الفصل الخامس صلاة الكنيسة صلاة شاملة

 

الفصل الخامس
صلاة الكنيسة صلاة شاملة
2: 1- 7
بعد ملاحظات سريعة حول مهمّة تيموتاوس في أفسس، وهي بمثابة مقدّمة للموضوع الرئيسيّ، واصل بولس فكرته التي بدأت في 1: 3. طلب الصلاة من أجل جميع البشر. والصلاة المذكورة هنا، هي الصلاة العامّة والجهوريّة، التي تُتلى في الجماعات المسيحيّة، في الليتورجيا. الصلاة أول عمل يطلبه بولس، وهو يسبق الأمور الأخرى. فعلى تيموتاوس أن يقوم به كواجب رئيسيّ في مهمّته الحاضرة. وهو يستطيع أن يفعل بفضل السلطات التي نالها بيد الأنبياء في الجماعة. هو مكلّف تكليفًا رسميًا. هذا يعني أن هذا التلميذ ليس معلّمًا وحسب، بل هو خادم الصلاة. أعطي نعمة لكي يرئس الصلاة الليتورجيّة ويوجّهها ويحدّدها.

1- الكنيسة تصلّي
اعتاد بولس أن يصلّي من أجل الجماعة، من أجل المؤمنين. وها هو الآن يطلب من الجماعة أن تبدأ رسالتها بالصلاة. لا الصلاة الفرديّة وحسب، بل الصلاة الجماعيّة، صلاة الليتورجيا والخدمة المقدّسة. وهكذا كانت لنا صلوات في تلك الجماعات التي أسّسها بولس في آسية الصغرى (تركيا الحالية). قبل الرسائل الرعائيّة، كان لنا في أف 5: 14 بعض النشيد العمادي: "استيقظ، أيها النائم، وقم من بين الأموات، فيضيء المسيح لك". وهنا، نجد ثلاثة أنواع من الصلاة: المجدلات، اعترافات الايمان، المدائح الكرستولوجيّة.
أ- المجدلات
نقرأ في 1: 17: "فلملك الدهور الذي لا يُدركه فساد، ولا يُرى، لله الأوحد، الكرامة والمجد إلى دهر الدهور. آمين". وفي 6: 15- 16: "السيّد الأوحد، ملك الملوك وربّ الأرباب الذي له وحده الخلود، ومسكنه نور لا يُدنى منه، الذي لم يرَه انسان ولا يقدر أن يراه، له الكرامة والعزّة على الدوام. آمين".
تعود المجدلة إلى لفظ "مجد" (دوكسا). بها نمجّد الله. هي هتاف ننسب فيه إلى الله الكرامة والمجد في عاطفة من السجود والعبادة. ونقرأ أبسطها في 2: 4، 18: "له المجد إلى دهر الدهور. آمين". عرف العالم اليهوديّ المجدلات، ولا سيّما في نهاية كل قسم (أو: كتاب) من أقسام المزامير. نقرأ في مز 41: 14: "تبارك الرب، إله اسرائيل، منذ الأزل وإلى الأبد. آمين ثم آمين". وفي مز 72: 18- 19: "تبارك الرب الاله، إله اسرائيل، الصانع المعجزات وحده. وتبارك اسم مجده إلى الأبد، ولتمتلئ الأرض كلها من مجده. آمين ثم آمين". والمجدلات عديدة عند بولس الرسول. في نهاية كلامه عن اختيار الشعب (روم 9- 11) قال: "كل شيء هو منه وبه وإليه. فله المجد إلى الدهور. آمين" (روم 11: 36). وفي فل 4: 20: "لألهنا وأبينا المجد إلى دهر الدهور. آمين". تتوجّه المجدلة عادة إلى الله الآب. ولكن في روم 9: 5 تتوجّه إلى الله الابن: "المسيح الذي هو فوق كل شيء إله مبارك إلى الدهور. آمين".
ماذا نجد في هذه المجدلات؟ كلام عن الله في الخطّ اليهوديّ. هو الملك الذي لا نقدر أن ندركه. يقيم على عرش عال لا يُدنى منه. ونجد ألفاظًا مع "لا" النافية: لا يموت (اتاناتوس)، لا يفسد (افتارتوس)، لا يُرى (أؤوراتوس)، لا يدرك (أبروسيتوس). هذا اللاهوت النافي لأقوالنا الضعيفة والمحدودة، يوجّهنا في خطّ وسيط (2: 5)، به نقترب إلى الله الآب.

ب- اعترافات الايمان
الايمان عاطفة داخليّة تدلّ على علاقاتنا بالرب وتعلّقنا به. هو دعانا ونحن نتجاوب مع دعوته. بل نعبّر عن ايماننا في صلاتنا، كما في اعترافات نعلن فيها عقيدة تغذّي حياتنا. نقرأ في 2: 5- 6: "الله واحد، والوسيط بين الله والناس واحد، الانسان، المسيح يسوع، الذي بذل نفسه فداء عن الجميع". وفي 6: 12- 13: "أوعز إليك أمام الله الذي يحيي كل شيء، وأمام يسوع المسيح الذي أدّى، لدى بونسيوس بيلاطس، شهادته الرائعة".
شدّد العهد القديم على وحدانيّة الله: الرب إلهنا واحد (تث 6: 4). وقال بولس في الخطّ عينه: "لا إله غير واحد" (1كور 8: 4). وتابع: "لنا إله واحد، الآب، الذي منه كل شيء، ونحن له". وأضاف: "وربّ واحد يسوع المسيح، الذي به كل شيء، ونحن به" (1كور 8: 6). هذا الاله هو إله اليهود وإله الوثنيين، وهو يبرّرهم جميعًا بالايمان بيسوع المسيح (روم 3: 28- 30).
والربّ يسوع هو الوسيط بين الله والبشر. هذا يعني أن له الطبيعة الالهيّة والطبيعة البشريّة. بما أن يسوع انسان، يستطيع أن يمارس وساطته متضامنًا مع الانسان. وبما أنه الله، يقدر أن يكون لنا الوسيط والشفيع لدى الله. وظهرت وساطتهُ بشكل خاص حين بذل نفسه فداء عنا، حين طهّرنا من كل خطيئة (تي 2: 14). فأمام الله الذي يعطي الحياة لكل شيء، فيظهر الاله الآب والخالق، ذاك الذي لا يُرى، نرى يسوع المسيح يقف أمام بيلاطس. يشهد شهادة الايمان: جئتُ لأشهد الحقّ. وهو يعلّمنا كيف نشهد، كيف نعلن إيماننا.

ج- المدائح الكرستولوجيّة
في العهد القديم، يُمدح الله. في العهد الجديد يُمدح الله الآب ويُمدح الله الابن؛ فتهتف الكنيسة ليسوع المسيح: "تجلّى في الجسد، شهد له الروح، شاهدته الملائكة، بُشِّر به في الأمم، آمن به العالم، ارتفع في المجد" (3: 16). كان يسوع بشرًا، من لحم ودم. وهذا ما يدلّ على بشريّته التي تجلّت. ونلاحظ أن النشيد لم يذكر الآلام، بل انتقل حالاً من ظهور المسيح في الجسد، إلى ارتفاعه في المجد، بالقيامة والصعود. وهكذا وصل الانجيل إلى العالم الوثني، فآمن العالم بذاك الذي أحبّه وبذل نفسه عنه.
ونقرأ في 2تم 2: 11- 13: "إن نحن مُتنا معه، فنحيا معه. وإن صبرنا فسنملك معه. وإن أنكرناه فسينكرنا هو أيضًا. وإن لم نكن أمناء، فهو يبقى أمينًا، لأنه لا يقدر أن يُنكر ذاته". نلاحظ حرف الجر "مع" (سين في اليونانية) الذي يرد ثلاث مرات: نموت معه. نحيا معه. نملك معه. وهكذا نكون في إطار المجيء والدينونة. إذا أردنا أن نشارك المسيح في ملكوته، نعيش الأمانة التي تساعدنا على مقاومة الضغوطات والاضطهادات. فحين نشهد للمسيح، نفهم في النهاية أن الشهادة قد تقودنا إلى الاستشهاد والموت. فلا تلميذ أفضل من معلّمه. ولا عبد أفضل من سيّده. فكيف نريد أن يكون مصيرنا غير مصير معلّمنا، يسوع المسيح!

2- دراسة النصّ
نبدأ بالدراسة النقدية: في آ 1، نقرأ الحاضر، أسأل (باراكالو). ولكن البازي والصعيديّة... جعلت الأمر "باراكالاي" (اسأل). في آ 3 وضع السينائي والشعبية والسريانية "غار" في بداية الآية وقبل "توتو" (ذلك). فصارت اللفظة: فذلك. في آ 6، أضاف البازي وغيره "أو" قبل "الشهادة" (مرتيريون)، وجعل في النهاية "إدوتي" من أجل الوضوح (أعطيت). في آ 7، قرأ الاسكندراني "ابيستوتان" بدل "إتاتين" (أريد). وقرأت الشعبية اللاتينية: "إن هو اتاتين" بدل "إيس هو إتاتين". وأضاف السينائي وغيره "إن خرستو" (في المسيح) بعد "لاغو" (أقول في المسيح). وبدل "بستاي" (الايمان) قرأ الاسكندراني "بنفماتي" (الروح) والسينائي "غنوساي" (معرفة).

أ- تضرّعات وصلوات (2: 1- 4)
بدأ بولس فطلب أن تقام الصلوات في الكنيسة.
أولاً: فأطلب إذن (آ 1)
"أون" (اذن) هي أداة انتقالة كما في 2تم 2: 1، تدلّ على أن الموضوع ليس بجديد. فالطلب هنا يعود إلى 1: 3، والوصيّة تعود إلى 1: 5. كما أن هناك ارتباطًا مباشرًا مع 1: 15 وخلاص جميع الخطأة. "باراكالو" (طلب، سأل). هي دعوة إلى العمل، إلى الصلاة. فعلى المسيحيّين أن يشاركوا في نشر الانجيل بصلواتهم. لا من أجل إخوتهم في الايمان وحسب، بل من أجل البشريّة كلها. يشدّد ف 2 على الشموليّة، مع ورود لفظة "كل، جميع" أكثر من مرّة. تصلّي الكنيسة حتّى من أجل نيرون المضطهد. في هذا المجال، قال قبريانس، أسقف قرطاجة (أفريقيا) أمام القنصل باتارنوس: "هذا الاله الذي نعبده، نحن المسيحيين، هو الذي نرفع صلواتنا إليه، ليل نهار، من أجلنا، من أجل جميع البشر، ومن أجل خلاص الأباطرة أنفسهم". وكتب أوسابيوس في التاريخ الكنسيّ (10/8: 10) أن ليسينيوس "طرد من بيته جميع المسيحيين، فحرم نفسه لتعاسته من صلاة توجّهت إلى الله من أجله، وهي صلاة يرفعونها من أجل جميع البشر، حسب التعليم التقليديّ".
"قبل كل شيء". هذا يبيّن أهميّة الصلاة في نظر بولس والثقة بفاعليّتها. كأني به يقول: ذاك هو طلبي الأول. ذاك هو واجبك الأول. هي أولويّة زمنيّة. وهي أولويّة حياتيّة (لو 12: 1؛ 2بط 1: 20). الصلاة هي نشاط أساسيّ في حياة الكنيسة (أع 1: 14؛ 2: 16). نقرأ أربع ألفاظ (العدد 4 رمز الشموليّة) تشدّد على تواتر هذه الصلاة وتواصلها وعمّا في هذا النداء إلى الله من إلحاح (فل 4: 6). تضرّعات (دائيسيس، لو 5: 33؛ فل 1: 4؛ دايو، احتاج، نقصه شيء). هي صلاة في حالة ملموسة وفي ضرورة ملحّة، نرفعها إلى الله (مت 9: 38). رأي فيها تيودوريتس طلبًا بأن يبعد الشرّ عنا (لو 22: 32؛ عب 5: 7؛ روم 1: 10؛ 1تس 3: 10). صلوات (بروسوخي، رج أوخوماي، أرغب) ترافق تضرّعات في أف 6: 18؛ 1تم 5: 5. نقول صلاة الأبانا (لو 11: 1، 22). هي ارتفاع النفس إلى الله. ابتهالات (إنتوكسيس، 4: 5، لفظ قانونيّ): طلب نرفعه إلى شخص أكبر منّا (الملك مثلاً) إلى الله الذي نأتي إليه (حك 8: 21؛ 2مك 4: 8). وأخيرًا، التشكّرات (فعل الشكر) التي هي جزء جوهريّ في العبادة العلنيّة، (1كور 14: 16). في اليونانيّة: أوخارستيا. إن الذين يصلّون يشكرون الله، لأنهم موضوع حبّه، ولأنه خلّصهم. "يجب أن نشكر الله حتّى على خيرات منحها للآخرين. مثلاً، نطلب منه أن يُشرق شمسه على الأشرار أو الأخيار، ويمطر على الأبرار والخطأة. نلاحظ أن الرسول جمعنا وربطنا بعضَنا ببعض في الطلبات كما في التشكّرات" (الذهبيّ الفمّ).
الحياة المسيحيّة هي حياة شعب كهنوتيّ (1بط 2: 5- 9). ومحبّته هي افخارستيا ترتفع إلى الله، وفعل عبادة (1تس 5: 8؛ أف 5: 19- 20؛ فل 4: 6). لهذا، لا تنحصر صلاتُنا في منفعة شخصيّة، ولا في حلقة محدودة من المؤمنين. بل تكون من أجل جميع البشر، بدون حدود الدين والجنس والبلد والمراتب الاجتماعيّة. في هذا المجال، قال الذهبيّ الفمّ: "الكاهن هو أبو العالم كله. فعليه أن يعتني بالجميع مثل الله نفسه الذي هو كاهنه... ينتج خيران عن هذا الطلب: من جهة، يختفي بغضُنا للغرباء، لأن أحدًا لا يستطيع أن يبغض من يصلّي لأجله. ومن جهة ثانية، يتحسّن أولئك الذين نصلّي من أجلهم ويفقدون بغضهم لنا".
ثانيًا: الملوك وأصحاب السلطة (آ 2)
هي صلاة من أجل الجميع. ومنهم بشكل خاص الملوك وأصحاب السلطة الذين هم أقوياء في الخير كما في الشرّ. صيغة الجمع (الملوك) تعني أننا نصلّي من أجل كل ملك، كبيرًا كان أم صغيرًا، متسلّطًا كان أم متسامحًا. ومع الملوك، الوجهاء (2مك 3: 11) الذين ينعمون بسلطة (1كور 2: 11)، مثل أولئك الذين توفدهم الامبراطوريّة. هكذا كان يفعل اليهود في منفاهم (عز 6: 10؛ 1مك 7: 33). واعتاد اليهود في الاسكندرية أن يرفعوا صلاة من أجل الملك، وأن يذبحوا في أورشليم، مرتين كل يوم، على نيّة القيصر والشعب الرومانيّ. مثلُ هذه الصلاة، تبعد عن المسيحيين روح الثورة التي كانت تشتعل هنا وهناك، ولا سيّما الثورة اليهوديّة على رومة. ثم إن الصلاة على نيّة الامبراطور، تمنع المسيحيين من عبادته: فهو خليقة مثلهم، ويحتاج إلى صلاة تُرفع إلى الله من أجل حمايته من كل خطر.
نتيجة هذه الصلاة: نقضي حياة مطمئنة. "دياغاين"، تصرّف. سلك. مع "بيوس" حياة. فالملوك يحملون السلام إلى شعبهم. والمثال المسيحانيّ هو حياة في سلام (إر 30: 10؛ لو 3: 14). وصلّى الربّ لكي ينجو أخصّاؤه من المحن والتجارب (لو 11: 4؛ 22: 40، 46). "هيسيخيوس"، هادئة، مطمئنة. رج 1بط 3: 4. هذا ما يقوّي فكرة السلام والأمان. في كل تقوى (أوسابايا) ووقار (سامنوتيس). فالسلام لمسيحيّي أفسس هو ثمرة حياة دينيّة وأخلاقيّة. الانسان التقيّ هو البار والحكيم، الذي يمارس الوصايا. عندئذ ننال احترام الجميع (3: 4، 8، 11؛ تي 2: 7).
ثالثًا: رضى الله (آ 3- 4)
مثلُ هذه الصلاة ترضي الله الذي لا يستبعد أحد من محبّته، ومن خلاص لجميع البشر. أجل، إن دعاء يُتمّه الشعبُ المسيحيّ، ككهنوت ملوكيّ، من أجل جميع البشر، ترافقه حياة أخلاقيّة رفيعة. هو حسن (كالوس)، جميل، نبيل. هو عمل محبّة عظيم. والرب يفرح به ويرضى عنه، فيجعله فاعلاً. بهذه الطريقة نشارك في تحقيق قصد الله الخلاصيّ. الربّ يحبّ مثل هؤلاء العابدين (يو 4: 23). نقرأ هنا الصفة "ابوداكتوس" (رج 1: 15؛ 5: 14، أبو دوخي): ما يرضي الله. ما يوافق عليه الله.
ومع رضى الله، هي مشيئته. هو "يريد" (تالو) خلاص الجميع. حدّثنا يوحنا عن الله الذي هو محبّة. وحدّثتنا الرسائل الرعائيّة عن الله المخلّص (1: 1؛ 4: 10؛ تي 1: 3). يريد الله خلاص جميع البشر، بدون استثناء (لا خلاص فئة محدّدة كما قال الغنوصيّون). يدعو الله البشر إلى الخلاص. وهم يتجاوبون معه. يأتون إلى معرفة (ابيغنوسيس) الحقّ (اليتايا). يجتذبهم الآب (يو 6: 44) فيتقبّلون التعليم من أجل الخلاص. لسنا فقط على مستوى معرفة عقليّة، بل أمام تمييز نعتنق فيه الايمان (روم 1: 28؛ كو 2: 2؛ 3: 10). كلمة الله الحقّ (2كور 6: 7؛ 2تم 2: 15، 18) هي الانجيل (غل 2: 5، 14). هي المسيح (يو 14: 6؛ 1يو 5: 20) الذي نخضع له (روم 2: 8؛ غل 5: 7؛ 2تم 2: 8). "اقتد بالله. إن أراد خلاص جميع البشر، عليك أن تريد ذلك أيضًا. وإن أردتَ فصلِّ. فالصلاة تعبّر عن رغباتنا" (الذهبيّ الفمّ).
هذا القول عن خلاص شامل يريده الله، يصطدم "بالملعونين" (مت 25: 41)، بالمجدّفين على الروح القدس (مت 12: 31)، بالجاحدين (عب 6: 6)، بالمرميين في مستنقع النار (رؤ 20: 10، 15؛ 21: 8). هنا تبرز الحريّة البشريّة التي تعارض إرادة الله. ولكن مشيئة الله هي التي تنتصر في النهاية. لا نعرف كيف يكون ذلك. ولكن رجاءنا وطيد بذاك الذي لا يقدر أن يُنكر نفسه (2تم 2: 3).

ب- الله واحد والوسيط واحد (2: 5- 7)
ما قيمة صلاة يرفعها البشر إلى الله، إن لم يكن معهم وسيط يرفع هذه الصلاة إلى الله. وهكذا نكون في آ 5- 7 أمام فعل ايمان مثلّث: الله واحد. الوسيط واحد. وهذا الوسيط افتدى جميع البشر حين سفك دمه لأجلهم.
أولاً: أساس الصلاة (آ 5)
يرى الشرّاح في آ 5- 6 هتافًا ليتورجيًا، بل خمسة هتافات: الله واحد. الوسيط بين الله والناس واحد. هذا الوسيط هو إنسان من البشر. هو المسيح يسوع. بذل نفسه فداء عن الجميع. هو إعلان إيمان عماديّ يؤسّس إرادة الله الخلاصيّة الشاملة: بما أن الله واحد، فهو بالضرورة إله البشريّة كلها، إذ لا إله سواه. لهذا، لا يستطيع أن يخلّص فقط بعض الناس (المؤمنين فقط)، بل جميع البشر، حتّى وإن لم يخضعوا لسيادته.
ووجود الوسيط يدلّ على أن مخطّط الله الخلاصي يتمّ حقًا. وهذه الوساطة لا وساطة غيرها. هو الوسيط الوحيد للبشريّة كلها (كو 1: 18- 20؛ أف 2: 11- 22). لا الملائكة (كو 2: 18؛ عب 2: 12)، ولا موسى (غل 3: 19؛ عب 3: 1- 7). هذه الوساطة تحدّد العهد الجديد: "لا يأتي أحد إلى الآب إلاّ بي" (يو 14: 6). وأبرز الكاتبُ بشريّة المسيح يسوع (روم 5: 15؛ 1كور 15: 47؛ فل 2: 7- 8). هو "انتروبوس" (بدون التعريف. انسان من الناس). لم يأخذ من الملائكة (عب 2: 11- 17)، بل تضامن مع البشريّة، ومثّلها أمام الآب.
ثانيًا: بذل نفسه (آ 6)
إن صلاة التلاميذ (آ 1) تشارك المسيح، الذي هو الكاهن والذبيحة (روم 8: 34؛ عب 13: 15؛ رؤ 8: 3- 4). تشاركه في صلاته. والخلاص الذي يقدّمه الله، هو نداء وتحرّر. ذاك هو موضوع إيماننا: كفّر المسيح عن خطايانا، حين صار "عبد الربّ" المتألّم (أش 53). كان البشرُ عبيدَ الظلمة والخطيئة (روم 6: 17، 20؛ كو 1: 13)، ما عادوا يستطيعون أن يتحرّروا (مت 16: 26)، فقدّم يسوع حياته من أجل تحرّرهم. هو لا يحلّ محلّ البشريّة، بل يتضامن معها. فهو كعضو في البشريّة، يمثّلها أفضل تمثيل. هذا ما نسمّيه الشخصيّة المتضمّنة. في آدم، كانت جميع البشريّة خاطئة. وفي المسيح، آدم الثاني، نجد البشريّة كلها، كالخليقة الجديدة التي يسوع بكرها (كو 1: 15؛ رؤ 3: 14). وهكذا صار عمله الفدائي كوسيط بين الله والبشر، امتلاكًا (تي 2: 14). اشترانا فصرنا له. وما عدنا مُلك أنفسنا (1كور 6: 20؛ 7: 23). وهكذا أبرز النص ذبيحة المسيح الطوعيّة (مت 20: 28؛ غل 1: 4؛ تي 2: 14)، ودلّ على أن الذين نعموا بها هم البشريّة كلها (روم 8: 32؛ رج مر 14: 24).
"تلك هي الشهادة". الكرازة الرسوليّة (2تس 1: 10؛ 2تم 1: 8) تعلن للعالم الخلاص الشامل، بفضل المسيح (3: 16؛ أع 1: 8). ولكننا بالأحرى نتحدّث عن شهادة يقدّمها الله، هي مشيئته في خلاص البشريّة (1كور 1: 6؛ 2: 1). وذلك حين أعطانا الوسيط الذي صُلب لأجلنا. ذاك هو البرهان (روم 5: 8). الحدث أو الكرازة، والواحد لا ينفصل عن الأخرى. فتحقيق مخطط الله الخلاصي وحكمته الأزليّة، يتمّ شيئًا فشيئًا في التاريخ (أف 3: 5- 12؛ كو 1: 25- 27؛ 1بط 1: 11)، حسب الأوقات والأزمنة (6: 15؛ تي 1: 3).
حين تتمّ جميعُ المواعيد والاستعدادات المسيحانيّة (2كور 1: 20)، نكون في نهاية الزمن (غل 4: 4) والوقت المناسب للخلاص. من أجل هذا، يجب أن نصلّي. وحين يتدخّل الله في ابنه "في هذه الأيام الأخيرة" ليكشف الخطيئة ويلغيها (عب 1: 1- 3)، نكون أمام وقت فيه يمتدّ الخلاص ومعرفة الحقّ إلى المسكونة كلها.
ثالثًا: في الايمان والحقّ (آ 7)
حين يعود بولس إلى سرّ الخلاص في المسيح، فهو يشير إلى دوره في كشف هذا السرّ (2كور 5: 18- 20؛ أف 3: 7- 8). وهنا، نراه يذكر وظيفته في حمل "شهادة" الله. وبهذا، يقدّم البرهان الواضح على أن مشيئة الله في تخليص البشر، هي حاصلة في هذا الوقت وفي هذا الآن. فالرسالة جزء أساسيّ في مخطّط الخلاص. لا شك في أن لا تواصل بين الله ومرسليه، وكأنهم على مستواه! ولكن يبقى أن الله أراد أن يحتاج إلينا. فلو لم يكن الفداء الذي أتمّه الوسيط قد عرفه الجميع، سيبقى باطلاً وبدون فائدة، ولا يصل إلى المدعوّين إلى الايمان. هنا نتذكّر روم 10: 14- 15: "كيف يدعونه إن لم يؤمنوا به؟ وكيف يؤمنون به إن لم يسمعوا به؟ وكيف يسمعون به إن لم يبشّرهم أحد"؟ لهذا، نقرأ هنا ثلاثة ألفاظ: الأول "كيريكس" (المنادي) "أبوستولوس" (المرسل)، "ديدسكالوس" (المعلّم). رج أف 4: 11. لسنا هنا أمام ثلاث وظائف. بل أمام وجهات مختلفة من العمل لدى الوثنيين (مت 28: 19). يعمل »المنادي« في الساحات العامّة: من أجل بيع سلع. أو إعلان قرارات رسميّة (الضرائب مثلاً)، وبداية الالعاب الرياضيّة، واسم الغالب وبلده. و"المرسل" (1: 1) هو الموفد ليبشّر الوثنيين (غل 1: 16؛ أف 3: 18). ليحمل إليهم إنجيل الخلاص (2تم 1: 10- 11). و"المعلّم" يمتلك سلطة التعليم (كو 1: 28؛ أع 20: 20). لهذا نقرأ: "أقول الحقّ ولا أكذب" (روم 9: 10؛ 2كور 11: 31؛ غل 1: 20). هو يشهد للبشريّة عن المسيح، كالمنادي والمرسل والمعلّم. "في الايمان والحقّ". أو: نعلّم، نحبّ، نسير في الحق. أي في الحقيقة والواقع، لا في الوهم والخيال (مت 22: 16؛ 1يو 3: 18). ولكن يبدو أن النصّ لا يشدّد على أمانة الرسول وصدقه (فهو أهل للثقة)، ولا على يقينه الايماني الضروريّ من أجل اعلان الحقيقة (2كور 4: 13). فالسياق يدعونا لكي نأخذ "بستيس" (الايمان)، "اليتايا" (الحقّ) في معنى موضوعيّ كما في آ 4. فكرازة إنجيل الخلاص هي كلام الحقّ (2كور 6: 7؛ كو 1: 5؛ أف 1: 13). أجل، إن هدف العمل الرسوليّ هو إعلان الايمان (كعقيدة) والحقّ.

3- قراءة إجماليّة
قبل أن يقدّم بولس في 2: 8- 15 توصيات عمليّة، عرض عقيدة غنيّة جدًا حول شموليّة الصلاة والدعوة إلى الخلاص. يجب أن نصلّي من أجل جميع البشر. فالعالم اليهودي حصر صلاته ومحبّته في أفق ضيّق جدًا: القريب الذي أحبّه هو ابن ديني. وعبارة "أحبب قريبك وأبغض عدوّك" (اللايهودي، مت 5: 14) تعكس عقليّة معروفة في العالم اليهوديّ في القرن الأول (لا نجد هذه العبارة كما هي في الكتاب المقدس، رج لا 19: 18). وفي قلب كنيسة أفسس، اصطدم بولس بالخاصيّة اليهوديّة، المعارضة لعظة الجبل (مت 5- 7). والصلاة العامّة التي تُتلى في الجماعة، نعبّر عنها بأكثر من شكل: هي صلاة شكر وطلب. هي مديح وتضرّع في ساعات الضيق والشدّة.
وحين طلب بولس من المؤمنين أن يصلّوا من جميع البشر، أراد أن لا ينسى أحدًا. ومع ذلك، شدّد على فئة خاصّة: السلطات المدنيّة من ملك وموظفين كبار. لماذا هذا التشديد؟ لأن بعض المؤمنين بدأوا يعادون سلطة تحمل إليهم المضايقات والاضطهادات. أترى نسوا كلام الرب: "أحبّوا أعداءكم. وصلّوا لأجل الذين يضطهدونكم" (مت 5: 44). وسبق لبولس وأعلن في روم 13: 1: "لا سلطان إلاّ من الله. والسلطات الكائنة إنما رتّبها الله". واذ نصلّي على نيّة الامبراطور، نذكّره أنه انسان لا إله. وسيقول الشهداء المسيحيون: "نحن لا نرفع صلاتنا إلى الامبراطور، بل نصلّي من أجله".
هذه الصلاة تؤمِّن للكنيسة حياة هادئة مطمئنة. إما لأن الحكام يرون ولاء المسيحيين. وإمّا أنهم، بفضل هذه الصلاة، يمارسون سلطتهم بالحكمة ومخافة الله. فالهدوء والطمأنينة خيران يترافقان مع الرسائل الرعائيّة، ولا سيّما إذا كان هناك اضطهاد يصيب المؤمنين (3: 16؛ 4: 7- 8؛ 2تم 3: 5؛ تي 1: 1). ويذكر النصّ التقوى التي هي أغنى من ميل إلى الصلاة. التقوى فضيلة ترتكز على تأمّل في سرّ الله (1تم 3: 16)، تجد امتدادها في حياتنا كلها، وتوجّه نحو الله كلَّ نشاط المسيحيّ فتغمره بالحبّ والوقار. تجعل المسيحيّ يعيش في البرّ والقداسة.
غير أن الأمل بحياة هادئة مطمئنة، ليس السبب الوحيد ولا الرئيسيّ، الذي يدفعنا إلى الصلاة من أجل السلطات المدنيّة. فهناك سبب أهمّ بكثير: يريد الله أن يخلُص جميعُ البشر. نحن أمام قول لاهوتيّ عميق لا نجده بهذا الوضوح في سائر الرسائل البولسيّة. إن الرب يقدّم خلاصه للجميع، ولا يستثني أحدًا. ولا يحابي أحدًا، فيفضّل انسانًا على آخر. كلهم خطئوا. وكلهم يبرّرون مجانًا بالايمان بيسوع المسيح. "فلا يهوديّ ولا يونانيّ. لا عبد ولا حرّ. لا رجل ولا امرأة" (غل 3: 28). فمخطّط الخلاص شامل في طبيعته، لأنه سرّ يتوخّى توحيد كل ما في السماء والأرض في شخص المسيح (أف 1: 10). ونداء الخلاص شامل، يتوجّه إلى الجميع. وإذ يدعو الله البشر، فهو يدعوهم حقًا. وإن هم لم يبلغوا جميعهم إلى الخلاص، فلأن الله يحترم حرّيتهم. هذا ما حصل بالنسبة إلى المدعوّين إلى العرس (مت 22: 1- 10)، أو الشاب الغنيّ (مت 19: 16- 22). هنا سرّ اللقاء بين الله ورحمته من جهة، وجواب الانسان وحرّيته من جهة ثانية. لهذا، قال يسوع لأورشليم التي فشّلت مشروعه: "كم مرّة أردتُ أن أجمع بنيك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، ولكنك لم تريدي" (مت 23: 37؛ رج لو 13: 34).
وصلاةُ الكنيسة الشاملة، تقابل إرادة الله الشاملة في خلاص البشر. فالكنيسة هي الشعب الجديد، الذي اصطفاه الله نسلاً مختارًا وكهنوتًا ملوكيًا، وأمّة مقدّسة (1بط 2: 9). هي تقف أمام ربّها كباكورة البشريّة كلها، فتحمل البشر في صلاتها. في هذا المعنى، لا تكون صلاة الكنيسة، في أي حال، صلاة خاصّة ومنغلقة على أبنائها. لا تكون إلاّ مسكونيّة، لأنها دخلت في مخطّط الله الخلاصيّ، وقيلت باسم الوسيط الوحيد بين الله والبشر، الانسان يسوع المسيح.
أما الخلاص بالنسبة إلى كل انسان، فهو بلوغ إلى معرفة الحقّ. لا معرفة تبقى على مستوى العقل، بل تصل إلى القلب والعاطفة. بهذه المعرفة نكتشف أين هو الخلاص، وكيف نقبله ونلتزم به في حياتنا. قال يو 17: 3: "الحياة الأبديّة هي أن يعرفوك". فالمعرفة هي تبادل حميم وشخصيّ. هي علاقة خاصّة مع الله، أين منها علاقة الزوج بزوجته. ما استعمل النصّ "غنوسيس" التي تعني معرفة يصل إليها العقلُ البشريّ بقواه. بل "ابيغنوسيس" التي هي معرفة يمنحها الوحي الالهيّ. مثلُ هذه المعرفة ترتبط دومًا بالحقّ، وترتبط بكشف الخلاص في يسوع المسيح.
كل هذه الصلاة الشاملة تستند إلى اعتبارات حول الوحدة. هناك إله واحد خلق البشَر كلهم (أع 17: 26)، ويسهر على الجميع بحبّ واحد (مت 15: 45)، ويدعوهم كلهم إلى الخلاص الواحد (روم 3: 29- 30). ويُظهر غناه لجميع الذين يدعونه (روم 10: 12). وهناك وسيط واحد بين الله والبشر. الانسان يسوع المسيح. كان موسى وسيطًا، ولكن شتّان بين وساطته ووساطة يسوع. لا شكّ في أنه قام ببعض وساطة بين الله وشعبه، ولا سيّما على جبل سيناء (خر 20: 19)، فتوسّل من أجل اسرائيل الخاطئ (خر 32: 11- 14). ولكنه كان في الواقع، صورة بعيدة عن الوسيط الحقيقيّ (عب 3: 3- 6). كان موسى وسيطًا في مهمّة قام بها، لا في شخصه كله. أما المسيح الذي هو إله حقيقيّ وانسان حقيقيّ، فهو وسيط في كيانه كله، لأن في شخصه الفريد اجتمع اللاهوت والناسوت اجتماعًا لا ينفصم. لهذا، استحقّ وحده اسم وسيط (عب 8: 6؛ 9: 15؛ 12: 24).
هذا من جهة. ومن جهة ثانية، استطاع المسيح وحده أن يقوم بعمل الوساطة الجوهري، استطاع أن يقدّم نفسه فدية عن الجميع. ففي ذبيحته تمّ مرّة واحدة خلاصُ جميع البشر. استعمل الكاتب "انتيليترون" ليدلّ على ثمن يُدفع لافتداء عبد، لتحرير أسير، ولإنقاذ حياة إنسان. قدّم يسوع ذاته. أعطى حياته كثمن لتبريرنا (عب 9: 14). وهكذا اشترانا. كان العهد الأول في دم ذبائح لاواعية (خر 24: 18). والعهد الجديد هو أيضًا عهد في الدم، لأنه حيث لا سفك دم، لا غفران (عب 9: 22). ولكن دم العهد الجديد هذا هو دم يسوع، الذي فعل ما لم يفعله دمُ الذبائح الحيوانيّة (عب 9: 13- 14). فالمسيح صالح بدمه البشريّة كلها مع الله، فجعل من الشعبين المتعاديين، انسانًا واحدًا جديدًا (أف 2: 13- 18). وحين قام الربّ من بين الأموات، ما زال يتابع عمل وساطته لدى الآب، فيقدّم لله آلامه من أجل كل البشر ويتشفّع من أجلهم جميعًا.

خاتمة
دعا بولس جماعة أفسس إلى الصلاة: صلاة من أجل الجميع. وصلاة بشكل خاص من أجل الحكّام: مسؤوليّتهم كبيرة. ودينونتهم كبيرة، كما يقول سفر الحكمة. ثم إن الكنيسة تنمو وتنتشر إن عرفت السلام والطمأنينة. هكذا يعرف الناس الله الواحد. ويعرفون الوسيط الواحد. وهم يعرفون الآب والابن بواسطة الرسل، ولا سيّما بولس الذي اعتُبر المنادي والمرسل والمعلّم، فجمع هذه المواهب الثلاث من أجل البشر، بل من أجل البشريّة كلها. فإن لم يكن من يحمل الانجيل، فكيف يستطيع الوثنيون أن يصلوا إلى معرفة الحقّ، إلى معرفة من هو الطريق والحقّ والحياة. ذاك كان واجبَ بولس. وواجب تيموتاوس أيضًا. بل واجب كل واحد منا فهمَ دعوتَه المسيحيّة نداء إلى حمل البشارة في خطّ بولس الذي قال إلى أهل كورنتوس: "التبشير ضرورة فُرضت عليّ. فالويل لي إن كنت لا أبشّر" (1كور 9: 16).



Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM