؤ من دا 7: 1-28، ولكنه وجد في العالم الذي يعيش فيه واقعاً تلمّحُ إليه صور مأخوذة من العهد القديم. مثلا، كتب الشاعر فرجيليوس عن الإمبراطور الروماني أوغسطس: "هذا هو الرجل. هذا هو قيصر أوغسطس (المعبود) الذي وُعد به آباؤنا منذ زمان قديم. هو ابن الإله، وحامل هذا العصر الذهبي، ومؤسّس إمبراطورية حكمها في الماضي ساترنوس (إله رومة وابن جوبيتير)، وهي إمبراطورية تصل إلى حدود الشمس". أما نقولاوس الدمشقي فقد عبد الإمبراطور بهذه الكلمات: "منح الناس هذا الرجل لقب "أوغسطس" (أي: المعبود)، وكرّموه فكرّسوا له الهياكل وقدّموا له الذبائح في المدن والبلدان، عرفاناًَ لعمله العظيم وللخيرات التي أنعم بها عليهم". وإنّ مجلس مقاطعة آسية حيث كانت الكنائس التي تسلّمت الرسائل السبع، قد أعلن بمناسبة عيد الإمبراطور أوغسطس ما يلي: "إن العناية التي تدبّر كل شيء في حياتنا قد زيّنت، في رحمتها وكرمها، وجودنا بأجمل هدية حين قدّمت لنا أوغسطس، وأرسلته لنا كمخلّص، ووضعت حدًّا للحرب، فتجاوب مع آمال وتمنيات الأزمنة الماضية. فهو لم يغطِّ فقط على المحسنين الذين سبقوه، بل أخذ من لاحقيه كل أمل بأن يتجاوزوه. وبالنسبة للكون، دشّن يوم مولد الإله أوغسطس سلسلة الإحتفالات التي تُقام إكراماً له".
ب- تنصيب الوحش (13: 2- 4)
إن آ 2 تصوّر لاجئة إلى التشابيه وقفة الوحش ورجله وفمه، كما سبق للنصّ وصوّر ابن الإنسان في 1: 13-17. لهذا، سيكون الوحش في سمات عديدة تقليداً للمسيح "وسعدنة" له. إنه المناوىء للمسيح بكل معنى الكلمة. إنه مزيج من النمر والدبّ والأسد. لقد أخذت سماته من الوحوش الثلاثة الأولى في دا 7. فالوحش المذكور هنا يلخّص هذه الوحوش الثلاثة ويجمعها. وهو ينال سلطانه من التنين نفسه، كما نال المسيح من الله عرشه وسلطانه (2: 28، 3: 21). وفي هذا أيضاً يبدو مناوئاً للمسيح. نحن لسنا أمام اعتراض على السلطة السياسية في حدّ ذاتها، بل أمام تجاوزات الإمبراطورية الرومانية. نحن بعيدون جداً عن ولاء بولس في روم 13: 1 (على كل إنسان أن يخضع لأصحاب السلطة، فلا سلطة إلاّ من عند الله) وبطرس في 1 بط 2: 13 (إخضعوا لكل سلطة بشرية). لم تمرّ بعض العقود حتى وعى المسيحيون الوضع العام: نُزع الفناع عن رومة، واكتُشف الشيطان وتجديفه وراء قدرتها. ورأوا من خلال رومة السلطان السياسي المطلق الذي لا يعتبر الوجود الإنساني أي اعتبار.
"أحد رؤوسه مجروح" (آ 3). إن فعل "جرح" المستعمل هنا هو ذاك الذي استعمل عن الحمل في 5: 6. نحن هنا أمام مهزلة سياسية تحاول أن تقلّد قيامة المسيح، وتعارض ديمومة الكنيسة. فهذا الوحش لن تكون له نهاية في العالم، على ما يبدو، وهو يملأ العالم بسلطانه "إلى الأبد".
إذا كانت الرؤوس تدلّ على الملوك (17: 9)، أنكون أمام إمبراطور قيل أنه مات ولكنه لم يبقَ في عالم الموت؟ نعرف أن الناس تحدّثوا في نهاية القرن الأول عن نيرون فقالوا عنه إنه الأنتيكرست. وأكّدوا أنه أُفلت من الموت سنة 68 أو اختُطف من العالم وهو لا يزال حيّاً بشكل يفوق الطبيعة. وانه ينتظر عودته لكي ينتقم من الذين (ظنوا أنهم) قتلوه. هذه الأسطورة ألهمت رؤ فرأى القارىء الأول في هذا النصّ تلميحاً إلى نيرون (في أيامه قُتل بطرس وبولس) وإلى الإضطرابات الخطيرة التي تبعت موته دون أن تزول الإمبراطورية.
"وسجدوا للتنين" (آ 4). كل مرة تهاجم السلطة السياسية وتستعيد أنفاسها في انتصار حربي أو في ثورة، يتعجّب الشعب ويجعل ثقته فيها. تعجّب الشعب بهذا الشفاء المذهل، فسارت الأرض بأسرها وراء الوحش وسجدت للتنين. بدأت فسجدت للتنين (آ 4 أ) ثم للوحش (آ 4 ب). فمن عبد الوحش عبد التنين. من عبد السلطة السياسية أو الحاكم، عبد الشيطان، وجدّف على الله.
ونلاحظ تقارباً بين الوحش والتنين. على مستوى الصرف. رج آ 1 (12: 3). عشرة قرون، سبعة رؤوس. سلطان الواحد هو سلطان الآخر. رج آ 2 ب: أعطاه التنين قوته وعرشه وسلطاناً عظيما. سجود للوحش وسجود للتنين (آ 4). كلاهما يحاربان المسيحيين (آ 7؛ رج 12: 17). زمن عملهم هو هو (آ 5؛ 12: 6، 14): 42 شهراً أو 1260 يوماً أو ثلاث سنوات ونصف السنة. يبدو التنين والوحش من "جوهر" واحد. هما واحد على "مثال" الله والحمل اللذين عملهما واحد ويستحقّان السجود الواحد (5: 13؛ 7: 9- 10؛ 11: 15؛ 12: 10).
وكما تمثّل الوحش (هزءاً) بموت الحمل وقيامته، فهو يتمثّل بالليتورجيا المقامة إكراماً للحمل. نال الحمل إكرام الكائنات الحية الأربعة (تدلّ على الخليقة بأقطارها الأربعة)، والأربعة والعشرين شيخاً (شعب العهد القديم وشعب العهد الجديد) والخليقة كلها (5: 8-13). ونال الوحش إكرام "الأرض بأسرها، سجود "جميع سكان الأرض" (آ 8). تستعيد هذه العبارات تلك المستعملة في التوراة لله حصراً. نقرأ مثلاً في خر 15: 11؛ تث 3: 24؛ مز 86: 8؛ 113: 5: "من هو مثلك، يا الله" (ميخائيل= مي- ك- إيل= من ك الله). إستحق هذا الملاك إسمه في السماء، والملاك يدلّ على حضور الله (12: 7- 9). والوحش أخذ ثأره على الأرض فقيل عنه: من مثل الوحش، من يشبه الوحش (آ 4)؟
وهكذا أقام الوحش على الأرض بقدرة التنين على أنه المناوىء للمسيح، وحلّ محل الحمل المذبوح. وأكّد سجودُ الناس هذا الأمر، فجمعوا في سجود واحد، التنين والوحش. ليس السلطان وحده هو ما يدفع الناس إلى السجود. بل إن وجهة قلب الناس العميقة تدفعهم إلى السجود. هذه هي ديانة الدولة كما عرفتها رومة والممالك القديمة، كما عرفتها النازية وعدد من الممالك الحديثة.

ج- حروب الوحش (13: 5- 8)
أعلنت هذه الحروب في العبارة الأخيرة من آ 4: "من يقدر أن يحاربه"؟
أعطي له،. أؤتي. ترد هذه اللفظة أربع مرات في بضعة أسطر. من يعطيه؟ التنين؟ كلا. ففي آ 2 ب نقرأ: أعطى التنين الوحش قوته... أما هنا، فنحن في صيغة المجهول التي تدلّ على الله. الله نفسه أعطى الوحش. سمح للوحش بأن يمارس سلطانه ويضطهد الكنيسة حتى الموت. ولكن في الوقت عينه، تبدو قوّة الوحش مراقبة ومحدودة بواسطة إرادة الله. كل ما يفعله الوحش يبقى داخل تصميم الله.
"أعطي للوحش فماً ينطق بكلام الكبرياء". هكذا كان أنطيوخس (دا 7: 8، 20) الذي اعتبر أنه يستطيع أن يحوّل العبادة في الهيكل. وأعطي أيضاً كلام "التجديف" كما في دا 7: 25 حيث اعتبر الملك نفسَه الله. إن هذا الوحش هو من نسل وحوش دا 7. والوقت الذي أعطي له أن يعمل فيه هو 42 شهراً. هذا ما يدلّ على وقت قصير (نصف 7). يدلّ على الزمن الحاضر الذي فيه تعيش الكنيسة محنتها (11: 2-3؛ 12: 6، 14) وهي عالمة أنها في يد الله.
"فأخذ يجدّف" (آ 6). أخذ الوحش "يهاجم" الله. يهاجم اسمه وشخصه، يهاجم حضوره (مقامه) وسط البشر، يهاجم الذين آمنوا بالله، الذين بيتهم في السماء. عرفنا في 7: 15؛ 12: 12 أن مقام الله (مسكنه) يضمّ منذ الآن البشر الذين تجعل أمانتُهم من حياتهم عبادة مرضية لله، عبادة سماوية (رج 3: 12). والوحش الذي يعتبر نفسه الله، لا يقبل بأن يفلت البشر من سلطانه معتبرين نفوسهم منذ الآن مواطني السماء يقيمون منذ الآن في حضرته، في بيته.
"وأعطي القدرة" (آ 7). أولاً، أعطي الوحش فماً... ثانياً، "أعطي له أن يحارب القديسين ويغلبهم". نقرأ هذه العبارة في دا 7: 21. وهي صدى لما في رؤ 12: 17: يتابع الوحش. حرب التنين ضدّ نسل المرأة. يهاجم الكنيسة ويغلبها. هذا ما يذهلنا! إذن، يسمح الله أن يكون القتال هائلاً، أن يُقهر القديسون! يُزالون في أجسادهم ويقتلون. وهناك الغواية والضلال بواسطة تعليم موجّه. وسلطة الوحش هي شاملة: "على كل قبيلة وشعب ولسان وأمّة".
"يسجد له سكان الأرض" (آ 8). من ينظر من الخارج يرى أن السلطة السياسية (الظاهرة) هي الغالبة. لهذا انضمّ سكان الأرض إلى الحزب الأقوى، إلى الأكثرية، وعبدوا الوحش. هكذا كان في الماضي، وهكذا يكون اليوم وغداً. وهكذا توحّدت الأرض كلها حول الوحش. فأين هو الحمل الذي افتدى بدمه "كل قبيلة ولسان وشعب وأمّة" (5: 9)؟ أين هو الجمهور الكبير الذي لا يُحصى والواقف أمام العرش وأمام الحمل (7: 9)؟ هكذا يهزأ الإنسان بسلطان الحمل، كما فعل اليهود بيسوع على الصليب: خلّص آخرين ولا يقدر أن يخلّص نفسه!
ولكن الواقع هو غير ذلك. فلا يعبد الوحشَ إلاّ "سكانُ الأرض" (لا سكّان السماء). سكّان الأرض هم الوثنيون، أعداء الله وشعبه. يسمّون بعبارة سلبية: "أسماؤهم غير مكتوبة في كتاب الحياة، في كتاب الحمل الذبيح". هم يختلفون كل الإختلاف عن الذين يتبعون الحمل رغم أنه ذُبح. فكأني بيوحنا يقول إن الذين لا يتبعون المسيح في سرّه الفصحي، يتبعون بالضرورة الوحش ومن يمثّله (مت 12: 30: من ليس معي فهو عليّ، ومن لا يجمع معي فهو يفرّق). يجب أن نختار بين الحمل الذبيح (آ 8) والوحش الذي "جُرح حتى الموت فشُفي من جرحه المميت" (آ 3، 12، 14). إذن، لا خلاص إلاّ في المسيح. منذ "إنشاء العالم" نحن مدعوّون فيه. والخليقة كلها تتوق إليه (رج أف 1: 4- 5؛ مت 25: 34).
د- دعوة إلى التأمّل (13: 9- 10)
من كان له أذنان فليسمع" (آ 9). أنهى يوحنا كلامه لافتاً إنتباهنا إلى أهمية هذه الرؤية. هو سرّ عظيم يجب أن نفهمه، هو وحى رئيسي في تعليم يجب أن يؤوّنه كل واحد في حياته اليومية. أن يقرأه الآن في حياته الحاضرة. هذه العبارة وجدناها في نهاية كل من الرسائل السبع التي أرسلت إلى الكنائس، مع ذكر الروح القدس (رج 14: 13). ما هو هذا الشيء الهامّ الذي يجب أن نفهمه؟
"من للسبي فإلى السبي يذهب، ومن للقتل بالسيف..." (آ 10). تستلهم هذه الآية إر 15: 2 الذي يقول: "الذين للموت فإلى الموت. والذين للسيف فإلى السيف. والذين للجوع فإلى الجوع. والذين للسبي فإلى السبي". نحن أمام تذكير إحتفالي بالمخاطر التي يتعرّض لها كل من يعارض الوحش ويرفض السجود له: يذهب إلى المنفى أو يموت. لا يستطيع القديسون أن يتجنّبوا الإضطهاد. قال يسوع في مت 24: 9: "حينئذ يسلّمونكم إلى الضيق، ويقتلونكم، ويبغضكم جميع الأمم من أجل اسمي". لا مساومة ممكنة بين الله وأحكام التسلّط من أية جهة أتت.
إعلان قاسٍ شديد. ثم "كلمة السرّ" في زمن الإضطهاد: هي ساعة ثبات القديسين وإيمانهم. فالثورة المسلّحة لا تنفع شيئاً ضدّ قوّة الشرّ. السلاح هو الثبات والمثابرة والإيمان. ما يُطلب من المؤمنين هو أن يسلّموا ذواتهم بكليتها إلى قدرة الحمل، إلى قدرة الله. وهم مدعوّون لكي يواجهوا بشجاعة حرباً يموتون فيها. ولكن أعطي لهم التأكيد الخفي بغلبة تتمّ من دون عنف ولا قتال.



2- الوحش الثاني (13: 11- 18)
أ- دور الوحش الأول
إستعاد الوحش الأول كل رموز رؤية دا 07 أما الوحش الثاني فلا يستطيع أن يرتبط بنموذج مأخوذ من العهد القديم. لقد "خلقه" الكاتب لكي يكمّل ما في رمز الوحش الأوّل من نقص. لهذا يجب علينا أن نتعرّف إلى دوره الخاص. ونبدأ أولاً فنلاحظ خط طابعه الثاني والخادمي. هو يأتي بعد الوحش الأول. ثم إن علة وجودة هي أن يكون خادماً، أن يخدم الوحش الأول الذي يُذكر 8 مرات في 6 آيات. فالوحش الجديد يعمل "أمام الوحش"، "تحت نظر الوحش" وكأنه يطلب منه الموافقة والرضى. ونلاحظ ثانياً تواتر فعل "صنع" الذي يمر 8 مرات: في سبع منها، الوحش الثاني هو فاعل الفعل. في الإستعمال الثامن، البشر هم الذين يصنعون (بأن يصنعوا صورة للوحش) ولكنهم يأتمرون بأمر الوحش الثاني. الوحش الأول يُلهم، يأمر، يمارس السلطة. وموقع الوحش الثاني هو على مستوى التنفيذ العملي. يدلّ فعل "صنع" على العمل، كما يدلّ على "كلمات". فالوحش الثاني هو وحش "العلاقات العامة" (يدعو الناس للتعبّد للوحش الأول، للسلطة السياسية). هو يتحدّث. ينقل كلاماً. يجادل: حمل الأرض على السجود، خدع سكّان الأرض (آ 11، 14 ب). كان الوحش الأول ذاك المجدّف والمتكلّم بكلام الكبرياء. أما الوحش الثاني فيلهم الأول ويعطيه أن "يتكلّم" (آ 15).
ويتوسّع الكاتب في ثلاثة أعمال يصنعها الوحش الثاني. الأول: يصنع آيات ومعجزات. مثلاً: ينزل ناراً من السماء على الأرض بمشهد من الناس (آ 13). الثاني: صدّقه سكان الأرض فدعاهم ليصنعوا صورة الوحش، ثم جعل هذه الصورة تتحرّك وتتكلّم بحيث يقتل كلُّ من لا يسجد لها. نحن هنا على مستوى السحر وعالم الديانات. الثالث: يضع الوحش الثاني سمة الوحش الأول على اليد أو الجبهة، ومع النتائج الإقتصادية والإجتماعية التي تصدر عنها. من ليس عليه سمة باسم الوحش (من ليس مع السلطة) لا يستطيع أن يبيع ولا أن يشتري. وهكذا يزول كل الذين يعارضون الوحش الأول. ويتم تنظيم الذين هم معه.
نجد في هذا المقطع عبارات متوازية. في آ 12: "يسجدون للوحش الأول". في آ 15: "الذين لا يسجدون لصورة الوحش". في آ 12: "شُفي جرحه المميت". في آ 14: "الذي جرحَه السيفُ وعاش".
نستطيع أن نقسم هذا المقطع كما يلي:
- آ 11- 12: الخدمة التي يقوم بها الوحش في الأيام العادية. هو موظّف ينفّذ الأوامر. هو خادم. يعمل باسم الوحش الأول ويجعل الناس يعبدونه.
- آ 13- 15: الدعاية، الإيديولوجيا، ونقاوة الفكر "الفلسفي" العامل في خدمة السلطة السياسية: يجب إزالة المنشقّين وتحريك الإضطهاد. وتسير الأمور بشكل تدريجي: آيات ومعجزات، صورة تتكلّم، قول "نبوي" يدعو إلى قتل كل من يرفض السجود.
- آ 16-17: السمة التي تحيط بمجمل نشاط الناس: عملهم (اليد اليمنى، فكرهم (الجبهة). إن غابت هذه السمة عنهم، كانت آخرتهم الموت.
في هذا الإطار العام نقدّم الشروح المفصّلة.
ب- الوحش الآخر (13: 11- 12)
"ثم رأيت وحشاً آخر" (آ 11). هو يصعد من الأرض لا من البحر. إذن، مجاله محدود. هو موضع تاريخ البشر. هو العالم ولا سيما آسية الصغرى. هذا الوحش ليس بعظيم كالأول، بل يبدو قريباً من الواقع البشري. له قرنان فقط، وهذا ما يتيح له أن يحاكي (بسخرية) الحمل. ولكن صوته يكشفه. إنه ينطق مثل التنين. إنه ينبثق من التنين. وهكذا يرتبط بعالم الشرّ، شأنه شأن الوحش الأول.
"مارس سلطة الوحش الأول" (آ 12). لماذا جُعل هذا الوحش هنا؟ لكي يجعل الناس يسجدون للوحش الأول. وهو سيعود فيما بعد برفقة الوحش الأول باسم النبي الكذّاب (16: 13؛ 19: 20؛ 20: 10)، نبي الكذب على مثال إبليس. هذا ما يدلّ على الوجهة الدينية لنشاطه الذي يسعى إلى تنمية العبادة للإمبراطور. في هذا المجال، هو يعاكس كل المعاكسة الشاهدين (ف 11) اللذين تتوجّه نبوءتهما نحو الطاعة للمسيح. وهكذا نستطيع أن نقابل بين الله والتنين، بين الحمل والوحش، بين الشاهدين والوحش الثاني أو النبي الكذاب.
من هو هذا الوحش؟ رمزَ الوحشُ الأول إلى سلطة الإمبراطورية. على هذا المستوى سنجد الوحش الثاني. فآسية الصغرى عرفت في القرن الأول المسيحي رغبات شعبية عميقة إلى ديانة حسّية وقريبة من البشر، تجعل الإنسان يلمس لمس اليد واقع الآلهة، تضع التسامي الإلهي في متناول اليد، تنزل على الأرض الإله مع جوقه "السماوي": كل هذه الرغبات قد وجدت تلبية لها في عبادة الإمبراطور. وهكذا يتوزّع تاريخ المقاطعة تظاهرات عديدة، متكرّرة وملحاحة بأن تنمو الهياكل والليتورجيات من أجل عبادة رومة وسيّدها.
فالوحش الثاني هو هذه الروح الدينية الخاصة (في آسية الصغرى) التي تحارب بحرارة من أجل عبادة الإمبراطور. هو هذا الضغط الإجتماعي الذي يمارسه المجتمع كله. إنه يلعب دوراً مغايراً كل المغايرة لدور النبي الحقيقي (الشاهدين)، فيدفع المسيحيين لكي يتشبّهوا بهذا العالم، ويدخلوا دخولاً كاملاً في عالم تسيطر عليه الدولة المؤلّهة (الدولة هي الله).
ج- علامات صورة الوحش (13: 13- 15)
وإذ أراد الوحش الثاني أن يدفع الناس إلى عبادة الوحش الأول، قام بثلاث محاولات: الأولى: "صنع معجزات عظيمة". هذا ما يميّز الأنبياء الكذبة في نهاية الأزمنة. مر 13: 22: "سيقوم مسحاء كذبة وأنبياء كذبة، يأتون بالآيات والخوارق، لكي يضلّوا المختارين لو أمكن" (رج 2 تس 2: 9- 10). الثانية: "تنزل ناراً من السماء". هذا ما فعله إيليا في 1 مل 18: 38؛ 2 مل 1: 10. وهكذا يحاول هذا الوحش أن يقتدي بالشاهدين (11: 5)، فيدلّ على رضى الآلهة عليه وثقة الناس به. الثالثة: "يخدع سكّان الأرض" (12: 9؛ 20: 3، 8، 10) ولا يخدع غيرهم. فخوارقه لا تضلّ إلاّ الذين يحملون سمة الوحش ويسجدون لصورته (19: 20). الوحش الثاني يعمل بمحضر من الوحش الأول (في حضرته). هو يشاركه في شرّه وفي إرادته بأن يُعبد.
"وأمر سكّان الأرض بأن يصنعوا صورة للوحش" (آ 14 ب). إن الوحش الثاني يحرّض سامعيه على رفع تماثيل للإمبراطور تقدّم أمامها الذبائح إكراماً لهذا الوحش (الأول، السلطة) الذي يُولد من جديد رغم الأزمات التي يتعرّض لها، فيبدو أنه غير مائت. سوف نرى مثلاً ترايانس يفرض على المسيحيين أن يقدّموا الذبائح. أمام تماثيله. هذا هو التجديف الأعظم.
"ونال القدرة على أن ينفخ في صورة الوحش" (آ 15). لسنا أمام خداع بسيط، بل أمام شيء متواتر في العالم الذي يحيط بنا. فأخبار الممارسة السحرية التي تتحدّث مراراً عن تماثيل تتحرّك، كانت كثيرة في ذلك الزمان. وانتظر الناس من هذه التماثيل أن تعلن أقوالاً نبوية، أن تشفي المرضى وتلهم الناس. وكل هذا يدلّ على حضور الآلهة وعملهم.
د- سمة الوحش (13: 16- 18)
"يضعون سمة على يدهم" (آ 16). ستلعب هذه السمة دوراً كبيراً في ما يلي من الكتاب (14: 9، 11؛ 16: 2؛ 19: 20؛ 20: 4). إنها مقياس الدينونة الأخيرة. فهي تطبع بطابع حسّي الناس الذين يرفضون أن يسجدوا لله ويتعلّقون بعبادة الأوثان. إنها تقابل الختم الذي به يختم الله مؤمنيه (7: 3-4؛ 9: 4). في الحالتين نحن أمام كتابة واضحة أو عددية لرقم من الأرقام (13: 17 و 14: 1). والعلامة تدلّ على "الشخص" الذي فيه نضع ثقتنا ورجاءنا.
"فلا يقدر أحد أن يشتري" (آ 17). نحن هنا أمام متضمّنات إجتماعية واقتصادية. فعبادة الوحش تتعدّى المجال الشخصي والفردي وتصل إلى الحياة العامة. فكل واحد مُجبر بأن يُعلن إيمانه وإلا كان مواطناً خائناً، فيُخنق على المستوى الإقتصادي والحياتي.
وهكذا نرى أن لا توافق إطلاقاً بين انتماء وانتماء، إنتماء إلى الوحش وانتماء إلى الحمل. لا نستطيع أن نعبد ربّين. فالذي يرفض الخضوع لمجتمع توتاليتاري يستبعده ذاك المجتمع المرتكز على توافق ديني. لأن من رفض هذا التوافق هدم أُسس المجتمع وتوازن الجسم الإجتماعي. فالحياة المهنية والمدنيّة تتوزّعها طقوس دينية تتوجّه إلى الإمبراطور. والويل لمن يتخلّف عنها.
مثل هذا "الإيمان" لا يتوافق مع المسيحية، وهو يحاول أن يمحق الديانة الجديدة، ويعتبر المسيحيين "لا إلهيين" وملحدين. هذا ما نراه اليوم في مجتمعات تغسل دماغ المواطن من المهد إلى اللحد، وتقتل فيه كل شخصية بشرية فيها يختار حياته في خطّ المواهب التي منحه الله إياها.
الوحش الثاني هو "الدعاية" وترويج أفكار الدولة. شكله شكل حمل وديع وهو يريد خيرنا. هو يتملّقنا لكي يخدّرنا. لا يحدّثنا إلاّ عن الحياة والعدالة والسلام. هو يتكلّم لغة الإنجيل، لكن لسانه لسان كذب لا علاقة له بالحقيقة.
بعد هذا، نجد نداء إلى التأمّل (آ 18) كما في آ 9: "وهنا لا بدّ من الحكمة". إن الوحش الثاني يعمل في كل مكان، وإن يكن بشكل غير منظور، لهذا يدعونا يوحنا إلى السهر والتفكير الشخصي لكي ننزع عنه القناع أينما وُجد، لكي نكتشف رقم الوحش ونتعرّف إلى "إسمه" لكي نقاوم سحره.
هذا هو وقت التمييز. هذا هو وقت الحكمة. الحكمة النبوية التي هي موهبة روحية قريبة من الفطنة التي تكشف الألغاز (دا 5: 12). نحن أمام فكّ رموز، وعمليات حسابية: فلعدد الوحش مدلول يجب أن نكتشفه بفضل إصطلاحات ورموز. "هو عدد إنسان" "وعدده 666".
هو عدد إنسان. يعني هو في متناول الإنسان الذي يستطيع أن يفكّ رموزه. فلا نلجأ إلى اصطلاح فائق الطبيعة. وهو عدد يرتبط كانسان، بواقع بشري. يبقى علينا أن نحدّد هذا الإصطلاح ونفكّ لغز هذا العدد. سنجد هنا ثلاث طرق لاكتشاف المعادلة بين الأحرف والأعداد:
* الطريقة الأولى. 666 هو عدد مثلّث. نحصل. عليه حين نجمع كل الأرقام الواقعة بين 1 وعدد معين. مثلاً العدد المثلّث للرقم 8 هو 36 (1+ 2+ 3... 8). والعدد المثلّث للرقم 36 هو 666 (1+ 2... 36). إذن، عدد 666 يعود إلى 36 ثم إلى 8. وهكذا نكون أمام الملك الثامن. فإذا تفحّصنا لائحة الأباطرة الرومان (أوغسطس، طيباريوس، كاليغولا، كلوديوس، نيرون، فسباسيانص، تيطس، دوميسيانس، نرفا، ترايانى) يكون الثامن هو دوميسيانس (81- 96 ب م). إذن نقرأ إسم الإمبراطور دوميسيانس الذي اندلع في أيامه اضطهاد عنيف ضدّ المسيحيين في آسية الصغرى، والذي نفى يوحنا إلى جزيرة بطمس.
* الطريقة الثانية، طريقة الجامتريا وهو أسلوب مؤسّس على القيمة العددية لحروف الأبجدية. فالعبرية واليونانية (والعربية والسريانية...) لا تمتلكان الأعداد. لهذا تلجأان إلى الحروف. وهكذا يكون لكل لفظة قيمة عددية. مثلاً، نقرأ على أحد جدران بومباي في إيطاليا هذه الكتابة: "أحبّ تلك التي اسمها 545. ولكن هل نأخذ بالحرف العبري أم بالحرف اليوناني؟ فإذا قرأنا رقم 666 مع الحرف اليوناني، نجد ما وجده القديس إيريناوس: لاتينوس (أو اللاتيني، أي رومة)، تيتان (أو التنين). وإذا أخذنا الأحرف العبرية كان لنا ق ص ر- ن ر و ن (666) أي: قيصر نيرون. وإن كتبنا نيرون من دون النون (ن ر و) نحصل على رقم 616 الذي نجده في بعض المخطوطات.
* الطريقة الثالثة تتوقّف عند الرقم في ذاته، وما فيه من رموز. هناك 6 مكرّرة ثلاث مرات. هو الشرّ والنفاق والجحود مكرّرا. في الأقوال السيبلية نقرأ أن إسم الله مؤلّف من 888، فيدلّ على اللاهوت أو على "ياسوس" (يسوع). إن 666 (3 مرّات الرقم 6) يبُرز الطابع الشيطاني لواقع أو لشخص ما مبرزاً رباطه مع الرقم 6 الذي يدلّ على العدو. إن رقم 6 يتوق إلى رقم 7 دون أن يدركه. إنّ إبليس يحاول أن يحاكي الله دون أن ينجح في ذلك.
وهكذا يذهب ف 13 إلى عمق الأمور: فالخطر الحقيقي للكنيسة هو البنية السياسية الوثنية التي تسير حتى المطلق، التي تريد أن تبعد الله عن الأرض لتحلّ محلّه. إن إرادة القوة هذه هي هائلة وقاتلة، ولكن نهايتها الفشل.

خاتمة
إن النظرة المسيحية إلى الإمبراطورية الرومانية قد عرفت تطوّراً طويلاً وقاسيا من روم 13: 1- 4 إلى رؤ 13. لقد عرفت المسيحية الأولى أحداثاً مُرّة وخيبات أمل عديدة، فسمّت في النهاية السلطة السياسية "الأنتيكرست" المناوىء للمسيح.
يقدّم لنا ف 12-13 مثلّثاً شيطانياً: التنين (12: 1 ي)، الوحش الأولى أو وحش البحر أو السلطة السياسية (13: 1 ي). الوحش الثاني أو وحش الأرض، أو السلطة الإيديولوجية (13: 11 ي). مع الوحش الأول يمارس التنين سلطانه. مع الوحش الثاني يقوم بعمل الدعاية. إن سرّ هذه القوّة الشيطانية يجد تفسيره في عناد من غلب فحاول أن يجتذب إلى الشرّ أكبر قسم من الكون.
لم يحتفظ وحش البحر بأثر الجراح بعد أن شُفي من ضربة السيف: إنه يرمز إلى القوّة الكاملة (لم ينقصها شيء) لذاك الذي يمارس سلطاناً سياسياً على العالم. ووحش الأرض هو النبيّ البليغ، ومنظّم الدعاية، و"اللاهوتي" الذي يعمل في خدمة إبليس. فهو بخطبه الرنّانة يسعى إلى أن يدعو العالم "إلى الخلاص" (كما يراه هو). وهو أيضاً منظّم الإحتفالات العبادية إكراماً للوحش وبالتالي للتنين. هو شخص قوي وصاحب ذكاء وحيلة. ويظهر في عظمة معجزاته وعلمه وبلاغته ليجتذب الناس إلى الشرّ اللابس لباس الخير. قال القديس بولس في 2 كور 11: 14- 15: "إن الشيطان يتنكّر بهيئة ملاك نور، فليس بغريب أن يتزيّى خدّامه بزيّ خدّام البرّ. إلا أن عاقبتهم ستكون على وفق أعمالهم".
إن الإحتفال الليتورجي (شفي الجرح... فعبد الناس الوحش) هو محاكاة ساخرة لليتورجية يوم الجمعة العظيمة ويوم أحد القيامة. وصورة الشيطان المقدّمة في شعائر العبادة هي صورة ساخرة عن الحمل الذبيح الذي صُلب وقام. الأنتيكرست هو مسيح كاذب. إنه يتنكّر بهيئة المسيح وكنيسته. ويعارض بوعي كامل بين ليتورجيا شيطانية وليتورجيا مسيحاوية. "إحذروا الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان وهم في داخلهم ذئاب خاطفة" (مت 7: 15).
ماذا ينتظر المسيحيون في مثل هذا الوضع؟ في المرحلة الأخيرة من العمل الشيطاني، هناك علامة واحدة تدلّ على أمانتهم للمسيح: هي شهادة الدم. فالمسيح ينتصر بآلامه وموته. ينتصر على الصليب وينتصر في الكنيسة وينتصر فينا. فيجد موته امتداداً في موتنا لتكون قيامتنا امتداداً لقيامته ومجده

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM