الفصل الرابع :قدرة الله الخلاصيّة

الفصل الرابع
قدرة الله الخلاصيّة
1: 6- 10

بعد أن انفصل تيموتاوس عن أبيه الروحي، عليه أن لا ييأس. بل يتحلّى بالقوّة والمحبّة والفطنة. لقد نال نعمة تدعوه أن لا يستحي من الانجيل، وأن يستعدّ للجهاد من أجل المحافظة على وديعة الايمان. فالمسؤوليات كبيرة والصعوبات خطيرة. والخوف وعدم المتحرّك يسيئان كل الاساءة إلى العمل الذي بدأه المعلّم حين قضى ما يقارب الثلاث سنوات في أفسس، وهو لا يستطيع الآن أن يكمّله بعد أن صار الموت قريبًا منه.

1- متابعة العمل في الكنيسة
دعا بولس تلميذه لكي يتابع العمل الذي بدأه الرسول في أفسس. وجاءت آ 6 (تذكّر رسامتك) مفصلاً في الرسائل الرعائيّة. فنحن هنا كما في 1تم 1: 11 مع الحسّ بالتقاليد التي ينقلها بولس. هناك تقاليد الأجداد التي تمرّ عبر بولس. عبّرت عنها 1تم 4: 14 حين تحدّثت عن رسامة تيموتاوس "حين وضع جماعة الشيوخ يديهم عليك"، و2تم 1: 6 التي تحدّثت عن وضع يدي بولس وحده. استند مجمع ترنتو (ايطاليا) إلى هاتين الآيتين وغيرهما (أع 6: 6؛ 13: 3) ليتحدّث عن الرسامة الاسقفيّة. لقد نال تيموتاوس موهبة بوضع اليد من أجل سلطان روحيّ مرتبط بالخدمة أو بمهمّة من المهام.
في نظر بولس، الروح القدس يعطي مختلف المواهب لأعضاء الكنيسة من أجل بناء الجماعة. أما في الرسائل الرعائيّة، فالمواهب ترتبط بالخدمة، وتمرّ عبر الرسامة، في فعلة رمزيّة تعلن انتقال سلطان حقيقيّ من خلال السرّ. وهكذا كان انتقال إلى عمل تأسيسيّ. فإن 1تم 4: 14 دلّت على ممارسة معروفة حين دُوّنت الرسائل الرعائيّة. وفي 2تم 1: 6، شدّد بولس على الطابع الشخصيّ بين الرسول وتلميذه الحبيب. وقابل بعضهم هذا "التسلسل" بين بولس وتيموتاوس، كالتسلسل بين موسى ويشوع (عد 27: 18، 23؛ تث 34: 9). هنا نقرأ ما قيل في "كتاب العاديات البيبليّة" (20: 2- 3) الذي نُسب إلى فيلون: "أخذ يشوع ملابس الحكمة وارتداها، وشدّ حقويه بحزام الفهم. ولما ارتداها، اضطرم فكرُه واضطربت روحه". والمعنى هنا، هو أن السلطة انتقلت من التلميذ إلى المعلّم.
حثّ بولس تلميذه على حفظ "الوديعة" أو التعليم الذي تلقّاه (1: 3- 14؛ 2: 2؛ 3: 14)، على مواصلة العمل (4: 1- 8)، على اتّباع طريق المعلّم (1: 3- 14). كل هذا يطبع بطابع شخصيّ، فهمَ التقليد في الرسائل الرعائيّة. فبولس هو أكثر عن مثل نقتدي به. وبولس هو أكثر من الخادم. فالوصيّة التي تربط الآباء بالابناء في تسلسل شخصيّ، أصبحت وصيّة إلى تلميذ من أجل تواصل الرسالة وهويّتها.
ما قاله الرسول في آ 6، لا يستند فقط إلى إيمان تيموتاوس، الذي ذُكر في فعل شكر، بل إلى مواهب ملموسة منحها الروح القدس: القوّة والمحبّة والفطنة. إذا كانت الموهبتان الاوليان من مواهب الروح القدس (نلاحظ أن الرسائل الرعائيّة لا تشدّد كثيرًا على عمل الروح القدس)، فالفطنة تبدو "فضيلة" ترتبط بالعالم الرواقيّ، فتبعدنا بعض الشيء عن جنون الصليب. صارت الفضيلة ثمرة نعمة تعلّمنا، تؤدّبنا (تي 2: 11- 12)، والموهبة صفة مطلوبة لاختيار الخدّام في الجماعة (1تم 3: 1- 13؛ تي 1: 6- 9).
في آ 8، يعود بولس إلى موضوع الأمانة. لا يستحي تيموتاوس من "شهادة للرب" ولا من بولس السجين. فالحياء من واحد يعني الحياء من آخر. في آ 12 نعرف أن بولس لا يستحي، لا يخجل. وفي آ 16، لا يخجل أونسيفورس من قيود بولس. وما نلاحظه هنا هو أن على تيموتاوس أن يتألّم مع بولس (2: 3)، لا مع المسيح (روم 8: 17؛ 1كور 12: 26؛ 2كور 1: 6؛ غل 3: 4؛ فل 1: 29؛ 2تس 1: 5). فالألم لا يرتبط بالمسيح، بل بوظيفة: إنه يرتبط بإعلان الانجيل. لا نجد في الرسائل الرعائيّة قولاً بأن ألم المبشّر يعبّر من الداخل عن انجيل المصلوب. فالمبشّر يتألّم مع بولس الذي تألّم ومات من أجل الانجيل.
إن صورة بولس الذاهب إلى الموت تجعل الإرشاد مؤثّرًا. فوضعُ بولس المتألّم كمثال للخدمة، يقابل وضع جماعة تعرف بالأحرى الطمأنينة (2: 2).
ونقرأ في آ 9- 10 الوزن اللاهوتي في 2تم 1. نقرأ نشيدًا ليتورجيًا، وربما عماديًا: حين يتحدّث بولس عن زوال الموت ونور الحياة وعدم الفساد، يعود إلى تبدّل اسكاتولوجيّ نفهم فيه أن المعمودية قد أتمّت عبورَ المؤمن. أحاط بهذا النشيد حثٌ على الألم من أجل الانجيل، فضمّ عناصر مختلفة أخذها من التقليد البولسيّ (الخلاص، قبل وبعد، الخلاص والدعوة)، وفسّرها في إطار ظهور إلهيّ. إن سياق هذا النشيد الذي جعله بعضهم افخارستيًا، الذي يشدّد على الكرازة ويحثّ الرسول على المحافظة على الوديعة، يدلّنا على أننا أمام ملخّص للكرازة الرسوليّة. ذاك هو الانجيل الذي يجب على تيموتاوس أن يعلنه. وهذا الانجيل هو قوّة خلاص (روم 1: 4؛ 1كور 6: 14). أما التشديد فعلى البعد الكنسي للنداء وعلى مشاركة الأفراد في الخلاص (روم 1: 7؛ 1كور 1: 2).
إن التجلّي (ابيفانيا) الذي يدلّ على زمن المجيء في 1تم 6: 14؛ 2تم 4: 1، 8؛ تي 2: 13، يدلّ هنا على التجسّد (رج 1تم 3: 16؛ تي 2: 11؛ 3: 4). ويتأوّن الخلاص بشكل مميّز في نتائجه بالنسبة إلى الجماعة اليوم. هو نفي للنفي: هو يدمّر الموت. وايجاب للايجاب: ينير الحياة والخلود.
لا تشدّد الرسائل الرعائيّة على شخص المسيح بقدر ما تشدّد على المواهب، على ما يحمله المسيح، على ما تمنحه النعمة (1تم 1: 13- 14؛ تي 2: 11- 12). فظهورُ المسيح التاريخي يمتلئ بإشعاع الظهور الاسكاتولوجي بحيث يُلغى الموت. مثلُ هذا التعليم يُعدّ المؤمن لتقبّل الألم، وينتزع الخوف من الموت لدى المسؤولين، ويقوّي رجاء الحياة الأبديّة.
2- دراسة النصّ
نقسم النصّ قسمين: وضع اليد (1: 6- 8)، بشارة الخلاص (1: 9- 10). نقرأ في آ 6، "جعلها المسيح" (في الاسكندراني)، بدل "جعلها الله". وفي آ 10 تقلب اللفظتان: "يسوع المسيح" بدل "المسيح يسوع".

أ- وضع اليد (1: 6- 8)
يقع هذا النصّ بين "موهبة الله" في آ 6 و"الروح القدس الذي يقيم فينا" (آ 14). ولكننا لا نصل في هذا الفصل إلى آ 14، بل نكتشف أن الخدم المسيحيّة هي قبل كل شيء عمل روح الله (1كور 12).
أولاً: أضرم الهبة (آ 6)
يستطيع تيموتاوس، رغم صحّته السيّئة وشبابه وطبعه المتردّد، أن يواجه الوضع الحرج في الكنيسة: يستند إلى نعمة الله. "لذلك". تربط آ 6 بما سبق. فإيمان لوئيس وأفنيكة وثقة بولس، يدفعان تيموتاوس إلى الأمانة والاندفاع. أما فعل "أنبّهك" (أناميمنيسكو) (1كور 4: 17؛ رج 2كور 7: 15) فيشير إلى تذكّرات آ 3- 5: ما دفع بولس إلى تدوين هذا الارشاد، هو ما تذكّره بولس من تلميذه حين وضع عليه يديه: يجب على هذه الموهبة أن تؤتي كلَّ ثمارها. نقرأ "أنازوبيروسيس" إضرام، ولادة بالنار. نحن أمام عضو مجمَّد عادت إليه الحياة، أو مدينة أعيد بناؤها بعد أن هُدمت، أو لون عاد إليه رونقه، أو شخص استعاد عزمه (يعقوب، رج تك 45: 27). هذا ما يليق بأصحاب المواهب، حيث يشبّه الروح بنار فيكون مبدأ حياة (أع 2: 3؛ 1تس 5: 19). هذا لا يعني أن النار انطفأت في تيموتاوس. فقد تكون خبت بعض الشيء. أيكون قد أهمل التعليم والتوبيخ والتدبير؟
ربط النصّ بين "هبة الله" و"وضع الايدي". هذا ما حدث في لسترة، حيث شارك بولس الشيوخ في وضع الايدي (1تم 4: 14؛ رج أع 16: 1- 3). أعطيت هبةُ الروح القدس لتيموتاوس بفعلة خارجية، بطقس خارجيّ: وضعُ الأيدي على رأس تيموتاوس. بهذه الفعلة مرّت النعمة، وانتقلت الموهبة. اذن، على تيموتاوس أن يحرّك نعمة الله التي نُقلت إليه. قال الذهبيّ الفم: "كما أن الخشب طعمة النار، هكذا هي غيرتنا الرسوليّة لإضرام النعمة على الدوام... كسلُنا واهمالنا يطفئان روح الله. ونحن نضرمه بانتباهنا وسهرنا. أنت تمتلك هذا الروح. فعليك أن تجعله يضطرم. فامتلئ جرأة وفرحًا وسعادة، ولا تضعف".
ثانيًا: روح الخوف وروح القوّة (آ 7)
ما هي بالتحديد طبيعة هذه النعمة التي نلناها، فتقدر أن تنمو، كما أن تخبو، شأنها شأن النار؟ إن "بنفما" بدون التعريف، لا يدلّ على الروح القدس (آ 14؛ تي 3: 5)، لا يدلّ على "الروح الذي يمنح النعمة" (عب 10: 29)، بل عطاياه التي تنفحنا بصفة داخلية، بطابع جديد يحوّل الانسان في الاعماق (روم 8: 2، 15؛ أف 1: 17). وحين نقول "روح" نعني قوّة الحياة وغناها. وهكذا نكون أمام مقابلة بين شجاعة جندي المسيح (1تم 1: 18) والجبانة والخوف.
"دايليا" مراحدة كاسم في العهد الجديد. ولكن يرد الفعل (دايليان) في يو 14: 17؛ رج تث 1: 21؛ 31: 6، 8؛ يش 1: 9؛ 8: 1؛ 10: 25. والصفة (دايلوس) في مت 8: 26= مر 4: 40؛ رج رؤ 21: 8. هذا الخوف يعارض الايمان (سي 34: 14). هو خوف الجبان أمام العدوّ (مز 78: 53؛ 1مك 4: 32). إنه رذيلة في الجنديّ (2مك 15: 8) يجب أن يتخلّص منها. وعلى المستوى الادبيّ، يدلّ الجذر على نقص في الرجولة، على نفس كسولة (أم 19: 15) لا عزم فيها (2مك 3: 34). ذاك هو الوضع السلبيّ.
أما الوضع الايجابي، فيرينا وضع اليد الذي يمنح الرسول روح القوّة (1تم 1: 12). فالروح هو قوّة (لو 1: 35؛ أع 6: 5، 8). وهو يتضمّن القدرة والانشداد. وطبيعة روح الله أن يكون قديرًا ويتغلّب على كل شيء في هذا العالم. وأن يُجري المعجزات (غل 3: 5). إذن، نحن أمام قوة غالبة وقدرة إلهيّة يرتديها خادم الانجيل (روم 15: 19؛ 1كور 2: 4؛ 2:كور 6: 6؛ 1تس 1: 5) على مثال المسيح نفسه (لو 4: 14) وحسب وعده (أع 1: 4).
والمحبة (أغابي) هي هذه النار (نش 8: 6- 7) التي يجب أن نضرمها دومًا (آ 6). بما أنها ثمرة الروح (غل 5: 22)، فهي حرارة وحميّة (روم 12: 11). ونحن نفهمها كتعلّق الراعي بالمسيح (يو 21: 15- 17؛ 2كور 5: 14)، كتضحية وعطاء وتكريس في خدمة القطيع (يو 10: 15؛ 15: 13؛ 2كور 11: 11؛ 12: 15). فالمحبّة وحدها تبني الكنيسة (1كور 8: 1؛ أف 4: 16). وعلى الراعي الذي هو مثال الرعيّة (1بط 5: 3) أن يحبّها بكل نفسه وكل قدرته وكل روحه (مر 12: 30).
وبعد أن ذكر الرسول القوة، والمحبّة الديناميكيّة، عاد إلى الفطنة والاعتدال. رج 1كور 6: 21- 22. "سوفرونيسموس". فطنة يجب أن يتحلّى بها المتحمّس، المندفع. فتصل به إلى الحكمة والتعقّل. بما أن النعمة تعلّم المسيحيين لكي يكونوا »فطنين (متعقّلين)، بارين (صالحين)، أتقياء (تي 2: 12)، فالموهبة الرعائيّة تمنح الراعي صفة تقود الناس إلى هذه المزيّة التي هي ضروريّة، شأنها شأن الشجاعة والغيرة.
ثالثًا: قدرة الله (آ 8)
وبنتيجة هذه النعمة التي يجب أن تُضرم، وهذا التعارض بين جبانة الانسان وقوّة الله (معطية هامّة في الكتاب المقدس)، يفتخر تيموتاوس بهذا التعليم ويجعل كل اهتمامه في إعلانه. "لا تخجل" (سي 42: 1) "إبايسخينوماي". رج روم 1: 16؛ 2كور 10: 8؛ فل 1: 20؛ 2تم 1: 12، 16. هذا ما يدلّ على الجرأة (باريسيا: الثقة الممزوجة بالفرح والافتخار) التي بها يمارس الرسول خدمته (أع 28: 31؛ رج 2كور 3: 12ي؛ 4: 1- 2؛ فل 1: 20). هذه الجرأة ترتبط بوضع اليد وعطيّة الروح. فحين تُعتبر الكرازةُ بالانجيل شهادة تُؤدّى للمسيح (1كور 1: 6؛ أع 26: 16؛ رؤ 1: 2، 9) وتُلزم شخص الشاهد (1تم 6: 12- 13)، فهي تنقل شهادة يسوع، كلمة الله (1كور 2: 1؛ رؤ 12: 17؛ 19: 10).
يشير ولْي هذه الآية (مع 1تم 6: 13) أن هذه الشهادة (مرتيريون) لا تقف عند كلام نقوله في الخارج، بل تصبّ في آلام نحتملها (رؤ 6: 9. سوف يُسجن تيموتاوس أيضًا، رج عب 13: 23). وهي تصل بنا إلى الاستشهاد على مثال المسيح الذي مات معذّبًا عنا فوق الصليب. لقد تماهى شخص الرسول مع وظيفته، يحيثُ عومل، خلال حياته، كآخر الناس (1كور 4: 9) على مثال معلّمه (يو 15: 18- 27).
لا نستطيع أن نتخيّل اليوم الخوف الذي يشعر به انسان متردّد حين يعرف أنه سيكرز بالانجيل في أفسس، في عالم يوناني وروماني، عن الصليب الذي هو عقاب أكبر المجرمين، والذي هو في الواقع السبيل الوحيد للاتّحاد بالله. فمن مجّد هذا الموتَ المذلّ واعتبره حدثًا الهيًا، دلّ على حماقة تحمل حكماء هذا العالم على الاستهزاء.
تحيّر تيموتاوس. وربّما تشكّك حين أوقف بولس. أترى الله تخلّى عن شاهده؟ ولكنه وجد في الهبة التي نالها، القوّة والمحبّة اللتين تجعلانه لا يخجل من المعاملة التي يُعامَل بها الرسول "كمجرم" (2: 9؛ رج 1بط 4: 16). سمّى بولس نفسه "سجين المسيح" (أف 3: 1؛ 4: 1؛ فلم 1، 9). وهذا ما يزيل صفة العار عن سجنه. فيعطيه مدلوله الدينيّ: ليس سجين نيرون، بل المسيح الربّ والسيّد (كيريوس). هو سجين من أجل المسيح. وحياته في يد المسيح. فيسوع هو الذي سمح بهذا التوقيف، وهو يعرف كيف ينهيه. هذه النظرة الايمانيّة لا تنسينا الوضع الملموس الذي هو ثقل القيود. فالعقاب الأكبر هو السجن والموت (أع 23: 29؛ 26: 31). كان السجناء يقيّدون (أع 16: 25، 27؛ 23: 18) فيُدعون "المقيّدين بالقيود" (عب 10: 34؛ 13: 3).
على الابن أن يقتدي بأبيه، والتلميذ بمعلمه، فيشاركه في الخدمة وفي مختلف المحن. هكذا فعل بولس ودلّ على شجاعة بطوليّة. "سينكاكوباتيو". شارك في الآلام مع (سين) مصير واحد لبولس وتيموتاوس من أجل الانجيل (اونغليون). فالخدمة مشاركة في الصليب. هذا ما فهمه تيموتاوس في حياة حميمة مع بولس. منذ البداية، عرف بولس أنه "سيتألّم كثيرًا من أجل اسم المسيح" (أع 9: 16). وبيّنت رسائله أن خدمة الربّ تتمّ في الضيق والاضطهاد (2كور 11: 23 ي؛ 12: 9 ي) اللذين هما علامة الرسول الحقيقيّ، واللذين هما امتداد لما تحمّله يسوع (2كور 1: 5- 7؛ فل 3: 10؛ كو 1: 24؛ رج 1بط 1: 11؛ 4: 13؛ 5: 1) فاستخفّ بالعار (عب 12: 3).
هذه المشاركة في الألم تتجاوز قوى الانسان، لا قوى الله التي أعطيت للرسول بوضع اليد. "لا تخجل. فحين لا نخجل لا نعود نخاف. فلا خجل حقيقيًا إلاّ حين يغلبنا الخوف. بعد هذا، لا تخجل مني، لأني أقيم الموتى، وأكثر المعجزات، وأسير في المسكونة. أنا مقيَّد، ولكن لا كمجرم. أنا سجين من أجل المصلوب. إذا كان معلّمي لم يخجل من الصليب، فأنا أيضًا لا أخجل من القيود... من خجل من أمور قاساها يسوع، خجل من المصلوب نفسه" (الذهبيّ الفم).

ب- بشارة الخلاص (1: 9- 10)
إن مدلول الرسالة والشهادة والانجيل، قاد بولس إلى رسم الخطوط الكبرى لتدبير الخلاص: عمل الله الخلاصيّ، الأبديّ والمجاني، تحقّق بالدعوة فعرفناه. تركّز على المسيح، فنادى به المعلّمون، ونقل إلينا هبة الحياة (آ 9- 11؛ رج 1تم 3: 16؛ تي 3: 5- 7). نحن هنا أمام خلاصة الايمان المسيحيّ، خلاصة الانجيل الذي هو قدرة خلاص ونعمة، حين تجلّى المخلّص في سرّ التجسّد.
أولاً: دعوة مقدّمة (آ 9)
الانجيل (واعلانه) قدرة الله (روم 1: 16؛ 1كور 1: 18)، لأنه يعلن (ويحقّق) للمؤمن، في الزمن، مخطّط الخلاص الذي رسمه الله منذ الأزل (1تم 2: 4). فالله المخلّص (عشر مرات في الرسائل الرعائيّة)، "مخلّص المؤمنين" (1تم 4: 10)، هو القدير الذي يُتم قصدَه بالرحمة (تي 3: 5). جاء اسم الفاعل (مخلّصنا، سوسانتوس) في صيغة الاحتمال، فعاد بالخلاص إلى تدخّل حاسم من قبل الله، إلى تدخّل أنجز بحسب مشيئة الله. لا شك في أن الخلاص (سوتيريا) الاولى بالنسبة إلى المعمّدين، لا يصل إلى عدم الفساد (آ 10) الكامل إلاّ في المستقبل (روم 5: 9- 10). ولكن بما أنه يرتبط بقدرة (ديناميس)، فهو أكيد، وقد بدأ يتحقّق منذ الآن.
خلّصنا ودعانا. فالدعوة نداء من الآب الذي يدعو أولئك الذين اختارهم في مخطّطه الخلاصيّ (2تس 2: 14؛ روم 8: 28، 30) ليتعلّقوا بالإنجيل (غل 1: 6)، ليتّحدوا بابنه (1كور 1: 9)، ليدخلوا إلى ملكوته ويشاركوا في الحياة الأبديّة (1تس 2: 12؛ 5: 14؛ أف 1: 18؛ 1تس 6: 12؛ عب 3: 1). فالنداء هو في الوقت عينه، المرحلة الأولى في المسيرة الخلاصيّة، في حدث الاهتداء (1تس 4: 7؛ 2تس 1: 11؛ 1كور 1: 26؛ 7: 20)، وتدخّلٌ مستمرّ من قبل الله (1تس 2: 12؛ روم 11: 29). وحين يتجاوب المدعوّ مع نداء الله الخلاصيّ، يتأكّد أنه دخل في تدبير النعمة، أنه ينعم بعون الله (1بط 5: 10). فالحياة المسيحيّة نفسها (أف 4: 1؛ فل 3: 14؛ 1بط 1: 10) تتمّ حين تصير حياة أبديّة.
دعوة مقدّسة. كما ارتبط الخلاص بقدرة الله، كذلك سمّي نداؤه "مقدّسًا". رج أش 6: 3؛ عا 2: 7؛ لو 1: 49. ثم إن الدعوة المقدّسة هي الحياة المسيحيّة التي نعيشها في وضعنا اليوميّ (1كور 1: 2). فالمسيحيّ مقدّس لأنه مكرّس لله، يعيش من الله ولله (1كو 3: 12). يشدّد الشّراح على الوجهة الأدبيّة: نحيا حياة جديدة من انتماء لله وتكريس. يخرج المسيحيّون من العالم، ويُفلتون عن الفساد (عب 13: 12- 13) ليكوّنوا الكنيسة (أف 4: 4؛ 5: 25- 27. في السبعينيّة تُدعى الجماعة الليتورجيّة: جماعة مقدّسة، خر 12: 16؛ لا 23: 2؛ عد 28: 25).
الدعوة إلى الخلاص، ودعوة المختارين. نحن أمام مجانيّة الاختيار الالهيّ (تي 3: 5؛ أف 2: 9). فقرار الله وتدخّله يرتبطان بقصده الشخصي. "حسب" (كاتا) تصميم يشكّل القاعدة لكل علاقاته بالبشر. "بروتاسيس". ما وُضع أمام (عب 9: 2). ما يُعرض، القصد، المشروع المحدّد (أع 27: 13؛ روم 1: 13). وحين نكون أمام قصد الله، فهذا يعني الاختيار والنداء (وم 8: 28؛ 9: 11)، ومخطّط خلاص البشر بالمسيح (أف 1: 11). هذا التدبير هو سرّ. ونحن ندخل فيه بالمحبّة (أف 1: 9). ما من حدث في التاريخ، ما من خطيئة تستطيع أن تبدّل قرار الخلاص هذا.
النعمة أو هبة الخلاص. كل هذا يرتبط بشخص المسيح الموجود من الأزل والوسيط بين الله والبشر. ولا ينال أحد نعمة إلاّ حين يتّحد بالمسيح. هُيّئت لنا الطريق كما هيّئت للحبيب. وتجسّدُ يسوع (وموته) هو الموضوع الأول في تدبير الآب (أف 1: 3- 5؛ رج روم 8: 29؛ رؤ 13: 8): أن يجمع كل شيء في المسيح (أف 1: 10). لا شكّ في أن المسيح يحقّق إرادة الله الخلاصيّة، ولا شكّ بأن خلاصنا سيتمّ ويُنجز (يو 6: 37- 40).
ثانيًا: ظهور المسيح (آ 10)
إن مخطط الله الخفيّ قد كُشف؟ تجلّى (فاناروو). رج 1تم 3: 16؛ تي 1: 3؛ روم 16: 20؛ كو 1: 26. صار حاضرًا الآن في حدث المسيح. ظهر ظهورًا ساطعًا (ابيفانيا، 1تم 6: 14؛ تي 2: 13، بالنسبة إلى المجيء؛ تي 2: 11؛ 3: 4 بالنسبة إلى التجسّد). لهذا، سُمّي "مخلّصنا" (سوتير). تي 2: 13؛ فل 2: 20؛ أف 5: 23. وإذ حقّق خلاصنا، كشف للايمان موضوع قصد الله من أجل الخطأة (يو 3: 16- 17).
يصوَّر العمل التاريخيّ الذي أنجزه المخلّص في وجهة سلبية (مان) وإيجابيّة (دي)، مع اسم الفاعل في صيغة الاحتمال. وهذا العمل هو موضوع الانجيل: إعلان انتصار المسيح على الموت (بقيامته)، وعطيّة الحياة الالهيّة للبشر. كاتارغايو. أي جعله عقيمًا، لا فاعلاً (لو 13: 7). دمّر، ألغى (2تس 2: 8). يرد هذا الفعل خمسًا وعشرين مرّة ليدلّ على دمار القوى المعادية (1كور 2: 6؛ 15: 24). ما عاد الموت (تاناتوس) يستطيع أن يلعب دوره (1كور 13: 8- 10). توقّف نشاطه، صار بلا عمل (أ- إرغوس). وإلاّ لا تتحقّق أمانة الله لمواعيده (روم 3: 3؛ 4: 14). حين نزع المسيح من الموت سلاحه، وحطّم سلطانه، حرّرنا من كل خطايانا (1كور 15: 21؛ كو 1: 18).
نهض المسيح من القبر فبدا ظافرًا على الظلمة. تمجّد فأشعّ. وهكذا شعّت في شخصه، الحياةُ وعدم الفساد. إن فعل "فوتيزاين" يعني شعّ، أرسل أنوارًا. أو: أنار. كان ينبوع نور. فالكلمة ينير كل انسان (يو 1: 9). الله ينير السماء (رؤ 22: 5). ومنذ الآن ينير عيون القلب لندرك إلى أي مجد دعانا (أف 1: 18). هي استنارة الايمان العماديّ (أف 5: 14؛ عب 6: 4؛ 10: 32)، بحيث نرى ما لا يُرى (عب 11: 27).
قد تدلّ "الحياة" على الحياة الأبديّة (تي 3: 5- 7)، والخلود (= عدم الفساد) على أكثر من خلود في المفهوم اليونانيّ. فأجسادُنا القائمة من الموت لا يمكن أن تدمَّر. وهذا ما يعارض فساد اللحم والدم (1كور 15: 42، 50، 53، 54). والمحبّة لا تتبدّل (أف 6: 24)، لأنها ليست من هذا العالم. الخلود (أفتارسيا) يعني النبل والمجد (روم 1: 23؛ 1كور 9: 25). صفة سماويّة (1بط 1: 4). صفة إلهيّة (1تم 1: 17؛ 1بط 1: 23). الخلود هو الهبة الأخيرة في هذه النعمة التي انكشفت لنا في ظهور الخلاص، ووصلت إلينا بالانجيل. نحن هنا أمام فكرتين: إن قيامة يسوع المنتصر على فساد القبر (أع 2: 27) تبيّن أن الانسان يستطيع أن ينال من الله هذه الحياة اللافاسدة التي تاق إليها اليونانيّون بكل قواهم. واحتُقر تعليمُ الانجيل في هذا القول الذي أطلقه الشهود: المسيح قام حقًا (1كور 15: 4، 14- 20). هذا من جهة. ومن جهة ثانية، تضمّنت بشرى الخلاص أقوال الربّ حول الحياة الأبديّة المعطاة لتلاميذه (مر 10: 17- 18؛ يو 3: 15، 36؛ 4: 14). يكفي أن نؤمن بالانجيل لكي نشارك في قوّة القيامة (فل 3: 21). وهذا ما يتوجّه إلى اليهود الذين تردّدوا حول شكل الحياة بعد الموت (لو 20: 27-28). وهكذا بدا الخلاص جوابًا على قلق الانسان، سجين الظلمات.

3- قراءة إجماليّة
تيموتاوس هو رسول المسيح والشاهد له. فعليه أن يجاهد ويتألّم من أجل الانجيل. فإن أراد التلميذ أن يشهد شهادة الأمانة للانجيل، فهناك متطلّبات تُفرض عليه. وبولس يعرف عن خبرة، أن دعوة المسيحيّ والرسول هي دعوة للجهاد بعزم لا يلين. قد يخاف تيموتاوس فيذكّره بولس بأنه تكرّس بوضع اليد. وأن قدرة الله الخلاصيّة ما زالت فاعلة. وفي الفصل اللاحق، يفهم تيموتاوس أن أمامه مثال بولس وسلوك أونسيفورس، ورجاء الخيرات الآتية التي ينالها رسول المسيح.
ونبدأ بالنعمة التي نالها تيموتاوس، حين وضع بولس يديه عليه. فحين كلّمه الرسول في 1تم 4: 12، حثّه على أن لا يهمل الموهبة الروحيّة التي نالها بوضع أيدي الشيوخ (1تم 4: 14). وها هو يطلب منه الآن أن يضرم في داخله هذه الموهبة (خاريسما) الذي أعدّته للخدمة الرسوليّة. بعد أن حثّ بولس تلميذه بشكل سلبيّ (لا تهمل الموهبة الروحيّة، 1تم 4: 14)، ها هو يحثّه بشكل إيجابيّ (أضرم الموهبة، 2تم 1: 6). النار تحت الرماد. نعود فنشعلها. والنار ترتبط بالروح القدس. فتيموتاوس نال نعمة الله. فليتجاوب مع هذه النعمة. وثمار الروح لا تزدهر إن سادت الخطيئة أو الاهمال في حياة الانسان (غل 5: 16- 26). نشير إلى أن هذه الموهبة هي واقع مستمرّ (لك، فيك)، لا مساعدة عابرة، نبحث عنها من جديد في كل ظرف خاص. ولكن يجب أن لا نتركها تخبو.
في روم 8: 15 تحدّث بولس عن موهبة الروح التي نالها المؤمنون، فقال لهم: "ما نلتم روح العبوديّة لتسقطوا في الخوف، بل نلتم روح التبنّي". هذا ما نجده هنا من تعارض بين الخوف والتردّد من جهة، والقوّة والمحبّة والفطنة من جهة ثانية. في روم، جُعل روح التبنّي تجاه روح العبوديّة. وهنا توخّى بولس أن يُقنع تيموتاوس بضرورة الجهاد والألم من أجل الانجيل.
نال تيموتاوس روح القوّة. ونال أيضًا روح المحبّة. فحين ينال المؤمن الروح القدس، تُفاض المحبّة في قلبه (روم 5: 5). وإن هو تاق إلى المواهب، فالمحبّة هي موهبة المواهب (1كور 12: 31).
استند تيموتاوس، شأنه شأن بولس (1تم 1: 12)، إلى قدرة الله. لهذا، فهو لا يضعف. ولا يخجل من شهادة يؤدّيها للمسيح الربّ. لا شكّ في أن الكرازة بالمسيح المصلوب عقبة لليهود وحماقة للأمم (1كور 1: 23). ولكنها للمؤمنين الحكمة العظمى. إن المصير الذي يحفظه الله للرسل هو تحدٍّ للمنطق البشريّ (1كور 4: 9- 13)، ولكنه الطريق الذي يقود إلى المجد (روم 8: 18؛ فل 3: 10- 11). لهذا، نفهم "شهادة ربنا" على أنها شهادة المؤمن للرب، لا شهادة يؤدّيها المسيح (1تم 6: 3). هي الشهادة المسيحيّة السامية، واعلان سيادة المسيح الذي جعله الله، بعد الآلام والموت على الصليب، ربّ جميع البشر ومخلّصهم (روم 4: 24- 25؛ 1كور 12: 3). هذا ما يستعدّ الرسول ليشهد له رغم العذابات التي تنتظره والتهديدات: فمن رفض عبادة الامبراطور كان الموت جزاءه.
في آ 9- 10 نقرأ ملخّصًا عن تعليم الخلاص يشبه ما في تي 3: 4- 7. نحن أمام اعتراف ايماني، أو عبارة فقاهيّة، أو نشيد ليتورجيّ حول العماد أو الافخارستيّا. حين يتحدّث بولس عن "السرّ"، يتطلّع إلى مرحلتين في تاريخ الخلاص: تلك التي سبقت يسوع المسيح. وتلك التي جاءت بعده. الأولى هي زمن "السرّ" المخفيّ في الله. والثانية هي زمن السرّ الذي كُشف (تجلّى) في يسوع المسيح. تحدّثت آ 9 عن المرحلة الأولى، و آ 10 عن المرحلة الثانية.
يجب أن نفسّر "تدبير، قصد" و"منذ الأزل"، "قبل الأزمنة الأزلية"، في إطار مخطّط الخلاص الذي رسمه الله منذ الأزل، وقبل إنشاء العالم. نجد "التدبير" في مقاطع تتكلّم عن "السرّ" (أف 1: 11؛ 3: 11) أو عن اختيار الأفراد (روم 8: 28) والشعوب (روم 9: 11). فقبل أن يُوجد البشرُ ويصنعوا شرًا أو خيرًا، رسم الله تدبير الخلاص المستند إلى رحمته وحسب. هذا القصد يستند إلى خيار اتّخذه الله، لا إلى أعمال البشر (روم 9: 11- 12). فما هو نتيجة موقف الانسان، بل هو سابق للتاريخ. وعبارة "منذ أزمنة الأول" لا تُفهم كما في تي 1: 2 عن بداية تاريخ الخلاص، بل عن أزليّة الله. نحن لسنا أمام الوعد الذي يتحدّد موقعه بالضرورة، في الزمن، ويفترض محاورًا بشريًا. بل أمام الاختيار الذي هو سابق للخلق. من هذا القبيل، نستطيع أن نتكلّم عن الخلاص في صيغة الماضي، وأن نقول إن الله، في قرار حرّ وأزليّ، قد خلّص المؤمنين، منذ الآن، وفي الأساس (رج روم 8: 28- 29). لا شكّ في أنه حسب لاهوت السرّ، لا يتجلّى الخلاص إلاّ في يسوع المسيح، ولن يتمّ في كماله إلاّ في نهاية الأزمنة. غير أن قرار الخلاص والاختيار متجذّران في أزليّة الله.
ذُكرت الدعوة هنا. لسنا أمام دعوة خاصة إلى خدمة محدّدة، بل أمام دعوة إلى الخلاص تجعل من جميع المسيحيين "مدعوّين". لا نجد فعل "دعا" (كاليو) سوى مرّتين في الرسائل الرعائيّة. هنا، في آ 9، وفي 1تم 6: 12. ولكننا نجده مرارًا في الرسائل البولسيّة (روم 8: 30؛ 9: 12، 24؛ 1كور 1: 9؛ غل 1: 6؛ 5: 13؛ أف 4: 4؛ كو 3: 15؛ 1تس 2: 12). ففي نظر بولس، يتميّز المؤمنون بدعوة الله، بحيث سمّاهم "المدعوّين" أو "المختارين" (روم 8: 28، 33؛ 1كور 1: 24). في الاختيار يُفرز الانسان، يُوضع جانبًا، يُكرّس تكريسًا ينتزعه من العالم الدنيويّ (خر 19: 6؛ تي 2: 14). نجد عند بولس عبارة "المدعوّين القديسين" (روم 1: 7؛ 1كور 1: 2)، أي كانوا قديسين، فُرزوا، تكرّسوا بالنداء الالهي، قبل أن يُدعوا ليكونوا قديسين في المعنى الخلقيّ. لا شك في أن الدعوة إلى القداسة والجهود الذي نقوم به معروفان لدى بولس (روم 6: 19؛ 1تس 4: 7)، ولكنهما نتيجة التكريس الاساسيّ والاختيار.
لا يتأسّس النداء إلى الخلاص على أعمال الانسان (تي 3: 5). إنه نعمة يمنحها الله بمجانيّة وبجديّة مطلقة. مثلُ هذا القول يذكّرنا بالتعليم حول التبرير، كما يبدو نداء إلى الثقة من أجل تيموتاوس. فحين يستند الانسان إلى نفسه، لا بدّ أن ييأس. وحين يستند إلى الله وحده، لم يعد للخوف مكان في قلبه. بعد أن تحدّث بولس عن التبرير بالايمان، لا بالأعمال (روم 3: 21-4: 25)، أطلق كلام الرجاء والفرح: "إذ تبرّرنا بالايمان... نفتخر برجاء مجد الله... والرجاء لا يخيَّب، لأن حبّ الله أفيض في قلوبنا بالروح القدس الذي أعطي لنا... بعد أن كنّا أعداء، تصالحنا مع الله بموت ابنه. وبالاحرى، بعد أن تصالحنا، نخلص بحياته" (روم 5: 1- 11). مثل هذه النظرة العلويّة المليئة بالرجاء، يجب أن تسكن في قلب تيموتاوس.
لطف الله هو "نعمة" (روم 3: 24؛ 5: 15- 20؛ 6: 1). وفي إطار آ 9، تعتبر النعمة وكأنها أعطيت للمؤمنين، مسبقًا في يسوع المسيح، ساعة القرار الأزليّ بالاختيار والخلاص. فالمسيح هو "المولود البكر، هو أول الخلائق" (كو 1: 15). به وُجد كل شيء، ونحن نوجد (1كور 8: 6). به خُلق كل شيء... وهو قبل كل شيء ويثبت في كل شيء (كو 1: 16- 17). فقبل خلق العالم، اختار الله وهيّأ "القديسين" (أف 1: 4). وفي المسيح، منذ الأزل، عرفهم، دعاهم، قدّسهم.
وتجلّت نعمة الله الخلاصيّة حين أرسل الابن إلى العالم. فبعد "الأزمنة الأزليّة" التي فيها كان سرّ الخلاص مخفيًا، ها قد حلَّ "الآن" وقتُ التجلّي. فلفظ "الآن" يدلّ على الزمن الذي انفتح مع تجسّد يسوع الفدائي (روم 3: 21، 26؛ 7: 6؛ 8: 1؛ 16: 26؛ أف 2: 13؛ 3: 5؛ كو 1: 26). والظهور الذي يدلّ عادة على مجيء المسيح في النهاية، يدلّ هنا على التجسّد ومجيء المسيح إلى العالم. إنه المخلّص (1تم 1: 1؛ كو 2: 11). لقد ظهر مخلّصنا، وشتّان بين مجيء المخلّص وامبراطور يعتبر نفسه أنه المخلّص، وأنه سيّد المسكونة (لو 2: 10). ولكن هذا لا ينسينا موضوع الخلاص في الكتاب المقدس.
حين نقول إن نعمة الله الخلاصيّة تجلّت بظهور (= تجسّد) المسيح، لا يكون القول كافيًا. فبولس يريد أن يكون واضحًا: فظهور بسيط لا يمكن أن يحمل الخلاص إلى البشريّة. لهذا، أعلن أن ذاك الذي جاء، لم يظهر فقط، بل عمل، بل أتمّ عمل الخلاص الأساسيّ حين دمّر الموت ومنح البشر اللافساد والخلود. وهكذا تحقّق حلم البشريّة بالنسبة إلى العالم البيبليّ والعالم الوثنيّ، بأن نصل إلى حياة لا يبدّلها شيء بعد أن نتحرّر من سلطان الموت. حتى المسيح، سيطر الموتُ واستبدّ على الكون. في يسوع المسيح، القائم من الموت، قُتل الموت فتخلّى عن فريسته، ودُمّر، وانتُزع منه سلطانه.
وإذ انتصر المسيح على الموت، حمل إلى البشر اعلان الحياة والخلود. قام كباكورة الذين رقدوا (1كور 15: 20). وبما أن روح الذي أقام يسوع المسيح من الأموات يسكن في نفس المؤمنين، فالذي أقام المسيح يسوع من بين الأموات يعطي أيضًا الحياة لجسدنا المائت (روم 8: 11). فالسياق المباشر والتقارب مع 2تس 2: 8 (حيث الكلام عن الانجيل) يدلاّن أن الحديث حول إشعاع الحياة يعني قيامة يسوع قبل أن يكون تعليمه. والانجيل هو، كما في العالم البولسيّ، إعلان سيادة القائم من الموت. صار، بانتصاره على الموت، مخلّص كل انسان يؤمن به.

خاتمة
جاء هذا الكلام نداء إلى تيموتاوس، عاد به إلى الماضي. وُضعت عليه يدا بولس (والشيوخ) من أجل خدمة الجماعة. هل خبت النار؟ هل خفّ الحماس؟ لا بدّ من محاربة الملل والكسل والتراخي. لا بدّ من اضرام هذه النار التي هي هبة نالها الرسول في بداية رسالته. وهكذا يستبعد الخوف، ويتحلّى بروح القوّة والمحبّة. فالمسيح الذي آمن به، يحمل إليه الحياة والخلود وعدم الفساد. وعمله هذا بدأ منذ تجسّده ومجيئه إلى العالم. بل منذ الأزمنة الأزليّة. وقصدُ الله يتحقّق حتمًا يومًا بعد يوم. فمن يخجل بعد الآن من إعلان هذه البشارة، ولو كان العالم الذي نحملها إليه، يعادي المسيحيين لأن عيشهم يخالف عيشه؟




Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM