الفصل الرابع :أسقف وشيوخ في الكنيسة

الفصل الرابع
أسقف وشيوخ في الكنيسة
1: 5- 9

ترك بولس تيطس في كريت، من أجل هدف محدّد: تنظيم الكنائس والحرب على المعلّمين الكذبة. كنيسة كريت كنيسة فتيّة. يبدو أن بولس مرّ فيها، وجعل فيها تيطس أمام عمل صعب بسبب طبع الكريتيين، وبسبب وجود معلّمين ضالين ومضلّين. كيف ستتوجّه مهمّة هذا المسؤول منذ البداية؟ ولكن بولس أكيد من تلميذه، الذي سينظّم الكنيسة أفضل تنظيم، فيقيم أسقفًا وشيوخًا في كل مدينة من مدن الجزيرة.

1- الخدم في الكنيسة
إن الارشاد الموجّه إلى المسؤولين في الجماعة، الذين أرسلت إليهم الرسائل الرعائيّة، يبدو في درفتين. هي تعليمات غير مباشرة إلى تيطس وتيموتاوس. وهي أقوال مباشرة حول ظروف البلوغ إلى الخدم. وُضع هذان النوعان من النصوص، الواحد تجاه الآخر، بحيث نحذر من أن نرى في تيطس وتيموتاوس إسقاطًا للخدم. فمتسلّم الرسالة يدلّ على مسافة في الزمن (بين جيل الرسل والجيل الثاني أو الثالث) وعلى تواصل على مستوى التعليم. وهذا ما يتيح، بواسطة اسم مستعار، تأوين التقليد الكنسيّ الذي استعمله كاتب الرسائل الرعائيّة. فحين أعطانا صورة عن المسؤولين، من أسقف وشمامسة، في 1: 7- 9؛ 1تم 3: 2- 13، وتعليمات حول الشيوخ في 1: 5- 6؛ 1تم 5: 17- 18، دلّ على أمانته للتقليد. أما الارشاد للقرّاء، ومعارضته للمعلّمين الكذبة، فيفسّر دورَ الخادم في حاضر الجماعة.
ونقابل نصوص 1تم وتي، فنكتشف ما قلناه من ملاحظات:
- الخدم 1تم 3: 1- 3 (14-16) تي 1: 6- 9
- الخصوم 1تم 4: 1- 5 تي 1: 10- 16
- تعليمات مباشرة
إلى القرّاء 1تم 4: 6ي تي 2: 1.
الطرح الاكليزيولوجيّ في "الرعائيّة" هو ردّ على مسألة الهرطقة: فالخدم والقرّاء يُفهمون في خطّ مناقض للخصوم. إن كانت الحرب على التعليم الآخر في 1تم 1: 3 هي مهمّة تيموتاوس الأولى، فمقاومة الخصم في تي 1: 9، 10 هي إحدى مهمّات الأسقف، ويتبعها توسّعٌ حول "المعلّمين الكذبة" (تي 1: 10- 16: هناك كثير من المتمرّدين). نقلتنا 1تم 3: 1 من ملاحظات حول سلوك أعضاء الكنيسة (الرجال والنساء، 1تم 2: 8- 15) إلى تعليمات حول الخدم (1تم 3: 1- 13) تنتهي بثلاث آيات تشكّل مفصل الرسالة (1تم 3: 14- 16). وهكذا يقدّم النصّ الشروطَ اللازمة لمن يرغب في الأسقفيّة (1تم 3: 1). ولكن اختلف الوضع في تي 1: 5ي، حيث اللائحة هي أداة يستعملها تيطس ليختار أشخاصًا "يقيمهم شيوخًا في كل مدينة" (تي 1: 5). في آ 6، يعيّن تيطس شيوخًا على أساس المعايير المعطاة، وفي آ 9، على الأسقف أن يردّ على الخصوم الذين تتكلّم عنهم آ 10- 16.
إن وظيفتَي التعليم والتوجيه اللتين أعطيتا للأسقف كما للشيوخ، واستعمال اللفظ "ابيسكوبوس" في صيغة المفرد (أسقف، 1تم 3: 2؛ تي 1: 7)، ولفظ "براسبيتاروس" (شيخ، قسّ، كاهن) في صيغة الجمع (1تم 5: 17؛ تي 1: 5)، والتشابه بين الأسقف والشيوخ حسب تي 1: 5ي (لا تقابل 1تم بين الاثنين). كل هذا قاد الشرّاح إلى تقديم فرضيّات مختلفة حول تنظيم الجماعة، وحول العلاقات بين الخدم التي تتحدّث عنها "الرعائيّة".
نجد لفظ "إبيسكوبوس" في 1تم 3: 2 وتي 1: 7: هو المراقب والمناظر والمشرف والمدبّر، منذ القرن الخامس ق م. ونجد "الشيوخ" في 1تم 5: 17، 19؛ تي 1: 5، في كلام عن الوظيفة، لا عن العمر. تعود اللفظة إلى المجمع، ولا نجدها في المجموعة البولسيّة إلاّ في الرسائل الرعائيّة. يُذكر الأساقفة والشمامسة في فل 1: 1، ووظيفتهم لا تتعارض مع المواهب. مهمّة هؤلاء الأساقفة جمع المؤمنين على أكثر من مستوى. نحن أمام أشخاص (مثل استفاناس، 1كور 1: 16؛ 16: 5) وضعوا بيوتهم في تصرّف الجماعة واهتموا بحاجاتها. في أع 20: 11 نراهم يرئسون العشاء الربّانيّ. أما لفظ "دياكونوس" (خادم، شمّاس) فلا يُذكر إلاّ في الأدب المسيحيّ. يدلّ على خدمة الموائد أو خدمة خاصة (أع 6: 1- 6). والتقليد الانجيليّ يقدّم عمل يسوع "خدمة" ترفض السلطة والامتيازات (مر 10: 45؛ لو 22: 27). والخدمة مطلوبة من الذي يريد أن يتبع يسوع. وبولس اعتبر نشاطه الرسوليّ خدمة للمسيح وللجماعة (1كور 3: 5؛ 2كور 3: 6؛ 4: 1؛ 5: 18؛ 11: 23؛ رج كو 1: 25؛ أف 3: 7). واستعملت 2تم 4: 5 لفظ "دياكونيا" لتصوّر خدمة التلميذ.
وعرف العالم اليهوديّ "الشيوخ" (براسبيتاروس) كسلطّة محليّة (يه 6: 16، 21؛ 7: 23؛ 8: 10؛ 10: 6). أو كسلطة على شعب أورشليم (1مك 1: 26؛ 7: 33؛ 11: 23). أو كسلطة في المجمع. إنهم يمثّلون التقليد والهويّة والخبرة، ويلعبون دور التوجيه والتمثيل (يمثّلون الجماعة). أخذت الجماعات المسيحيّة هذا النموذج، ولكننا لا نجد اللفظ عند بولس. أما في الرسائل الرعائيّة، فنجد الشيوخ الذين يتميّزون بالعمر (1تم 5: 1) كما بالوظيفة (1تم 5: 17، 19؛ تي 1: 5). هم يلعبون دورًا حين وضع اليد (1تم 5: 1) كما بالوظيفة (1تم 5: 17، 19؛ تي 1: 5) من أجل التكريس.
ما هي العلاقات بين هذه الوجوه المختلفة؟ هناك نظريات أربع. الأولى: التنظيم الكنسيّ في "الرعائيّة" هو تنظيم يكون فيه الأسقف (في صيغة المفرد) كالملك، فيتميّز عن الشيوخ (في صيغة الجمع) ويرئس الكنيسة المحليّة. الثانية: يرئس الأسقف حلقة الشيوخ الذين اختاروه لهذه المهمّة (1تم 4: 14). هذا ما يفهمنا صيغة المفرد التي تميّز الأسقف عن الشيوخ، وفي الوقت عينه تربطه بهم ربطًا وثيقًا (تي 1: 5- 7). الثالثة: صيغة المفرد للأسقف تحمل معنى عامًا (لائحة الصفات)، وتعود إلى مجموعة متفرّعة من الشيوخ: الذين يرئسون (1تم 5: 17). ينالون أجرًا مضاعفًا، يكرزون ويعلّمون. الرابعة: المفرد هو عام، ولكنه يدلّ على خدمة تتماهى مع خدمة الشيوخ.
في الواقع، هناك لقاء بين تقليدين: تقليد الشيوخ الذي يعود إلى العالم المسيحيّ المتهوّد. وعالم الأسقف والشمامسة الذي يرتبط بالجماعات البولسيّة. إذا كان تقليد "الشيوخ" الموجّه إلى مجمل الجماعة قد عمل على تقوية الجماعة المحليّة، فتقليد "الأساقفة والشمامسة" والارتباط بالبيت وبتنظيمه، يوافق محتوى المهمات المحدّدة وبناء الجماعة. وقد توحّد التقليدان في نهاية القرن الأول، وهذا ما تشهد له الرسائل الرعائيّة.

2- دراسة النصّ
انطلق بولس إلى الرسالة بأمر من الله. وها هو الرسول يرسل تيطس ليتابع عمله. فالمرسَل لا يُفصل عن رسالته. فمن رفض الرسول رفض الرسالة.

أ- تحليل النص
أولاً: آ 5
"أبولايباين"، ترك. "إبيديورتون"، كمّل التنظيم. لا يرد هذا الفعل في السبعينيّة ولا في العهد الجديد، بل في اليونانيّة السابقة للمسيحيّة، في القرن الثاني ق م. حرفيًا: لتكمّل تنظيم ما بقي عليك أن تعمله. "لايباين". يرد الفعل في تي 3: 13، ثم أربع مرات في العهد الجديد (لو 18: 22؛ يع 1: 4- 5؛ 2: 15). "تقيم شيوخًا". لا ترد إلاّ هنا في عالم الكتاب المقدّس. "كاتيستاناي"، أقام. يرد هنا وفي روم 5: 19، ثم 18 مرّة في نصوص العهد الجديد (عب 5: 1؛ 7: 28؛ 8: 3 مع رئيس الكهنة). في كل مدينة. هذا يعني أنه كان في كريت أكثر من "كنيسة" محليّة. رج 2 مك 4: 36؛ 3مك 4: 4؛ 6: 41. "بوليس"، مدينة.
ثانيًا: آ 6
"كل من كان، كل واحد منهم". رج 1تم 3: 1، 5؛ 5: 4، 8، 16؛ 6: 3. هي حالة خاصّة "أنانكليتوس" (منزَّه عن اللوم). ينتمي إلى اللغة القانونيّة. نقرأه مرّة واحدة في السبعينيّة (3مك 5: 31). يرد أيضًا في تي 1: 6؛ 1تم 3: 10. رج 1كور 1: 8؛ كو 1: 22. "رجل امرأة واحدة". رج 1تم 3: 2، 12 والكلام عن صفات الأسقف والشمّاس. "أسوتيا"، الخلاعة وعدد من الرذائل. رج أف 5: 18 حيث "اسوتيا" تعني السكر. 1بط 4: 4 حيث تحمل اللفظة عددًا من الرذائل. ترد في السبعينيّة (أم 28: 7) فتعني الشراهة. وفي 2مك 6: 4، فتعني الزنى والفجور.
ثالثًا: آ 7
الأسقف (ابيسكوبوس). "داي" (يجب). رج 1: 11 (مرتين)؛ 1تم 3: 2، 7، 15؛ 5: 13؛ 2تم 2: 6، 24. "أويكونوموس" وكيل، انسان كلّف بتدبير أملاك رجل عظيم (ملك أو غيره). رج 2تم 4: 20 والكلام عن أراستس الذي هو في روم 16: 23، "أمين صندوق المدينة". تبقى تسعة استعمالات للّفظ في العهد الجديد، ولا سيّما في الأمثال. "غير متكبّر" (اوتاديس) رج 2بط 2: 10؛ أم 21: 24 (حسب السبعينيّة)؛ تك 49: 3، 7. "اورغيلوس" غضوب. لا يرد إلاّ هنا في العهد الجديد. رج أم 21: 19. "لا سكير ولا عنيف". رج 1تم 3: 3. ولا طامع في المكسب. رج 1تم 3: 8 والكلام عن الشماس. لا ترد اللفظة بعد ذلك لا في العهد الجديد (رج 1بط 5: 2) ولا في السبعينيّة.
رابعًا: آ 8
ويرد لفظان مع "فيلوس" (محبّ). "فيلو كسانوس"، يحبّ الغريب، مضياف. رج 1تم 3: 2؛ 1بط 4: 9. لا نجد اللفظ في السبعينيّة. "فيلاغاتوس" محبّ الخير. لا نجد اللفظ إلاّ هنا في العهد الجديد. ولكن نجد ضدّه في 2تم 3: 3 كرذيلة من الرذائل: أفيلاغاتوس. رج حك 7: 22. "ديكايوس"، بار (عادل). رج 1تم 1: 9؛ 2تم 4: 8، نجد الجذر في تي 3: 5، 7 (البرّ، تبرّر). يرد 8 مرات في العهد الجديد. رج 1تم 2: 8 (أيد نقيّة). والعكس "أنوسيوس" (غير نقي). رج 1تم: 1، 9؛ 2تم 3: 2. تستعمل 1تس 2: 10 الظرف وأف 4: 24 الاسم. "إنكراتيس"، يضبط نفسه. لا نجد هذه الصفة في العهد الجديد، بل ما يعاكسها: أكراتيس: غير ضابط نفسه. يستعمل بولس الاسم في غل 5: 23؛ 1كور 7: 5. والفعل في 1كور 7: 9؛ 9: 25. رج أع 24: 25؛ 2بط 1: 6 (مرتين). نجد الجذر ثلاثين مرة في السبعينية.
خامسًا: آ 9
يتمسَّك بالتعليم الذي يجب أن يصدّق، الذي لا يمكن أن يكذب. نقرأ فعل "انتاخستاي". رج 1تس 5: 14 (في معنى آخر)؛ لو 16: 13= مت 6: 24؛ رج أش 56: 2، 4، 6؛ إر 51: 10 (الماسوري 44: 10)؛ أم 3: 18؛ 4: 6. "ديداخي"، تعليم. رج 2تم 4: 2 مع جذر اللفظة؛ مز 59: 1 حيث يقال أن صلاة داود هي تعليم. "ديدسكاليا". نحن هنا أمام التعليم الرسوليّ. هو صحيح (هيغياينوسا). رج 2: 1؛ 1تم 1: 10؛ 2تم 4: 3. تنطبق هذه الصفة على الايمان (1: 3؛ 2: 2) ، على الكلام (1تم 6: 3؛ 2تم 1: 13). ربط لوقا الصفة بصحّة الجسد (5: 31؛ 7: 10؛ 15: 7). رج 3يو 2؛ أم 13: 13. التعليم (أو: الحضّ والتحريض) والردّ (الانخاين، التوبيخ) نجدهما في 2: 15. رج 33: 18- 19. "باراكالاين". ترد مئة مرّة ونيف في العهد الجديد. رج تي 2: 6؛ 1تم 1: 3؛ 2: 1؛ 5: 1؛ 6: 2. يرد هذا الفعل، في العهد القديم، بشكل خاص في سي والمكابيّين، فيميّز التقاليد الحكميّة والنبويّة. "المعارضين". يتكلّمون ضد "انتيلاغو". رج 2: 9 (خالف)؛ روم 10: 21 (= أش 65: 2)، رج سي 4: 25: "لا تعارض الحقيقة، بل اخجل من جهلك".

ب- تفسير النصّ
مرّ بولس في كريت حيث أعلن الانجيل (في رحلة رسوليّة رابعة، بعد الخروج من سجن رومة)، فأعلن الانجيل هناك. وجعل تيطس في موضع المسؤوليّة. وها هو يقدّم له تنبيهاته.
أولاً: تركتك في كريت (آ 5-6)
جاءت تي، شأنها شأن 1تم، تكملة وتثبيتًا لتعليم شفهيّ أعطاه الرسول لتلميذه: تنظيم الجماعات ووضع المسؤولين فيها. تلقين الايمان المسيحيّ للمؤمنين. قال بعضهم: إن هذه الرسالة قد تكون ردًا على رسالة بعث بها تيطس. هي ردّ بولس وهو المهتمّ بكنيسة الله حتى نهاية حياته. فالعمل واسع في كريت: التعليم، التوبيخ، التقويم.... وأولاً: إقامة (كاتيستيمي، رج عب 5: 1؛ 7: 28) معلّمين. والجماعة تلعب دورها في هذا المجال. "شيوخا" (براسبيتاروس). في صيغة الجمع، هي حلقة الشيوخ (أع 14: 23؛ 20: 17؛ 1تم 4: 14) في كل مدينة. والأمر ليس بسهل، لأنه قيل عن كريت أنها جزيرة المئة المدينة، هذا مع العلم أنها أفرغت من سكانها مع الاحتلال الرومانيّ. "دياتاسو" أوصى، أمر. رج 1كور 7: 17؛ 11: 34؛ 16: 1. على تيطس أن يتبع أوامر الرسول. فبولس يبقى المسؤول الأول.
"من كان" يربط بالتوصيات الشفهيّة المزايا المطلوبة من المرشّحين لهذه المهمة. رج 1تم 3: 2- 3. من لا عيب فيه. من كان منزهًا عن اللوم. ربّ عائلة. تزوّج مرة واحدة. ربّى أولاده التربية الصالحة، ثم التربية المسيحيّة. فقد قيل في مجمع قرطاجة الثالث: "لا يُرسم أسقف أو كاهن أو شماس إلاّ بعد أن يكون جميع أهل بيته قد صاروا مسيحيين". ويجب أن يكون أولاد "المرسوم" ذوي سلوك حسن وسمعة طيّبة. لا تكون حياتهم حياة خلاعة. مثلُ هذه الحياة يرافقها السكر (أف 5: 18؛ 2مك 6: 4) بحيث يُصبحون عارًا لوالديهم (أم 28: 7؛ لو 15: 13). ويكون الأولاد خاضعين لسلطة الوالدين، غير متنكّرين لها: أنيبوتكتوس، غير خاضع، لا يقبل أن يكون تحت سلطة.
إن لم يكن الأمر كذلك، لا يُقبل مثل هذا "الشيخ"، لأن سمعته ملطّخة بعد أن دلّ على ضعف في تربية أولاده (رج شخص عالي في 1صم 2: 12- 17). إذن، يُستبعد مثلُ هذا الانسان عن المسؤوليّة الكبرى في الكنيسة. ذاك كان المبدأ في العالم اليونانيّ، وقد أخذ به بولس. وقال آباء الكنيسة: من لا يستطيع أن يعلّم أولاده فكيف يعلّم الغرباء. ومن لا يقدر أن يمارس سلطته مع الذين ولدهم وعالهم والذين يخضعون له بالطبيعة والناموس، فكيف يقدر أن يسوس الآخرين (الذهبيّ الفم).
ثانيًا: الأسقف وكيل الله
لماذا يكون "الخادم" بلا عيب في بيت الله (1تم 3: 15)؟ لأنه وكيل (أويكونوموس) الله. وهكذا يتماهى الأسقف مع الشيخ. أو هو يكون شيخًا من الشيوخ يرئس حلقتهم. هذا الوكيل يكون منزّهًا عن اللوم (لو 12: 42؛ 1كور 4: 1- 2؛ 1بط 4: 10). الوكيل هو المسؤول عن أملاك سيّده. والسيّد الذي يخدمه الأسقف هو الله، فما يكون مستوى خدمته؟ "أوتاديس" هو الذي يرضى بنفسه ولا يقبل ملاحظة من أحد. هو المفتخر بنفسه فوق العادة (رأوبين، تك 49: 3، 7). هو المتعجرف الوقح، والذي يسمّيه أم 21: 24: المستهزئ، المترفّع. مثلُ هذا الرجل لا يصلح أن يكون وكيلاً في بيت الله (الذهبيّ الفم). يكون الوكيل ذا قلب واسع ومزايا رفيعة: لا غضوب، لا سكير، لا جشع، لا مقاتل.
تجاه خمس رذائل ذُكرت في آ 7، نجد سبع مزايا في آ 8: مضياف (يحبّ الضيوف، 1تم 3: 2)، محبّ الخير، متعقّل، بار (عادل)، نقي، ضابط نفسه، صاحب تعليم صادق.
وتبقى الصفة الأساسيّة (آ 9) التي يتوسّع فيها الكاتب، لأنها ملحّة، وسوف تُشرف على التنبيه ضد معلّمي الكذب (آ 10ي): وظيفة التعليم. فالكلام الموافق للتعليم (ديداخي) يعود إلى تعليم رسميّ يرتبط بالتقليد، في الكنيسة (روم 6: 17؛ 16: 17؛ 1كور 15: 3). هو قاعدة حياة لأن مصدره المسيح (1تم 6: 3؛ 2يو 9). ولكي يكون هذا التعليم موضوع إيمان، لا يمكن إلاّ أن يكون الانجيلَ الذي نقله التقليد الشفهيّ وشرحه الرسل، بعد أن ثبّت الرب الكلمة التي كرزوا بها (مر 16: 15، 20؛ عب 2: 3- 4).
فالأسقف المعلّم هو في الجوهر، رجل إيمان وإيمان مستقيم (1تم 3: 2). يُكثر من التعليم والارشاد (1تم 4: 13؛ 6: 2) في أمانة تامّة للتعليم الذي وصل إليه (1تم 1: 10؛ تي 2: 1؛ 2تم 4: 3). ولكنه يفقه هذا التعليم بحيث يستطيع أن يقدّم البرهان الذي به يردّ على المعارضين. قال الذهبيّ الفم: "من لا يستطيع أن يقدّم التعليم الصحيح، فليبتعد عن منبر المعلّم". وقال تيودوريتس: "لا يُطلب منه أن تكون له لغة منمّقة، بل أن يكون عالمًا في الأمور الالهيّة".
3- قراءة إجماليّة
وضع بولس أسس كنيسة كريت (رج 1كور 3: 10). حرّكت كرازته الاهتداءات، ولكن الجماعات لم تتنظّم بعدُ بما فيه الكفاية. فعلى تيطس أن يرتّب الأمور. وأول خطوة يقوم بها، تأمين حلقة الشيوخ بشكل رسميّ: يعطيهم "وظيفتهم". فقد كانت للجماعات المسيحيّة حلقة شيوخ كما للجماعات اليهوديّة (أع 14: 23؛ 20: 17). وحين يقيم تيطس شيوخًا، يسير بحسب توصيات بولس وله ما له من خبرة. وخصوصًا لا يتأثّر بعوامل خارجة عن خير الكنيسة. مع المبدأ: لكل واحد حقل عمله، يقوم به ولا يتدخّل في عمل الآخرين (روم 15: 20- 21؛ 2كور 10: 14- 16؛ غل 2: 7- 8).
وهذه الوظائف الكنسيّة لا تُعطى إلاّ لمن امتلك المزايا المطلوبة. هناك ثلاثة شروط: لا يكون عرضة للهجوم، للانتقاد، ولا سيّما في بيته وفي عائلته. ليعرف تيطس تصرّفه في بيته: فهو يمارس مهمّة في بيت الله. هنا يطلب الرسول أمرين: أن يكون أولاده مسيحيين. أن يكون سلوكهم بلا عيب. ذاك الشرط الأول لا نقرأه في 1تم 3: 1- 7. ففي كريت، ما زالت الكنيسة في مهدها. أما في أفسس، حيث بُشّر بالانجيل منذ زمان بعيد، فقد كانت العائلات المسيحيّة كثيرة.
بجانب الوظائف التعليميّة (تعليم الايمان)، والوظائف الارشاديّة (الحثّ على ممارسة الصفات المسيحيّة)، هناك الوظائف التدبيريّة. هذا يعني أن الأسقف هو من يعرف أن يُطاع. وتبدأ هذه الممارسة في البيت. وإلاّ لن يُطاع في الجماعة.
ويُذكر الأسقف بشكل خاص وسط هذه الحلقة. هو وكيل من "وكلاء أسرار الله" (1كور 4: 1- 2). لا يكون ذاك الذي يرفض أن يسمع للآخرين، ذاك الذي يرفض الحوار، ويتعنّت في نظرته محتقرًا الذين لا يفكّرون مثله. وترد سبعُ صفات حسنة بشكل سريع. ثم يتوسع الكاتب في الصفة الثامنة التي ترتبط بالتعليم الصحيح. فتجاه دعوة معلّمي الضلال، لا خلاص إلاّ في وحدة الايمان. هذا يعني أن التعليم بدأ يتكوّن في مجموعة شبه ثابتة. هذا ما يُسمى "الوديعة" التي نحفظها بعناية وننقلها بأمانة (روم 6: 17؛ 16: 17؛ 1كور 15: 1- 11). وهكذا تتحدّد وظيفة الأسقف التعليميّة في آ 9: يحثّ المؤمنين على التعليم الصحيح. يوبّخ المعارضين، يردّ عليهم، بعد أن يجعل حقيقة الانجيل تجاه ما عندهم من كلام فارغ وعلم مصطنع (1تم 6: 20).

خاتمة
حين نتأمل في هذه القطعة، نرافق الكنيسة في نشأتها في جماعة محليّة، أو في جماعات عديدة تتكوّن في هذه المدينة أو تلك، في كريت أو في موضع آخر. نلاحظ أولاً أهميّة المسؤولين، مع رئيس عليهم. هناك الشيوخ الذين سيصيرون الكهنة والقسس في التقليد الكنسي اللاحق. وهناك الأسقف. ولا يكون سوى أسقف واحد في المدينة. فهو العلامة الخارجية لوحدة الكنيسة، لأنه وكيل بيت الله، سواء كان البناء أو الجماعة. وهو المسؤول عن التعليم والتوبيخ والردّ على المعارضين. من أجل هذا يكون اختياره حسب قواعد نجدها في الرسائل الرعائيّة، ومزايا تنطلق من الحياة اليومية فتطبّق على الحياة في الكنيسة: من لا يعرف أن يتدبّر بيته، لا يعرف أن يتدبّر الكنيسة. من لا يطيعه أهل بيته، فكيف يطيعه المؤمنون. ومن لا يكون قادرًا على إقناع الذين معه، فكيف يُقنع المخالفين، الرافضين. أجل، هي صفات بشرية هامّة ينميها الأسقف فيكون منزّهًا عن اللوم لكي يكون قدوة للقطيع الذي أوتمن على رعايته.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM