الفصل الثالث والأربعون:عالم الرؤيا وواقع الناس

 

الفصل الثالث والأربعون
عالم الرؤيا
وواقع الناس

هل نحن في نهاية الأزمنة؟ الخوف العظيم يمسك بالناس اليوم، فيعيشون في مناخ من القلق بسبب النكبات الآتية. فالحقبة التي نعيش مليئة بكوارث متنوّعة تتبع النكبة الكبرى التي أودت بـ 55 مليونًا من الموتى في الحرب العالميّة الثانية: أزمات اقتصاديّة واجتماعية، صراعات وثورات هي كّلها ثمرة الحرب الباردة، تهديدات ذرية، تبدّلات مناخيّة. كل هذا جعل الشيع الألفيّة تنجح في الحديث عن نهاية العالم القريبة. وقد أعلن شهود يهوه نهاية النظام الحاضر بشروره. وأعلن غيرهم بعد هذه النهاية، مجيء عالم جديد. وأعادوا قراءة سفر الرؤيا واعتبروا أن ملك الألف سنة للمسيح مع مختاريه سيأتي قريبًا.
نحن أمام انفجار حقيقيّ من النبوءات مع ما فيها من الهلع الكبير. ويقرأ "المنجّمون" التقلّبات المذهلة المرتبطة بمرور قريب بعصر السمك قرب عصر الدلو. ومئويات نوسترداموس قد بيعت بأكثر من مليون نسخة في فرنسا وحدها.
وهكذا يبدو موضوع نهاية العالم "والرؤيا" كاشفًا عن عقلية دينيّة معاصرة. سنحاول أن نتحدّث عن عالم الرؤيا ونربطه بواقع الناس وما تقوله البدع.

1- عالم الرؤيا
كتاب الرؤيا هو آخر أسفار العهد الجديد. سُمّي "الوحي" والكشف والجليان. ينزع الغشاء فتظهر الحقيقة، وأية حقيقة! هنا نتذكّر أن الزمن يسير في خط مستقيم. والتاريخ لا يدور على نفسه ليعود إلى النقطة التي كان فيها كما يقول سفر الجامعة (1: 5-7)، بل هو يتقدّم إلى النهاية.
ويتدخّل النبي في هذا التاريخ باسم الله: فقد طُلب منه أن يجعل معاصريه يعيشون في الحاضر كاشفًا لهم عن مخطّط الله كما يتمّ الآن. كم نحن بعيدون عن عالم الشيع الذي يخرجنا من الواقع ويجعلنا نعيش في الخيال الذي لا يستند إلى شيء. أما كلمة الله التي يعلنها سفر الرؤيا، فهي ترتبط قبل كلّ شيء بالظروف الحاضرة. لا شكّ في أنها تهتمّ أيضًا بالمستقبل، ولكن من حيث يُعطي هذا المستقبلُ معنى للحاضر. سفر الرؤيا يُسند الرجاء لدى السامعين فيذكّرهم بهدف مسيرتهم. وهذا الهدف هو "اليوم" الذي فيه يقيم الله ملكه على العالم بشكل نهائي. غير أن هذا اليوم يبقى خفيًا، بسبب "الحجاب" الذي يستر نهاية التاريخ عن أعين البشر.
ومع ذلك، فالبدع تعتبر أنها تعرف هذه النهاية. تعرف تاريخها. وقد قال شهود يهوه، سنة 1914. ولكن حساباتهم لم تكن "دقيقة". فقالوا 2014. وقرأوا خطبة يسوع في نهاية عالم هو العالم اليهوديّ مع دمار أورشليم سنة 70 ب.م. فاعتبروا أن ما ورد حرفيًا هو الحقيقة بالذات. يتحدّث النصّ عن الحروب وأخبار الحروب، عن المجاعات والأوبئة... ويستنتجون: إذن، نهاية العالم قريبة. ويملأون قلوب الناس خوفًا وجزعًا.
في الواقع كلّ هذه "الكوارث" لا تدلّ بالضرورة على نهاية العالم. فإنجيل متى يقول: "هذا كلّه أول المخاض، أول الأوجاع" (24: 8). هي البداية. ونحن نعرف أن بداية نهاية العالم بدأت في موت يسوع وقيامته. أما النهاية فستكون حين يصل الإنجيل إلى الكون كلّه. ونحن نقرأ في مت 24: 14 أيضًا : "وسيبشَّر بإنجيل الملكوت هذا في المسكونة كلّها شهادة لجميع الأمم. عندئذ يأتي المنتهى". هذا يعني نهاية التدبير الحاليّ والإقامة النهائيّة لملكوت الله. كم نحن بعيدون عن هذه "الساعة" التي لا يعرفها إلا الآب!
إن صاحب سفر الرؤيا يُشبهنا: هو يجهل نهاية الأزمنة. ولكنه متأكّد من شيء واحد وهو أن الله أمين. فإذا أراد أن يعرف ما سيحدث في نهاية الأزمنة، حاول أن يكتشف كيف يفعل الله اليوم. وبما أنّه بحاجة إلى بعض الوقت، عاد إلى الوراء لكي يرى مسيرة التاريخ في نظر الله. عاد إلى تاريخ شعبه، وحاول أن يكتشف نواميس تصرّف الله. بما أن الله هو الأمين في الماضي، والأمين في الحاضر، فهو الأمين في المستقبل، وسيبقى أمينًا حتى نهاية العالم. فلا يجب أن نخاف.
ولكن كيف تظهر كلمة الله ؟ هل نتقبّلها بطريقة منفعلة، بمعنى أننا نكتّف أيدينا وننتظر من الله أن يفعل كلّ شيء؟ كلا. فالله يريدنا أن نفعل معه. هو يمسك بأيدينا ليساعدنا على أن نكتب تاريخ الكون ونبني ملكوت الله في حياتنا اليوميّة. هنا نفهم كلام القديس بولس إلى أهل تسالونيكي حين دعا الإخوة أن يجتنبوا "كل واحد من الإخوة يسلك في الكسل" (2 تس 3: 6). قال: "كّنا نشتغل بتعب وكدّ... لنجعل لكم من أنفسنا مثالاً تقتدون به... وقد بلغنا أن فيكم قومًا يسلكون في الكسل. فلا يشتغلون، بل يتشاغلون بما لا طائل فيه... وأما أنتم أيها الإخوة، فلا تملّوا فعل الخير" (آ 8-13).
هذا ما حدث لبعض المؤمنين في كوريا: باعوا كلّ ما يملكون وذهبوا إلى الجبل ينتظرون مجيء الربّ كما حدّده لهم "أحد الأنبياء الكذبة". ولكنّهم عادوا خائبين. ويا ليتهم يفهمون ونفهم نحن أيضًا أن المسيح ليس هنا ولا هناك فنبحث عنه كما نبحث عن شيء من الأشياء. وقد قال يسوع في هذا المجال: "مثلما أن البرق ينبثق من المشرق ويلمع حتى المغرب، كذلك يكون مجيء ابن البشر" (مت 24: 27). فانتظار الرب يكون في حياة يوميّة يُشرف عليها عملُ الخير لجميع الناس ولا سيّما لأهل الإيمان.
ونأخذ مثلا من الكتاب المقدّس عن هذه القراءة "الرؤيوية" (حيث يرى الكاتب) أو "الجليانيّة" (حيث يكتشف الكاتب، وينزع الستار). الأول سفر دانيال. والثاني: رؤيا يوحنا.
ما هو الوضع في سفر دانيال؟ عاش الكاتب الذي استتر وراء اسم دانيال الحكيم المعروف في الشرق (راجع دانيل في نصوص أوغاريت. راس شمرا) في القرن الثاني ق.م. ساعة الاضطهاد المريع الذي قام به انطيوخس أبيفانيوس السلوقي ضدّ جماعة المؤمنين. فمات من مات، وهُجّر من هجّر، وسُجن من سُجن. حينئذ تساءل الكاتب: هل يزول شعب الله في المستقبل؟ وإذ أراد أن يبحث عن الجواب، عاد إلى الوراء، إلى أزمة هائلة في تاريخ الشعب العبراني: سنة 587 ودمار أورشليم وذهاب الشعب إلى السبي، واحراق الهيكل وموت الملك. رغم كلّ هذا، لم يمت شعب الله. فهو ما زال حيًّا. وهو اليوم في زمن انطيوخس سيبقى كذلك، وسيبقى كذلك إلى الأبد. لأن الرب هو إله أمين. وعاد فقرأ مراحل التاريخ حول العصر الفارسيّ واليوناني والسلوقي حتى وصل إلى أنطيوخس الكبير الذي هو "قرن" سيحطّمه الله. وهكذا شجّع المؤمنين ونفخ فيهم الرجاء.
ونقول الشيء عينه عن سفر الرؤيا. عاش الكاتب (يوحنا أو أحد تلاميذه) في أيام الأمبراطور دوميسيانس (حوالي سنة 95 ب.م.)، ساعة كان الاضطهاد مريعًا ضد المسيحيّين. أترى ستزول الكنيسة؟ وعاد يوحنا إلى سنة 64- 67 وموت الرسولين بطرس وبولس وعدد كبير من المسيحيّين في أيّام نيرون الأمبراطور. مات من مات، ونُفي من نُفي. ولكن الكنيسة حيّة باقية، سنة 95. وستبقى كذلك إلى المنتهى، لأن الرب قال لبطرس: "أبواب الجحيم (والموت) لن تقوى عليها". وهو الذي قال لتلاميذه لا تخافوا أنا غلبت العالم.
ودُوّنت أسفار رؤى عديدة في عالم الشرق. نذكر أشهرها: كتاب أخنوخ (القرن الثاني ق.م)، كتاب اليوبيلات، وصيات الآباء الاثني عشر... ثم مزامير سليمان (القرن الأول ق.م)، وانتقال موسى، ورؤيا ابراهيم، ورؤيا موسى... هذه الكتب كلّها تدلّ على دمار عالم وبناء عالم جديد. دمار عالم من الشرّ وتكوين عالم جديد على هذه الأرض. هنا نفهم منابع تفكير هذه الشيع ولا سيما شهود يهوه التي تعدنا بملك على الأرض نأكل فيه ونشرب، وننسى الروح الذي فينا والذي لا يشبعه إلا حياة مع الله في مجد يرفع الجسد إلى مستوى الروح، ولا يحدر الروح إلى مستوى الجسد على مثال ما يقرأون في سفر الجامعة بشكل حرفي. "قلت في قلبي: إنما ذلك لأجل بني البشر ليمتحنهم الله ويريهم أنهم في حقّ أنفسهم كالبهائم. لأن ما يحدث لبني البشر هو ما يحدث للبهيمة وللفريقين مصير واحد. كما تموت هي يموت هو، ولكليهما روح واحد. فليس للإنسان فضل على البهيمة لأن كليهما باطل" (3: 18-19)، لقد امتحن الله الإنسان، فذكّره بأنه من تراب الأرض، وأن الموت ينتظره كما ينتظر سائر الخلائق الحيّة. ولكن في آ 21 يرى الكاتب روح بني البشر يصعد إلى العلاء، إلى الله، وروح البهيمة ينزل إلى أسفل، إلى الأرض.
أما سفر الرؤيا فيرفعنا منذ البداية إلى السماء، برفقة يوحنا والملاك، وفي النهاية يجعلنا في أورشليم الجديدة، في أرض جديدة وسماء جديدة، لأن "السماء الأولى، والأرض الأولى قد زالتا، والبحر زال من الوجود" (21: 1). فلماذا العودة إلى التراب وإلى الحياة على الأرض، بعد أن تهيّأنا للسماء في سعادة روحيّة ترافق المسيح الممجّد.

2- سفر الرؤيا في أيامنا
ليست كلمة الله حرفا ميتًا. إنها تتفاعل مع الإطار الذي نقيم فيه، كما تتفاعل مع الأشخاص الذين يتعاملون معها. ذاك كان وضعها حين دوّنت، وذاك سيكون حين تُقرأ.
بالنسبة إلى الكاتب وصلت رؤية سماوية، حلّ عليه "وحي" من العلاء. فاستعان بالفن الأدبي المعروف بالفن الجلياني (أو الرؤيوي) مع ما فيه من رموز (القرن يدلّ على القوة، العين على المعرفة) وألوان (الأحمر يدلّ على الإضطهاد) وأعداد (7 هو عدد الكمال). وعاد إلى مشاكل عصره بما فيها من حروب لا سيّما مع الفراتيّين في الشرق الذين يهدّدون الأمبراطوريّة الرومانيّة نفسها. ونظر إلى الاضطهادات التي تصيب الكنيسة وهي على أنواع وأنواع، فدعا المؤمنين إلى التعامل مع هذا العالم، وإن لم يكونوا من العالم، ليؤدّوا في هذا العالم الشهادة للمسيح. ودعاهم بشكل خاص أن لا يخافوا. السلطة الرومانيّة هي التي تخاف. "الذعر" يحلّ بالمدينة (11: 13) بعد تلك الزلزلة العظيمة التي تدلّ على حضور الله وعمله. و"ملوك الأرض والعظماء والقوّاد والأغنياء والأقوياء تواروا من الخوف في مغاور الجبال وصخورها، وهم يقولون للجبال والصخور: أسقطي علينا وأخفينا من (الله) الجالس على العرش، ومن غضب الحمل. فقد جاء يوم الدينونية. جاء يوم الغضب العظيم، فمن يطيق الوقوف". أجل، العالم المضطهد للكنيسة هو الذي يعيش في الخوف. أما المؤمنون فهم لا يخافون وقد غلبوا العالم بإيمانهم.
أما كيف كان الاضطهاد؟ هناك أقلّه ثلاثة أنواع: يُقتل المسيحيون. يُسجنون. يُرسلون إلى المنفى. أما الاضطهاد المريع والذي لا يُرى، فهو هذه المضايقة الدائمة في حياة المؤمنين، في ممتلكاتهم، في حرّيتهم. حين يتحدّث سفر الرؤيا عن وحش البحر الذي يمثّل السلطة السياسيّة (أي سلطة امبراطوريّة رومة) تجاه وحش البرّ الذي يمثّل السلطة الايديولوجيّة (هي في خدمة السلطة السياسيّة، على ما كان اليهود خلال الحكم الفارسي في القرن الرابع، وقد شجعوا "الدولة" على اضطهاد المسيحيّين)، أظهر أنه حارب المؤمنين في كل مكان. "أوتي (أي سمح له الله) أن يحارب القديسين (أي المسيحيّين الذين هم مكرّسون لله) ويغلبهم (كما غلب بيلاطس واليهود يسوع فصلبوه). وأعطي سلطانًا على كل قبيلة وشعب وكل لسان وأمّة (4 أسماء. هذا يدلّ على العالم كله. عمّ الإضطهاد الامبراطوريّة كلّها). وسيسجد له (لا للرب، سيسجد للوحش أي للسلطة التي تفرض على الناس التعبّد لها) جميعُ سكان الأرض، كل من لم يُكتب اسمه (في سجل العماد) منذ إنشاء العالم (فالله قد اختارنا منذ إنشاء العالم، كما قالت أف 1: 4) في سفر الحياة (الذي يخصّ) الحمل المذبوح (فيسوع يحمل آثار جراحه وآلامه. هو يتعذّب مع المؤمنين المضطهدين). من له أذن فليسمع (هذه كلمة السرّ. وهي تنبّه المؤمنين إلى الواقع الذي يصيب إخوتهم). من كان للسبي فإلى السبي يذهب (بعضهم دخل السجن. هُجّر وأخذت أملاكه). ومن كان للسيف فبالسيف يُقتل (هناك من يقتل مثل بولس الرسول). هنا صبر القديّسين وإيمانهم" (الاضطهاد يهدّد الجميع، ولا مهرب منه. يبقى عليهم أن يدلّوا على صبرهم وأمانتهم).
إذن، هناك مسيحيّيون يُقتلون، وقد كانت طرق التعذيب متنوّعة: بالصلب كما حدث لبطرس، بالسيف كما حدث لبولس، بالوقوع بين أنياب الحيوانات المفترسة كما حصل للشهداء في مدينة ليون بفرنسا. وهناك الذاهبون إلى المنفى بحيث تصحّ فيهم كلمة يسوع في عظة السهل في لوقا (6: 20-21): أيها المساكين (صرتم فقراء)، أيها الجياع، أيها الباكون، يا من يبغضكم الناس ويضطهدونكم. صاروا فقراء وجياعًا بعد أن حُرموا ممّا يملكون ووُضعوا في السجن ولاقوا العذابات على ما تقول الرسالة إلى العبرانيّين (10: 32-36): "صبرتم على نضال طويل مؤلم، فكنتم مرّة مشهدًا للناس بالتعييرات والمضايق، وأخرى شركاء (متضامنين) للذين يعاملون بمثلها. أجل أنتم تألمتم مع الذين في القيود (في السجن) ورضيتم بانتهاب أموالكم فرحين، لعلمكم أن لكم ثروة أفضل وأبقى".
ذاك هو المناخ الذي تعيشه الكنيسة التي أرسل إليها سفر الرؤيا. فكلام الله لا يتوجّه فقط إلى المستقبل، إلى الذين يعيشون بعد ألف أو ألفي سنة. بل هو يتوجّه إلى معاصري يوحنا في نهاية القرن الأول المسيحي. وقد انطلق الكاتب من الوضع الذي يعيشه، فقدّم التعزية والتشجيع لهؤلاء المؤمنين الذين "عذِّبوا (بتقطيع أجسادهم) ولم يقبلوا النجاة (كان بإمكانهم أن ينجوا لو جحدوا إيمانهم) ليحرزوا قيامة أفضل. وآخرون ذاقوا الهزء والسياط حتى القيود والسجن. لقد رُجموا، نُشروا (قطعوا بالمنشار)، ماتوا بحدّ السيف، تشرّدوا في جلود المعز والغنم" (عب 11: 35-37). هكذا تحدّثت الرسالة إلى العبرانيّين عن الوجه المنظور للاضطهاد. ولكن هناك وجهًا غير منظور سيشدّد عليه سفر الرؤيا، وهو الذي مارسته وتمارسه حتى اليوم بعض النظم الدكتاتورية التي لا تريد "شهداء يسيل منهم الدم"، بل شهداء يموتون ميتة بطيئة من الجوع والقهر والعوز والضيق. لا يموتون مرّة واحدة، بل يموتون كل يوم ألف مرّة. نقرأ في روم 8: 36: "من أجلك نُمات (نُقتل، نموت) النهار كلّه، وقد حُسبنا مثل غنم للذبح".
ماذا يقول سفر الرؤيا في هذا الاضطهاد الخفي الذي يحفظ ماء الوجه أمام الرأي العام "العالمي"؟ "رأيتُ وحشًا آخر طالعًا من الأرض (قلنا إنه السلطة الايديولوجيّة. إنه النبيّ الكذّاب. يعتبر أنه يتكلّم باسم الله وهو في الواقع يتكلّم باسم نفسه، باسم السلطان) له قرنان كقرنَي حمل (يحاول أن يتشبّه بالمسيح حمل الله لكي يضلّ الناس) ويتكلّم مثل تنين (أي الحيّة الجهنميّة، أي إبليس. يعمل مثل إبليس ويدعو إلى عبادة الامبراطور). ويمارس كلّ سلطان الوحش الأول (بحضرته، ببركته، بموافقته. إذن سلطتان متحالفتان: السلطة السياسيّة والسلطة الايديولوجيّة).
ويجعل الأرض والساكنين فيها يسجدون للوحش الأول الذي برئ من جرحه المميت (وهو يقلّد يسوع الذي جُرح ومات ثم قام. هكذا يبدو الوحش الأول). ويصنع آيات عظيمة (مثل معجزات يسوع. هو "قدير" مثل يسوع، مثل الله، ولهذا يُسمّى "كيريوس" أي الرب، وأوغسطس المعبود) حتى إنه يُنزل نارًا من السماء على الأرض، على مرأى الناس. ويُضلّ سكانَ الأرض بالآيات التي أوتي أن يعملها أمام الوحش (الأول) (هنا نتذكّر مت 24: 24: مسحاء كذبة وأنبياء كذبة، ويعطون علامات عظيمة). وأمر سكّان الأرض أن يصنعوا تمثالاً للوحش الذي كان به جرح السيف وعاش (مات وعاش مثل يسوع، لا سمح الله). وأوتي أن يجعل في تمثال الوحش روحًا بحيث يُعطى لتمثال الوحش أن يتكلّم وأن يأمر بقتل كلّ من لا يسجد لتمثال الوحش.
"ويجعل الجميع، الصغار والكبار، الأغنياء والفقراء، الأحرار والعبيد (أي جميع الناس، يجب أن يكونوا كقطيع الغنم. يمنع عليهم أن يفكّروا، بل أن يسيروا في خطى الذين سبقوهم) يتّسمون بسمة في أيديهم اليمنى (اعتاد المسيحيّون أن يوشموا. ثم هناك سمة المعموديّة. والوحش جعل في "عباده" سمة خاصة بالوثنيّين) أو في جباههم (الزيت على جبهة المعمّد) بحيث لا يستطيع أحد أن يشتري أو يبيع ما لم يكن متّسمًا باسم الوحش (أعمدك باسم الآب. وهنا يعمّد باسم الوحش) أو بعدد اسمه (كل الذين يرفضون عبادة الأمبراطور يُجعلون خارج المجتمع. يخسرون حقوقهم المدنيّة. لا يحقّ لهم ما يحقّ لغيرهم من وظيفة أو امتياز). هنا الحكمة (أي أهمية التمييز. ما هو من الله وما هو من الإنسان). من كان ذا فهم فليحسب عدد الوحش. إنه عدد إنسان (ليس هو الله. بل هو إنسان). فعدده 666 (رقم النقص. ليس 777 وليس 1000 الذي هو رقم الخلود، إنه قيصر نيرون. إذا حسبنا الحروف أرقامًا) (رؤ 13: 11- 18).
لا حاجة إلى التوسّع بعدُ في هذا النصّ الذي يعبّر أفضل تعبير عن الحالة التي تعيش فيها الكنيسة والمسيحيّون، حالة الضيق بسبب إيمانها بيسوع المسيح. لا حقوق مدنيّة للمؤمن الملتزم بإيمانه. لا وظيفة له. لا يحقّ له أن يتكلّم أو يعبّر عن آرائه. كل ما يسمح له هو أن يأكل ويشرب وينام. إذا سُمح له أن يعمل يعمل. وإذا لم يكن راضيًا، يستطيع أن يترك البلاد ويهاجر. وإن كانت له من حرية فهي حرية محدودة جدّا. هذا الوضع تعيشه دول عديدة من العالم الثالث تتوزّع بشكل خاص في أميركا الجنوبيّة، في أفريقيا وفي آسيا. يبقى علينا أن نتذكّر كلمة يسوع في نهاية الخطبة الاسكاتولوجيّة: "من يصبر إلى المنتهى فذاك يخلص".

خاتمة
حاولنا أن نقرأ سفر الرؤيا في عالم اليوم الذي فيه تعرف المسيحيّة حالة من الضّيق كلّفتها العديد من الشهداء (مثلا، المطران روميرو في السلفادور، وما تفعله "الطريق المنيرة في شيلي...) الذين صُلبوا، قُتلوا، أغرقوا في البحر أو في النهر. أجبروا على هجر مدينتهم بل بلدهم لكي يعيشوا في مناخ من الحرية حُرموا منه. وهذا الضّيق أيضًا الذي حدّثنا عنه سفر الرؤيا يجعل الكنيسة مقيّدة كما في سجن وأبناءها مواطنين من الدرجة الثانية، لأنهم لا ينتمون إلى الأكثرية أو يرفضون الأمر الواقع. ومع أعداء من الخارج، هناك أعداء من داخل الإنجيل، من داخل الذين يؤمنون بيسوع كنبيّ عظيم مثل هذه الشيع المتعدّدة التي تُفتّتُ الكنيسة وتملأ قلوب الناس رعبًا، وتخبرنا بنهاية العالم القريبة، ساعة نعرف أن العالم ما زال في بدايته. وأن نهايتنا هي في الواقع ساعة موتنا. لا حاجة بنا إلى أن نعمل عمل المنجِّمين لكي نعرف متى ينتهي العالم. بل نستسلم كليًا إلى يد الآب الذي يوجّه حياتنا، ويضع يده بيدنا لكي نبني ملكوت الله، ونعمل مع جميع ذوي الإرادة الصالحة من أجل بشرية تسود فيها العدالة والمحبّة، يسود فيها السلام والازدهار، يملأها الله بحضوره فيحسّ الجميع أنهم أبناء أب واحد وأنهم جميعهم إخوة مخلوقون على صورة الله ومدعوّون إلى سعادة تبدأ في هذه الدينا وتتجلّى في الآخرة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM