الفصل السابع; مثال يسوع المسيح

الفصل السابع
مثال يسوع المسيح
2: 8- 13

الصعوبات تحاصر تيموتاوس، والإحباط يرافقه، والخوف والتردّد يلازمانه. لهذا، فهو يحتاج إلى قوّة من السماء. فلا تكفيه أمثلة بشريّة، بولس أو أونسيفورس. لماذا لا يقتدي بالأول الذي صار مناديًا ورسولاً ومعلّمًا فما خاف الموت، بل هو يستعدّ للموت؟ ولماذا لا يعمل ما عمله أونسيفورس؟ فالخطر يتهدّد التلميذ بعد أن تركه معلّمه وصار في السجن. في هذا الخطر وقعت جماعة آسية. ومثلهم فعل ديماس بعد أن رأى صعوبات الرسالة والربح القليل الذي فيها. لأجل هذا كله، قدّم بولس لتيموتاوس مثال يسوع المسيح ودعاه إلى يقين الرجاء: فالحياة تنتصر على الموت بالمسيح. تنتصر بالثبات والأمانة. فما على التلميذ إلاّ أن يتذكّر معلّمه، المعلّم الأول، يسوع المسيح الذي ينكرنا إن أنكرناه، ولكنه في النهاية يبقى أمينًا، لأنه لا يقدر أن ينكر نفسه.

1- الثبات مع المسيح
حين نقرأ آ 8- 13 نكتشف قولين من التقليد البولسيّ (آ 8؛ آ 11- 13)، يدلاّن على التوازن بين "قال" و"فعل". كرز بولس بالانجيل، لا بكلامه وحسب (آ 8) بل بحياته أيضًا (آ 9). "أذكر يسوع المسيح الذي قام من بين الأموات وكان من نسل داود". نحن هنا أمام تذكير بانجيل بولس الذي يُسند الارشاد الموجّه إلى تيموتاوس، كي يستعدّ للألم حين يعلن هذا الانجيل. التوازي واضح مع روم 1: 3- 4 (قد ترتبط 2 تم بما في روم، أو تكون الرسالتان أخذتا من مرجع واحد، أو نكون أمام فعل إيمان يُتلى في اجتماع الجماعة، في الليتورجيا). يُذكر اسم المسيح مع الاشارة إلى قيامته، وإلى نسل داود. حين استعمل بولس في روم 1: 3- 4 تقليدًا سبقه، حافظ على الترتيب الكرونولوجيّ لرسمة الارسال المسيحاني، ولكنه شدّد على القيامة كوقت أعلن فيه المسيحُ ربًا. صورة في وجهتين: فالمسيح ، كابن داود، حمل الوعد لاسرائيل. وبقيامته صار ربّ السماء الذي يصل بتاريخ الخلاص إلى تمامه. أما في 2 تم 2: 28 فذكر الكاتب أولاً القيامة التي هي محرّك تاريخ الخلاص. وجاء الأصل الداوديّ في الموقع الثاني، فما صوّر تاريخًا "قبل" تاريخ، بل شدّد على الطبيعة البشريّة للقائم من بين الأموات. وغياب لقب الربّ لا يصل بمسيرة يسوع إلى هدفها. فحدث المسيح ليس جوابًا على تتمّة عمل الله تجاه اسرائيل. في هذا المجال، اعتبر بعض الشرّاح أن آ 8 هي عبارة كرازيّة تعود إلى محيط مسيحيّ متهوّد حول وجودين للمسيح أو بالأحرى حول ولادتين: حسب الجسد، حسب الروح. رج 1كور 15: 1- 4. ابتعدت الرسالة في الزمن، فشدّد النصّ على قيامة المسيح. وبعد ذلك، ذُكرت حياته على الأرض.
أذكر. نحن أمام إعلان كرستولوجيّ معروف. وعبارة "حسب انجيليّ" تعود إلى إجمالات مثل أع 17: 3 (يجب على المسيح أن يتألّم. وبما أن يسوع تألّم، فيسوع هو المسيح). هنا يشير العلماء إلى أن لفظ "انجيلي" يميّز الرسائل البولسيّة الثانية (دوّنت في المدرسة البولسيّة)، وقد جُعل في روم 2: 16؛ 16: 15، في حواشٍ تعود إلى الوقت الذي فيه صارت الرسائل البولسيّة مجموعة واحدة.
ويذكر تيموتاوس الرباط مع شخص بولس. فهذا التعليم هو انجيله "هو"، الذي لأجله يجب اليوم أن نتألّم. ثم إن هذا الاعلان الكرستولوجيّ يهيِّئ الطريق للعبور إلى النشيد (آ 11-103) الذي يعلن أن الذين يتألّمون مع المسيح يملكون معه. نحن هنا في إطار يشبه 1تم 2: 6 حيث المضمون الكرستولوجي استعيد بلفظ "شهادة" المرتبط ارتباطًا مباشرًا بتيموتاوس (1تم 1: 11؛ 2تم 1: 10؛ تي 1: 3). أما هنا فلفظ "انجيلي" هو الذي يؤمّن وظيفة الاستعادة. ما زال تاريخ الخلاص حاضرًا في الرسالة إلى رومة كما في 2تم. ولكن مركزه انتقل إلى الكرازة، إلى نقل التعليم في الخطّ البولسيّ. والآلام صارت آلام بولس. كم نحن قريبون من سفر الأعمال الذي يورد موت اسطفانس كامتداد لموت يسوع. أجل، ما زال المسيح حيًا في رسله وتلاميذه. فإن هم بشّروا كان هو الذي يبشّر. وإن هم ماتوا كان هو الذي يموت.
في آ 11- 13، اعتراف إيمان بأن الذي يتألّم مع المسيح يشاركه في ملكه. ويأتي تحذير يقطع المسيرة، لأن ذاك الذي نعامله بهذه الطريقة هو إله لا انسان، كما قال هوشع (11: 9). نحن أمام لاهوت عماديّ يصل بنا إلى لاهوت الاستشهاد والموت. لا نتألّم فقط مع المسيح، بل نتألّم معًا لأجله. فالرباط مع روم 6: 9 ولاهوت العماد نكتشفه في "تألّم مع"، "عاش مع". ومع "متنا معه" في صيغة الاحتمال، لا في صيغة المضارع للتعبير عن شهيد لم يمت بعد، بل ينتظر الموت. وهكذا فعبارة "مات مع المسيح" تعني أيضًا: ثبت، احتمل، صبر.
وهكذا نجد في آ 8- 13 توزيعًا في زمنين، في إطار يعلن الصبر والمشاركة الشُجاعة في الآلام من أجل الانجيل. في الزمن الأول (آ 8- 9)، الاعلان الكرستولوجي (آ 8أ) المرتبط ببولس (انجيلي) يمتدّ بموصول (الذي لأجله أتألّم) يستعيد موضوع بولس المقيّد من أجل الانجيل (1: 8، 12، 16؛ رج 2: 9 حيث يقابل "كلام الله"، "انجيل"). لقد صار بولس نفسه جزءًا من تعليمه. فهو يعطي معنى القيامة من أجل الزمن الحاضر: فرغم القيود، كلمة الله ليست مقيّدة. صارت الكلمة شخصًا حيًا (2 تس 3: 1؛ رج تي 2: 5؛ فل 1: 12- 14). بولس هو في القيود، لا الكلمة. هذا ما نكتشفه في نهاية سفر الأعمال (28: 31). وهكذا تصبح القيامة حقيقة آنيّة ملموسة بالنسبة إلى المسؤولين عن الكرازة. بولس هو مثال الثبات والمقاومة. ولا شيء يوقف تقدّم الكرازة. في جدليّة ثمن ندفعه ونتائج نحصل عليها (آ 4- 6)، يبدو ألم بولس ملموسًا ومؤثرًا، بحيث غاب الكلام عن صليب المسيح في هذا المقطع.
تستعيد آ 10 العلاقة بين الآلام والهدف. حسب منطق 1تم 1: 16، ما يحصل لبولس هو تاريخ خلاص المختارين ومثال يتصرّف الجميع على أساسه. فبولس هو البرهان التاريخيّ لحقيقة النشيد الكرستولوجيّ والسوتيريولوجيّ الذي يؤسّس تحريضه لتيموتاوس.

2- دراسة النصّ
لا تكفي الأمثال الدنيوّيّة أن تجعل تيموتاوس يقبل الآلام، بل الموت. فمثالُ المسيح هو النور الذي يستضيء به الراعي في طريق تقوده إلى الشهادة والاستشهاد. ونرى في النصّ مقالة إيمانيّة (2: 8- 10)، ثم مقالة ليتورجيّة (آ 11- 13).

أ- مقالة إيمانيّة (2: 8- 10)
تتركّز هذه المقالة على شخص يسوع المسيح، وتربط به شخص بولس الذي يبدو في آلامه امتدادًا لما قاساه يسوع من آلام وموت قبل المجد والقيامة.
أولاً: أذكر يسوع (آ 8- 9)
في العهد الجديد، التذكّر ليس فقط عودة إلى ماض نستعيده ونتعلّق به (الأمر في صيغة الحاضر، هو ما يدوم، رج 1تس 2: 9؛ عب 3: 1)، بل تأمّل في الايمان وتعمّق فيه (يو 16: 4؛ عب 2: 9)، بحيث يصبح واقعًا في حياتنا (غل 2: 10؛ عب 11: 5؛ 13: 7). فعلى الرسول أن يجعل نصب عينيه يسوع المسيح. يشدّد النصّ هنا على بشريّة يسوع، ابن مريم، الذي تجلّى كمسيح بقيامته (أع 2: 36؛ فل 2: 11). نتأمّل فيه "كقائم من بين الأموات" (1كور 15: 12، 20). هو الحيّ الحيّ (1: 10؛ رؤ 1: 18). جاء اسم الفاعل في صيغة المجهول فدلّ على تدخّل الله. وصيغة الكامل تدلّ على حالة حصلت في الماضي وما زالت حاضرة حتى الآن. أما الأصل الداوديّ (روم 1: 3؛ يو 7: 42)، فنقرأ عنه في العهد الجديد كله (لو 1: 27، 32؛ أع 2: 29- 30؛ رؤ 5: 5؛ 22- 16). هو صفة نبويّة (2هم 7: 12؛ إر 23: 5؛ مز 89: 4؛ 132: 11) للملك المسيح (مت 9: 27؛ 12: 23؛ 15: 22؛ 20: 30- 31؛ 21: 9، 15؛ أع 13: 23، 24- 30). نحن هنا أمام قانون ايمان يذكر الأصل البشريّ للمسيح وقيامته التي تدلّ على لاهوته. ذاك هو انجيل بولس كما يكرز به. رج 1تس 1: 5؛ 2كور 4: 3.
كما في 1: 10- 12 (رج فل 4: 3)، يُذكر الانجيل (أو البشارة)، فيليه حالاً ذكرُ آلام الرسول. هو يتألّم (كاكوباتاين)، تُساء معاملته في اتحاد مع المسيح ومن أجل الكرازة. فالفعل المستعمل هنا (رج يع 5: 13) يُستعمل في الحديث عن أخطاء الحرب وأتعابها. أما الذروة بالنسبة إلى بولس فتحمّلُ القيود (1 فل 2: 8) مثل مجرم (كاكورغوس)، فاعل سوء. استعملت اللفظة في لو 23: 32- 33 في معرض الحديث عن المجرمَين اللذين أحاطا بصليب يسوع.
بولس هو في القيود، ولكن كلمة الله حرّة. شُخّصت الكلمة كما في تي 2: 5: "لئلا يستهين أحد بكلمة الله". وفي 1تس 2: 13: "كلام الله يعمل فيكم". وفي 1 تس 3: 1: "تتابع كلمةُ الله جريها". نحن أمام كرازة الانجيل، بل عمل الكنيسة ككلّ. لا أحد يقدر أن يقيّد القوّة (ديناميس) التي يتضمّنها كلامُ الله (أش 40: 8؛ 55: 11؛ عب 4: 2). فمصيرها لا يرتبط بمصير حامليها. يموت المبشّر ولكن كلامه لا يموت. وهذا ما حيَّر بولس الرسول بعد موت اسطفانس. أسكت صوتًا حين رجم أول شهيد، فعلت أصوات وأصوات أجبر على ملاحقتها إلى دمشق، لو لم يلاحقه يسوع المسيح ويصرعه في الطريق.
ثانيًا: لذلك أحتمل (آ 10)
بعد الواقع، ننظر إلى الغائيّة. إذا كان سجين المسيح فقد حريّته في الكرازة والعمل، فهو ما زال يعمل بنشاط في نشر الانجيل بحيث تحمل كلمة الله ثمارها، فلا يعيقها أحد: فمحنه هي وسيلة (كأنها ذبيحة، فل 2: 17) بها ينال، من الله، خلاص المؤمنين. نقرأ فعل "هيبومانو"، احتمل. فبولس هو في محنة قاسية. وفعل "تينخانو" (نال) تُبرز ما سيناله الانسان في المستقبل (لو 20: 35؛ عب 8: 6؛ 11: 35). في هذه الروح الرسوليّة، قاسى بولس الآلام والذلّ بصبر وثبات (هيبومانو، رج 12: 12؛ 1كور 13: 7؛ عب 10: 32؛ 12: 2- 3)، فكانت تضحيته تامة، بعد أن ألهمتها المحبّة (3: 10؛ تي 2: 22)، من أجل المختارين (مت 24: 22). أي من أجل المسيحيين الذين تبرّروا وتقدّسوا فوجب عليهم أن يثبتوا في دعوتهم (2 بط 1: 10؛ روم 8: 33؛ كو 3: 12). وصلّى أيضًا من أجل الخطأة الذين أحبّهم الله منذ الأزل (2تس 2: 13؛ أف 1: 3- 5) ودعاهم إلى الخلاص (1تم 1: 15- 16) "الذي في يسوع المسيح". هذا يعني أن على هؤلاء الناس أن يعودوا ويدخلوا في الكنيسة.إن غائيّة الضيقات والآلام (كو 1: 24؛ أف 3: 13؛ رج 2كور 1: 6؛ 4: 10- 12) وخصبها، هما عنصر رئيسيّ في مشاركة القديسين مع المسيح القائم من الموت (آ 8). حين ذُكر المخلّص، ذُكر المجد (2تس 2: 13- 14؛ كو 1: 28؛ 3: 4) الذي هو ملء تتمّة الخلاص في النهاية (روم 5: 2؛ 1 بط 1: 7- 9). اعتُبر بولس كمجرم (كاكورغوس، عامل سوء). وهو مدعو إلى المجد (دوكسا)، بل إلى المجد الأبديّ، ذاك هو نور الرجاء الذي يضيء في غياهب سجنه (2كور 4: 17).

ب- مقالة ليتورجيّة (2: 11- 13)
هنا نقرأ شعرًا مع أربع مرات "إذا". ثم تأتي النتيجة.
أولاً: إذا مُتنا (آ 11)
"صدق القول". نحن أمام إيراد من التعليم الرسوليّ هو صدى لكرازة الربّ (1تم 1: 15). هي عبارة تتعلّق بما يلي (آ 11- 13) لا بما سبق (كما فعل الذهبيّ الفم)، فثبات رجاء الخلاص (سين، مع، في الأفعال في آ 10) تُفهم عن المسيح: الأمانة توحّدنا بشخصه (والخيانة تفصلنا).
نحن أمام نصّ شعريّ دُوّن في مناخ أراميّ، لا يونانيّ. نحن أمام نشيد ليتورجيّ، إعلان إيمان (1تم 3: 26؛ 4: 5)، تعبير عن الفقاهة، كلام نبيّ في الكنيسة. إن الفعل "سينأبوتنيسكو" (مات مع، سي 19: 10) يدلّ على حرارة القلب: نعيش ونموت مع من نحبّ. رج 2كور 7: 3 (نعيش معًا ونموت معًا). كان الجنود يعدون قائدهم بمرافقته في الموت والحياة. ذاك ما نقول عن العماد لدى "الجنديّ الصالح ليسوع المسيح" (آ 3). كان بولس قد كتب في روم 6: 8: "إذا كنا متنا مع المسيح فسنحيا معه". فإن كان يشدّد الآن على الأمانة حتى الموت، فلأنه رأى في اسبانية أمانة الجنود لقيصر. ونتذكّر ما قاله توما ليسوع الصاعد إلى أورشليم لشفاء لعازر: "نذهب نحن أيضًا لنموت معه" (يو 11: 16)، وما قاله بطرس ورفاقه بعد العشاء السريّ: "فلو أجبرت على الموت معك، لا أنكرك". وقالوا كلهم قوله (مر 14: 31). فحياة المسيحيّ هي مشاركة في حياة الربّ في وجهتيها الخلاصيّة: الصلب والقيامة. لا نستطيع أن نحيا من المسيح إن لم نعد قبل ذلك بأن نموت معه.
ثانيًا: وإذا... وإذا (آ 12)
وإذا صبرنا.... وإذا أنكرناه.... جعل الربّ من الثبات (هيبوموني، آ 10؛ 1تم 6: 11؛ تي 2: 2) الشرط الضروريّ لنوال ثمار الخلاص (لو 8: 15؛ 21: 19). في التقليد المسيحي، هي فضيلة المصارع المنتصر (عب 12: 3؛ رج 10: 26؛ رؤ 3: 21). وفي نظر بولس، هي تتضمّن تحمّل المضايقات والمحن والضعف (1كور 4: 8- 13؛ 2كور 12: 4)، كمشاركة في آلام المسيح (2كور 1: 5؛ كو 1: 24؛ رج غل 6: 17). فالحياة المسيحيّة تقوم في الاحتمال، في الثبات، في المثابرة التي تقودنا إلى القيامة عبر الاتحاد بالمسيح (فل 3: 10). هناك رباط بين هذه المضايقات المسيحيّة الخاصة والتمجيد مع المسيح (روم 8: 17). وارتباط الملك بابن داود، يعود إلى العماد الذي هو استباق للحياة الاسكاتولوجيّة (روم 5: 17؛ أف 2: 6؛ رؤ 5: 10؛ 22: 5) ويتحقّق أفضل ما يتحقّق في الشهداء (رؤ 20: 4).
"وإذا أنكرناه". رج مت 10: 33 = لو 12: 9 (من أنكرني أمام الناس، ينكره ابن الانسان أمام ملائكة الله) والكلام عن جحود التلميذ لمعلّمه (تي 1: 16). جاء الفعل في صيغة المضارع، فدلّ على أن مثل هذا الأمر يمكن أن يحدث. وعد المؤمنُ وأقسم، وها هو يتراجع لئلا يعرّض حياته للخطر. رفض أن يتضامن مع المسيح، فترك المسيحُ التضامنَ مع الذي خان الرسالة وترك الايمان، وقال لنا: "لا أعرفكم" (مت 25: 12).
ثالثًا: وإذا كنا خائنين (آ 13)
لا بدّ في النهاية من إشارة إلى الثقة. نحن هنا في خاتمة عامّة تقابل أمانة المسيح الثابتة وسرعة العطب لدى معمّد جديد لم يكن وفيًا لمواعيد عماده. "أبستاوو"، ما آمن، لم يكن أمينًا، خان. لسنا أمام جحود الإيمان (عب 6: 4- 5؛ مر 3: 20)، بل أمام خطايا وجهالات تدلّ على أننا نتراجع عن التزامنا الأول، أمام نكران كذاك الذي مارسه بطرس خلال الحاش والآلام (مر 14: 30؛ مت 26: 70؛ يو 13: 38؛ 18: 25). كنا ننتظر هنا، كما في السابق: إذا كنا خائنين (لا أمناء) كان هو خائنًا (لا أمينًا). فلو قلنا هذا القول جدّفنا على اسمه القدوس. فقدرة الله لا تكون مشروطة بسلوك البشر، بحيث تعمل أعمالاً تعارض طبيعة الله وقداسته، فلا تُتمّ مواعيد الرحمة التي وعدت بها (عب 10: 23). فالله لا يكذب (تي 1: 2؛ عب 6: 18؛ رج عد 23: 19). هو "الاله الأمين الذي يحفظ العهد" (تث 7: 9؛ رج 1 مل 8: 23) رغم كل شيء. هي عقيدة ثابتة في الوحي (2 تس 3: 3؛ 1كور 10: 13؛ 2كور 1: 18) بحيث تتعارض خيانة (لاأمانة) الانسان منذ ولادته، مع أمانة الله التي لا تتبدّل (روم 3: 13؛ رج ملا 3: 6)، ولا سيّما في أعمال الرحمة (روم 11: 32؛ عب 2: 17؛ 4: 15؛ 1يو 1: 9) من أجل المدعوّين (آ 10: 1: 9): "ذاك الذي دعاكم أمين وهو يفي بوعده" (1تس 5: 24؛ 1كور 1: 9)، ونقرأ في روم 11: 29: "لا ندامة في عطايا الله وندائه".

3- قراءة إجماليّة
ترك الرسول أمثالاً مأخوذة من العالم اليونانيّ المحيط به، وقدّم لتلميذه مثال يسوع المسيح. لم يعد الألم شكًا، والموت عبثًا. فعلى تيموتاوس أن يجعل دومًا نصب عينيه السر الفصحيّ ليسوع. والتذكيرُ بمعطية الإيمان الأساسيّة هذه، يتمّ في ألفاظ أخذت من قانون إيمان قديم أو نشيد مسيحيّ متهوِّد، لأنه يشير إلى نسل داود. لن يتذكّر تيموتاوس فقط أن المسيح قهر الموت، في ما مضى، بل يقتنع كل الاقتناع أنه يقهره اليوم وإلى الأبد. فهو القائم من الموت (صيغة الكامل: ما تمّ في الماضي ما زال حاضرًا الآن). والتشديد على بنوّة يسوع الداوديّة، تدلّ على اهتمام بمحاربة الظاهريّة (لم يكن يسوع إنسانًا حقًا). كما تدلّ أن التقليد الأول اعتبر يسوع، المسيحَ الداوديّ ووارث الموعد. وما يعلنه بولس هنا ليس إنجيلاً خاصًا به يختلف عن سائر الأناجيل. بل يقول إنه مناد مميّز للانجيل وذلك بفضل رحمة من لدنه تعالى.
واستعاد بولس ما في 1: 8 فتطلّع إلى سجنه على أنه نتيجة إعلان الانجيل. اعتُبر كمجرم، ولاحقه الحقّ العام، كما لاحق المسيحيين بسبب "ممارساتهم المشينة" كما قال المؤرّخون الرومان. هنا نقرأ فل 1: 13: "إن وجودي في السجن من أجل المسيح، زاع خبره في دار الحاكم وسائر الأماكن كلها". والآن، هو مقيّد، ويتألّم من أجل الانجيل. وإذ يذكر بولس قيوده، لا يبدو متباكيًا، محبطًا. فثقته لم تزعزع. كان قد أعلن في فل 1: 12 أن ما جرى له ساعد على انتشار البشارة. وها هو يعلن الآن أن لا شيء يسعه أن يُوقف كلمة الله. فهي غير مقيِّدة. ومن أعماق سجنه، ما زال بولس يبشّر بيسوع المسيح (4: 17؛ كو 4: 3- 14). ثم، ليس هو وحده. فهناك منادون آخرون يعلنون البشارة (التي صارت شخصًا حيًا كما في 2 تس 3: 1).
يكفي أن يكون المؤمن سجين المسيح (1: 8)، أن يحيا آلام المسيح، ليكون موقفه إعلانًا للانجيل. إن آ 10 تعطينا فكرة عن نظرة بولس إلى رسالته كرسول. فكما أن يسوع مرّ في الألم والموت (لا فداء بدون دم، عب 9: 22) ليخلّص البشريّة، كذلك يُدعى الرسول أن يقبل بأن يحيا يسوعُ فيه السرّ الخلاصيّ، سر موته وقيامته (2كور 1: 5- 6؛ 4: 10- 12؛ كو 1: 24). لم يعد بولس هو الحيّ، بل المسيح حيّ فيه (غل 2: 20). لم يعد بولس ذاك الذي يتألّم، بل هو المسيح يتألّم فيه.
لهذا لا يضعف الرسول، بل يبقى ثابتًا (هيبوماناين)، لا عن ضعف وخنوع، بل عن حبّ واثق. ويتحدّث عن "المختارين" أي عن المؤمنين الذين قبلوا أن يخلّصهم يسوع المسيح (روم 8: 33؛ 16: 13؛ كو 3: 12). هم أولئك الذين بلغوا إلى الايمان، وأولئك الذين لم يلامسهم التعليم الذي سيسمعونه يومًا ويهتدون.
تُذكر هنا الآلام والضيقات. إنها، حسب الأدب الجلياني، علامة نهاية الأزمنة، لأن العهد المسيحانيّ لا يحلّ إلاّ بعد ولادة في الألم. إن مت 24: 9- 31 (رج مر 13: 7- 13؛ لو 21: 12- 34) هو صدى هذا اليقين. تُذكر "الضيقات" (آ 9، 21، 29) التي تسبق "النهاية" (آ 14). ويُذكر "المختارون" (آ 24، 31)، كما تُذكر ضرورة الثبات (آ 13). فبالنسبة إلى المسيحيّ، بدأ الزمن الاسكاتولوجيّ بمجىء المسيح، ولكنه لا يتمّ إلاّ في عودته آتيًا في المجد. لهذا، ما زال الضيق حاضرا. وهو يعجّل مجيء المسيح النهائيّ (2تس 2: 1- 12؛ رؤ 6: 11). فالمؤمن لا يُعفى من الضيق (أع 11: 19؛ 17: 5- 6). وإذا يتكلّم بولس عن المختارين، يدلّ على نظرة اسكاتولوجيّة. ويتعارض وضعُ الذلّ الذي يعيشه الرسول في السجن مع المجد المعدّ للمختارين. فكأني به يردّد ما قاله في 1كور 4: 12: "الموت يعمل عمله فينا، والحياة تعمل عملها فيكم«. ذاك هو مصير حبّة الحنطة التي لا تعطي ثمارًا إلاّ إذا ماتت (يو 12: 24).
إن عبارة "صدق القول" تميّز الرسائل الرعائيّة (1تم 1: 15؛ 3: 1؛ 4: 9؛ تي 3: 8)، وتبدأ توسّعًا يورد نصًا سابقًا. نحن هنا أمام نشيد يلمّح إلى العماد (وربّما الاستشهاد)، فيعود إلى روم 6: 1- 11. فالموت مع المسيح ليس الاستشهاد، بل الموت عن الخطيئة (روم 6: 11؛ كو 2: 12- 13)، وعن الانسان القديم (روم 6: 6؛ كو 3: 9)، وهذا يتحقّق في المعموديّة. فالمسيحيّ مات منذ الآن مع المسيح سواء دلّ على حبّه للمسيح أو لم يدلّ. ونحن الذين متنا مع المسيح في المعموديّة، سنحيا معه في يوم من الأيام. غير أن هذه الحياة الجديدة هي على مستوى الإيمان. أما الآن فهي مخفيّة في الله، مع المسيح (كو 3: 3). وحين يتجلّى المسيح نكون معه، ونتجلّى في المجد (كو 3: 4). لهذا استطاع بولس أن يتكلّم في المستقبل عن هذه الحياة المجيدة مع المسيح، بل هو سيقول إننا منذ الآن قمنا مع المسيح (في شكل من الأشكال، أف 2: 6؛ كو 2: 12؛ 3: 1). وفي معنى آخر، ما زلنا ننتظر قيامتنا.
إن كان العماد يماهي المؤمن مع سرّ المسيح الفصحيّ، يبقى على كل واحد منا أن يحقّق في الحياة اليوميّة هذا التخلّص الملموس والفعليّ من الخطيئة، وهذا التفتّح على حياة النعمة. نموت بشكل جذريّ ساعة العماد، فنجتهد كل يوم لكي نموت. وإذ نحن قائمون من الموت، علينا أن نحيا دومًا من الحياة الجديدة. هذا ما قاله بولس مرارًا (روم 6: 12- 3؛ فل 3: 10- 11؛ كو 3: 5- 15). فالحياة المسيحيّة هي عبور (فصح) مستمرّ من الموت إلى الحياة، ومن الضيق إلى المجد. نرفع عيوننا إلى "المجد الأبديّ" المهيَّأ لنا (2 كور 4: 17)، والذي ينتظرنا، فنبقى ثابتين. فالمسيحيّ الذي يتألّم مع المسيح يقاسمه مجده (روم 8: 17). والتقليد الانجيليّ يذكر مواعيد المسيح للذين تركوا كل شيء ليتبعوه. حين يعود ابن الانسان ليجلس على عرش مجده، يجلس معه الرسل، هم أيضًا، على اثني عشر كرسيًا ليدينوا أسباط اسرائيل الاثني عشر (مت 19: 28). ويمارس المختارون السلطة الملكيّة، فيدينون العالم، بل الملائكة (1كور 6: 2- 3). والذين ظلّوا أمناء، في المحن، يشاركون المسيح في ملكه (لو 22: 28-30؛ رج رؤ 3: 21؛ 5: 10؛ 20: 4؛ 22: 5).
لقد عرف الرسول (رج آ 12ب) أن الخطر يهدّد الكنائس الفتيّة، وأن بعض المسيحيين مهدّدون بالغرق. ابتعدوا عن الحقيقة. والأزمنة الأخيرة ستكون أيامًا صعبة فيسقط عدد من المسيحيين الذين أضلّهم المضلّلون (1تم 4: 1). فالويل لمن ينكر المسيح. يُحكم عليه، فلا يملك مع المسيح ولا يدين العالم والملائكة. وفي الدينونة، لا يعتبره المسيح واحدًا من أخصّائه. فينكره (مت 10: 33). لا يكفي أن نكون أمناء في يوم من الأيام. لا يكفي أن نكون اقتبلنا العماد لكي نكون في منأى عن الضعف والجحود. فمن يثبت إلى المنتهى فذاك يخلص.
إن التحذير في آ 12ب (إذا أنكرناه) يدفع القارئ إلى أن يرى في آ 13أ (إذا كنا خائنين، لا أمناء، تجاه من هو الأمين) تحذيرًا، بل تهديدًا. إذا خنّا الأمانة، فالمسيح يبقى أمينًا. أي لا يتبدّل في برّه حين يجازي الأشرار شرًا والاخيار خيرًا. فالخيانة تعرّض الخاطئ لقساوة العدالة النهائيّة. حين نفهم آ 13أ على هذا الشكل، فهي تتوافق مع آ 12. إلا أن هناك صعوبة رئيسيّة: نعطي للفظ "بستوس" (أمين) معنى لا يمتلكه عادة في الكتاب المقدّس، ويغيب من العهد الجديد. فإذا وضعنا جانبًا خر 34: 6- 7 (الربّ رحيم، ولكنه لا يترك شيئًا بدون عقاب) وتث 7: 9- 10 (لا يتأخّر عن مجازاة مبغضيه)، فأمانة الله ليست لديه استعدادًا تجعله يكافئ الأبرار ويعاقب الأشرار، بحسب متطلّبات عدالة توزّع الثواب والعقاب بالتساوي. أمانة الله استمرار لإرادته بأن يخلّص البشر رغم خطاياهم وخياناتهم. لهذا، فلاأمانة (خيانة) البشر لا تصيب أمانة الله (روم 3: 3؛ 1كور 1: 9؛ 10: 13؛ 2كور 1: 18؛ 1تس 5: 24؛ 2تس 3: 3). لهذا يكون معنى آ 13أ كما يلي: قد يخون المسيحيّ الأمانة. قد لا يثبت في خطّ عماده. ومع ذلك فأمانة الله والمسيح (الشاهد الأمين، رؤ 1: 5) تبقى هي هي. أجل، لا تُلغى مواعيد الخلاص، والانسان يستطيع دومًا أن يتوب ويعود فيجد مخلصًا ينتظره (آ 25- 26).
إن الله لا يستطيع أن ينسى مواعيده. فلو فعل أنكر نفسه، لأن أمانته صفة رئيسيّة من صفاته. فهو الصخر الذي يستند إليه شعبه وكل مؤمن من مؤمنيه. كلمته حقّ، والتزاماته متانة، وكلامه لا يزول (أش 40: 8). هو يعد ويفي (طو 14: 4). لا يكذب (تي 1: 2) ولا يتراجع (عد 23: 19؛ 1صم 15: 29). والكلمة التي تخرج من فمه لا تعود دون أن تتمّ مهمّتها (أش 55: 11). وفي يسوع وجدت كلُّ المواعيد تتمّتها (2كور 1: 20). وفيه نمتلك علامة أمانة الله التي لا شيء يزعزعها. والانسان يعرف، رغم ذنوبه وخطاياه، أنه يجد دومًا في ربّه "عظيم كهنة رحيمًا وأمينًا... قادرًا على تكفير خطايا الشعب" (عب 2: 17). وشقاؤنا الروحيّ لا يمكن أن يكون باعثًا على اليأس، بل هو الطريق الذي به تمرّ النعمة الالهيّة: "جعل الله البشر كلّهم سجناء العصيان حتى يرحمهم جميعًا" (روم 11: 32؛ رج أف 1: 6- 7؛ 2: 5؛ 1تم 1: 12- 16؛ 2 تم 1: 9؛ تي 3: 3- 5).

خاتمة
دعا بولس تيموتاوس إلى تحدّي الواقع الذي تعيشه الجماعة، وما في هذا الوضع من خوف وتردّد، بل من خيانات تجعل "المبشّرين" يتركون الرسالة حبًا بهذا العالم، أو بحثًا عن راحة تُبعدهم عن القلق اليوميّ الذي يحسّ به المؤمن وسط عالم معاد. لهذا وضع الرسولُ أمام تلميذه شخص يسوع الانسان الذي كان انسانًا من الناس، فمات، ولكنه قام. كما قدّم له نشيدًا يمتدح فيه الشهيد الذي يموت مع المسيح، يصبر مع المسيح، فتكون له الحياة والملك. فالمشاركة مع المسيح في المعموديّة (روم 6: 8) تجد مسيرتها الطبيعيّة في موت مع المسيح ينتهي بالقيامة. ذاك هو المثال الرائع الذي وضعه بولس نصب عيني تيموتاوس. فهو لا يخاف، بل سيثبت. وإذا لا سمح الله، تراخى وسقط، فلا ييأس. فإن هو تبدّل فالربّ لا يتبدّل. وإن هو خان الأمانة، فالربّ يبقى أمينًا، لا يتبدّل. فيكون مثل الأب المحبّ الذي ينتظر دومًا عودة الابن الضال (أع 15).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM