الفصل الخامس :بين بولس وأونيسفورس

الفصل الخامس
بين بولس وأونيسفورس
1: 11- 28

قدّم بولس لتيموتاوس نصائح. شجّعه على مجابهة الألم والاضطهاد. ولكن الكلام لا يكفي. لهذا أعطاه نفسه مثلاً، ثم أونيسفورس. تحدّث الرسول عن دعوته، عن استعداده للألم، عن ثقته بالله وأمانته، عن أسلوبه في نشر الانجيل بجرأة وبلا خوف. ذاك هو المثال الذي يقتدي به التلميذ. وبما أن أحدًا ليس جديرًا كل الجدارة بالخدمة، فالمعلّم والتلميذ يستقيان القوّة من هبة الله التي هي في النهاية الروح القدس الساكن فينا.
قد يتخاذل تيموتاوس حين يرى أن عددًا من المسيحيين تخلّى عن الرسول. ولكنه يتقوّى حين يعرف أمانة أونيسفورس . بولس هو في القيود، وينتظر ساعة الموت وهو يتأثّر بما فعله هذا التلميذ من أجله. بحث عن معلّمه حتى وجده. فماذا ينتظر تيموتاوس لكي يأتي إلى رومة.

1- التلميذ ومعلّمه
سُلّم الانجيل إلى بولس الذي هو المنادي والرسول والمعلّم (1 تم 2: 7؛ تي 1: 2- 3). نقرأ في 2 تم 1: 12: وديعتي. وفي 2: 8: إنجيلي. فهو كافل الانجيل بالتعليم ومثَل الحياة. وبقدر ما يكون التعليم بولسيًا، يكون رسوليًا. أما الكلام عن رباط شخصيّ بين الرسول والانجيل، فيعود إلى بولس نفسه (غل 1: 6- 7، 11؛ روم 2: 16؛ 1 كور 15: 1؛ 2 كور 4: 3). ولكن هذه الأقوال التي نقرأها في الرسائل الرعائيّة، فتشدّد على بولس أنه الرسول الوحيد، بجانب سائر الرسل. وهي كلمة تختلف عمّا يقوله بولس في رسائله (1 تس 1: 1: بولس وسلوانس وتيموتاوس) ولوقا في سفر الأعمال (نحن أمام فريق رسوليّ). لهذا لا يمكن أن يكون لوقا الذي كتب سفر الأعمال، هو الذي كتب الرسائل الرعائيّة.
في الرسائل الرعائيّة، ومنذ بداية 1 تم، ننتقل حالاً إلى ما بعد بولس، مع تيموتاوس أو تيطس. أجل، بعد بولس نجد التلاميذ العديدين الذين ينقلون التعليم بأمانة. لا تُذكَر علاقةُ بولس مع سابقيه. ومشاركوه في العمل هم تابعوه. من هذا القبيل، أصبح بولس المثال، وأساسَ رسالة تسلّمها ونقلها. ثم إن بولس لا يُسمّى "معلّم" (ديدسكالوس). وفي روم 10: 8 و1 كور 1: 24، تجنب لقب الـ "منادي" (كيريكس)، ففضّل ضمير المتكلّم الجمع.
أجل، بولس هو مثال، وما يُقال في آ 12 هو ما طُلب من تيموتاوس في آ 8: مواجهة الألم بدون خجل. هذا يفترض أن جماعة تيموتاوس تتعرّض للاضطهادات إن لم يكن للمضايقات. ليس الموضوع فقط تقديم تصرّف بولس كنموذج، بل تأسيس يقين يدلّ على ما فعله الله فيه (1 تم 1: 12- 16). فالتوازي بين "قوة" و"روح"، في آ 7، في القسم الارشادي من جهة، وبين "قادر" في آ 12 و"بالروح القدس" في آ 14، من جهة أخرى، في القسم الإخباريّ، يعيدنا إلى الموضوع اللاهوتيّ في الرسالة الذي يجعل ما يُطلب من تيموتاوس ممكنًا. فرغم الآلام، الربّ نفسه هو الذي يحفظ "الوديعة" إلى "ذلك اليوم". لا يرتكز الارشاد على قوّة بولس، بل يعيدنا إلى الله الذي فيه تتجذّر الثقة. وهكذا يلتقي الارشاد في صيغة الأمر، واليقين في صيغة الحاضر، حول خبرة بولس.
إذن، ليس بولس فقط نموذجًا وأساس تصرّف، إنه أيضًا أصل يكفل تقليدًا تعبّر عنه آ 12- 14 بلفظ "وديعة" (باراتيكي) و"نموذج (هيبوتيبوسيس) الأقوال الصحيحة". فالوديعة تجعلنا في العالم القانونيّ: إدارة الأموال والخيرات بين فرد أو مؤسّسة. ويجب أن تعود الوديعة كما كانت في اليوم المحدّد. هذا يفترض علاقة ثقة بين المودع ومتقبّل الوديعة. بعد ذلك، يُستودع، لا المال فقط، بل الارث، والتعليم، والتقليد الفكريّ. يرد لفظ "وديعة" ثلاث مرات في 1 تم و 2 تم: إن 1 تم 6: 20 (احفظ الوديعة) تعود إلى 6: 14: تُحفظ الوصية بلا عيب ولوم إلى يوم ظهور ربّنا يسوع المسيح. وإن 2 تم 1: 12، 14 تتجاوب مع "التذكّر" في 1: 3- 5 ومع إرشاد إلى "التسليم" في 2: 1 ي (بشكل إيجابي)، وإلى موضوع التخلّي عن بولس في آ 15-18 (بشكل سلبيّ).
في النهاية نستنتج ما يلي من السياقات التي فيها يرد الموصوف "باراتيكي" والفعل "باراتيتيمي" (2: 2؛ 1 تم 1: 18):(1) إن 1 تم 1: 18؛ 6: 20 جزء من إطار الرسالة، وهما تتجاوبان. في الحالين، نعود إلى ما سبق (عمليًا إلى 1 تم كلها) لنودعه تيموتاوس ونعارضه بتعليم الخصوم (1: 18: عقاب من يرفض الإيمان، آ 9؛ 6: 20: تعارض مع الكلام الفارغ). (2) ذُكر الزمن في 2 تم 1: 12 (إلى ذلك اليوم، رج 1 تم 6: 14) وصيغة الأمر في 2تم 1: 4، والمستقبل في 2: 2 (سلّمه إلى أناس أمناء): كل هذا يدلّ أن زمن الوديعة هو الزمن الذي يأتي بعد بولس. (3) والاختلاف بين الانجيل (رج ما يقابله: الكرازة، الشهادة في 1 تم 1: 11؛ 2: 6- 7؛ 2 تم 1: 10- 11؛ تي 1: 3) والوديعة يظهر في علاقة زمنيّة بين بولس والتعليم: فالانجيل هو تعليم تلقّاه بولس. كان قبل بولس، فكوّنه رسولاً ومناديًا ومعلّمًا. والوديعة هي التعليم الذي جاء بعد بولس، الذي مرّ عبر خبرة بولس وكرازته.
وترد في آ 15- 18 أسماء علم (رج 1 تم 1: 18- 20) بشكل تذكير إلى القارئ (آ 15، أنت تعرف؛ آ 18، أنت تعرف). هذه الآيات تواصل الارشادَ في شكل آخر. في 1 تم 1: 18- 20 و2 تم 1: 15- 18، نجد التعارض بين تصرّفين. في 1 تم، هناك انحراف، وفي 2 تم، التخلّي. إن اونسيفورس لم يخجل (2 تم 1: 8، 12)، بل طلب بولس في رومة بنشاط (2 تم 1: 17)، فوجده ووجد أيضًا رحمة الله (في آ 8، بولس والشهادة، وهنا، بولس والرحمة). وهكذا خدم الجماعة، ودلّ على البرنامج المعدّ لتيموتاوس. تخلّى فيجلس وهرموجينيس. أما اونسيفورس فكان موقفُه موقف الأمانة.
في آ 3- 5 (فعل الشكر) ذُكرت أسرة بولس وأسرة تيموتاوس. وهنا ذُكر بيت اونسيفورس. وهكذا كان التواصل تامًا. وموضوع "التخلّي" جزء من إطار الرسالة الأدبيّ. ننطلق من نموذج خاصّ إلى نموذج عام ( 1: 15: كلهم تخلّوا عني، فيجلس؛ 4: 10، 16: ديماس تركني، وما وقف أحد معي). نلاحظ بعض التعارض بين ما قال بولس عن العزلة في البداية، وعن السلامات الأخيرة (2 تم 4: 9- 12) حيث يحيط به الإخوة والأخوات. ذُكرت آلام الرسول وعزلته وتخلّي الناس عنه، فصوّرت في الواقع ما يُحسّ به المسؤولون في جماعاتهم. رج 2 تم 4: 9- 10، 16.
يبدو أن كاتب 2 تم عرف صعوبات بولس في آسية، فتوسّع فيها، في 2 تم 3: 11، حسب خطوط قريبة من أع 13: 14، 51؛ 14: 1، 16، 21، دون أن ينقل ما في أع نقلاً تامًا. وحسب التوازي بين 1 تم و2 تم، فإن فيجلس وهرموجينيس واونسيفورس يصوّرون في النهاية، أولئك الذين يقبلون النموذج وأولئك الذين يرفضونه. والرسمة هي هي في 2 تم 4: 11 ي: بعد أن ذكر النصّ ألم بولس (4: 6- 7= 1: 8- 12) ومهمّة تيموتاوس (4: 1= 1: 6- 7، 12- 14)، قابل بين ديماس الذي ترك بولس حبًا بالزمن الحاضر، وتلاميذ أمناء (4: 11- 12= 1: 15- 18). كما تحدّث عن وعد بالنصر لجميع الذين لا يتخلّون عن السباق، عن الجهاد (2: 10- 13؛ 4: 8، 17- 18).
وقابل الشرّاح بين أسماء علم وردت في الرسائل الرعائيّة كما وردت في أعمال بولس المنحولة. أيكون ارتبط نصّ بنصّ، أم استقى النصّان من ذات التقاليد والأخبار التي دارت حول بولس؟ أونسيفورس هو من آسية (أفسس في 2 تم، ايقونيوم في أعمال بولس). في بيته تلتئم الجماعة حيث سمعت تقلا بولس يتكلّم. وبيت اونسيفورس (2 تم 2: 20) يتقبّل ما هو صالح وما هو أقلّ صلاحًا.

2- دراسة النصّ
نجد أولاً مثل بولس (1: 11- 14)، ثم مثل اونسيفورس (آ 15- 18). في آ 11، جعلت "اتنون" (الأمم) بعد "ديدسكالوس" (معلّم). أضيفت انطلاقًا من 1 تم 2: 7 (معلّمًا للأمم). في آ 12، ألغى السينائيّ "كاي" (واو العطف) بعد "آيتيا" (السبب).
أ- مثال بولس (1: 11- 14)
إن تعرّض تيموتاوس للخجل من الانجيل، فليتذكّر أن معلّمه لم يخجل في ظروف قاسية، بل ظلّ ثابتًا في ثقة بالله لا يبدّلها شيء.
أولاً: مبشّر ورسول (آ 11- 12)
عملُ الرسول هو نشر الانجيل. رج 1 تم 2: 7؛ 1 كور 12: 28. دخل المنادي (كيريكس) والرسول (ابوستولوس) في المخطّط الخلاصيّ: المنادي ضروريّ لكي يُسمع النداء (آ 9)، لكي ينقل بشكل مباشر "قوّة الله" (آ 8)، ويواصل إشعاع ظهور المخلّص (آ 10). وهذا ما يجعله يفتخر بما يعمل. يشدّد فعل "تيتيمي" على عمل الله الذي "أقام" ابنه وارثًا لكل شيء (عب 1: 2) وجعل أعداءه تحت قدميه (عب 1: 13؛ 10: 13). وأقام الروح القدس الرعاة للقطيع (أع 20: 28). ويقول بولس: الله أقامني في هذا الوضع من تدبير الخلاص (حدث المسيح)، لأعلنه وأنشره وأمثّله بعد أن ارتديت سلطتي الرسوليّة (2 كور 5: 18- 20).
"لهذا السبب" (آيتيا)، رج آ 12. هنا نعود إلى الإرشاد الأول في آ 6 (لذلك). سوف يضاف على ذاك الإرشاد مثَلُ بولس. أما واو العطف (كاي) فتربط هذه الآية بالمهمة الرسوليّة (آ 11)، وتُبرز سبب الآلام من أجل الانجيل (آ 8). إن تيموتاوس يعرف ما يقاسيه بولس الآن من آلام، فلا يحتاج إلى إيضاح. تُذكر هذه الآلام، لا في حدّ ذاتها، بل في ضوء الصليب والإيمان، وفي مدلولها الخلاصيّ (فل 1: 14). لهذا جاء التعارض بين "المشقّات" (هذه) و"لا أخجل". أجل، لا يخجل بولس من السجن....
"أعرف" (آيدو). رج تي 1: 16. أعرف كل المعرفة. وأقدّر كما في 1 تس 5: 12. وقد اغتنت هذه المعرفة بخبرة تدخّلات الله وعنايته في حياة الرسول (روم 8: 28)، واستندت بشكل خاص إلى علاقة شخصيّة بين بولس والمسيح (آ 10). إنه الوحيد في حياة الرسول، وعليه يتّكل. به آمنتُ. "بستاوو" في صيغة الكامل (عمل من الماضي تنتج عنه حالة تدوم، تستمرّ حتّى الآن). آمنت به، وما زلت مؤمنًا رغم جميع المخاطر. بولس أكيد من ربّه ومخلّصه (4: 17- 18)، وهو يوضح يقينه التامّ والكامل بفعل آخر في صيغة الكامل فيعبّر عن ثقته التامة (بايتو، 2 كور 1: 3). فموضوع هذا الإيمان هو أن المسيح (أو الله، لو 1: 49) قادر كل القدرة. حين نطبّق الصفة "قادر" (ديناتوس) على البشر، فهي تدلّ على إمكانيّة القيام بمهمّة، بوظيفة (تي 1: 19)، وتحقيقها تحقيقًا تامًا (أع 7: 22؛ 18: 44)، وبدون خلل (روم 15: 1). وحين نطبّقها على الله فهي تعني تتمّة المواعيد (روم 4: 21) والقدرة على صنع كل شيء (روم 11: 23؛ 2 كور 9: 8). وهذه القدرة تحفظ الوديعة.
ما هي هذه الوديعة؟ يرى بعض الشرّاح أن بولس يسلّم إلى الله حياته الحاضرة ونفسه بعد الموت، على مثال المسيح (لو 23: 46). وتكلّم آخرون عن نقل التعليم الرسولي وأقوال التقليد الصحيحة من جيل إلى جيل. فالرسول لا يقدر أن يحفظ هذه الوديعة بسبب موته القريب. فعلى قدرة الله أن تعمل. "ذاك الذي سلّمني الوديعة يحفظها من العبث" (الذهبي الفم).
ثانيًا: الأقوال الصحيحة (آ 13- 14)
هذه الوديعة التي سُلّمت إلى المنادي (كيريكس) هي التعليم المسيحي القديم، "الأقوال الصحيحة" ( 1 تم 1: 10). كان بولس أمينًا لما استُودع، فنقله إلى تيموتاوس (1 تم 1: 18). وهذا بدوره ينقله إلى أناس أمناء (أكيد منهم، 2 تم 2: 2)، إذن، قدّم الرسول إلى تلاميذه قاعدة تعليمه: اتبع نموذج تعليمي (3: 10). في "هيبوتيبوسيس" (نموذج، رج 1 تم 1: 6)، يدل المسبّق على أن النمط (تيبوس1، تم 4: 12) يبدو مثالاً من أجل عمل آخر. هو الرسمة الأولى التي ستتوضّح قبل أن تتنفّذ. فكرازة بولس التي سمعها تيموتاوس هي النموذج الأول لكل تعليم التلميذ: فخادم الانجيل لا يعرض إلاّ ما استُودعه (1 تم 3: 9). هو لا يكرّر بشكل آلي كما على مسجّلة، أقوال المعلّم في حرفيّتها، بل يكون أمينًا لتقليد يشرحه ويتوسّع فيه ويطبّقه على حياة المؤمنين.
"في الإيمان والمحبّة". رج 1 تم 1: 14. هكذا يسمع التلميذ (كما قال تيودوريتس)، وهكذا يتكلّم المعلّم مندفعًا بإيمانه (2 كور 4: 13). فالإيمان هو ما ُيلهم التعليم. والمحبّة تُوضح هذا الإيمان الذي نعيشه في المسيح، وتجعله ناشطًا (غل 5: 6). هكذا يكون التلميذ أمينًا للنموذج (تيبوس، 1 تس 1: 7؛ 2 تس 3: 9)
في آ 14، نقرأ "كالوس" كصفة للوديعة (رج 1 تم 3: 7؛ 4: 6). هذه الوديعة هي الانجيل (آ 8- 10)، وظهور الربّ (آ 10)، والشهادة التي لا نخجل منها (آ 8، 12)، وأقوال الايمان في المسيح (آ 13). هي كنز ثمين، فما عادت وديعةَ بولس، بل وديعة الله التي جعلها في يد بولس وتيموتاوس (1 تس 3: 2)، وقد أعطي التلميذ الروح القدس ليساعده على حفظها. هذا الروح يسكن فينا (روم 8: 11؛ غل 4: 12)، نحن خدّام الكلمة. هو روح القوّة والمحبّة (آ 6- 7؛ 2 كور 11: 4). أمر بولسُ تلميَذه بحفظ الوديعة، ودلّه على الوسيلة التي تجعله أمينًا. المهمّة صعبة. وبعضهم ترك الإيمان. والرسول ذاهب إلى الموت. أيبقى تيموتاوس وحده؟ ولكن الروح القدس يسكن في الكنيسة. فيبقى أن نعمل بعمله فينا وبواسطتنا.

ب- مثال اونسيفورس (1: 15- 18)
كم يحتاج تيموتاوس إلى شجاعة لكي يتابع العمل. صار وحده! لا، بل هناك واحد ما زال أمينًا لبولس: هو أونسيفورس الذي يمكن أن يقتدي به تيموتاوس.
أولاً: الذين في آسية (آ 15)
"أنت تعرف" (رج 1 تم 1: 9). هذه الحاشية التاريخيّة (آ 18) تعطي الإرشاد مناخه. أي يجب أن تتنبّه. فالذين تركوا الايمان كثيرون، وعادوا إلى العالم. يقول النصّ "جميع" (بنتس). لا شكّ أن هناك بعض التضخيم كما في كلام إيليا أمام الربّ عند جبل حورب ( 1 فل 19: 14). "أبوترافاين": أدار ظهره، مال عن صديقه (مز 5: 42؛ عب 12: 25)، ترك، تخلّى. لا شكّ في أن الرسول يلمّح إلى خيانة على مستوى الصداقة (عنّي، أنا). هي حلقة صغيرة من المسيحيين اعتادوا أن يعملوا مع بولس. رافقوه إلى رومة، وهناك تخلّوا عنه، كما فعل ديماس (4: 10). تلك نظرة، وهناك من يشير إلى أناس في أفسس. وآخرون إلى وجهاء في رومة احتاج بولس إلى معونتهم. ولكن اعتُقل بولس كثائر على السلطة، وقُطع رأسه.
ذكر بولس اسمين لا نعرف عنهما شيئًا. تحدّث عنهما كتابٌ ارتبط بامبروسيوس: امتلأا خبثًا، فتظاهرا بالأمانة للرسول. ودهش الذهبيّ الفم من بولس الذي لم يقل كلمة لوم ولم يحكم على هذين المسيحيّين اللذين فصلا الايمان عن المحبّة الأخويّة (آ 13)، فلم يريا في سجن بولس شهادة ليسوع المسيح (آ 8، 11، 12).
ثانيًا: بيت اونسيفورس (آ 16- 17)
تجاه هذا الوضع المؤلم، تأثّر بولس بما فعله اونسيفورس: أبدى الشكر وعرفان الجميل لذاك الذي شجّعه ( صداقة داود ويوناتان، 1 صم 18- 20)، وطلبَ الرحمة له. يبدو أن اونسيفورس هذا أقام مع عائلته في أفسس (4: 19). وتقول "أعمال بولس وتقلا"، إنه اهتدى على يد بولس. أما "أعمال بطرس واندراوس" فتقول إنه اهتدى على يد اندراوس وانه كان شخصًا غنيًا.
لماذا تكلّم بولس عن "بيت اونسيفورس" ولم يتكلّم عن اونسيفورس فقط؟ ولماذا لم يسلّم عليه في نهاية الرسالة؟ أترى سُجن هو أيضًا لأجل ما عمله لبولس؟ أتراه مات، فحيَّى الرسولُ أهل بيته.
ما شجّع بولس هو أن اونسيفورس لم يخجل من قيود الرسول (آ 8، 12). وهو ما اكتفى بعاطفة سريعة، بل دلّ على غيرة في بحثه عن بولس إلى أن وجده. بعد سفر طويل، حطّ الرحال في رومة. أتراه لم يكن يعرف المدينة؟ أم لم يعرف موضع سجن بولس؟ وفي النهاية، لا بدّ من ربح ودّ السجّان ليسمح له بأن يرى السجين. كل هذا جعله بولس في هذه الغيرة في البحث. وفرحَ اونسيفورس حين وجد بولس، الذي أعجب بهذا الشخص وفرح بهذا اللقاء.
ثالثًا: رحمة من الربّ (آ 18)
وجد اونسيفورس بولس، وبالتالي وجد الرحمة بفضل صلاة الرسول: بما أن بولس لا يقدر أن يشكر صديقه بما فيه الكفاية، فهو يطلب له الرحمة في يوم مجيء الربّ. نقرأ مرّتين "الربّ". نستطيع القول: أنعم الرب يسوع عليه بأن ينال الرحمة من الله الآب ( 1 تس 4: 14). فمبادرة الخلاص تنطلق من الآب، وتصل إلينا بواسطة الابن، يوم مجيئه، أي يوم يجازي كلّ انسان بحسب أعماله. أترى نحن أمام "دينونة خاصة" قبل "الدينونة العامة" التي تتمّ في عودة المسيح بمجد عظيم ليدين الأحياء والأموات؟ ربّما.
كانت لاونسيفورس مكانته في أفسس. فالخدمات التي قدّمها هناك، كانت نتيجة هذه المحبّة نفسها التي أظهرها تجاه بولس (رج فلم 13؛ أع 19: 22). "خدمني" (دياكوناين). لا شكّ في خدمة المحبّة (أغابي) كما في 2 كور 8: 19- 20؛ عب 6: 10). وهي موهبة الخدمة (1 بط 4: 10- 11) سواء كانت طوعيّة أو داخل مؤسّسة (الشماسيّة). "أنت تعرف". بهذا الكلام، يدعو بولس تيموتاوس لكي يشاركه في فعل الشكر وفي طلب الرحمة.

3- قراءة إجماليّة
طلب بولس من تيموتاوس أن لا يخجل من الانجيل: فمعلّمه لم يخجل، وهو الذي جعله الرب في خدمة الانجيل، كالمنادي الذي يعلن، والرسول الذي ينقل، والمعلّم الذي يشرح. وعمل بولس ما عمل، برحمة من الله، للقيام بمهمّة رفيعة. فسلوكه السابق لم يكن يسمح له بذلك، وهو أول الخطأة (1 تم 1: 13- 16).
وبسبب هذه المهمّة في خدمة الانجيل، عرف بولس المحنة. لا نجد تحديدًا عن هذه المحنة، ولكن التلميحات في الرسالة تدلّ على أن الرسول يتألّم في السجن (1: 8، 16؛ 2: 9)، وينتظر موته القريب (4: 6- 8). فالمحنة إذن هي سجن رومانيّ ثان سيقوده إلى شهادة الدم. على المستوى البشريّ، مثلُ هذا الوضع يدعو إلى الشكّ. فإن كان الانجيل "قدرة الله لخلاص كل مؤمن" (روم 1: 16)، كيف نفهم أن يتعرّض الذين كرّسوا له حياتهم بأن يُحسبوا كمجرمين (2 كور 4: 9- 12)؟ تجاه هذا السرّ حول طرق الله، قد يفقد الرسول بعض إيمانه فيردّد ما قاله إرميا: يا ربّ، "صرتَ لي كينبوع كاذب، كمياه لا يُعتمد عليها" (15: 18). ولكن عند ذاك يبدو وكأنه يشكّ بقدرة الله التي لا شيء يغلبها؟ فلو فعل، بان وكأنه يخجل من الانجيل. ولكن بولس لا يقع في هذه التجربة. فإيمانه ليس بالايمان السطحيّ، الذي يصل به إلى اليأس والقنوط. فهو يؤمن بكل قلبه. وهذا الإيمان هو الذي حوّل حياته منذ بدء لقائه بالربّ وما زال. إيمانه هو حياة مع شخص تعلّق به والتزم معه. وهذا ما عبّر عنه في روم 4: 20- 21: "وما شكّ (ابراهيم) في وعد الله، بل قوّاه ايمانه.... واثقًا بأن الله قادر على ان يفي بوعده". في قلب بولس يكمن يقين مماثل. فهو مقتنع (روم 8: 38؛ 14: 14) أن الله قدير بحيث يحفظ وديعته إلى اليوم الأخير.
ما سلّمه بولس إلى الله هو حياته، شخصه، حقّه. جعل قضيّته بين يديّ الربّ، شأنه شأن مساكين يهوه. وإن افتُري عليه، وإن سُجن، وإن هُدِّد بالموت، فهو يعرف أنه لا يُخزى في اليوم الأخير، في ذلك اليوم. وبما أنه لم يخجل من الله في هذا العالم، فهو لن يخجل في الدينونة الاسكاتولوجيّة. عندئذ يحكم الله على خصومه، ويبرّره، ويجازي أمانته خير جزاء فيمنحه "إكليل البرّ" الذي هُيّئ له منذ الآن (4: 8). هنا نقرأ في 1 كور 4: 5: "فلا تحكموا على أحد قبل الأوان، حتّى يجيء الربّ الذي ينير ما خفي في الظلام ويكشف نيّات القلوب، فينال كل واحد ما يستحقّه من المديح".
اليوم الذي تلمّح إليه نهاية آ 12 هو يوم الدينونة الاسكاتولوجيّة (آ 18؛ 4: 8؛ 2 تس 1: 10). ففي خط العهد القديم (عا 5: 18- 20) والتقليد النبويّ حول يوم الربّ، استعمل بولس لفظ "يوم" ليدلّ على تدخّل الله (أو المسيح) النهائيّ في التاريخ. تتحدّث 1 كور 5: 5 عن "يوم الربّ" (رج 1تس 5: 2؛ 2تس 2: 2)، 1 كور 1: 8 عن "يوم ربّنا يسوع المسيح" (رج 2كور 1: 14)، فل 1: 6 عن "يوم المسيح" (فل 1: 10؛ 2: 16)، أف 4: 30 عن "يوم الفداء"، 1كور 3: 13 عن "اليوم". ولكننا لا نقرأ عبارة "ذلك اليوم" إلا في 2تم وفي 2تس 1: 10.
إذا كان على تيموتاوس أن يتأمّل مثال بولس بالنسبة إلى الثبات في الإيمان والثقة بالله، فعليه أيضًا أن يتأمّل تعليمه (الأقوال الصحيحة) الذي سمعه. لقد تسلّم التلميذ من معلّمه تعليمًا تحدّدت نقاطه الأساسيّة بحيث لا نستطيع أن نتركها دون خيانة. والتفكير المسيحيّ الذي يقوده الروح القدس، هو الذي يهتمّ بالتعمّق في معطيات الوحي الأساسيّة. فتيموتاوس لم يتسلّم كتاب تعليم بسيط، بل انجيلاً: إذا كانت طبيعته غير متبدّلة، فالتعبير يتكيّف مع الظروف ويتحوّل بالنظر إلى وعي المؤمنين للقيم الأساسيّة. إذن، لن نرى في وديعة الإيمان حفاظًا ماديًا على معطى مجمَّد صُبَّ مرّة واحدة في عبارات لا تُمسّ، فانقطع عن حياة الكنيسة.
فالأمانة الأساسيّة للوديعة تُعاش في الإيمان. كما تُعاش أيضًا في "الحبّ الذي هو في المسيح يسوع". لسنا هنا أمام حبّ المسيح للبشر، بل الحبّ الذي ناله المؤمن حين اتّحد بالمسيح. فسهر الراعي يفرض عليه بعض المرّات تدخّلاً قاسيًا على المستوى التعليميّ (1تم 1: 3؛ تي 1: 11- 13؛ 2: 15؛ 3: 10)، ولكنه لا يعفيه أبدًا من الحبّ الأخويّ (2تم 2: 25).
إن عبارة "حفظ الوديعة" (1تم 6: 20) تدلّ على اهتمام الرسول بأن يرى المسؤولين في الكنيسة واعين لواجباتهم تجاه التعليم، تجاه كرازة المعلّمين الكذبة. أعلن يسوع الانجيل. فاهتمّ الرسل بأن يكونوا شهوده في العالم (مر 16: 15؛ أع 1: 8). ومعهم، وتحت نظرهم (أع 15)، تابع المرسلون الكرازة بهذا التقليد الواحد. وأكّد بولس نفسه أنه لم يستنبط شيئًا، بل نقل ما تسلّمه (1كور 11: 23؛ 15: 3). فليفعل تيموتاوس مثله.
لا يكفل الأمانة لانجيل يسوع إلا روحُ يسوع. فبفضل الروح يقدر تيموتاوس أن يحفظ الوديعة. شدّد يوحنا على نور يقدّمه "روح الحقّ" (يو 4: 17) الذي يعلّم كل شيء (يو 14: 26) ويقود إلى الحقيقة كلها (يو 16: 13). أما بولس فأعلن أن المؤمن لا يسعه أن يعترف بإيمانه ويعلن أن يسوع هو ربّ (1 كور 12: 3) إلاّ بالروح القدس. جميع المعمّدين نالوا الروح (روم 8: 9- 11) الذي لا يني يقودهم (روم 8: 14). ولكن إن كان جميع المسيحيين يوجَّهون في إيمانهم بالروح الذي فيهم، فالخدّام المسؤولون عن الإيمان المشترك ينالون عونًا خاصًا. فقد أكّد بولس دومًا أن بجانب عطيّة الروح التي تُمنح للمؤمنين جميعًا بالمعموديّة، هناك مكان للمواهب، التي هي عطايا جديدة من الروح (1كور 12: 4- 11). وهي عطايا تتكيّف مع دعوات خاصة في خدمة الجماعة. وقد قيل في 2تم 1: 6- 7 أن موهبة الرعاية هي موهبة خاصة يمنحها الروح، وهي نعمة نالها بولس وتيموتاوس: "أعطانا (نحن) الله روح القوّة" (آ 7).
وقبل أن يقدّم بولس مثال أونسيفورس (آ 15- 18)، تحدّث عن خيانة فيجلس وهرموجينيس. لا يحكم عليهما الرسول، لأنهما يختلفان عن الذين أنكسرت سفينة إيمانهم (1تم 1: 19- 20). لا يُذكر هذان الشخصان في العهد الجديد إلاّ هنا. غير أن أعمال بولس وتقلا (تعود إلى القرن الثاني) تحدّثت عن هرموجينيس وديماس (2تم 4: 10) على أنهما من أهل المكر. ولكن في قلب هذا الضيق، أحسّ بولس ببعض العزاء، بل بفرح كبير حين زاره أونسيفورس الذي يعني اسمه "الذي يُعين، الذي يخدم". كانت زيارته راحة في التعب وبرودة في الحرّ. "أنابسيخاين" (رج أع 3: 20): برّد انسانًا تعبَ وجاهد، أعاد إليه قلبه، وبشكل واسع نحن أمام تشجيع أخويّ لانسان يمرّ في الضيق. نرفع له نفسه حين نحمل إليه العون الماديّ، كما نحمل علامات الأمانة والمحبّة (2كور 6: 13؛ 7: 12؛ غل 4: 15- 20). لا نمتلك معلومات عن أونسيفورس الذي ذُكر هنا وفي 4: 19. إلاّ أن أعمال بولس وتقلا قدّمت عنه تفاصيل تمتدحه: فهو وامرأته لكترة استضافا بولس في بيتهما في ايقونيوم، حين مرّ الرسول في تلك المدينة خلال الرحلة الرسوليّة الأولى. في ذلك الوقت اهتديا للمسيح. وما تقوله 2تم 4: 19 هو أن بيت أونسيفورس يقيم في أفسس، وهناك أدّى التلميذ خدمات جلّى للرسول (1: 18).
يبدو أن أونسيفورس كان قد مات يوم كتب الرسول. فبولس يمتدح سخاء صديقه، ثمّ يطلب الرحمة لبيته. وبعد ذلك، يطلب بولس الرحمة لأونسيفورس في ذلك اليوم، أي يوم يقف أمام الديّان لكي ينال جزاء ما عمله في هذه الحياة.

خاتمة
قدّم بولس مثالين لتلميذه تيموتاوس. مثاله الشخصيّ حين لم يخجل من الانجيل، حين لم يخف رغم المحنة التي يمرّ فيها. ومثال أونسيفورس الذي طلب بولس في رومة فعرّض حياته للخطر، وربّما للموت. فعلى تيموتاوس أن يقتدي بمعلّمه في المناداة بالانجيل وحمل الرسالة مهما كلّفه ذلك من تضحية. ولا ينسى الأمانة لما استُودع من تعليم. ومن جهة ثانية، يقتدي باونسيفورس فيأتي إلى بولس الذي يقيم وحده في السجن، ليحمل إليه تشجيعًا ينقصه بعد أن حدث لأونسيفورس ما لا تُحمد عقباه. قال له بولس: تعال إليّ سريعًا (4: 9). فالرسول الشيخ يحتاج إلى سند من ابنه، بعد أن سند ابنه وأطلقه في خدمة الانجيل وكلّفه متابعة الرسالة في أفسس وربّما في كنائس أخرى.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM