الفصل الرابع والثلاثون :آيات يسوع وأعماله بحسب إنجيل يوحنا

الفصل الرابع والثلاثون

آيات يسوع وأعماله
بحسب إنجيل يوحنا

يتحدّث التقليد الإزائي، الذي يضمّ متى ومرقس ولوقا، عن عجائب يسوع ويسمّيها "أعمال قدرة"، عائدًا إلى العهد القديم. ويحتفظ يوحنا بعبارتين بيبليّتين ليدلّ على أعمال يسوع العجائبية: الآيات والأعمال.

1- الآيات
إن كلمة آية تعني عملاً محدّدًا. فمعجزة قانا الأولى هي آية (2: 11). ومعجزة قانا الثانية هي آية (4: 54). وكذا نقول عن الخبز الذي تكاثر فأشبع الآلاف الخمسة (6: 4)، وعن العمل الذي قام به يسوع فأعاد لعازر إلى الحياة (12: 18). وتُستعمل الكلمة في الجمع فتدلّ على المعجزات التي اجترحها يسوع. قال يسوع لليهود: "أنتم تطلبونني، لا لأنكم رأيتم الآيات، بل لأنكم أكلتم الخبز وشبعتم" (6: 26).
حين يتحدّث يوحنا عن الآيات، فهو يرجع إلى مواضيع سفر الخروج: الخيمة (1: 14): سكن بيننا، جعل خيمته خيامنا. الحمل الفصحي (1: 29؛ 19: 36)، الحيّة النحاسيّة (3: 14)، يسوع وموسى (1: 17)، المن (6: 31- 33)، الماء الجاري من الصخرة (7: 38- 39). يقول خبر الخروج إن الله أكثر من الآيات بواسطة موسى (خر 10: 1؛ عد 14: 2، تث 7: 19)، ولكن الشّعب رفض أن يؤمن بي، "رغم الآيات التي صنعتها فيما بينهم" (عد 14: 11). إنّ هذا التشكّي يجد صداه في يو 12: 37: "ومع كل هذه الآيات التي صنعها أمامهم، لم يؤمنوا به".
ثم إن كلمة آية ترتبط بالأزمنة الأخيرة. قال التقليد اليهودي إن آيات ومعجزات ستكون في الأزمنة الاسكاتولوجية (دا 4: 2، 6: 28، مت 24: 3؛ 24، 30). وحين نلاحظ أنّ يوحنا لا يهتمّ بتصوير اليوم الأخير أو مجيء ابن الإنسان، بل بتأوين الاسكاتولوجيا، دون أن يتجاهل قيمة أقوال يسوع الاسكاتولوجية، نفهم أنه أراد أن يرى في معجزات يسوع آيات آخر الزمن. ولكنه يرفض أن يجعلها "الآيات والعجائب" التي انتظرها اليهود (4: 48). إن الآيات تدلّ على مجد يسوع. قال يو 2: 11: "أظهر مجده فآمن به تلاميذه".

2- الأعمال
ويستعمل يوحنا كلمة ثانية ليدلّ على العجائب التي اجترحها يسوع. ترد كلمة أعمال في العهد القديم لتدلّ على أعمال الله العظيمة من أجل شعبه. والخروج هو المثال والنموذج لأعمال الله بواسطة موسى. والخلق أيضًا (تك 2: 2). ويضع يوحنا نفسه في هذا التقليد حين يعلن باسم يسوع: "إن أبي إلى الآن يعمل، وأنا أيضًا أعمل" (5: 17). إن يسوع ليس مفوّضًا من قبل الله، إنه صاحب هذه الأعمال: "هذه الأعمال التي أعملها تشهد لي بأن الآب أرسلني". (5: 36).
وهذه الأعمال لا تعني العجائب فقط، بل تدلّ على مجمل رسالة يسوع على الأرض. قال يسوع: "أنا مجّدتك على الأرض وأتممت العمل الذي وكّلته إليّ" (17: 4). وهذا يقود يوحنا ليجعل العلاقة وثيقة بين الأقوال والأعمال. قال يسوع: "الكلام الذي أتكلّم به، لا أتكلّم به من عندي. إنّ أبي المقيم فيّ هو يعمل هذه الأعمال" (14: 10). إذن، هناك تداخل حقيقي بين الأقوال والأعمال، وهذا يبرّر طريقة يوحنا في إتباع خبر العجيبة بكلمة أو خطبة تُبرز معناها. والسبب العميق لهذا التداخل، هو أن ذلك الذي يتمّ الأعمال هو الكلمة الذي صار جسدًا. كل عمل من أعمال الكلمة (الابن) هو كلمة تتوجّه إلينا وتدعونا إلى الإيمان.
الآية ليست فقط علامة تدلّ على شيء آخر. الآية هي الرمز الذي يشارك في ما يمثّل فيعمل على امتصاص الفرق. العمل يعبّر عن التعامل، والرمز لا يحيلنا إلى شيء آخر. إنه هذا الشيء الآخر. فالعمل هو وحي في حدّ ذاته. وأساس رمزية الآية هو أن الكلمة الأزلي عبّر عن ذاته عبر وجه بشري، هو وجه يسوع. فرمزيّة الآية تتوطّد في جسد يسوع، الجسد الممجّد قبل موته وقيامته.
إن التعليم الذي تحمله المعجزة في يوحنا هو إشعاع هذا الجسد الكثيف والشفّاف. إنه منفتح على نظر المؤمن. أجل، إن يسوع يحقّق في جسده وأعماله كل مواعيد الحياة التي أعطى الله عربونها في العهد القديم. أعمال الابن هي أعمال الآب. وهي تعبّر رمزيًا عن مجد الابن وتدعو الإنسان إلى الإيمان.

3- إلى ماذا تهدف أخبار الآيات
لا يكفي إن نقول أن الآيات هي عمل يرتبط بالخلاص. فهذا الكلام يُقال أيضًا عن الازائيين. فبماذا يتميّز يوحنا؟ لهذا يجب أن نسترجع عرض يوحنا لأخبار الآيات في مجمل الكتاب. فالإنجيل الرابع كُتب بنفحة الروح الذي يتيح للإنجيلي أن يؤوّن للزمن الحاضر التاريخَ الماضي ليسوع الناصري. مثلاً: ما هو الدور الذي يلعبه يسوع الناصري من أجل كنيسة تعيش من الأسرار؟ يوحنا يحقّق هذا الهدف حين يُدخلنا في سرّ يسوع: يسوع هو إنسان عاش في الماضي مثل كل إنسان، ولكنّه كلمة الله الذي صار جسدًا. بعد هذا، سترمز أحداث حياته إلى مجد يسوع الناصري نفسه. ومن بين هذه الأحداث، احتفظ يوحنا ببعض الآيات وفضّلها على غيرها. فإذا وضعنا جانبًا المجادلات التي تؤوِّن محاكمة يسوع، لا يورد يوحنا أحداثًا أخرى. والسبب هو أن هذه الأخبار ترمز إلى قدرة مجد الله الفاعل في يسوع، وتسجّل نفسها في امتداد الخلق الأول. هكذا نفسّر عمل يسوع حين طلى عينيّ الأعمى بالوحل، فأشار إلى عمل الخلق الأول. إن أعمال يسوع تعبّر عن نشاط الله، وآياتُه ترمز في نظر الإيمان إلى العمل الإلهي الذي يقوم به يسوع الناصري.
ويقدّم لنا يوحنا نماذج من مختلف فئات العجائب: شفاء ابن الضابط الملكي (4: 43- 54)، وإقامة لعازر (يو 11)، هما عطية الحياة، وهما يتطلّبان الإيمان لكي يتمّا. فكأني بالله الحيّ لا يقدر أن يحرّر قدرته المحيية الا في الذين ينفتحون انفتاحًا كاملاً على عمله الخيّر.
والخمر في قانا (يو 2)، والخبز في البريّة، يرمزان إلى فيض حياة الله، إلى سخاء عجيب. لم يكن الإيمان مقدمة لهاتين الآيتين. فالمبادرة تخصّ يسوع وحده.
واجترح يسوع معجزة مخلّع بيت زاتا (أو بيت حسدا) والمولود أعمى ليدافع عن واقع عطية الحياة. هو لم يطلب الايمان قبل العجيبة، ولم يعتبر الإيمان اعترافًا بمجد الله العامل. فالمخلّع الذي شُفي لم يعرف أن يسوع هو المخلّص. أما الأعمى الذي شُفي، فأعلن إيمانه بيسوع الناصري الذي هو ابن الإنسان. قال بإيجاز: "أنا أؤمن يا ربّ" (9: 38).
أما السير على الماء فهو إظهار مجد يسوع. وعمل الخلاص لا يتمّ بتدخّل مباشر من يسوع ضد الأمواج الهائجة، بل بأن السفينة بلغت الأرض التي كانوا إليها ذاهبين، حين أراد التلاميذ أن يأخذوا يسوع معهم. إذا كان يسوع يخلّص، فلا يقوم تخليصه بأن يصعد إلى القارب. حضور يسوع ليس حضورًا طبيعيًا عاديًا، إنه حضور كائن سماوي. قال: "وان رأيتم ابن الإنسان يصعد إلى حيث كان أولاً" (6: 26). أجل، حضور يسوع الخلاصي ليس حضورًا ماديًا. بل حضور روحي.
اختار يوحنا هذه الآيات بسبب الرمز الذي تحمل، وجاءت الكلمة فأوضحت المعنى. لا شك في أن الآية هي كلمة، كما قال القديس أوغسطينس. ولكنها أيضًا تهيئة لسماع الكلمة.
ونستطيع أن نجمع المفهوم الواضح للمعجزات الواردة عند يوحنا فنقول: المسيحي هو إنسان يمشي (المخلّع)، يرى (الأعمى)، يحيا (ابن الضابط، لعازر). إنه يتغذّى من خبز الحياة الفيّاض ومن خمر تسيل أنهارًا، ويتعرّف إلى حضور يسوع عبر غيابه (مجيئه على المياه). ولكن كل هذه التحديدات لا تأخذ كامل معناها إلا إذا رجعنا إلى السرّ الأساسي والأول، سرّ الكلمة الذي صار جسدًا.


4- جواب الإنسان
عندما يكون الانسان أمام هذه الأعمال، فردّات فعله متنوّعة. ويقدّم لنا يوحنا جدولاً بهذه الامكانيات. بعضهم يرفض أن ينفتح على الآيات التي يلاحظها: هذا هو موقف قيافا الذي يدعو الفرّيسيين ليقتلوا يسوع. قال: "إنّ هذا الرجل يصنع آيات كثيرة" (11: 47). هذا هو موقف الفرّيسيين أمام شفاء المولود الأعمى: لا يريدون أن يروا مع أنّهم يظنّون أنّهم يرون. لهذا، فخطيئتهم ثابتة (9: 39- 41).
وآخرون آمنوا حين رأوا الآيات (2: 32)، ولكنهم لم يفتحوا قلوبهم لوحي سرّ الآب والابن في عمقه. هناك أناس لم يكن يسوع يطمئنّ إليهم (2: 23- 25). هناك نيقوديمس الذي لم يقدر على الدخول إلى سرّ ارتفاع ابن الانسان (3: 2، 9-10)، وهناك إخوة يسوع الذين لم يؤمنوا به فدعوه للانتقال إلى اليهودية (7: 3-5). وهناك يهود أورشليم الذين لم يستطيعوا أن يتّخذوا قرارهم. يقول يوحنا: "آمن به كثير من الجمع" (7: 31). "وكثير من الجمع الذين سمعوا كلامه، كانوا يقولون: هذا هو النبي حقًا. وآخرون كانوا يقولون: هل يأتي المسيح من الجليل" (7: 40-41)؟ فالمعجزات لا تكفي لتخلق الايمان، بل هي تستطيع فقط أن تفتح القلوب على وحي سام.
وهذا ما حدث للضابط الملكي. جاءه اللوم لأنه لا يؤمن إن لم يعاين الآيات والعجائب (4: 48). ولكنه في النهاية سيؤمن ويؤمن معه كل أهل بيته (4: 53). وهكذا نقول عن سمعان بطرس: آمن وعرف أن يسوع هو قدّوس الله (6: 69). فإن لم تبرهن الأعمال عن السرّ، إلا أنّها تشهد ليسوع: "الأعمال التي أعملها تشهد لي" (5: 36).
بعد هذا، يزيد يسوع حالاً: "الحقّ الحقّ أول لكم: إن من يؤمن بي، يعمل هو أيضًا الأعمال التي أنا أعملها، وأعظم منها يعمل، لأني ماضٍ إلى الأب" (14: 12). هذه الكلمة تطرح مسألة اجتراح العجائب بعد موت يسوع وعطية الروح. واستند بعض الشرّاح إلى آخر كلمات يسوع بعد ظهوره لتوما: "لأنك رأيتني آمنت. طوبى للذين لم يروني وآمنوا" (20: 29). إنّهم يعتبرون أننا أمام آيات صنعها يسوع، كما لو أن زمن الآيات محصور في زمن يسوع الناصري، وقبل تمجيده. قالوا: يجب أن نفهم المعجزة على أنّها علامة حضور الله في المسيح. يجب أن نفهم السرّ كعلامة حضور المسيح في الكنيسة.
إن رمزية المعجزة ليست رمزية الأسرار. لا يهمّ يوحنا أن يُبرز الممارسة الأسرارية، بل أن يربطها بيسوع الناصري. نحن لا نستطيع أن نطبّق كلمة يسوع لتوما في كل الحالات. إن يسوع لا يتكلّم عن العجائب، بل عن إدراك القائم من الموت إدراكًا محسوسًا. فعلى الإيمان المسيحي أن يمرّ عبر اختبار الرّسل الأوّلين، عليه أن يتخلّى عن "رؤية" القائم من الموت ويكتفي بالشهادة التي نالها من الإيمان عينه. ليست القضيّة في أن نلغي زمن الآيات. فللمعجزات قيمتها الثّابتة للمسيحيين في الآتي من الأيام. ليست المعجزات طريقة عابرة عن وحي مجد الله. عليها أن تلعب اليوم أيضًا دورًا في حياتنا. فنحن بحاجة إلى آيات الرب الحاضرة حتى نؤمن.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM