اختبار العنف درب إلى الرقّة والسلام "...

اختبار العنف درب إلى الرقّة والسلام

"... وعرف آدم حوّاء امرأته فحملت وولدت قايين... ثمّ عادت فولدت أخاه هابيل" (تك 4: 1- 2). وكبر الولدان واختار كلّ منهما مهنة مختلفة عن الآخر. "فكان هابيل راعي غنم، وأخوه يحرث الأرض" (تك 4: 2). "وكان بعد أيّام أن قدّم قايين من ثمر الأرض تقدمة للربّ. وقدّم هابيل أيضًا شيئًا من أبكار غنمه ومن دهنها" (تك 4: 3- 4). قبلت قرابين الواحد وهي علامة اختياره ولم تقبل قرابين الآخر. "فنظر الربّ إلى هابيل وتقدمته، وإلى قايين وتقدمته لم ينظُر" (تك 4: 4- 5). ودعا قايين أخاه هابيل إلى الذهاب معه إلى الحقل، "فلمّا كانا في الحقل، وثب قايين على هابيل أخيه وقتله" (تك 4: 8)..
منذ الصفحات الأولى للكتاب المقدّس، نكتشف أنّ العنف يسيطر على حياة البشر وتصرّفاتهم. فعندما يثور الإنسان أو يحسد أخاه أو يحقد عليه ولا يعود قادرًا على ضبط نفسه، عندئذٍ يظهر العنف كقوّة سلبيّة تفقد صاحبها السيطرة على الذات، فينتقم بشكل مأساويّ، ولا يلبث الإنسان أن يصبح هو نفسه ضحيّة عنفه وتهوّره.
من هو الرجل أو المرأة أو الطفل الذي لم يختبر العنف في حياته يومًا؟ من منّا لم يعنّف أحدًا ولم يعنّفه أحد؟ وماذا يخبرنا الكتاب المقدّس عن العنف الذي يسيطر على الخليقة كلّها؟
تعالوا، في خطوة أولى نتصفّح البيبليا متوقّفين على المشاهد التي تتطرّق إلى موضوع العنف. ولن نتوقّف فقط عند العنف البيبليّ في العهد القديم، بل ندخل أيضًا إلى عالم العهد الجديد. فالعنف مسألة تطال العهدين معًا. بعدها ننتقل إلى البحث عن أصل العنف وخاتمته غير المنظورة. وأخيرًا، نتوقّف عند موقف يسوع من الشريعة، التي تهدف إلى وضع حدّ للعنف.

1. العهد القديم:
نعرف أخبارًا كثيرة عن العنف في العهد القديم. هناك جرائم فرديّة: قايين يقتل أخاه هابيل. الملك داود يقتل أوريّا الحثّي ليتّخذ أرملته زوجة له. الملك آحاب وزوجته إيزابيل يقتلان نابوت اليزرعيليّ بالمكر والحيلة ليستوليا على أرضه. منسّى يهرق دماء الأنبياء في شوارع أورشليم. وهناك جرائم جماعيّة: يضطهد الفرعون بني إسرائيل فيقتل الأطفال الأبرياء المولودين حديثًا. يتنبّأ النبيّ عاموس بنفي الشعوب وإحراق المدن بالنار. يأمر داود بقتل سبعة أبرياء من ذرّيّة شاول إرضاءً للجبعونيّين.
ولا ننسى تلك الجرائم العديدة التي ارتُكبت باسم الله وتتميمًا لإرادته القدّوسة. وما حادثة الاستيلاء على بلاد كنعان سوى الحدث الأمثل في هذا المجال. ففي ختام التوصيات لما دُعي بالحرب المقدّسة، نقرأ في سفر التثنية ما يلي: "وأمّا مدن هؤلاء الأمم التي يعطيكم إيّاها الربّ إلهكم ملكًا لكم، فلا تبقوا أحدًا منها حيًّا بل تُحلَّلون إبادتهم، وهم الحثّيّون والأموريّون والكنعانيّون والفرّزيّون والحوّيّون، كما أمركم الربّ إلهكم..." (02: 61ي)
تغيّرت هذه النظرة، ابتداءً من القرن الثاني قبل المسيح. فلم يعد هناك عمليّة غزو واستيلاء بل أصبحت المعارك والحروب دفاعًا عن الدين والذات. يجب المحافظة على دين الآباء الذي يحاول أنطيوخُس إبيفانيوس، خليفة الإسكندر، القضاء عليه. عندئذٍ، جاوب شعب إسرائيل، الأمين لشريعته ولإلهه، بطريقتين: إمّا بالاستشهاد وإمّا بقيام حرب ضروس، تحت قيادة الأخوة المكابيّين. وما عمليّة الاستشهاد سوى عمل بطوليّ أقدم عليه أبناء إسرائيل الأمينين لشريعة آبائهم. نذكر هنا مقتل الأخوة السبعة مع أمّهم (2مك 7)، الذين أقبلوا إلى الموت برباطة جأش وبطولة لا مثيل لهما في تاريخ شعب الله، على أن لا يخونوا شريعة الله، وإن لم يبلغوا إلى درجة الغفران فيغفروا للملك والجلاّدين، كما فعل اسطفانُس.
وفي عهد الرسل، وبعدما انتصر تيطُس الإمبراطور على ثورة اليهود، اعترف الرومان أنّهم لم يلتقوا قطّ أعداءً بهذا العناد.
لماذا يمرّ تاريخ الخلاص بهذه الدرب الصعبة؟ لأنّ الخلاص هو مسيرة يمكن اتّباعها من عصر إلى عصر، تتكرّر بدايتها دائمًا في كلّ حقبة. تحمل البيبليا الشكّ، ولكنّ الشكّ يقود الإنسان إلى الحقّ واليقين. والبيبليا، بإظهارها العنف البشريّ كما هو، لا سيّما لدى أولئك الذين ينقذهم الله، تزيل عن هذا العنف هدفه الأساسيّ. فينشأ رفق ولين من هذا الحقل هما الأكثر تصديقًا من غيرهما، إذ لا يمكن إدراجهما في باب الخنوع أو الخضوع.

2. قصّة يسوع والعنف الذي ولّده
يجب أن نلفت النظر أن العنف لم يمّح في قصّة يسوع. لا نذكر هنا فقط العنف الذي أخذ يتفاقم ضدّ يسوع إلى أن أودى به إلى الموت على الصليب. نذكر العنف الذي أحدثه حضوره وتعليمه. أحد المفاتيح للعنف في الأناجيل، بحسب الكتّاب، هو سوء فهم معنى الملكوت. فمن يتكلّم عن ملكوت يتكلّم عن ملك، ومن يتكلّم عن ملك، يتكلّم عن قائد جيش. هناك توتّر أخذ يتفاقم بين الرجاء الذي تولّد، عند إعلان الملكوت، لدى شعب خالٍ من سيادته منذ زمن بعيد، وبين ضرورة تخلّي هذا الشعب عن العودة إلى أفكار تقليديّة متعلّقة بمفهوم الملكوت، لأنّ الملكوت الذي ينادى به هو ملكوت سماويّ.
فالمحيط المقرّب من يسوع لم يفهم معنى الآية "البسطاء يرثون الأرض، والمساكين بالروح لهم ملكوت السماوات". وظهر تفكير أسرة يسوع، هي أيضًا، من هذا المنطلق، فلم يفهموا تصرّف يسوع واعتبروا أنّه "فقد صوابه" (مر 3: 21). وانقسم الرأي حول يسوع بين الذين قبلوه والذين رفضوه، "فتخلّى عنه من تلك الساعة كثير من تلاميذه وانقطعوا عن مصاحبته، فقال يسوع لتلاميذه الاثني عشر: وأنتم، أما تريدون أن تتركوني مثلهم؟" (يو 6: 66- 67). وأخيرًا، عند الصليب، أخذ الناس يهزأون به، وقد علّقت على أعلى الخشبة آية مكتوب عليها: "ملك اليهود". ولا ننسى مشهد تلميذي عمّاوس، اللذين التقيا بيسوع القائم من بين الأموات، وكانوا يقولون له: "وكنّا نأمل أن يكون هو الذي يخلّص إسرائيل" (لو 24: 21). وهنا يذكّرنا لوقا بأناجيل طفولة يسوع، فيوم ختانة الطفل يوحنّا، هتف والده زكريّا قائلاً: "أقام لنا مخلّصًا قديرًا، خلاصًا لنا من أعدائنا، ومن أيدي جميع مبغضينا" (لو 1: 71). وهذا النشيد هو صدى لنشيد آخر، رفعته مريم يوم زيارتها نسيبتها أليصابات: "أنزل الجبابرة عن عروشهم ورفع المتّضعين" (لو 1: 52).
لم يجمع يسوع مناصرين حوله لو لم يكن لدى هؤلاء هذا الأمل المنتظر. وبالرغم من ذلك، نرى يسوع لم يستعمل العنف يومًا في الأناجيل ما عدا تلك المرّة التي طرد فيها الباعة من الهيكل، "فقلب مناضد الصيارفة ومقاعد باعة الحمام" (مت 21: 12). واستغلّ الفرّيسيّون هذه الحادثة ليحاكموه ويحكموا عليه بالموت. وفي المقابل، نجد كلام يسوع ليس فقط جازمًا، "ليكن كلامكم نعم نعم، أو لا لا" (مت 5: 37)، بل عنيفًا أيضًا. فعندما اكتشف يسوع أنّ شعبه لم يفهم معنى دعوته إلى التوبة لأجل ملكوت سماويّ، منع بقساوة الذين شفاهم من أن يخبروا أحدًا بشيء: "فانتهره يسوع وصرفه، بعدما قال له: إيّاك أن تخبر أحدًا بشيء... ولكنّ الرجلّ انصرف وأخذ يذيع الخبر وينشره في كلّ مكان." (مر 1: 43- 45). ولم يكتفِ بذلك تجاه المرضى، بل انتهر أيضًا التلميذ الأوّل أي بطرس قائلاً له: "ابتعد عنّي يا شيطان" (مت 16: 23)، عندما حاول بطرس أن يثنيه عن عزمه بتقديم ذاته ذبيحة على الصليب قائلاً له: "لا سمح الله، يا سيّد، لن تلقى هذا المصير" (مت 16: 22). ألم يقل يسوع في موضع آخر، "يصعب على الغني أن يدخل ملكوت السماوات"؟ وزاد قائلاً: "بل أقول لكم: مرور الجمل في ثقب الإبرة أسهل من دخول الغنيّ ملكوت الله." (مت 19: 23- 24). وعند كلامه على الوصايا قال: "إذا جعلتك يدك اليمنى تخطأ، فاقطعها وألقها عنك، لأنّه خير لك أن تفقد عضوًا من أعضائك ولا يذهب جسدك كلّه إلى جهنّم" (مت 5: 30).
من ناحية أخرى، يتكلّم يسوع أيضًا على اللاعنف، فنقرأ في عظة الجبل: "طوبى للمساكين بالروح، طوبى للساعين إلى السلام، طوبى للمحزونين..." (مت 5) ويختم كلامه فيقول: "لا تقاوموا الشرّير" (مت 5: 39).
هذا بالنسبة لكلام يسوع وتعليمه، أمّا بالنسبة لتصرّفه، ولا سيّما بإقباله إلى الموت على الصليب، فالقدّيس بولس يعتبر الصليب "حماقة عند الذين يسلكون طريق الهلاك" (1كور 1: 18). بينما الأناجيل تعتبر الصليب فُرض على يسوع بسبب الناس الخاطئين، وإن أقبل يسوع إليه بكلّ حريّة واندفاع وطاعة لأبيه السماويّ، بل حبًّا للبشر. وما صلب المسيح سوى نقطة من بحر: يخبرنا المؤرّخ اليهوديّ يوسف فلافيوس أن ثورة قام بها اليهود ضدّ السلطة الرومانيّة أودت إلى صلب ألفين من اليهود. فيعتبر المسيح الذي أقبل إلى الموت بإرادته وبطاعته لمن أرسله، مشارك في هذا العنف الجماعيّ.
وهكذا نجد أنّ البيبليا تضمّ حوادث عنف كثيرة، منذ أيّام القضاة ويشوع بن نون إلى أقسى عنف تحمّله مسيح إسرائيل. في تحليل أوّل، ترسم لنا البيبليا في مجال العنف، خطًا بين متناقضين: بين ممارسة العنف وبين قبول العنف. وتركّز البيبليا على الإفراط في ممارسة هذا العنف. من جهة، نجد إفراطًا في عدوانيّة، يقابله إفراطًا في القبول بمحبّة. ألا يمكننا أن نقول إنّ هناك عنفًا واحدًا بوجهين، عنف فساد وعنف توبة؟

3. أخبار البدايات
كلّما اقتربنا من غرض معيّن، نكتشف تعقيداته، ونكتشف فيه مفاجآت. من هنا، يجب أن نقرّ أنّ البيبليا تستعمل طريقة الألغاز في تعابيرها لإيصال فكرة ما، أي ما نظنّه تفاصيل هامشيّة يمكن أن يكون ذا أهميّة كبرى، ولا سيّما في ما يختصّ بأخبار البدايات التي، بطابعها الغامض، يجعلها قريبة من الأساطير. لذلك لا يمكننا أن نُسقط شيئًا من أخبار البدايات، بل يجب أن نكتشف ما تخفيه من حقائق ومدلولات لا تظهر للعين المجرّدة.
هناك أوضاع لنماذج متعدّدة أصليّة للعنف في البيبليا، هي التي قادت العالم إلى الطوفان، أيّام نوح (تك 6: 13): "قال الله لنوح: جاءت نهاية كلّ بشر، فالأرض امتلأت عنفًا على أيديهم". نتعجّب هنا أوّلاً، من هذه النهاية القريبة جدًّا من البداية، فليس هناك سوى أجيال عشرة بين بداية التاريخ البشريّ ومجيء الطوفان. وثانيًا، يرى التقليد الكنسيّ في هذه النهاية المبكرة استباقًا للنهاية السابقة لأوانها أي النهاية الأخيرة: "كما حدث في أيّام نوح كذلك يحدث عند مجيء ابن الإنسان..." (مت 24: 37- 39)، هي يوم القيامة. وما يدهشنا هو ذلك النظام الذي تسلّمه نوح للعالم كلّه، نظام البداية الثانية.
نقرأ في حادثة الطوفان، أنّ الله أعطى الإنسان أن يأكل من جميع حيوانات الأرض وطيور السماء، وجميع أسماك البحر. أعطاهم كلّ شيء. ولكنّ لحمًا بدمه لم يسمح لهم بأكله، لأنّ حياة كلّ حيّ بدمه. (تك 9: 2-4). هذا النظام الجديد للعالم قريب جدًّا من النظام الأوّل الذي فيه سمح الله للإنسان أن يأكل من كلّ شجر الجنّة ما عدا شجرة معرفة الخير والشرّ. وأقام الله عهدًا أوّل مع نوح وبنيه بأنّه "لن ينقرض ثانية بمياه طوفان أي جسد حيّ ولن يكون طوفان آخر لخراب الأرض" (تك 9: 11). نستخلص نوعًا من التوازن: هناك شيء أعطي بسبب العنف، وشيء آخر استردّ للسبب ذاته. وما استردّ هو رمزيّ: فالحساب الذي يطلبه الله عن الدماء المسفوكة من كلّ حيوان أو إنسان ليس سوى رسالة بل حكمة يطلقها الله: "من سفك دم الإنسان يسفك الإنسان دمه" (تك 9: 6). هذه الحكمة تقدّم طابع التوازن المماثل الذي يدشّن عملاً تعويضيًّا، لضبط العنف والحدّ منه. لكنّ هذا العنف يظهر هكذا منذ بداية النظام الجديد عندما أعلن الله: "سيخافكم ويرهبكم جميع حيوانات الأرض وطيور السماء..." (تك 9: 2).
ما يميّز هذا النظام الجديد هو الاتّفاق على مسلك العنف. كعنوان للبداية، صمّم الكاتب الملهم هذا الاتّفاق لينير ويبني ما يتبع. شرّع هذا الاتّفاق بسلطان إلهيّ. هناك رباط بين علاقة الإنسان بالحيوان وبين العلاقات الإنسانيّة، لا سيّما العنيفة منها، التي ستتجلّى على مرّ التاريخ. فها هي بذور الحروب الكنعانيّة بدأت تنبت، وهي مشروعة لأنّ الله أمر بها. في روح التقليد الذي ينقل شريعة نوح، نجد تدشينًا انتقاديًّا إلى ما سيجري من التعتيم للعدالة الكاملة، في مجمل أحداث البيبليا. إنّه يقرّ، بتدهور المقدرة الإنسانية على تحقيق العدالة. لم تعد نظرة نوح وبنيه تسمح له أن يرى صورة الله كما هي في الواقع. لكن، فقط من خلال الصورة الوحيدة التي يستطيع الإنسان أن يسجّلها. لذلك نجد أنّ الكاتب يعرف جيّدًا أنّ الصورة المعطاة لله تخفي وراءها صورة أكثر دقّة وصحّة. هو ذاته يهيّئنا إلى أنّ مشاهد العنف المنسوبة لله في التاريخ المقدّس لا تعكس صورته إلاّ من خلال عنف الإنسان. والكاتب الملهم نفسه الذي يعطينا هذه النظرة، يبرهن عنها من خلال ما دوّن في تك 1، الذي يجب أن يدخل البيبليا يومًا في عالم من اللطافة والرقّة.

4. الرباط بين البدايتين
إذن، هناك بداية جديدة مع نوح، بل هناك أساس يستعيد ما هو أكثر تأسيسًا، نجده في البداية الأولى، وهو قصّة الخلق في الفصل الأوّل من سفر التكوين، ويعود إلى المرجع ذاته أي التقليد الكهنوتيّ. هذا الرباط بين البدايتين سيكون مفتاح البيبليا كلّها. في كلا المرجعين تك 1 وتك 9، نجد أنّ للعنف مكانًا مهمًّا. ففي تك 1 نقرأ أنّ الإنسان مخلوق على صورة الله، وهذا يمنحه نظامًا أوّل (نظام آدم سابق للنظام المدعو نظام نوح): "ها أنا أعطيتكم كلّ عشب يبزر بزرًا على وجه الأرض كلّها، وكلّ شجر يحمل ثمرًا فيه بزر، هذا يكون لكم طعامًا. أمّا جميع وحوش الأرض ... فأعطيها كلّ عشب أخضر طعامًا" (تك 1: 29- 30). هناك تناقض واضح بين النظام الأوّل والنظام الثاني. في النظام الأوّل، ليس على الحيوانات أن ترهب الإنسان، لأنّ الإنسان لا يقدم إلى قتلها لكي يأكل. فإذا تسلّط الإنسان على الحيوان فتسلّطه بلا عنف بل هو تسلّط مسؤول فيعطي كلّ حيوان اسمًا له. فهو على "صورة الله" لأنّه على مثاله سلّطه الله على الأرض كلّها إذ كان مسلّطًا عليها قبل أن يخلق الإنسان. الإنسان على صورة الله يعني أنّه ليس على صورة الحيوان بل هو متميّز عنه ويفوقه في الإرادة والإدراك. فهو مؤسّس على الرقّة والسلام: مسلّط على الأرض، أي إنّه مسؤول عن السلام فيها.
نلاحظ هنا، أنّ هذه الحالة الأولى لا يمكنها أن تدعى "حالة طبيعيّة"، ولا يمكن أن تكون اصطلاحًا عقليًّا بين البشر. يمكننا أن نعطي هذه الحالة اسم "حالة الخلق"، أي أنّها معطاة لنا كموضوع إيمانيّ: ليس واضحًا أن نكون صورة الله وليس واضحًا أيضًا أن تمارس هذه الصورة سلطتها بالرقّة والسلام. وبالرغم من ذلك، نجد أن هذا النظام هو أقدم من النظام الثاني، وهو الأقرب من جوهرنا. أن نكتشف ذلك بواسطة الإيمان يعني أن نكتشف ذواتنا بطريقة أعمق ونكتشف أن عنفنا ناتج عن تشويه للصورة الإلهيّة، دون أن يدمّرها. إذا كانت الصورة الصالحة هي التي أعطانا الله إيّاها فهذا يعني أن الرقّة ليست هي اللاعنف بل أنّ العنف هو اللارقّة، وهذا ما يبدّل كلّ المفهوم الفلسفيّ، كلّ نظريّة حول العنف واللاعنف. وهنا نكتشف أنّ هذا الرباط بين طوفان نوح والطوفان النهائيّ مال عن دربه برباط آخر، ينطلق هذا الرباط أوّلاً من السلام ليبلغ في النهاية الأخيرة إلى السلام.
بعض الأحداث حول السلام النهائيّ تؤكّد شرحنا هذا عن البداية. هكذا تكلّم الله مع هوشع، في القرن الثامن (حقبة سابقة لكتابة تك 1): "وأقطع عهدًا معهم في ذلك اليوم مع وحش البريّة وطيور السماء وزحّافات الأرض، وأكسر القوس والسيف وأدوات الحرب من الأرض وأجعلها تنام في أمان" (هو 2: 20). وتأتي الرؤى لتثبّت هذه النظريّة: فالأمم المتصارعة متمثّلة بحيوانات عظيمة مفترسة، وابن الإنسان الذي أعطي سلطانًا ومجدًا وملكًا، هو يأتي لينتصر عليها ويجعلها تعبده. وابن الإنسان هذا يمثّل شعب قدّيسي الله الذين سيكون ملكهم ملكًا أبديًّا. (دا 7)
اتّخذ يسوع دور ابن الإنسان عندما استعمل هذا التعبير ليقصد به مخلّص الأزمنة الأخيرة. وهكذا يندرج يسوع في سياق الفصول الأولى من سفر التكوين ويصلح "حالة الخلق".
وهكذا تكتمل صورتنا حول الخطين المنحنيين: ينتهي العنف كما بدأ، ويصبح لا وجود له في نهاية الأزمنة، بالرغم من طغيانه على مجمل التاريخ المنظور. تأتي الرقّة بعد العنف لأنّها كانت قبله، ولكنّ هذه الرقّة تظهر من خلال الإيمان، في بداية التاريخ وفي النهاية حيث يتجلّى ابن الإنسان منتصرًا على الشرّ والعنف. وليس هذا كلّ شيء فالرقّة الأخيرة تتخطّى إلى أقصى حدّ الرقّة الموجودة في البداية. إنّها تقوم بعمل أكبر من إصلاح صورة الله. فالله الذي تحمّل عنف الإنسان لم يستطع أن يمحوه إلا عندما أتى لا ليحاكمه بل ليتغلّب عليه. فمن خلال العنف المغفور نجد رقّة أكبر، إلى حدّ الذهول، لا سيّما عندما يكون ابن الله نفسه هو الذي يحمله.

5. يسوع والشريعة
هذه النظرة ليست تفاؤليّة، لأنّها لا تشجّع أيّ خداع حول استمراريّة العنف أو خطورته. وهي ليست إنهزاميّة كما يمكن أن تتصوّره صورة المنحني الذي يتجاوز تاريخ الطوفان الأوّلي إلى الطوفان النهائيّ، لأنّها تدلّ إلى العبور بواسطة صليب المسيح الذي به تمّ الانتصار الفريد على العنف بالمحبّة. هذه الوسيلة في الانتصار على العنف لم تظهر فجأة: فالأناجيل تتوافق في التعليم أنّ الموت المؤلم الذي قاساه ابن الإنسان أعلنت عنه الكتب المقدّسة، وربطت الأناجيل بين تعبير "ابن الإنسان" المنتصر على الشعوب المهيّأة للحرب على الحيوانات المفترسة (دا 7)، وبين النبوءة التي تتكلّم عن "العبد المتألّم" (أش 52: 13- 53: 12). والمسيح نفسه يحضّر تلاميذه إلى هذا الموت، مستندًا إلى ما جاء في الكتب. لمّح المسيح إلى ذلك أكثر من مرّة وأعطى تلاميذه علامات كثيرة عن تلك النهاية. فلا وسيلة أمامنا لكي يكلّمنا صليب المسيح، إلاّ إذا شرحه المسيح بحياته كلّها، بواسطة تعليمه وعلى مراحل هذا التعليم.
وهذا التعليم يعيد التاريخ إلى هاتين البدايتين، ما قبل وما بعد الطوفان. يعلن المسيح عن شريعة حيث مبدأ الاتّزان يشبه عن قريب مبدأ شريعة نوح. فحين يتكلّم عن العنف أو عدمه، يستند إلى شريعة العين بالعين والسنّ بالسنّ التي تتشارك مع شريعة نوح التي هي حلّ وسط. "قيل لكم: "العين بالعين والسنّ بالسنّ. أمّا أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشرّير" (مت 5: 38 ي). نجد هناك، في قلب موضوع شريعة العين بالعين أنّ تلك الشريعة لها هدف معيّن هو قمع العنف بالحدّ منه بواسطة مبدأ متّزن. فقلّة منّا من قلعت سنّه يكتفي بقلع سنّ عدوّه. لا تمارس تلك القاعدة دون محكمة تجبر ذلك. ونحن نعلم أنّ محاكم اليوم كما في الأمس، تستند إلى خطّ معتدل بين العقوبة المفروضة وبين الأضرار المسبّبة. فشريعة العين بالعين وشريعة نوح لهما هذا الشيء الموحّد: هناك شيء سلّم إلى العنف، وهناك شيء آخر يحدّ منه. بعدما قال يسوع أنّه لم يأتِ لينقض الشريعة بل ليكمّلها (مت 5: 17)، أعلن عن عدالة أخرى، عدالة الارتقاء: "إن كانت تقواكم (البرّ - العدالة) لا تفوق تقوى معلّمي الشريعة والفرّيسيّين، لن تدخلوا ملكوت السماوات" (مت 5: 20).
لا نتطرّق فقط إلى شريعة سيناء في عظة الجبل، لكن إلى مبدأ الاعتدال بين قوّة "تيّار" معيّن وقوّة "سدّ" مشترك لكلّ الشرائع. ويسوع الذي لم ينقض الشريعة، لم يطعن بالمحاكم، ولم يحلّ الشرطة ولم يقفل السجون: "وإذا خاصمك أحد، فسارع إلى إرضائه ما دمت معه في الطريق، لئلاّ يسلّمك الخصم إلى القاضي والقاضي إلى الشرطيّ فتلقى في السجن" (مت 5: 25 ي). وراح إلى أبعد من ذلك: "من أراد أن يخاصمك ليأخذ ثوبك فاترك له رداءك أيضًا". (5: 40)
كلّ هذه الأوامر أو الأحكام (لا تقاوم الشرّير، من ضربك على خدّك در له الآخر، ...) التي تجتمع في عظة واحدة، يجب أن نسمعها جيّدًا لنكتشف عظمة سلطتها وقوّة انتشارها. ثمّ يجب عدم الوقوع في الغلط لما تفرضه. "كان يتكلّم كمن له سلطان" (7: 29) وهذا ما صدم الجموع. ومن الخطأ أن نرى في هذا المجال تلألؤًا لأيّ تحريض في الاختيار لنمط حياة أكثر فرضًا أو لفتًا للنظر. "كونوا كاملين" (5: 48) فالكلمة ملقاة هنا، ولكنّنا لا ننتظر أن نرى الكمال المعطى كمبدأ حيث عدم تطبيقه يؤدّي إلى السقوط. فمن يسمع ولا يضع ذلك موضع التنفيذ يقول يسوع مثل بنّاء بنى بيته على الرمل... (مت 7: 27) فالخيار إمّا الوقوع في كارثة وإمّا وضع عظة الجبل موضع التنفيذ. يوجد هنا ثورة بمعنى أنّه عودة إلى مخطّط عرض القانون. في السابق، كما في التثنية (فصل 30)، تضع الشريعة خطًّا للمشاركة: الحياة لمن يسير بموجبها والموت لمن يتجاوزها. مع يسوع، الشريعة القديمة، وكذلك هذا الخيار، محفوظة ولكن لتفصل بطريقة أخرى. إنّها تفصل بين تصرّفين: بما أنّها معطاة، ليس هناك من خيار سوى الخضوع لما تفرضه أو تخطّيه. فالخضوع لما تفرضه يعني القضاء على الذات (تدمير الذات)، وتخطّيه ليس له من نهاية لأنّه يقود إلى الحياة. إذا أبعدت هذه النظرة إلى التوازن، لا يعود الموت عقوبة المخالِف لكن النهاية المنطقيّة لعنفه، ولا تعود الحياة مكافأة على المحبّة فقط، بل هي الحقيقة في ملئها. فالكلمات الأخيرة من عظة الجبل: "وكان سقوطه عظيمًا" تجعلنا نفهم أنّ تعليم يسوع، لا يعني فقط مثالاً مقدّمًا إلى النخبة، بل يركّز أيضًا على أنّ هذا التعليم هو الطريق الوحيد والأوحد الذي يقود الإنسان وأهل بيته إلى الحياة، وأهل البيت هم العالم، الذي تسكنه الإنسانيّة كلّها. إذن تعليم المسيح هو أكثر من مثال. فالإنسانيّة المرسلة إليها هذه الرسالة، المتطرّفة إذا أردنا، هي شرط لا بدّ منه للخلاص، لأنّ الإنسانيّة مدعوّة لتعيش هذا التطرّف في المحبّة والرقّة إلى أقصى حدّ. بعض الشهود فهموا دائمًا هذا، لكنّ السنوات التي نعيش فيها هي تحوّل تاريخيّ بسبب الوضوح الحديث الذي تحمله: فالعظة على الجبل تعني ما يجب أن نعيشه معًا وجميعًا، تحت طائلة الفناء معًا. يسوع يوقّع ويدشّن التطوّر التاريخيّ، هو الذي لم يأتِ "ليحمل السلام بل السيف" (مت 10: 34)، سيف الشريعة الجديدة الذي أتى يسوع ليكشفه.
التأثير (الصدمة) الذي أحدثته كلماته يمكن أن يقود إلى عدم الانتباه إلى إحدى الأوجه غير المنوّه عنها. هذه الكلمات تدلّ إلى وجهة معيّنة، وتخفي نهايتها. من الملاحظ، وهي المتطرّفة، أنّها لا تفرض على التلميذ أن يبذل حياته. أن يدير خدّه لمن يضربه، لا تقصد شخصًا يريد القتل. هي وجه من الاعتدال. وحده الاعتدال يمكن أن يؤكّد بلوغ النهاية القصوى التي يجب المضي إليها.
نعود إلى القول إنّ ما يرمز إليه كلام يسوع لا يمكن أن يتوقّف عند الشريعة، دون أن يستفيد منها ليحدّد ما يفرضه، فيبرّر نفسه بقوله: "لم أرتكب الفحشاء"، ولا بقوله: "من يظنّ أنّه قادر أن يتوقّف هنا يهوي إلى عنف أكبر. من يمضِ إلى الأبعد لا يعرف أين يصل". فالإنسان، ولا سيّما المجتمع، ليس له من خيار سوى وجهتين اثنتين - تصرّف واحد بهدف مختلف - هما المحبّة التي تنمي والكراهية التي تدمّر. لهذا السبب أحبّ أن أتكلّم عن عنفين، الفساد أو الارتداد (التوبة). بشكل خاصّ، عندما نتكلّم عن المجتمع، لا يمكن أن نقف جامدين أمام هذين النقيضين، ولو كان المجتمع يستغل الفرصة من الشريعة ليبرّر أعماله.
بصريح العبارة، إحدى الطرق التي قام بها يسوع لكي لا ينقض الشريعة المعطاة للأقدمين، هي أنّه لم يستبدلها بشريعة أخرى. فما يريد أن يوصله كلام يسوع الذي لا يستند فقط إلى الشريعة القديمة والدائمة، لا يمكنه أن يتوقّف عند كلام المسيح ذاته كما يتوقّف عند شريعة. من المستحيل أن نصف بالشريعة مجموعة ما يفرضه يسوع في عظته على الجبل - مثل أعطاء الخدّ الأخر، وقلع العين - وغيرها: هي مفهومة بمعنى تنفي كلّ تفسير حرفيّ وإلاّ فهي تقيّدنا. أمّا طابعها المبالغ به فيساعدنا على التسامح. فهي تعبّر بطريقة تدفع بالمخيّلة بعيدًا عن صور البرّ والتقوى إلى الواقع، وتفتح الطريق نحو زيادة في البرّ والتقوى غير مقبولة اجتماعيًّا ولا نراها بالعين المجرّدة، فنغمر بصور الخير. فالمحبّة موجودة على برنامج بعيدًا عن الشريعة، مكمّلة لها دون أن تلغيها.
إذا تكلّمنا عن "شريعة المحبّة"، وإن في الكتاب المقدّس، فبمفارقة، فلا شريعة تفرض المحبّة. لنبتعد قليلاً عن المرجع المتّاويّ إلى نبع آخر مغاير، يمكننا أن نلخّص تعليم مار بولس حول الشريعة بكلمات قليلة: "كلّ شريعة تعرّض للتجربة". فالتجربة ليست فقط في التعدّي على الشريعة، بل في الانغلاق في حرفيّتها، والوقوف عندها. لم يتوقّف يسوع عن نزع القناع عن هذه الورطة. يجب عدم الخطأ فيها: فشريعة المحبّة ليست دون أخطار، وهي تجرّبنا أيضًا بطريقة تدفعنا أن نردّ برقّة ولطافة، كتصرّف نقيض للعنف، على تصرّف بعيد عن المسيحيّة.
عندما أعطى الله الإنسان بعد الطوفان، أن يكون خوفًا على الحيوانات، تحمّل وقبل مسؤولية عنفنا. رافقنا الله ورضي بأن يكون على الصورة التي رسمتها أعيننا عنه: سكب الله على الإنسان العنيف دومًا حوار الصورة التي يستطيع أن ينالها. مارس هذه الرقّة، فلبس هو نفسه عنفنا بانتظار أن يصبح الضحيّة بواسطة ابنه حتّى الموت. وبعد صورة القوّة التي اتّخذها، لبس صورة الضعف، وهاتان الصورتان هما صورتان متناقضتان. هناك صور عن العنف، وصور عن الضعف، ولكن لا نجد صورًا عن المحبّة.
يدشّن يسوع عصرًا جديدًا، فهو يحرّرنا. لنركّز في الختام، على طابع مهيب لهذه الحريّة. فعظة الجبل، بما فيها من مغالاة، تدمّر صور البرّ وصور المحبّة إذ تدفعها إلى أقصاها. لكنّنا لا نعرف بعد كيف نجعلها موضع التنفيذ، ما نعرفه أنّه يجب العمل بها الآن. فكلمة "مستعجل" حول طابع العصر الجديد، تتضمّن النموّ في الشدّة. والمستعجل ما هو ساعة بعد ساعة أكثر استعجالاً. فما هو مستعجل لمدى طويل لا يعود كذلك. فحريّتنا تجاه الورطة بين الموت والحياة ظاهرة: يتدخّل الله، لنقرأ، تك 6- 9، ليدمّر خليقته، والإنسان الآن هو الذي يدمّرها، ولم يبقَ أمامه سوى تدمير نفسه. ألم يبدأ بعد؟

الخوري أنطوان الدويهي


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM