الفصل الرابع والأربعون:سفر الرؤيا كتاب ليتورجي

 

الفصل الرابع والأربعون
سفر الرؤيا
كتاب ليتورجي

سفر الرؤيا، كتاب الدم والنار، هو أيضًا كتاب صلاة، كتاب ليتورجيا. ففعلُ الشكر يتفجّر في كل صفحة من صفحاته، ليجعل من هذا العالم المكانَ الذي فيه نحتفل بإلهنا بعاطفة الإيمان. ولكن لسنا فقط أمام صلوات فردية، بل إننا نسمع صوت الليتورجيا المسيحيّة تسبّح الرب: قدّوس، قدّوس، قدّوس الرب الإله القدير (4: 8). كما نسمع الجماعة تنهي الاحتفال فتقول: آمين. ماراناتا، تعال أيها الرب يسوع (22: 20).
سنحاول أن نكتشف العناصر الليتورجية في سفر الرؤيا: الصور والكلمات، التعاليم والممارسات. وهكذا نتعرّف إلى جزء مهمّ من حياة الكنيسة الأولى. سنتوقّف بصورة خاصة على الرسائل إلى الكنائس (ف 2- 3)، على العبادة الليتورجية التي هي استباق للملكوت (ف 4- 5)، وعلى نهاية الاحتفال وإعلان حضور الرب معنا، رغم الصعوبات والمحن والاضطهادات (ف 22).

1- الرسائل إلى الكنائس
يقدم لنا سفر الرؤيا في القسم الأول رسالة موجّهة إلى سبع كنائس في آسية الصغرى (أي تركيا اليوم). إنها جماعات حقيقيّة تجابه الخطيئة لتتعرّف إلى القداسة. هي سبع كنائس تقع على الطريق الملكية. وإن الرقم 7 (رقم الكمال) يقول لنا إن يوحنا يتوجّه إلى الكنيسة كلّها، ومن خلالها إلى كل كنيسة من كنائسنا اليوم.
بُنيت هذه الرسائل حسب رسمة موحّدة: تُسمّى الكنيسة (أفسس، سميرنة....)، ويُذكر المسيح مع لقب من ألقابه (يُمسك بيمينه الكواكب السبعة، الذي مات وعاد إلى الحياة...)، ويبدأ فحص الضمير. يذكّر الربُّ الكنيسة بأعمالها وجهدها وصبرها، ولكنه يعاتبها، بل بوبّخها ويهدّدها. وأخيرا يعد الغالب بعطيّة خاصة: أجعل الغالب يأكل من شجرة الحياة في فردوس الله، الغالب لا يؤذيه الموت الثاني. والختام هو: "من كان له أذنان، فليسمع ما يقول الروح للكنائس".
ينطلق الكاتب من الحياة اليومية (أفسس هي أولى مدائن آسية الصغرى، فلماذا لا تكون الأولى في الإيمان). فيصل بنا إلى المسيح الآتي إلى جماعته في شعائر العبادة. ففي العطايا التي يعد بها المسيحُ الغالبين، نكتشف عددًا من التلميحات الليتورجيّة التي تخفي بُعدًا هامًا من أبعاد حياة الكنيسة: كانت تتغذّى من الليتورجيا من أجل الحياة، كانت تتقوّى في الليتورجيا لتجابه الاضطهاد. لم تكن الأعمال الليتورجية محطّات معزولة في حياة المؤمن، بل وجهة الصلاة التي تقابل وجهة الحياة، فتكوّنان معًا المسيحيّ الحقيقيّ، الإنسان الكامل الذي بلغ ملء قامة المسيح (أف 4: 13).
يعاتب الرب كنيسة أفسس لأنها تركت محبّتها الأولى. أما الغالب فيعطيه أن يأكل من شجرة الحياة في فردوس الله (2: 4، 7). ويعد المسيح سميرنة (إزمير) بإكليل الحياة. ونقرأ وعد يسوع لكنيسة برغاموس: "من غلب أعطيته المنّ الخفي وحصاة بيضاء، منقوشًا فيها اسم جديد لا يعرفه إلا الذي يناله" (2: 17). والمنّ الخفي يشير إلى الافخارستيا عبر ما نقرأ في إنجيل يوحنا.
وينطبق المزمور الثاني على الغالب في كنيسة تياتيره، فيُعلمنا أن المسيحي الذي يقبل أن يمرّ في الموت مع المسيح، يشاركه في ملكه على العالم. وهذه المشاركة بدأت بواسطة الأسرار. فكوكب الصبح هو المسيح (32: 16). وهو يعطي ذاته للمؤمن في الافخارستيا. أما الثوب الأبيض المعطى لكنيسة سارديس فيدلّ على العماد كصورة عن الخلاص الذي يهيّئه الرب لأخصّائه أي: الخلاص النهائي (6: 11).
ونجد في كنيسة فيلدلفيا الإكليل والاسم الجديد. غير أن هذا الاسم يجعل من المسيحيّ عمودًا في هيكل الله، ومواطنًا لأورشليم الجديدة التي هي الكنيسة. وأخيرًأ، إن العطية الموعود بها لكنيسة لاودكية (اللاذقية في تركيا) يعود إلى مقطع من نشيد الأناشيد (5: 2: "صوت حبيبي يقرع: إفتحي لي يا خليلتي"). ففي الليتورجيا الفصحية في العالم المسيحيّ الأول، كانت الكنيسة تنتظر رجوع ربّها. تعرف أنه قريب، تسمع وقع خطاه، وتسمعه يقرع الباب.
هذه نظرة سريعة، ستجد جوابها في ف 22 من "سفر الرؤيا" مع فارق بسيط: تنظر الرسائل إلى الاحتفالات العادية في الجماعة، أما ف 22 فيحدّثنا عن العشاء الأخير، عن الفصح الأخير، حيث يأتي المسيح كالديّان والمخلّص. ولكن منذ الآن، نحن مدعوّون إلى مائدة الرب حيث يقدّم يسوع ذاته لنا نحن المؤمنين به.

2- العبادة الليتورجية
يتحدّث ف 4- 5 عن الليتورجيا حول العرش. فوق عروش الملوك والأباطرة، هناك عرش الله. ونجد جماعتين تعبدانه: الشيوخ هم أناس وليسوا ملائكة. إنّهم يمثّلون قدّيسي العهد القديم الذين يرى فيهم المسيحيون آباءهم في الإيمان (عب 11- 12). هم 24 شيخًا، وهذا العدد هو عدد فرق الكهنة في تنظيم العبادة (1 أخ 24: 3- 19؛ 25: 6- 31). والجماعة الثانية تتألف من الأحياء (أو الحيوانات الحيّة كما في حز 1). إنهم يمثّلون العالم بكل مخلوقاته. يقفون في وسط العرش وحوله (4: 6)، وهذا يدلّ على أن السماء ليست منفصلة عن الأرض، بل هي حاضرة وسط عالمنا المخلوق. تصور بداية ف 4 عبادة سماويّة ترتبط بالخلق. أمّا النهاية فتقدّم فعل شكر إلى الله الخالق: "يا ربنا وإلهنا، لك يحقّ المجد والإكرام والقدرة، لأنك خلقت الأشياء كلها، وهي بمشيئتك كانت ووُجدت" (4: 11). وبين البداية، النهاية نقرأ التسبيح في 4: 8: "قدّوس، قدّوس، قدّوس الرب الإله القدير، الذي كان، وهو الكائن، وسيأتي". إننا نقرأ نشيد " قدّوس" في أقدم الليتورجيات المسيحية (مثلا: القوانين الرسولية).
ويشكّل ف 5 وحدة مع ف 4. وسنرى فيه بقايا ليتورجيا مارستها الكنيسة في نهاية القرن الأول. وأولُّ عنصر هو الكتاب السرّي الذي يحتّل مكانة هامة في هذا الفصل. ماذا يُقال لنا عنه؟ لا يقدر أن يفتحه إلا الحمل فيقرأ ما هو واضح فيه وما هو خفيّ (هذا يعني ما خُطّ فيه من الداخل ومن الخارج). هذا الكتاب هو التوراة، هو العهد القديم، الذي نستطيع أن نقرأه بطريقة حرفية دون ان نتبيّن مضمونه. وحده المسيح يكشف لنا معناه (لو 24: 27، 45؛ 2 كور 3: 14-16).
من يفتح الكتاب؟ الحمل المذبوح الذي يشبه حمل الفصح الأول في مصر. فالمسيح وحده هو الذي يكشف النبوءة ويتمّمها. لهذا ينشد 5: 9 العزاء الذي أتمّه الحمل للمسيحيين. "ذُبحْتَ وافتديتنا لله بدمك من بين كل قبيلة ولسان وشعب وأمّة." ولكن الذبح لم يكن النهاية. فهذا الفادي يقف اليوم حيّا. إنه القائم من بين الأموات.
أجل، إن المسيح هو الحمل الذي قدّم نفسه ذبيحة عنا ليخلّصنا (أش 52: 13-53: 12)، الذي ختم الميثاق الحقيقيّ مع الله بدمه. إنه المسيح الذي أعلن عنه العهد القديم، ولكنه يختلف عنه اختلافا جذريًا. لقد انتصر، ولكن لا بالسلاح. لقد تمجّد ولكن بالصليب، وهو يجلس على عرش الله كالحمل المذبوح: إنه يحمل في بشريّته الممجّدة آثار آلامه.
وهكذا يستطيع الكون (الحيوانات الأربعة) والبشرية (الشيوخ) أن ينشدوا النشيد الجديد، لأن كل شيء تجدّد في يسوع المسيح. ويندفع الملائكة متحمّسين مع كل الخلائق، فيدخلون في هذه الحفلة الموسيقية التي تُنشد مدائحَ الله: "للجالس على العرش وللحمل الحمد والإكرام والمجد والجبروت إلى أبد الدهور" (5: 13).
إذًا، نستطيع القول إن العهد القديم ينفتح مع المسيح فيجد فيه معناه الحقيقيّ والكامل. فالخلق والخلاص (من مصر) يعلنان الخلق الجديد والخلاص الحقيقي في يسوع المسيح.
حين تنفتح السماء للكشف الأخير (هذا هو المعنى الأساسي لكلمة الرؤيا في اليونانية: أبوكالبسيس)، يكتشف المسيحيون البُعد الحقيقي للعبادة التي يحتفلون بها بطريقة عادية. يسمعون ليتورجيا تُنشد أمام الله، ويفهمون أنها استباق على الأرض للملكوت، لنهاية الزمن. هذه هي الكلمة الأخيرة التي تعلنها نهايةُ العالم بطريقة واضحة. وهذه الكلمة الأخيرة هي يسوع المسيح.

3- حضور الرب معنا
وينتهي سفر الرؤيا بهذه الصلاة: "تعال أيها الرب يسوع. فلتكن نعمة ربنا يسوع معكم أجمعين" (22: 20-21).
نحن في سفر الرؤيا، كما في 1 كور، أمام خاتمة كتاب: ماراناتا (تعال يا ربّ). ثم تمنّ بأن تكون نعمة الرب مع المؤمنين. لماذا وُجدت هذه الكلمةُ الآرامية في رسالة وجّهها بولس إلى جماعة يونانية؟ ولماذا لم يترجمها بولس وهي تعني في صيغة الماضي: الرب جاء (ماراناتا، أي ربنا أتى) أو الرب هو هنا. بأيّة قناة مرّت هذه الصلاة الآرامية إن لم يكن في الليتورجيا؟
ونحن نعرف أننا في الليتورجيا اذ عدنا إلى الديداكيه (أو تعليم الرسل الإثني عشر وهو كتاب يعود إلى بداية القرن الثاني ب.م.). فالفصل العاشر المكرّس للافخارستيا يبدو على الشكل التالي: المحتفل: "كتاب النّعمة وليعبر هذا العالم". الجماعة: "هوشعنا لابن داود". المحتفل: "إن كان أحد مقدّسا فليأت، والا فليتب". الجماعة: "ماراناتا، آمين. فليتب". الجماعة: "ماراناتا، آمين". يتضمّن هذا الحوار التمنّي الأخير الذي يتبعه هتاف وتحذير، ثم ماراناتا مع آمين الأخير.
وإن الحركة الليتورجية التي تشهد لها "الديداكيه" تساعدنا على أن نلقي ضوءًا على نصّ القديّس بولس في 1 كور 16: 22. فعبارة التهديد التي نقرأها (عليه اللعنة)، تصبح حسب النموذج الذي في الديداكه: "إن كان أحد يحبّ الربّ فليأت، إن كان أحد لا يحبّ الرب فاللعنة عليه! ماراناتا".
نحن نعرف، انطلاقا من "الديداكيه"، أن ماراناتا عبارة لها مكانها في الليتورجيا الافخارستية. يتيح لنا هذا التحديد أن نؤكّد أن الساعة المهمّة هي وقت الصلاة لمجيء الرب أو التأكيد على حضوره. وانطلاقا من هذا العنصر المركزيّ، نفهم النداء والتحذير (أو التهديد): في الافخارستيا يلتقي الإنسان بربّه الذي هو مخلّصه وديّانه. لهذا يُدعى المسيحي لكي يتقبّل الخيرات المقدّمة اليه بواسطة الخبز والخمر. ويهدّد: "فمن أكل خبز الرب وشرب كأسه وما كان أهلاً لهما، خطئ إلى جسد الرب ودمه. فليمتحن كل واحد نفسه، قبل أن يأكل من هذا الخبز ويشرب من هذه الكأس. لأن من أكل وشرب وهو لا يراعي جسد الرب، أكل وشرب الحكم (دينونة) على نفسه" (1 كور 11: 27- 29).
بعد هذا، نستطيع أن نعود إلى نص سفر الرؤيا، ونحن متأكّدون أننا أمام تأثير ليتورجي واضح. ونجد في آ 17: "من كان عطشانًا فليأتِ، ومن شاء فليأخذ ماء الحياة مجانًا".
والخلاصة أن كاتب سفر الرؤيا يردّد في صفحات كتابه ما قدّمته الليتورجيا للمسيحيّين لكي يحيوا منه. وبكلام آخر ليس سفر الرؤيا إلاّ تأمّلاً في شعائر العبادة ومحاولة لاكتشاف معناها.
فإلى هؤلاء المسيحيين الذي يهدّدهم من كل جهة عالمٌ يعاديهم، قدّمت رؤيا يوحنا اليقين العظيم الذي أعلنه الإنجيل : لقد جاء يسوع. إنه هنا. إنه حاضر حقًا معكم. تستطيعون أن تنتظروه بثقة. ومنذ الآن تلتقون به كما سيكون في تجلّيه الأخير. فشعائر العبادة تذكّركم به. والليتورجيا تحتفل به. والأسرار تعطيكم العلامات الحسّية عن حضوره. هذا هو الجوّ الذي نعيشه حين نقرأ سفر الرؤيا. وحينئذ تصبح ماراناتا صلاة كنسيّة تتوجّه إلى ربّها بثقة وتتأكّد أنه يجيبها إلى ندائها، لأنه جاء... ولأنه معها!

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM